الفصل الرابع
في الرُّكن الوطيد من العالم المحيط بقرية دورهام، لعبَت العمة كاسي دور الساعي غير الرسمي الذي يتنقَّل مِن منزل إلى آخر، ومن ساحة إلى أخرى، لجمع آخر الأخبار ونَقلِها. فحين كان أي امرئ يرى سحابة مُنخفِضة من الغبار تتحرَّك عبر سماء نيو إنجلاند المتألِّقة فوق الأسيجة والجدران الحجرية للريف، كان يُمكنه أن يكون مُتيقنًا من أنها كانت تُخفي وراءها خط سير كاسي سترازرس في جولة زياراتها اليومية. كانت تَذهب دومًا سيرًا على الأقدام؛ لأنها كانت تكره السيارات وتخاف من الخيول؛ وكان يمكن للمرء أن يراها قادمةً من مسافة بعيدة، متَّشحة دومًا بالسواد، تَتمايل بخفَّة كبيرة (مقارنةً بامرأةٍ في سنِّها ومعروف عنها إصابتها بأسقام). وعادةً ما كان يُتوقَّع وصولها في وقتٍ مُحدد، ما لم تَعترض طريقها كارثة أو خبر يُثير اهتمامًا غير عادي؛ إذ كانت امرأةً دقيقة في مواعيدها وحياتها منظَّمة بمُنتهى الدقة، مثل المنزل الكبير الذي كانت تعيش فيه مع العمة بيلا الغريبة الأطوار.
كان هذا المنزل عبارة عن مسكنٍ بناه الراحل السيد سترازرس، في الأيام التي شاع فيها بناء القباب وشرفات المراقبة، على الأرض التي منحه إياها جدُّ العمة كاسي في يوم زفافها. وفي الداخل كان مفروشًا بعدد وافِر من الشراريب الفَخمة وأغطيَة الكراسي، جميعها مُنظَّمة ومُرتَّبة بعناية كما لو كانت في متحف. لم يكن يُوجَد أبدًا أي رماد سيجار على الأرضية، ولا أيُّ غبارٍ في الأركان، لأن العمة كاسي كانت تُلاحق خدمها بعين ضابط جيش عجوز صعب الإرضاء يتفقَّد ثكناته. عاشت الآنسة بيفي المسكينة، التي ازدادت حالتها سوءًا وبؤسًا مع تقدُّمها في العمر، حياة محفوفة بخطر مُستمر، واضطرَّت لبناء منزل صغير بالقُرب من الاسطبلات لإيواء كلابها الصغيرة من سلالة بومرينيان وقططها السيامية. وذلك لأنَّ العمَّة كاسي عجزت عن تحمُّل فكرة «توسيخ الحيوانات للمنزل.» وحتى «غرفة الاستراحة» الخاصة بالراحل السيد سترازرس كانت قد تحوَّلت منذ وفاته إلى متحفٍ نظيف وخال من التبغ والويسكي، حيث وُضِع كرسيه خلف مكتبِه، بمسافةٍ فاصلة تُبعده عن المكتب قليلًا، كما لو كانت رُوح صاحبه لا تزال جالسة هناك. وعلى المكتب وُضع غليونه (بالضبط كما تركه) وأكوام الورق المُرتَّبة (التي كان يُنَفَّض عنها الغبار بعناية كل يوم دون العبث بها) التي كان قد وضعها هناك بيده في صبيحة اليوم الذي وجدوه فيه جالسًا على الكرسي، ورأسه راجعًا للوراء قليلًا، كما لو كان نائمًا. وفي مُنتصَف المكتب وُضِع كتابان مربوطان معًا بشكلٍ أنيق — عنواناهما: «أفاريز بيوت بوسطن القديمة» و«جولات ومحادثات في باحات كنائس نيو إنجلاند» — كان قد كتبَهما في هذه السنوات الحزينة الأخيرة التي بدت فيها حياته تذوي شيئًا فشيئًا … السنوات التي بدا فيها أن العمة كاسي كانت تَستعيد بسرعة قوتها وصحَّتها التي اشتُهرت بها عندما كانت شابة.
قال الناس إنَّ السيد سترازرس كان قد شيد هذا المنزل في انتظار أن تُصبح لديه أسرة كبيرة، لكنَّه ظل كبيرًا ومُفتقرًا لأصوات الأطفال كالقبر منذ اليوم الذي تمَّ فيه الانتهاء من بنائه؛ وذلك لأن العمة كاسي لم تَنعم مُطلقًا بالقوة اللازمة لأن تُنجب له ورثَة إلا بعد فوات الأوان.
كان لدى سابين كاليندار مجموعة كاملة من النظريات حول منزل العمَّة كاسي وحياتها الزوجية، لكنها كانت نظريات أبقتها بالكامل، بطريقتها الخاصة، لنفسِها، وظلَّت تَنتظِر وتُراقب حتى تتأكد من صحتها. كان يُوجد شعور مُتبادل بكراهية شديدة ويصعُب وصفُها بين السيدتين، شعور قوي بالضغينة استتر تحت العبارات المهذَّبة والملاحظات العابرة ذات الطابع اللاذع. وكانتا تَلتقيان بشكلٍ مُتكرِّر أكثر مما كانت تأمُل العمَّة كاسي؛ وذلك لأنَّ سابين، عند عودتها إلى دورهام، أصبحت مثل العمة كاسي مُعتادة على التنقُّل من منزلٍ إلى منزل سيرًا على الأقدام بحثًا عن الأخبار والتسلية. التقَتا في غُرَف الجلوس، وفي الساحات، وأحيانًا في الطرق المُغبرَّة جدًّا، وكانت كل واحدةٍ منهما تُلقي التحية على الأخرى بابتساماتٍ ونظرات خبيثة. كانتا قد صارتا أشبه بقطتَين عدوانيتَين تُراقب إحداهما الأخرى خِلسةً لأيامٍ في المرة. وأسرَّت العمة كاسي لأوليفيا أنَّ سابين كانت تُصيبها بالتوتُّر.
ورغم ذلك، كانت العمة كاسي هي أول مَن زار منزل «بروك كوتيدج» بعد وصول سابين. شاهدتْها السيدة الأصغر سنًّا من نافذة المنزل وهي تَقترب، مُحاطة بسحابةٍ صغيرة من الغبار، وملأها هذا المشهد بسعادة لا تُوصف. جاءت السيدة العجوز النحيلة مُفعَمة بالنشاط، لا تكاد تُطيق صبرًا، تملؤها البهجة (هكذا اعتقدت سابين) لأنَّ لدَيها الآن ذريعة للتعدِّي على أرض أوهارا ورؤية ما فعله بالمنزل العتيق. وكانت سابين تَعتقِد، أيضًا، أنها جاءت لتَكتشِف ما فعلتْه الحياة ﺑ «ابنة أخت السيد سترازرس العزيز، سابين كاليندار». لقد جاءت باعتبارها مسئولة الاستقبال الرسمية المُمثلة للمجتمع المحلي، مُتمنيةً مِن كل قلبها أن ترى سابين عائدة كالابن الضال، امرأة مُحطَّمة، دمَّرها الزمن والتجارب، سيدة كانت لمدة عشرين عامًا قد تجاهلتْهم جميعًا والآن عادَت، مخلوقة محطمة وذليلة، وفي أمسِّ الحاجة إلى العطف.
أثار المشهد سلسلةً من الذكريات في نفس سابين … ذكريات تغلغلت بعُمق في طفولتها عندما كانت تعيش مع والدها في المنزل القديم الذي كان موجودًا يومًا ما في نفس المكان الذي بنى عليه أوهارا منزله الجديد بمَداخنِه المتألِّقة؛ ذكريات أيام كانت تهرب فيها بمُفردها للعب على أعشاب البستان المُتشابكة وسط زهور القلب النازف والسوسن التي أحاطت بنفس هذا المنزل الريفي الذي وقفت تُشاهد منه قدوم العمَّة كاسي. باستثناء أنه في تلك الأيام كان منزل «بروك كوتيدج» مكانًا خرِبًا، ذا نوافذ مهشَّمة وأبوابٍ مُتآكلة، أشبه بكوخ أشباح ويَحجُبُه عن الرؤية تجمُّع النباتات وتشابُكها أمامه، والآن كان مُتلألئًا بطلاءٍ جديد، وتُحيطه الأزهار والنباتات المشذبة بعناية.
كان ثمَّة شيءٌ ما في مظهر السيدة العجوز المتوتِّرة النشيطة، شيء ضرب بعمقٍ في الماضي الذي كانت سابين قد تمكَّنت إلى حدٍّ ما، مع مرور السنين، من نسيانه؛ والآن عاد كله من جديد، بحدَّة ومصحوبًا بنوع من الألم الشديد، بحيث أحسَّت بشُعورٍ غريب مُفاجئ بأنها عادت فتاة صغيرة … فتاة عادية، خجولة، صهباء الشعر، يكسو بشرتها النمش، وتقف في رعب من العمة كاسي ودائمًا ما كانت تتعرَّض للنقد والتوبيخ من ألفٍ من العمات والأعمام وأبناء الأعمام لأنها لم تكن تُجسِّد فكرتهم عما يجب أن يكون عليه نموذج الفتاة الصغيرة اللطيفة. بدا الأمر وكأنَّ الماضي بأكمله كان مُركَّزًا في الهيئة السوداء للسيدة العجوز التي كانت بمثابة زعيمة العصابة، ونائبة الملك لجميع القبائل البعيدة، امرأة عجوز كانت قد بلغت مِن الكِبَر عتيًّا حتى منذ عشرين عامًا مضت، ودائمًا ما كانت تَستلقي على أريكةٍ مُغطاةً بشال، تُصدِر الأوامر، أو تُعبر عن تعاطفها الشديد، أو توجه انتقاداتها المريرة. وها هي الآن، تقترب بخفة، وكأنَّ موت السيد سترازرس قد حرَّرها بطريقةٍ ما من قيودٍ كبَّلتْها وأزعجتها لفترةٍ طويلة للغاية.
بينما كانت سابين تُراقبها، مرت أحداث الماضي واحدة تلو الأخرى في ومضاتٍ سريعة خلال عقل سابين المتقد، وتجسَّد أمامها بوضوح شديد وسريع؛ اليوم الذي لاذت فيه بالفرار إلى العالَم الخارجي ووجدها العجوز جون بينتلاند مُختبئةً في أجَمة من أشجار البتولا البيضاء تأكُل التوت البري بسعادة. (كان بوسعِها أن ترى الآن ملامح وجهه، التي كانت صارمةً تعبيرًا عن رفضِه لهذا السلوك الجامح، لكنَّها هدأت بمجرَّد رؤيته لهذا الوجه البريء المتَّسخ المَليء بالنمش والمُلطَّخ بعصارة التوت). وتذكَّرت أيضًا عودتها كأسيرة حرب، عندما أحاطت بها العمات وألبسنها فستانًا نظيفًا وأجبَرْنها على الجلوس في غُرفة النوم الإضافية الكئيبة وكتاب العهد الجديد على ركبتَيها إلى أن «شعرت أنها يُمكنها الخروج والتصرُّف كفتاةٍ صغيرة لطيفة حسنة التربية.» كان بإمكانها رؤية العمات وهنَّ يتحدَّثن بالسوء عنها ويَقُلن: «كم من المُخزي أنها لم تُشبه والدتها من حيث جمال الطلعة!» و«ستُواجه أوقاتًا عصيبة بسبب هذا الشَّعر الأصهب الناعم المنبسط.»
وهناك أيضًا ذكرى ذلك اليوم الذي سقَط فيه آنسون بينتلاند، الصبي الجبان، الضعيف، الأشبه باللورد الصغير فنتلوري، في النَّهر وكان سيَغرق لولا ابنة عمه سابين، التي سحبتْه وأخرجته وهو يصرخ ومبتلٌّ تمامًا بالماء، لتتلقَّى هي كل اللَّوم والتوبيخ؛ لأنها قادته إلى التصرفات الشقية. وكذلك الأوقات التي عُوقبت فيها لأنها طرحت أسئلة صريحة وبسيطة لم يكن يَنبغي لها طرحها.
كان من الصعب أن تتذكَّر أي سعادة حتى اليوم الذي تُوفي فيه والدها وأُرسلت إلى نيويورك، فتاةً في العشرين من عمرها، خبرتها بالحياة ضئيلة جدًّا ولا تَعرف أي شيء عن أمور من قبيل الحب والزواج، لتعيش مع عمٍّ لها بمنزلٍ ضيِّق مُرتفع السقف في حي موراي هيل. كان هذا هو اليوم (كانت ترى هذا الآن بمُنتهى الوضوح وهي تَقف تُراقب قدوم العمة كاسي) الذي بدأت فيه حقًّا حياتها. فحتى ذلك الحين كان وجودها مجرَّد أمر مُشوش وموجع ليس فيه سوى القليل جدًّا من السعادة. ولم تُدرك الحقيقة إلا لاحقًا، على نحوٍ مُؤلم، بل ومأساوي، من خلال سلسلة من الأحداث التي حوَّلتْها ببُطءٍ إلى هذه المرأة القاسية، المحنَّكة، المُتشائمة التي وجدت نفسها، دون أن تعرف السبب، تعود مرةً أخرى للعالَم الذي كانت تكرهه، وتقف في نافذة منزل «بروك كوتيدج»، امرأة يُعذبها فضول شديد ومُفعَم بالحياة للغاية بشأن الناس والتشابكات الغريبة التي تفرضها عليهم حياتهم أحيانًا.
كانت تقف في النافذة تُفكِّر في الماضي بانهماكٍ شديد لدرجة أنها نسيت تمامًا قدوم العمة كاسي وفزعت فجأةً عندما سمعت نبرة الصوت الفضولية الرقيقة المألوفة، التي كان مِن المُدهش أنها لم تتغيَّر، تُنادي من الرواق قائلة: «سابين! عزيزتي سابين! أنا عمَّتكِ كاسي! أين أنتِ؟» وعندئذٍ شعرت كأنها لم تُغادر دورهام على الإطلاق، وكأنَّ شيئًا لم يتغيَّر في عشرين عامًا.
عندما رأتها السيدة العجوز، تقدمت وهي تصيح بصوتٍ مُرتعد لتطوِّق بذراعيها ابنة أخِي زوجها الراحل. كان سلوكها أشبه بسلوك راعي غنَمٍ يَستقبِلُ شاةً ضالة، سلوك مَليء بالعفو والشفقة والتعاطف. ترقرقت الدموع في عينَيها بمنتهى السهولة وانهمرت على وجهها.
سمحت سابين، بفتور، بأن تُعانَق، وقالت: «لكنَّكِ لا تَبدين أكبر سنًّا ولو بيوم واحد أيتها العمة كاسي. تَبدين أقوى من أيِّ وقتٍ مضى.» حدَّدت هذه الملاحظة بطريقةٍ ما الشكل الكامل للعلاقة بينهما، ملاحظة، على الرغم من أنها بدت ودية، بل وتَنطوي على مجاملة، كان من القسوة قولها لامرأة اعتزَّت طيلةَ حياتها بفِكرة الاعتلال. وكان من القسوة قولها أيضًا لأنها كانت صحيحة. فحينما كانت العمَّة كاسي في السابعة والأربعين من عمرها، كانت بنفس القدْر من الضعف والوهن الذي كانت عليه الآن، بعد مرور عشرين عامًا.
قالت المرأة العجوز: «فتاتي العزيزة، أنا بائسة … بائسة.» وبعد أن جفَّفت الدموع المنهمرة على وجهها أضافت قائلة: «لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن أمضيَ لألحق بالسيد سترازرس العزيز.»
أرادت سابين فجأةً أن تضحك؛ إذ تخيَّلت العمة كاسي وهي تدخل الجنة برفقة زوجٍ اعتادَت دومًا على مناداته، رغم حميمية الحياة الزوجية، ﺑ «السيد سترازرس.» ظلَّت تُفكِّر في أن السيد سترازرس قد لا يجِدُ لَمَّ الشملِ هذا مُمتعًا كما توقَّعَت زوجته. كان لديها دومًا اعتقاد غريب بأن السيد سترازرس قد آثر الموت باعتباره أفضل مخرَج.
وشعرت فجأةً بإحساس دافئ بعودة الذكريات؛ إحساس أثاره شغفُ العمة كاسي بالمغالاة في تعبيراتها. لم تستطع العمة كاسي مُطلقًا أن تحمل نفسها على أن تقول بكل بساطة: «سأموت»، معتقدة أن ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق. كان يجب أن تقول: «أمضي لألحقَ بالسيد سترازرس العزيز.»
قالت سابين: «أوه، لا … أوه، لا … لا تقولي ذلك.»
«لم أعد أنام. بالكاد أغمض عينيَّ في الليل.»
كانت قد جلست وأخذت تتفرَّس فيها، وتفحص كل شيء في الغرفة، التغييرات التي أجراها أوهارا البغيض، والأثاث الذي كان قد اشتراه للمنزل. ولكن الأهم من ذلك كله أنها كانت تتفرس في سابين، وتَختلِس النظر إليها بنظراتٍ جانبية خبيثة؛ أما سابين، فلأنها كانت تَعرفها جيدًا، فأدركت أنَّ السيدة العجوز كانت قد أصيبت بصدمةٍ عنيفة. كانت قد جاءت مُستعدَّةً لأن ترى سابين كسيرةً وحزينة، لكنها بدلًا من ذلك وجدت هذه المرأة الرقيقة، القوية والمُعتزة بنفسها، التي تبدو غاية في الأناقة والاتزان، بداية من الشعر الأصهب اللامع (ذلك الشعر الأصهب الناعم الذي ظنَّت العمات ذات يوم أنه بَشِع للغاية) وحتى الصندل الجلدي في قدمها؛ امرأة من الواضح أنها كانت قد أحكمت سيطرتها على الحياة وأخضعتها لقوتها، وكانت بطريقةٍ ما في غاية الكمال.
«طوال السنوات التي كنتِ فيها بعيدةً يا سابين لم يَنسكِ عمكِ العزيز أبدًا ولو للحظة. لقد مات وترك لي أمر رعايتكِ.» ومرةً أخرى انهمرت الدموع الغزيرة من عينَيها.
(قالت سابين في قرارة نفسها: «أوه، لن تتمكَّني من الإيقاع بي بهذه الطريقة. لن أسمح لكِ بحَبسي مرةً أخرى في سجن الماضي. لن تَنالي حتى مجرَّد فرصة للتدخُّل في حياتي.»)
ثم قالت جهرًا: «مِن المُؤسِف أنني كنتُ دائمًا بعيدة جدًّا.»
«لكنَّني كنتُ أُفكِّر فيكِ يا عزيزتي … كنت أفكر فيكِ. نادرًا ما كانت تمرُّ ليلة لا أقول فيها لنفسي قبل أن أنام: «إنَّ سابين المسكينة تُواجه العالم بمُفردها، وتُدير ظهرها لنا جميعًا، نحن من نُحبها».» تنهَّدت بشدة ثم قالت: «دائمًا ما كنتُ أفكر فيكِ يا عزيزتي. لقد صلَّيت ودعوت لكِ في الليالي الطويلة التي لم يَغمض لي فيها جفن أبدًا.»
تحدثت سابين بطريقةٍ شبه آلية، واكتشفت تدريجيًّا أنها على الرغم من كل شيءٍ لم تَعُد تخشى العمة كاسي. فهي لم تَعُد الفتاة الصغيرة الخَجولة الخائفة البسيطة؛ بل إنها بدأت تشعر بنزعة تحدٍّ، ورغبة في القتال، ملأتْها بشعورٍ خفيٍّ بالدِّفء. ظلَّت تقول لنفسها: «إنها حقًّا لم تتغيَّر على الإطلاق. فهي لا تزال تُريد التقرُّب مني والتحكُّم فيَّ وفي حياتي. إنها مثل أخطبوط يمدُّ أذرعه ليُحكم سيطرته على كل فردٍ بالأسرة، ويُرتِّب كل الأمور.» هكذا رأت العمة كاسي الآن، بعد عدة سنوات، مِن مَنظورٍ جديد. وبدا لها أن شيئًا غريبًا، ومريبًا، وخبيثًا إلى حدٍّ ما كان يُكمن وراء كل هذه التنهُّدات والدموع والتعاطُف المُتساهِل. ربما كانت (سابين) هي الوحيدة التي كانت قد تمكنت، من بين جميع أفراد الأسرة، من الفرار من هذه الأذرع الخبيثة المُتسلِّلة … كانت قد هربت.
في هذه الأثناء، كانت العمة كاسي قد انتقلت مِن الوصف الحي التفصيلي لوفاة السيد سترازرس إلى التحدُّث عن قائمة المصائب التي حدثت بالحي وواجهتها الأسرة، الوفيات، والعهود التي نُقِضَت، والكوارث المالية، وظهور «أوهارا البغيض» في الأفق. ووبَّخت سابين على بَيعها أرضَها لمثل هذا الدخيل. ومع استمرارها في الحديث، أصبحت شيئًا فشيئًا أقل إنسانية وأكثر فأكثر أشبَهَ بقوة خارقة مجهولة مِن قُوى الطبيعة. أخذت سابين تُراقبها بعينَيها الخضراوين الثاقبتَين، ووجدتها مُرعبة بعض الشيء. كانت قد ازدادت حدة وقسوة مع تقدُّمها في العمر.
ناقشت أيضًا حالات الطلاق التي وقعت في بوسطن وأخيرًا، وهي تَميل إلى الأمام وتلمس يد سابين بيدِها النحيلة المتوترة، قالت بانكسار: «لقد شعرت بكِ في مِحنتكِ يا سابين. لم أكتب لك قطُّ لأنَّ هذا كان سيُصبح مؤلِمًا للغاية. أرى الآن أنني تهرَّبتُ من واجبي. لكنَّني كنتُ أشعر بكِ … حاولت أن أضع نفسي مكانَكِ. حاولتُ أن أتخيَّل خيانة السيد سترازرس العزيز لي … لكنني، بالطبع، لم أستطع. كان قديسًا.» أخْرَجَت المُخاطَ مِن أنفِها وكرَّرت كلامها بحماس، وكأنها تُحَدِّث نفسها: «قديسًا!»
(قالت سابين في نفسها: «نعم، كان قديسًا … لو كان للقدِّيسين وجود.») رأت أن العمة كاسي كانت تُهاجمها الآن مِن زاوية مُختلفة. كانت تُحاول أن تُشفِق عليها. ومن خلال إبداء الكثير من الشفقة نحوَها ستُحاول المرأة العجوز تحطيم خطوط دفاعها والسيطرة عليها.
بدت في عيني سابين الخضراوين نظرة قاسية وغريبة. وسألتها قائلة: «هل سبَقَ لكِ أن الْتقيتِ بزوجي؟»
قالت العمة كاسي: «لا، لكنَّني سمعت الكثير عنه. وقيل لي عن مدى مُعاناتكِ.»
نظرت سابين إليها وقد ارتسم على وجهها تعبير غريب وساخر. وقالت: «إذن، ما قيل لكِ كان مُنافيًا للحقيقة. إنه رجلٌ رائع. لم أُعانِ على الإطلاق. أؤكد لكِ أنني كنتُ أُفَضِّل لو شاركَتْني فيه خمسون امرأة أخرى على أن أحظى وحدي بأيٍّ مِن الرجال الموجودين هنا.»
كان تصريحها هذا يَنطوي على فجورٍ بَيِّن وهو ما جعَل العمَّة كاسي تَلتزم الصمت وتتراجَع تمامًا. حدَّقت فقط ولم تجد ما تقوله ردًّا على مثل هذا الكلام. من الواضح أنها طيلة حياتها لم تكن قد سمعت أبدًا أي شخصٍ يقول شيئًا بهذا القَدر من الصراحة والوضوح، مُتجردًا تمامًا من كلِّ مظاهر اللباقة.
واصلت سابين حديثها ببرود، وأكملت هجومها حتى النهاية. إذ قالت: «لقد طُلِّقت منه في النهاية، ليس لأنه لم يكن مُخلصًا لي، بل لأنَّ امرأة أخرى أرادت الزواج منه … امرأة أحترمها وأحبُّها … امرأة لا تزال صديقة لي. عليك أن تَفهمي أنني أحبَبتُهُ حبًّا جمًّا … بكل ذرة في جسدي. لكن ثمة أمور تحدُث ليس للمرء عليها سلطان. لم أكن المرأة الوحيدة … لقد كان شيطانًا، لكنه شيطان جذَّاب للغاية.»
صُدِمَت المرأة العجوز قليلًا، لكنها لم تُهزَم بأي حالٍ من الأحوال. رأت سابين في عينيها نظرة تقول بوضوح: «إذن هذا ما فعله العالم بعزيزتي سابين الصغيرة البريئة المسكينة!» وأخيرًا قالت وهي تتنهَّد: «يا له مِن عالَم غريب ومُحيِّر. لا أعرف ماذا سيَحدث أكثر من ذلك فيه.»
ردَّت سابين بنَبرة تُظهِر اتفاقها التام وتعاطفها الكامل قائلة: «ولا أنا.» فهمت أن الصراع لم يَنتهِ بعد؛ لأنَّ العمة كاسي كانت تملك طريقة تضع بها نفسها في موقفٍ منيع، يتمثَّل في إحاطة نفسها بطبقاتٍ وطبقات من التنهُّدات والتعاطف، والطيبة والتسامح، والخنوع والدموع، بحيث لا يمكن للمرء في النهاية أن يَتجاوز كلَّ ذلك ويقول: «ها أنتِ ذا … ظهرتِ على حقيقتك أخيرًا، عجوز فضولية بغيضة!» وظلَّت سابين تتخيَّل أيضًا لو أن العمة كاسي كانت قد عاشت في أيام جدها صائد الساحرات، بينتلاند المصون مِن الإثم، لكانت ستُحرَق لأنَّ الناس كانوا سيَحسبونها ساحرة.
وطوال الوقت كانت سابين تُعاني، بصمت، في قرارة نفسها، خلف قناعٍ واضح … تُعاني بطريقةٍ ما كان لأحدٍ في العالم أن يتوقَّعها؛ وذلك لأنَّ مجرَّد التحدث بهذه الطريقة عن ريتشارد كاليندار، أو حتى نطق اسمه، كان يُمزِّق قلبها ويَعتصرُه ألَمًا.
جهرًا قالت: «وكيف حال السيدة بينتلاند … أقصد أوليفيا … وليس ابنة عمي … أعرف كيف هي … على نفس الحال.»
«نعم على نفس الحال. هذا واحدٌ من الألغاز التي لا أستطيع فهمها أبدًا … لماذا ابتلى الرب رجلًا صالحًا مثل أخي بهذه المصيبة.»
وفي مُحاولة منها لوضع نهاية مُفاجئة لما بدا واضحًا أنها مُقدِّمة لموعظة دينية مملَّة، قالت سابين: «لكن أوليفيا …»
قاطعتها العمة كاسي قائلة: «أوه! … أوليفيا،» وبدأت في وصف السيدة بينتلاند الشابة. قالت: «أوليفيا ملاك … ملاك، نعمة من الرب أرسلها إلى أخي المسكين. لكنَّها لم تعُد على ما يُرام مؤخرًا. لقد أصبحت حادةً معي … وحتى مع الآنسة بيفي المسكينة، التي تتَّسم بالحساسية الشديدة. لا أستطيع أن أتصوَّر ما اعْتَرَاها.»
بدا أن أوليفيا القوية الجميلة كانت تُعاني من الضغوط. وقالت العمَّة كاسي إنها تعيسة لسببٍ ما، رغم أنها لم تَستطِع أن ترى سببًا لحزنها … فهي امرأة لدَيها كل شيء في الدنيا.
كرَّرت سابين بتساؤل: «كل شيء؟ هل يَنال أي شخصٍ في هذه الدنيا كل شيء؟»
«لو لم تملك أوليفيا كل شيء فهذه غلطتها. فلديها كل المقوِّمات الأساسية. لديها زَوج صالح … زوج لا ينظر أبدًا إلى النساء الأخريات.»
قاطعتها سابين قائلة: «ولا حتى لزوجته. أعرف كل شيءٍ عن آنسون. لقد نشأتُ معه.»
رأت العمة كاسي أنه من الأنسب تجاهل هذه النقطة. وقالت، مستأنفة حديثها عن النعم التي لدي أوليفيا: «إنها ثرية.»
ومرةً أخرى قاطعتها سابين قائلة: «لكن ما الذي يَعنيه المال يا عمة كاسي؟ في عالَمنا هذا يكون المرء ثريًّا وتكون تلك هي نهاية الأمر. إذ إنه يَعتبِر ثروتَه أمرًا مُسلمًا به. وإذا ما فقد ثروته، فإنه يخسر كل شيء. لا علاقة للمال بالسعادة.»
بدأ التوتُّر يظهر على وجه العمة كاسي. قالت بحدَّة: «لو كنتِ فقيرة لعرفتِ فائدة المال، لو لم يَعتنِ والدكِ وجدكِ بأموالهما لفهمتِ قصدي.» ثمَّ تمالكت أعصابها وأتت حركةً تنمُّ عن الاستنكار. وبعدها قالت: «لكن لا تظنِّي أنني أَنتقِد عزيزتي أوليفيا. إنها أفضل وأروَع امرأة عرفتها.» بدأت تُحيط نفسها مرةً أخرى بشرنقة من العطف والطيبة والتسامُح. بعدها أردفت قائلة: «كل ما هنالك أنها تبدو لي مُؤخرًا غريبة الأطوار إلى حدٍّ ما.»
بدأت تَظهر ابتسامة على شفتَي سابين المخضبتَين على نحو مُصطنَع بلون أرجواني. وقالت: «سيكون سيئًا للغاية أن دفعت عائلة بينتلاند زوجتَين إلى الجنون — واحدة تلو الأخرى.»
مرةً ثانية كادت العمة كاسي أن تُهزم بأن تفقد رباطة جأشها. إذ تذمَّرت، وساعدتها سابين على الخروج من المأزق بسؤالها بلهجة ساخرة: «وماذا عن آنسون؟» واستطردت قائلة: «ماذا يفعل عزيزي آنسون الآن؟»
أخبرتها عن عمل آنسون العظيم، كتاب «عائلة بينتلاند ومُستعمَرة خليج ماساتشوستس»، وقيمته الهائلة باعتباره مُساهمة في إثراء تاريخ الأمة؛ وعندما انتهَت مِن ذلك، انتقلت للحديث عن صحة جاك المُتدهوِرة، قائلةً بصوتٍ مُنخفِض وحزين: «إنها مسألة وقتٍ لا أكثر، كما تعرفين … على الأقل، هكذا يقول الأطباء … بقلبٍ مُعتلٍّ كهذا، هي مسألة وقت لا أكثر.» وانهمرت الدموع من عينَيها مرة أخرى.
قالت سابين بنبرةٍ متأنية: «ومع ذلك، تقولين إن أوليفيا تملك كل شيء.»
ردت العمة كاسي قائلة: «حسنًا، ربما ليس كل شيء.»
قبل مغادرتها سألت عن ابنة سابين وقيل لها إنها ذهبَت إلى منزل عائلة بينتلاند لرؤية سيبيل.
قالت سابين: «لقد التحَقَتا بالمدرسة نفسها في فرنسا. وكانتا صديقتَين هناك.»
قالت العمة كاسي: «نعم. لقد عارضتُ سفر سيبيل إلى الخارج للالتحاق بمدرسة هناك. فهذا يملأ رأس الفتاة بأفكار غريبة … خاصةً مدرسة كهذه يُمكن لأي شخصٍ الالتحاق بها. منذ عودة سيبيل إلى الديار، وهي تتصرَّف بطريقة غريبة … أظن أن هذا سيقف في طريق نجاحها في بوسطن. فالشباب لا يُحبُّون الفتيات المختلفات.»
قالت سابين: «لعلَّها تتزوَّج أحدًا من خارج بوسطن. الرجال يختلفون من مكانٍ لآخر. حتى في بوسطن لا بد أنه يُوجَد رجل أو اثنان لا تَعنيهما الصورة التقليدية للنساء! حتى في بوسطن لا بد أنه يُوجَد رجال يُحبُّون النساء الأنيقات … النساء الراقيات …»
بدأت العمة كاسي تشعر بالغضب مرةً أخرى، لكن سابين احتوتْها. إذ أردفت تقول: «لا تشعُري بالإهانة، يا عمَّة كاسي. أقصد فقط السيدات الراقيات اللاتي وفقًا للمعنى القديم الجذاب للكلمة … وبالإضافة إلى ذلك، من الذي يمكن أن تتزوَّج به ولن يكون ابن عم أو ذا قرابة من نوعٍ ما؟»
«يجب أن تتزوَّج هنا … بين الأشخاص الذين تعرفهم منذ صغرها. يوجَد شاب من عائلة مانيرينج قد يكون مُناسبًا لها، وهناك أيضًا الابن الأصغر لجيمس ثورن.»
ابتسمت سابين. وقالت: «إذن لديك خططٌ لها بالفعل. أيعني هذا أنكِ حسمتِ الأمر؟»
«بالطبع لم يُحسَم أي شيء. كل ما هنالك أنني أفكر في الأمر مع وضع مصلحة سيبيل في الاعتبار. إن تزوَّجَت أحد هذَين الشابين، ستعرف كم هي محظوظة. ستعرف أنها تزوَّجت من رجل نبيل.»
قالت سابين: «ربما … ربما.» بطريقة ما استحوذت عليها روح شرِّيرة وأضافت بهدوء: «وبالطبع هناك هوراس بينتلاند … يَستحيل أن يكون المرء متأكدًا تمامًا.» (يبدو أن سابين لم تنسَ أي شيء مطلقًا.)
وفي اللحظة نفسها رأت، وهي تقف خارج الباب الذي يُفضي إلى الشرفة المجاورة للأهوار، شخصًا ضخمًا أسمر البشرة قوي البِنية، أدركت بشعور مفاجئ بالبهجة أنه أوهارا. كان يَسير عبر الحقول برفقة هيجينز الصغير النحيل، الذي تركه وواصَلَ طريقه إلى نهاية الممر في اتجاه منزل عائلة بينتلاند. عند رؤيته، حاولت العمة كاسي جاهدةً الفرار بسرعة، لكن سابين قالت بنبرة مُتوعِّدة عذبة: «يجب أن تُقابلي السيد أوهارا. أظنُّ أنكِ لم تلتقي به من قبل. إنه رجل رائع.» ووقفت في موضع يستحيل على المرأة العجوز معه الهروب دون أن تَفقِد كل ما تبقَّى من كرامتها وهيبتها.
بعد ذلك نادت سابين بصوت لطيف قائلة: «تَفضل سيد أوهارا … السيدة سترازرس هنا وتتُوق إلى مقابلة جارها الجديد.»
فُتح الباب ودخل منه أوهارا، الذي كان رجلًا قوي البِنية يَبلغ من العمر حوالي خمسة وثلاثين عامًا، ذا رأس جميل يُغطيه شعر قصير أسود قوي، وعينَين زرقاوَين أظهرتا أصله الأيرلندي لما بدا بهما من بريق مُستتر ينمُّ عن فرحة بانتقال سابين للعيش بمنزله. وكان يتمتع أيضًا بفكٍّ قويٍّ وشفتَين مكتنزَتَين جذابتَين إلى حدٍّ ما، وقدر غريب من القوة الجسدية الهائلة، كما لو أنَّ ثيابه كلها كانت مفصَّلة لتُغطي بصعوبةٍ العضلاتِ الموجودةَ تحتها. لم يكن يَرتدي قبَّعة، وكانت بشرته سمراء داكنة، وظهرت على وجنتَيه حمرةٌ تشي بتمتُّعه بصحة جيدة.
للوهلة الأولى، كان يُمكن للمرء أن يقول إنه رجل عادي فظٌّ أتى لهذا العالم الضيق المحيط بدورهام، رجل ربما جاء للعمل حمالًا بالميناء بسبب عضلاته المفتولة. كانت سابين قد حسبت في البداية أنه شخص فظ، لكنها استسلمت في النهاية لإحساس غريب قوي وضَعه في منزلةٍ أعلى من هذه. أما هي فكانت امرأة حادة الذهن، كرَّست نفسها بشغف لمسألة سبر أغوار الناس؛ وكانت تعرف أن رجلًا يملك عينَين ماكرتَين ومليئتَين بالتهكم كهاتين لا يُمكن أن يتَّسم بالفظاظة.
تقدَّم بهدوء واحترام شديد يَشُوبه قدر ضئيل من السخافة ولمسة بسيطة من الفظاظة، ما يجعل المرء غير مُتأكِّد ما إذا كان قد تعمَّد إخفاء الفظاظة التي يتَّسم بها.
قال: «إنه لمن دواعي سروري. بالطبع رأيت السيدة سترازرس عدة مرات … في عروض الخيل … وسباقات كلاب الويبيت.»
توقفت العمَّة كاسي، وتصلَّب جسدُها، وكأنها وجدت نفسها فجأةً وجهًا لوجه أمام أفعى جرسية.
قالت: «وأنا أيضًا رأيتك. وبالطبع، شاهدت كل التحسينات التي أجريتها هنا في المزرعة.» نطقَت كلمة «تحسينات» على مضضٍ وكأنها تودُّ استخدام كلمة مثل «تخريب» بدلًا منها.
قالت سابين: «سنَتناول بعض الشاي. تفضلي بالجلوس، يا عمة كاسي.»
لكن العمة كاسي لم تُخفِّف من تصلُّب جسدها. وردَّت قائلة: «وعدت أوليفيا أن أعود إلى منزل آل بينتلاند لتناول الشاي. وقد تأخَّرت بالفعل.» ارتدَت قفازها الأسود، ثم مالت فجأة باتجاه أوهارا. وقالت: «على الأرجح سنَلتقي مرةً أخرى يا سيد أوهارا، بما أننا جيران.»
«بالتأكيد، آمُل ذلك …»
بعدها قَبَّلَتْ سابين مرةً أخرى وتمتمت قائلة: «آمل، يا عزيزتي، أن تأتي كثيرًا لزيارتي، بما أنك الآن عدتِ إلينا. اعتبري منزلي بيتكِ.» ثم التفتَت إلى أوهارا؛ إذ اكتشفت فجأة أنه يُمكن استخدامه في حربها مع سابين. وقالت: «تَعرف يا سيد أوهارا إنها خائنة، بطريقتها الخاصة. لقد ترعرعت بيننا ثم اختفت مدة عشرين عامًا. إنها معدومة الوفاء.»
قالت ذلك بطريقة مُتصلِّبة ومرحة كما لو كانت، بالطبع، تقول مُزحة فحسب ولا تقصد شيئًا مُطلقًا من وراء الكلام. ومع ذلك، امتلأت الأجواء بغمامة من التلميحات. كانت هذه هي نوعية التكتيكات التي تبرع فيها.
رافقتها سابين إلى الباب، وعندما عادت وجدت أوهارا يقف في النافذة، يُراقب جسد العمة كاسي وهي تتحرَّك في سخط على الطريق في اتجاه منزل عائلة بينتلاند. وقفت سابين هناك للحظة، تتفحص البنية الجسمانية القوية المفتولة العضلات للرجل الواقف مقابل الضوء، وفجأة انتابها شعور غريب بالعَداء بينه وبين المرأة العجوز. فبطريقةٍ غريبة كانا يمثلان رمزين لقوتَين هائلتَين؛ إحداهما سلبية، والأخرى إيجابية بشدة؛ إحداهما تُمثِّل القِدَم، والأخرى تُمثل الحداثة؛ إحداهما تُمثل الاضمحلال، والأخرى تمثل النمو النشط، المُفرط نوعًا ما. كان يستحيل أن يوفق بينهما شيء. وفقًا لطبائع الأمور، سيظلان عدوَّين لدودَين حتى النهاية. لكن سابين لم يكن لديها أي شكوك بشأن من سينتصِر في النهاية؛ فطبائع الأمور نفسها لم تكن تبدي إلا القليل من المُحاباة لكل ما كانت العمة كاسي تدافع عنه. كان ذلك جزءًا من الحكمة التي كانت سابين قد تعلَّمتها منذ أن هربت من دورهام إلى العالم الكبير المليء بالحقائق التي لا مُساوَمة فيها.
عندما تحدثت، قالت بنبرة مبهَمة نوعًا ما: «السيدة سترازرس امرأة لافتة للنظر.»
التفت أوهارا، ونظر إليها بعينَيه الزرقاوين نظرة مُفاجئة يشوبها قدْر من السخرية. وقال: «استِثنائِيَّة … أنا مُتأكِّد من ذلك.»
علقت سابين: «وامرأة قوية. إنها حكيمة كالحية ووديعة كالحمامة. وليس من الجيد أبدًا التقليل من شأن قوة كهذه. والآن قُل لي … كيف تحبُّ أن تَشرب الشاي؟»
•••
لم يَشرب الشاي بل اكتفى بمضغ القليل من الخبز المحمَّص وبعدها دخَّن سيجارًا، باديَ السرور من نفسه بسذاجة وهو يُؤدِّي دور المالك الذي أتى ليستعلِم من المُستأجِر عما إذا كان كلُّ شيءٍ مرضيًا. كان مُعجبًا بهذه المرأة القوية الذكية التي أصبحت الآن مجرَّد مُستأجِرة للأرض — أرضه — التي كانت تملكُها فيما مضى. عندما فكَّر في هذه المسألة — أنه هو، مايكل أوهارا، قد أصبح مالك هذه المزرعة التي تقع وسط عالم دورهام العَصري والمهيب — شعر بأن إدراك ذلك يَنطوي على شيء مدهش، شيء لم يتوقف مُطلقًا عن إثارة حماسِهِ ومنحه شعورًا قويًّا بالرضا. بمجرد أن يلتفت برأسه، كان يُمكنه أن يرى في المرآة انعكاس الجرح الطويل على صدغه، الجرح الناتج عن زجاجةٍ مكسورة أصابته في خِضمِّ عراك شباب على رصيف ميناء إنديا وارف. ولقد تمكن هو، مايكل أوهارا، بدون تعليم، باستثناء ما علَّمه لنفسِه، بدون مال، بدون نفوذ، من رفع نفسه إلى هذه المكانة قبل حلول عيد ميلاده السادس والثلاثين. ومع قدوم الخريف، سيكون مُرشَّحًا لعضوية الكونجرس، وكان على يقين من انتخابه في المقاطعات الأيرلندية القديمة. كان، مايكل أوهارا، في طريقه لأن يُصبح أحد أعظم رجال نيو إنجلاند، المقاطعة التي كانت ذات يوم بمثابةِ جنَّة صغيرة مقتصرة على أناس مثل آل بينتلاند.
بالطبع لا ينبغي لأحد أن يشكَّ أبدًا في مدى عُمق ذلك الشعور الهائل بالرضا.
أجل، كان مُعجبًا بهذه المرأة الغريبة، التي كان لا بد أن تكون عدوَّته، لكن الغريب أنها لم تكن كذلك. كان معجبًا بتوقُّد ذهنها الفَطِن والطريقة التي تجلس بها هناك أمامه، تتفحصه مرارًا وتكرارًا أثناء حديثه، كما لو كان حشرةً صغيرةً تحت المجهر. كانت بصدد اكتشاف كل شيء يخصُّه؛ وقد فهم ذلك؛ لأنَّ هذه كانت حيلة يُجيدها هو نفسه تمام الإجادة. فبتلكَ الأساليب كان قد أحرز تقدمًا في هذا العالم. وما أثار حيرتَه أيضًا أنها نشأت في عالم بوسطن-دورهام هذا ومع ذلك استطاعت أن تكون مختلفة تمامًا عنه. انتابه شعور بأنه في مرحلةٍ ما من مسار حياتها حدث لها شيءٌ ما، شيء فظيع منَحها في النهاية ذهنًا صافيًا وقُدرة كبيرة على فهم الأمور. كما أدرك أيضًا، على الفور تقريبًا، في اليوم الذي وصلت فيه بالسيارة أمام باب المنزل، أنها كانت قد توصَّلت لاكتشافٍ عن الحياة كان قد توصَّل إليه هو نفسه منذ فترةٍ طويلة … وهو أنه لا تُوجَد قوة تُضاهي القوة التي يَمتلكُها شخص راضٍ بمجرد أن يكون على طبيعته، وأنه لا شيء منيع مثل قوة الصدق المحض، ولا شيء ناجح بقدر حياة شخص يَسير بمفرده. كانت قد تعلمت كل هذا في مكانٍ ما. وكانت تبدو كامرأة لم يَعُد يوجَد شيء جديد يمكن أن يحدث لها.
تحدَّثا لبعض الوقت، بهدوء ولُطف، وبتفاهُم غير عادي بين شخصين يَعرف أحدهما الآخر منذ فترة قصيرة؛ تحدَّثا عن المزرعة، وعن آل بينتلاند، وعن الطواحين والبولنديين في دورهام، وعن البلدة وكيف كانت في فترة طفولة سابين. وطوال الوقت كان لدَيه هذا الإحساس بأنها تُقَيِّمه وتراقبه، وبأنها تَستكشِف الصدى الخافت لنَبرةٍ مُعيَّنة في صوته، وصفة الحدة والغلظة التي تركت بصمتها عليه منذ تلك الأيام التي قضاها على رصيف ميناء إنديا وارف، وذكريات الأب الأيرلندي العاطل المؤمن بالخرافات.
ما كان له أن يَعرف أنها كانت امرأة تضمُّ شبكة أصدقائها رجالًا ونساءً من عشرات الجنسيات، وعاشت حياتها بين أمهر وأنجح الأشخاص في العالم … مهندسين معماريين ورسامين وسياسيين وعلماء. وما كان له أن يَعرف القاعدة الصارمة التي وضعَتْها والتي كانت تنصُّ على عدم احتمال أي شخص باستِثناء الأشخاص «الكاملين». وما كان له أن يعرف شيئًا عن حياتها في باريس ولندن ونيويورك والتي لم يكن لها أيُّ علاقة بالحياة في دورهام وبوسطن. لكنه كان الآن يعرف … لقد رأى أنه، على الرغم من الاختلاف الكبير بين عالَميهما، كان يُوجَد شيء مُشترك بينهما؛ فكلاهما كان ينظر للعالم باعتباره حديقةً كبيرة مليئة بالأشجار التي يُمكن لأي شخص أن يقطف من ثمارها فقط إذا تحلَّى بالبراعة اللازمة.
أما سابين، التي من جانبها لم تكن مُتأكِّدة تمامًا بعدُ من رغبتها في إزالة كل الحواجز؛ فقد كانت تتوصَّل ببُطء إلى الحقيقة نفسها. لم تكن تُوجَد أي مشاعر حُب أو عاطفة في الشرارة التي ومضَت بينهما. كانت أكبر من أوهارا بأكثر من عشر سنوات وكانت قد اكتفَت من تلك المشاعر منذ فترة طويلة. كان الأمر كله مجرَّد إدراك شخصٍ قوي بقوة شخص آخر.
كان أوهارا هو أول من استغلَّ توطيد الرابطة بينهما. إذ إنه في خضم المحادثة، حَوَّلَ مسار الحوار بشكلٍ مفاجئ إلى حدٍّ ما نحو آل بينتلاند.
قال: «لم أذهب إلى منزل آل بينتلاند من قبل، وأعرف القليل جدًّا عن الحياة هناك، لكنَّني شاهدتُها من بعيد وأثارت اهتمامي. إنها أشبه بحلم، كلُّ مَن فيه أموات … كلُّهم أموات باستثناء السيدة بينتلاند الشابة وسيبيل.»
ابتسمت سابين. وقالت: «أتَعرِف سيبيل، إذن؟»
أجاب قائلًا: «نَركب الخيل معًا كل صباح … التقَينا في صبيحة أحد الأيام بالصدفة على الطريق بجانب النهر ومنذ ذلك الحين نركب الخيل معًا كلَّ يوم تقريبًا.»
«إنها فتاة رائعة … التحقَت بمدرسة في فرنسا مع ابنتي تيريز. وكنتُ أراها كثيرًا في تلك الفترة.»
خطرت لها فكرةٌ عارضة وهي أن احتمالية زواج سيبيل من أوهارا ستكون شيئًا مُسليًا للغاية. إذ إن ذلك سيتسبَّب في إزعاجٍ شديد لآنسون والعمة كاسي وباقي الأقارب … شابَّة من عائلة بينتلاند تتزوَّج من سياسي كاثوليكي أيرلندي!
وبينما كان أوهارا يجلس في كرسيه مُنحنيًا إلى الأمام قليلًا، سأل: «إنها تُشبه والدتها، أليس كذلك؟» كان مُعتادًا على الجلوس هكذا، في حالة مِن اليقظة والانتباه كالقطة.
«تُشبه والدتها جدًّا … والدتها سيدة رائعة … امرأة جذَّابة … أيضًا، يُمكنني أن أقول إنها امرأة عطوفٌ جدًّا وكريمة، وهو مِن أندر الأشياء في الوجود.»
«هذا ما ظننتُه … لقد رأيتها ستَّ مرات. وطلبتُ منها مساعدتي في زراعة الحديقة هنا في المنزل لأنني علمتُ أن لديها شغفًا بالحدائق. ولم تَرفض … رغم أنها لم تكد تَعرفني. وجاءت وساعدتني في ذلك. رأيتُها حينها وبدأتُ أتعرَّف عليها أكثر. لكن عندما انتهى ذلك، عادَت إلى منزل عائلة بينتلاند ولم أرَها منذ ذلك الحين. يكاد الأمر يبدو وكأنها تعمَّدت تجنُّبي. أحيانًا أشعر بالأسف من أجلها … لا بدَّ وأنها تعيش حياة غريبة على امرأة مثلها … شابة وجميلة.»
«لديها الكثير من المشاغل في منزل عائلة بينتلاند. وصحيح أن حياتها ليسَت رائعة. مع ذلك، أنا متأكدة من أنها لا تتحمَّل فكرة أن يُشفِق عليها أحد … إنها آخِر امرأة في العالَم تُريد شفقةً من أحد.»
من الغريب أن وجه أوهارا احمرَّ، وأخذت الحُمرة تتزايَد ببُطء وتكسو بشرتَه السمراء.
قال في حزن: «ظننتُ أن أحدًا قد اعترض، زوجها، أو السيدة سترازرس … أعرف شعورهما تجاهي. لا فائدة من التظاهُر بالجهل بذلك.»
قالت سابين: «هذا احتمال وارد جدًّا.»
فجأةً ساد صمت مُتَّسم بالحرج، مما أتاح لسابين وقتًا لكي تستعيد هُدوءها وتُنظِّم آلاف الأفكار والانطباعات المفاجئة. لقد بدأت تفهم شيئًا فشيئًا الأسباب الحقيقية وراء كراهيتهم لأوهارا، الأسباب الكامنة عميقًا، وربما عميقًا جدًّا لدرجة أن ما مِن أحد منهم قد رآها مُطلقًا على حقيقتها.
ثم كُسِر حاجز الصمت وسمعت صوت أوهارا يقول، بطريقة خافتة غريبة: «أريد أن أطلُب منكِ شيئًا … شيئًا قد يبدو سخيفًا. لن أتظاهَر بأنه ليس كذلك، لكنَّني عازم على أن أطلبه منكِ على أي حال.»
للحظة تردَّد ثمَّ نهض سريعًا وأشاح بوجهِه عنها ونظر نحو الباب، باتجاه الأهوار الزرقاء النائية والبحر المفتوح. خُيِّل لها أنه كان يَرتجِف قليلًا، لكنها لم تكن مُتأكِّدة. ما كانت تَعرفه بالفعل أنه بذل جهدًا عظيمًا وبطوليًّا، لدرجة أنه للحظة وضع نفسه في موقفٍ من شأنه أن يكون فيه أعزل وعرضةً لأذًى شديد، وهو الرجل الذي لم يَفعل مثل هذه الأشياء من قبل؛ وفي تلك اللحظة الحالية، بدا أن التهوُّر يتلاشى وحلَّ محله حزن غريب، وكأنه شعر بأنه مهزوم بطريقةٍ ما …
قال: «ما أنا عازم على أن أطلبه منكِ هو ما يلي … هل مِن المُمكن أن تَطلبي مني القدوم إلى هنا أحيانًا عندما تُوجَد هي أيضًا؟» واستدار نحوها فجأة وأضاف قائلًا: «سيعني لي ذلك الكثير … أكثر مما يُمكن أن تتخيَّلي.»
لم تُجبه على الفور، بل أخذت تُراقبه وهي جالسة في حِدة لم تستطع إخفاءها؛ وبعد قليل، نفضت رماد السيجارة عن ثوبها، وسألته قائلة: «وهل تظنُّ أن هذا سيكون تصرفًا أخلاقيًّا مِن جانبي؟»
هز كتفَيه ونظر لها في دهشة، وكأنه لم يتوقَّع منها، من بين كل الناس في العالم، طرحَ سؤال كهذا.
رد قائلًا: «هذا قد يَجعل كلينا أسعد بكثير.»
«ربما تكون مُحقًّا … وربما لا. الأمر ليس بتلك البساطة. علاوة على ذلك، السعادة لا تأتي في المرتبة الأولى عند أفراد عائلة بينتلاند.»
قال: «أجل … لكن …» ثمَّ أتى بإشارة من يده بقوةٍ وبشكل مُفاجئ كما لو أنه يُنحِّي كل الاعتراضات جانبًا.
«أنت رجل غريب الأطوار … سأرى ما يُمكن فعله.»
شكرها وخرج خجلًا دون أن ينبس ببنت شفة، ليَمشي عبر الحقول، مُطأطِئ رأسه الأسود الشعر في تفكير، صوب مَداخنه الجديدة المتألِّقة. وفي عقبَيه هرول كلبُه، الذي كان قد استلقى مُنتظرًا إياه أمام الباب. كان ثمة شيء ما بشأن هذا الرجل القوي البِنية، وهو يَعبر المرج القديم عبر الشفق الأزرق، شيء أوحى بلمحةٍ مِن الوحدة والحزن. بدا وكأن ما اتَّصف به من ثقةٍ بالنفس وطمأنينة قد تلاشى بطريقة غامِضة. كاد الأمر يبدو وكأن رجلًا قد دخل المنزل منذ فترة وجيزة ورجلًا آخر، مختلفًا تمامًا، غادرَه للتو. رأت سابين أن شيئًا واحدًا هو الذي يُمكن أن يكون قد أحدث هذا الفارق، ألا وهو اسم أوليفيا.
•••
عندما اختفى عن الأنظار، صعدت سابين إلى غُرفتها المطلَّة على البحر واستلقت هناك لفترةٍ طويلة تفكر. كانت بطبيعتها امرأة كسولة، خاصة في الأوقات التي يعمل فيها عقلها بمُنتهى النشاط. وكان عقلها يعمل هكذا الآن، بنشاطٍ محموم، مُشوَّشًا ولكن صافيًا جدًّا في الوقت ذاته؛ وذلك لأنَّ زيارتي العمة كاسي وأوهارا قد أثارتا شغفها الشديد لخَوض تجربة مختلفة. كان لديها إحساس بأنها على شفا كارثةٍ ما، كارثة بدأت منذ فترة طويلة وتشابَكَت جذورها ودوافعها، وأصبحت الآن على وشك الانفجار بفِعل قوَّة مُتراكمة لسنوات.
الآن فقط بدأت تفهم قليلًا ما الذي أعادها إلى مكان يَحمل ذكريات حزينة جدًّا كتلك التي تحوم حول ريف دورهام بأكمله. رأت أنه لا بد وأنها كانت طوال الوقت رغبةً في التبرير، وتعطُّشًا لتُثبت لهم أنها، على الرغم من كل شيء، من الشَّعر الأصهب الناعم والوجه الخالي من مظاهر الجمال، والأفكار السخيفة التي كانوا قد ملئوا بها رأسها، وحتى على الرغم من حزنها على زوجها، كانت قد تمكَّنت من عيش حياة ناجِحة ورائعة. أرادت أن تُثبت لهم أنها تَقف الآن بمُفردها وبمنتهى القوة، وأنه لم يعد لهم سلطة عليها ليَكبحوا جماحها أو يُؤذُوها. وللحظة حسبت أن الدافع الخفي كان أقوى من ذلك بكثير، وربما كان أقرب إلى رغبة في الانتقام؛ ذلك لأنَّها كانت مُقتنعةً بأن عالم دورهام هذا هو المسئول عن تدمير سعادتها. أدركت الآن، بصفتِها امرأة مُحنكة تبلغ من العمر ستة وأربعين عامًا، أنها لو كانت نشأت وهي تعرف الحياة على حقيقتِها، ربما ما كانت ستَخسر الرجل الوحيد الذي أحيا عاطفةً حقيقيةً في طبيعة صلبة وجافة للغاية كطبيعتها.
كان كل شيء مشوشًا وملتبسًا وغامضًا، لكن زيارة العمَّة كاسي المليئة بالتلميحات والمحاولات الخفية لإخضاعها، قد جعلت كل شيء واضحًا بدرجة كبيرة.
أغمضت عينَيها الخضراوَين، وأخذت تتخيَّل وقوع سلسلةٍ كاملة من الكوارث التي يُمكنها التسبب فيها. بدأت ترى كيف أنه قد يكون حتى من المُمكن تقويض عالَم عائلة بينتلاند بأكمله فوق رءوسهم في انهيار لن ينتج عنه سوى الحرية والسعادة لأوليفيا وابنتها. ولم تكن تَربطها أيُّ مشاعر مودَّة إلا بهاتَين الاثنتَين؛ أما الآخرون، فليهلكوا، وليَذهبوا للجحيم، وستقف هي تُراقبهم دون أن تُحرك ساكنًا.
بدأت ترى المَواضع المُناسبة لقِطَع الأُحجية، الأوتاد التي قد تَفتح عنوةً الأبواب الموصدة للعالَم المعهود غير المتغيِّر الذي أحاط بها مرة أخرى.
وبينما هي مُستلقية هناك في حالة بين النوم واليقظة، رأت كل تفاصيل عملية تجميع هذه القطع والتوفيق بينها، وشعرت بإحساسٍ مُسكِرٍ فجائيٍ بالقوَّة، بامتلاك كل الأدوات في يدها، بكونها القوة الخارقة التي تحرك الكارثة.
بدأت أيضًا ترى كيف أن القوة والسلطة اللتين كانتا تَدعمان هذه الأسرة كانتا تَقتربان ببطءٍ من النهاية، وتتَّجهان نحو ضعف شديد عديم النفع. ستكون هناك دومًا أموال تدعم عالَمهم، وذلك لأن العائلة لم تتخلَّ أبدًا عن عادة الادخار المتوارثة من جدهم صاحب الحانوت؛ لكن في النهاية حتى المال لن يُنقذهم. سيأتي وقت تكون فيه الثروة العظيمة مجرَّد قشرة هشَّة بلا فسادٍ كامن بداخلها.
كانت لا تزال مُستلقية هناك عندما أتت تيريز، التي كانت فتاة عادية قصيرة القامة، مُمتلئة القوام إلى حدٍّ ما، سمراء البشرة ذات غرَّة قصيرة ناعمة سوداء اللون تُغطي جبهتها. كانت مَحرُورة ومتَّسخة بطين الأهوار، مثلما كانت الطفلة الصَّهباء الصغيرة الحزينة عدة مرات في طفولتها البَعيدة المنسية إلى حدٍّ ما.
سألَتْها بلا مبالاة: «أين كنتِ؟» لأنه كان يُوجد دومًا شعور غريب بعدم الألفة بين سابين وابنتها.
قالت تيريز: «كنتُ أصطاد الضفادع لتشريحها. إنها قليلة جدًّا وقد انزلقتُ في النهر.»
علمت سابين جيدًا، وهي تنظر إلى ابنتها، أن فتاةً غريبة، وعنيدة، ومهملة جدًّا كهذه لن تحظى بأي فرصةٍ للزواج في دورهام. أدركت أنها كانت فكرة سخيفة من البداية؛ وشعرت بالرضا لعِلمها أنها كانت قد رسمت حياة تيريز بحيث لا يُمكن لأحد أن يُؤذيها أبدًا مثلما فعلوا بوالدتها. ومن حياة الترحال الغريبة التي عاشتها معها، والالتقاء بكلِّ صنوف الرجال والنساء، الذين كانوا، وفقًا لفهم سابين الغريب للكلمة، «كاملين»، تمكَّنت الفتاة من شقِّ طريقها بطريقةٍ ما نحو جوهر الأشياء. كانت تبني حياتها على أساس صلب، كي تتمكَّن من ازدراء القوى التي أساءت لوالدتها منذ فترة طويلة. ربما، مثل أوهارا، تضعف فجأةً بسبب الحب؛ لكنَّ سابين كانت تعلم أن ذلك كان شيئًا رائعًا يستحقُّ المعاناة.
أدركت ذلك في كل مرة كانت تنظر فيها إلى ابنتها وترى العينَين الرماديتَين الصافيتَين، اللتَين تُشبهان عينَي والد الفتاة، وهما تنظران إليها عبر هذا الوجه ذي البشرة السمراء بنفس النظرة الفخورة التي تنمُّ عن الثِّقة غير المبالية، تلك النظرة التي كانت قد سحرتها من عشرين عامًا. وما دامت تيريز على قيد الحياة، فلن تَقدر أبدًا على نسيانه تمامًا.
قالت: «اذهبي واغتسلي. السيد بينتلاند الكبير وأوليفيا والسيدة سومز قادمون لتناول العشاء معنا ولعب البريدج.»
وبينما كانت تَرتدي ملابسها لتناول العشاء، توقفت عن طرح هذا السؤال على نفسها: «لماذا تخيلتُ يومًا أن تيريز قد تجد زوجًا هنا؟ ما الذي دفعني للعودة إلى هنا والشعور بالملل طوال الصيف؟»
كانت قد نسيت كل ذلك. وبدأت ترى أن الصيف يحمل توقُّعات بقضاء وقتٍ مُمتع. بل وربما أيضًا يتحول إلى تجربةٍ رائعة. كانت تعلم أن عودتها لم يكن لها علاقة بمُستقبَل تيريز؛ فقد عادت إلى دورهام بسبب رغبةٍ غامضة وطاغية في الانتقام وإلحاق الأذى.