تاريخ العدمية
في هذا الفصل سأقدِّم تاريخًا مختصرًا للعدمية بتقديم تاريخ مختصر للفلاسفة الذين كشفوا في أعمالهم جانبًا أساسيًّا من جوانب العدمية. لم تُعرِّف الشخصيات التي سألقي عليها الضوء أعمالها (في الغالب) باعتبارها معنية بالعدمية، لكن ساعدت حججهم في تشكيلِ ما صار معروفًا منذ ذلك الحين بالعدمية.
تعود كلمة «العدمية» إلى القرن الثامن عشر، تحديدًا إلى المناظرات التي جرَت بين الفلاسفة الألمان بشأن تبِعات ميتافيزيقا التنوير. غير أن تاريخَ ما تمثِّله العدمية يعود إلى ما قبل ذلك بكثير؛ لأنه إذا كان الشخص المتعصِّب لرأيه هو شخصًا يحاول جعل الآخرين يدركون أن ما يؤمنون به لا شيء، ليتهمه الآخرون بدورهم بأنه هو الذي لا يؤمن بشيء، فقد يكون سقراط أبا التعصب للرأي وليس فقط «أبا الفلسفة».
سقراط والكهف
كان الفيلسوف الإغريقي القديم سقراط يجوب أسواق أثينا، ويطلب من الناس تعريفَ مفاهيم محورية في الحياة اليومية، مثل مفاهيم الحب والشرف والورع والمعرفة والعدالة. وما يلبث أن يعطيه أحدُ الأثينيين تعريفًا، حتى يعكف سقراط على تمحيص التعريف؛ فلم يكن حسبه أن يتحدَّى الأثينيين لإثبات أن ما يؤمنون بأنه الصواب والحقيقة يستطيع الصمودَ بحق أمام كل محاولات دحضه، بل كان يتحداهم كذلك أن يقروا بأن قناعاتهم خطأ إذا كانت تفنيداته موفَّقة. بعبارة أخرى، لقد تجاوز سقراط مجرد محاولة إشراك أفراد المجتمع في جدل؛ إذ كان يحاول إجبار الأثينيين على التشكيك في المعتقدات التي بُني عليها مجتمعهم، والتساؤل عما إذا كان مجتمعهم قائمًا على أساس راسخ من المعرفة أم على أسسٍ مبهمة مثل العادات والآراء.
من خلال هذا التصريح، يوضِّح سقراط أنه لا يطلب من مستمعيه خوضَ تجربة فكرية فحسب، لكنه يتحداهم (ويتحدانا نحن أيضًا، والفضل في ذلك لأفلاطون) أن يفكروا جديًّا في احتمال أن يكون كلُّ ما يعتقدون أنهم يعرفونه عن الواقع ما هو إلا وهم. يرى سقراط أننا مثل سجناء في كهف تحت أرض، ليس فقط لأننا نعتبر كلَّ ما اعتدناه واقعًا حقيقيًّا، بل أيضًا لأننا نرفض أيَّ تفنيد لهذا الواقع الذي قُدِّم لنا نظرًا لاعتيادنا هذا الواقع. لا يريدنا سقراط أن ندرك أننا «نصدِّق ما نراه» فحسب، بل أن نرى كذلك أننا «نرفض ما يخالف معتقَداتنا» (أو كما قال سيجموند فرويد لاحقًا، «تبرير ما نعتقد أنه صحيح»). بعبارة أخرى، يريدنا سقراط أن ندرك أننا عدميون.
تشكِّل العدمية، من المنظور السقراطي، خطرًا على المستوى المعرفي والوجودي على حدٍّ سواء؛ إذ يذهب سقراط إلى أن السجناء لا يتمسَّكون باعتقادهم في الظلال حتى مع تقديم دليل نفي لهم فحسب، بل «يفتكون» بأي شخص يأتيهم بدليل النفي هذا، أي شخص يحاول إقناعهم بأن قناعاتهم خطأ، أي شخص يحاول تحريرهم من سجنهم. فالسجناء، الذين لا يعلمون أنهم سجناء، لا يرون الكهف سجنًا، وإنما يرونه بيتًا، تمامًا مثلما لن يرى السجناء الشخصَ الذي يريد إخراجهم من الكهف محرِّرًا، بل رجلًا مجنونًا. وبينما يستند سقراط في هذه الحجة إلى الطبيعة البشرية، فإن أفلاطون يزيدها دعمًا بالتاريخ البشري، حيث سيعلم مَن قرأ كتاب «الجمهورية» أن الناس قد حاكموا سقراط ونفَّذوا فيه حكم الإعدام، وهو الذي كان يحاول تحريرَهم، بتهمة محاولة تحريرهم.
وهكذا يساعدنا سقراط على تعرُّف كثير من السِّمات التي استُخدمت لاحقًا (بعد قرون بمجرد صياغة الكلمة) لتحديد المُعادين للعدميين. يتحدى سقراط الناس أن يدافعوا عن معتقداتهم. إنه يقوض تدريجيًّا إيمانَ الناس، ليس فيما يؤمنون بأنه حقيقي فقط، بل أيضًا بما يؤمنون أنه الحقيقة. فيحجب سقراط آراءه ويطرح آراءً غير متسقة جذريًّا مع الآراء التي يتبناها المجتمع عمومًا، دافعًا الآخرين إلى اتهامه بأنه مناوئ للمجتمع وليس لديه آراءٌ فعلية. يحاول سقراط حمْل الناس على تبني فهمٍ بديل للواقع؛ ومن ثَم يُتهم بالهرطقة ومحاولة إفساد المجتمع. يحث سقراط الناسَ على اتباعه، بمن في ذلك الناس الذين سيسعون إلى تفكيك المجتمع بعنف. يحثُّ سقراط الناسَ على مهاجمته، بمن في ذلك الناس الذين سيسعون إلى إعدامه. يحث سقراط الناسَ على الاقتداء به، بمن في ذلك الناس الذين سيتبنون آراءه حتى يبلغوا استنتاجاتٍ أكثرَ راديكالية حتى من آرائه.
ديكارت والثنائية
دفع سقراط الناسَ إلى التشكيك في أساس معتقداتهم، وأُعدم من أجل ذلك. غير أن أفلاطون ظل ينشر أفكار سقراط، سواء من خلال نشر محاوراته، أو بإنشاء «أكاديمية» لتدريب الآخرين على التفكير والمجادلة مثل سقراط. وكان أشهر تلاميذ أفلاطون هو أرسطو، الذي انتهت به الحال معاديًا لأفكار أفلاطون، كما صُور في جدارية «مدرسة أثينا» لرافاييل. وقد ساعدت انتقادات أرسطو لأفلاطون ولآرائه السياسية المحافِظة، على التحوُّل بالفلسفة من تحدي الناس للتشكيك في أسس حياتهم اليومية إلى الانخراط في تحليلٍ دقيق للمفاهيم. كذلك ساعدت تحليلات أرسطو على ابتكار وسائل وميادين جديدة للبحث؛ ولهذا السبب تجد اسمَه في الصفحة الأولى من كل كتاب جامعي تقريبًا. وقد هيمنت الأساليب والأفكار الأرسطية على الأبحاث الفكرية في أوروبا واستمرَّت هيمنتها قرونًا، حتى جاء ديكارت.
تأسَّس تعليمُ الجندي وعالِم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت، على المنهج الأرسطي الفلسفي. لكنه لم يَقنع بالفلسفة الأرسطية، لا سيما الاقتران القائم بين الفلسفة الأرسطية واللاهوت المسيحي المعروف باسم الفلسفة المدرسية (السكولاستية). كان ديكارت، شأنه شأن سقراط، مهتمًّا بفكرة أن ما يدَّعي الناس عمومًا أنه المعرفة لا يمكن اعتباره كذلك ما لم نكن متأكدين من أسس هذه الادعاءات. لكن في حين سعى سقراط لتمحيص أسس المعرفة من خلال المجادلات، فضَّل ديكارت الاستبطان عوضًا عن ذلك، لا سيما عن طريق التأملات.
ومن وحي ثلاثة أحلام راودته في حجرةٍ دافئة ذات ليلة باردة في العاشر من نوفمبر ١٦١٩، مضى ديكارت لإحداث ثورة في الفلسفة والعلم بإقامتهما مجددًا على أساس اليقين. أحدث ديكارت هذه الثورة في عدة أعمال، لكن أشهرها وأكثرها تأثيرًا هو كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» (١٦٤١). يبدأ ديكارت كتاب «التأملات» بالتأسف على عدد الأكاذيب التي آمن بصحتها في حياته، وذهب إلى ضرورةِ رفض أي اعتقادات قائمة على أسسٍ غيرِ أكيدة وعَدِّها خاطئة حتى نتحاشى اقترافَ مثل تلك الأخطاء. وبناءً على ذلك، يمحِّص ديكارت في صحة كل أساس من أسس المعرفة المسلَّم بها وينتهي إلى أنه لا يمكن الوثوق بأيٍّ منها.
إن حواسنا تخدعنا؛ لذلك لا يمكن الثقة في المعرفة القائمة على الإدراك. نحن لا نستطيع التفرقةَ بين الأحلام واليقظة؛ ومن ثَم لا يمكننا الثقة في المعرفة القائمة على التجربة. وكان قول ديكارت الأشهر في هذا الصدد أننا ما لم يكن بمقدورنا بطريقة أو بأخرى أن نستبعد احتمالَ وجود كائن مؤذٍ له علينا سلطان الآلهة — كائن يستطيع أن يقنعنا بأن العالم الزائف عالَم حقيقي، وأن الأشياء غير الموجودة موجودة، وأن ٢ + ٣ = ٥ بينما قد تكون غير ذلك — فلا يمكننا إذن أن نثق في المعرفة، حتى المعرفة الرياضية، القائمة على عظمة الرب واليقين به.
لكن ما يهمنا في هذا المقام ليس ما يذهب إليه ديكارت، بل ما يقرُّه. فبعد أن يأتيَ بالأسباب التي تدعو إلى الشك في أسسِ كل ادعاءات المعرفة الممكنة، يكشف ديكارت عن أنه لا يستطيع الاستمرار في شكه مع ذلك. فالأعراف والعادات لها تأثير نافذ عليه؛ حتى إنه يجد نفسه عاجزًا عن رفض ادعاءات المعرفة التي آمن بها طويلًا، مهما وجد أسسها غيرَ جديرة بالثقة.
من الصعب ألا نفسِّر هذا على أنه عودة لديكارت إلى الكهف المذكور في «جمهورية» أفلاطون، وأنه يتخيَّل نفسه واحدًا من السجناء الذين وصفهم سقراط. لكن في حين أشار سقراط إلى أن السجناء إنما يؤمنون بصحةِ ما يرون فقط لأنهم لا يدرون بمأزقهم، يشير ديكارت إلى أن معضلة الإيمان أعمقُ حتى من ذلك. إن ديكارت يعلم بمأزقه، لكن معرفته بموقفه غير كافية لمساعدته على الإفلات منه. في الواقع يقرُّ ديكارت بأن معرفته بمأزقه إنما تدفعه إلى التشبُّث باستماتةٍ أكثرَ بالأوهام التي طالما وجد فيها الراحة، بغض النظر عن درايته «بأنها أوهام».
قال سقراط إن الحياة التي لا نخضعها للدراسة والتمحيص لا تستحق أن نعيشها. أما ديكارت فقد تمحَّص الحياة، لكنه وجد أن الحياة التي لا نخضعها للتمحيص «أمتع» و«أهدأ» و«أجدر» بأن تُعاش. والسبب وراء ذلك، كما يشير ديكارت، أن الحياة التي نخضعها للتمحيص والدراسة تتطلب «كدحًا» و«عملًا شاقًّا»، بل قد تؤدي إلى «ظلام مطبِق» بدلًا من «النور» الذي وعد سقراط بأنه سيكون في انتظار مَن يغادر الكهف. ومن خلال طرح احتمال وجود إله شرير، يتجاوز ديكارت بالشك حدًّا جديدًا، حدًّا أبعدَ من كهف سقراط. إن سقراط يرى أننا جميعًا نعيش في كهف معًا، وأن مناقشتنا الأفكار بعضنا مع بعض من الممكن أن تقودنا إلى حرية الحقيقة. أما لدى ديكارت، فلا وجود لكلمة «نحن»؛ لا يوجد إلا «نفسه»، وشكوكه، وعدم يقينه بأي شيء؛ لأن فكرة احتمال وجود إله شرير لم تدَع له شيئًا آخر.
كان كلٌّ من سقراط وديكارت مناهضًا للعدمية، كونهما قد سعيا إلى الإيعاز للآخرين بالتشكيك في أسس معتقداتهم ثم رفضها في نهاية المطاف. ولكن في حين كان سقراط مناهضًا للعدمية، اتهم الآخرين بالعدمية، كان ديكارت مناهضًا للعدمية، اتهم نفسه بالعدمية. ويقر ديكارت بأن رفْضَه لأسس معتقداته مؤقتٌ فحسب؛ لأنه من غير الممكن أن يقاوم نزعته إلى الإيمان. صوَّر سقراط الحرب بين الوهم والحقيقة حربًا بين غير المستنيرين والمستنيرين؛ أما ديكارت فصوَّر هذه الحرب حربًا تدور بداخله، حربًا بين رغبته في إدراك السعادة ورغبته في إدراك المعرفة.
على غرار سقراط، يحاول ديكارت مناهضة العدمية من خلال مهاجمة ارتباطها بعالَم من الأوهام. وقد حقَّق سقراط ذلك بالذهاب إلى أن ثمَّة عالمًا أفضل وراء العالم الذي نراه، وصفه بأنه عالَم الأشكال أو المُثُل، عالم الحقيقة، والوعي، والتحرُّر من الأوهام. كذلك يقاوم ديكارت العدمية بالثنائية، لكنه على عكس سقراط، يصف واقعًا ثنائيًّا بداخل نفسه، وليس خارجها. فيرى ديكارت أننا نؤمن بالأوهام؛ لأن طموحاتنا أبعد من قدراتنا، لأن رغبتنا في المعرفة (الإرادة) تتجاوز قدرتنا على المعرفة (العقل).
على الرغم من أن ثنائية العقل والجسد التي جاء بها ديكارت هي الأكثر استحواذًا على الاهتمام، فإن ثنائية الإرادة والعقل أهم بكثير فيما يتعلق بفهم العدمية. كان السبيل للقضاء على العدمية، من وجهة نظر سقراط، هو الهروب من العالم المادي إلى العالم العقلي، وهذا الهروب يتحقَّق إما عن طريق المجادلة وإما عن طريق الموت. أما ديكارت، فيرى أن السبيل لمناهضة العدمية هو الهروب من السعي الطوعي المتعمَّد إلى اليقين العلمي، وهذا الهروب إنما يتحقَّق من خلال ضبط النفس واتباع القواعد. وإذا كان سقراط قد قدَّم لنا نموذج المناهض للعدمية بصفته مصلحًا اجتماعيًّا، فقد قدَّم لنا ديكارت نموذج المناهض للعدمية بصفته مصلحًا لذاته.
هيوم والطاولة
أحدث ديكارت ثورةً في الفلسفة بمحاولة إرساء قواعدها على أساس من قوة الفكر. وعلى الرغم من أن ديكارت اكتشف أن الفكر من الممكن أن يدمِّر الإيمان بالمعرفة برُمَّته بالإتيان بفكرة على غرار «الشيطان الشرير»، فقد أوضح كذلك أن الفكر من الممكن أن يبدِّل اليقين بالإيمان، من خلال إثبات أنه موجود («أنا أفكِّر إذن أنا موجود») أولًا، ثم بإثبات وجود الرب. أو هكذا اعتقد. فقد ألهم ديكارت فيلسوفًا اسكتلنديًّا شابًّا يُدعى ديفيد هيوم، فلم يؤلف عمله الخاص الذي يتناول الشك الديكارتي فحسب — «رسالة في الطبيعة البشرية» (١٧٣٨) — بل برهن كذلك على أن ديكارت لم يتعمق بمنهجه التشكيكي بعيدًا بالقدْر الكافي.
اعتمد ديكارت في برهانه الكوني، من وجهة نظر هيوم، على وجود الإله على أساس مفاهيمي لم يتحرَّه، ألا وهو الأساس المفاهيمي للسببية. فيذهب هيوم إلى أننا إذا حاولنا بحق إعادةَ بناء المعرفة من أبسط عناصر الطبيعة البشرية (مثل الإدراك)، فلن نستطيع عندئذٍ الادعاءَ بأن السببية هي شيء يمكننا «معرفة» أنه حقيقي، وليس شيئًا لا يسعنا سوى «الاعتقاد» بأنه حقيقي. فبالرغم من أننا قد نرى حدثًا يتبع حدثًا آخر، ونرى تسلسل الأحداث هذا يتكرَّر مرارًا، فمن المستحيل التأكد من «حتمية» حدوث هذا التسلسل للأحداث. بعبارة أخرى، ليس بإمكاننا أن نستشعر الضرورة.
يستفيض هيوم في حجَّته، فيذهب إلى أننا إذا كنا لا نستطيع أن نستشعر الضرورة، فلا يمكن أن تكون السببية إذن أساسًا لادعاءات المعرفة. فالسببية، من منظور هيوم، مسألةٌ احتمالية («الأرجح أن تشرق الشمس غدًا») وليست مسألة يقين («من المؤكد أن الشمس ستشرق غدًا»). وعلى ذلك، فإذا كنا لا نستطيع التأكد من صحة السببية، فلا يمكننا أن نحوز المعرفة، كما اشترط ديكارت، فيما يتعلق بأي ادعاءات قائمة على السببية (مثل ادعاء ديكارت بحتمية وجود الرب؛ لأنه لا يمكن إلا لكينونة سرمدية مثل الله أن تكون الدافع لفكرته عن كينونة سرمدية لا نهائية مثل الله).
بعد أن ابتعد هيوم بمنهج الشك الديكارتي أكثرَ مما أراد له ديكارت، زعزع منهجه التجريبي أسسَ الفلسفة والعلم التي كان ديكارت قد وضعها على أساس من العقلانية. فيذهب هيوم إلى أن الكثير مما نعتقد أنه حقيقي لا يستند إلى قوة العقل، بل إلى قوة التجربة. فإذا ساورَنا شعورٌ قوي إزاء فكرةٍ ما، وتكرَّر اختبارنا لهذا الشعور، فمن الممكن أن يحدونا ذلك إلى الارتقاء بالفكرة إلى مرتبة المعرفة، مع أن يقيننا بها لا يزيد عن يقيننا برأي مِن الآراء.
يشير هيوم هنا إلى أن تجربة اكتشافنا أن شيئًا ما حقيقي قد لا يعدو في الواقع تجربةَ اكتشاف تفضيلنا لشيءٍ ما. قد نعتقد أننا نخوض جدالًا عقلانيًّا، لكن إذا كان قبول حججنا أو رفضها يستند فقط إلى «الذوق والعاطفة»، فلا يمكننا التمييز بين الحقائق والمشاعر، أو بين التقدم والتحيُّز. بعبارة أخرى، قد لا يكون هناك فارقٌ كبير بين تشجيع فكرة وتشجيع فريق رياضي؛ فنحن نتعاطف مع طرف، ونعتبر هذا التعاطف ذا مغزًى وليس قائمًا على عواملَ خارجة عن حدود سيطرتنا (مثل مكان نشأتنا)، والأهم من ذلك أننا نريد الفوزَ للطرف الذي نسانده.
مع توغُّل هيوم في نتائج المنهج التجريبي أكثرَ وأكثر، لا تتكشف له معرفة تتعلَّق بالسببية فحسب، بل تتكشف له معرفة بخصوص ذاته أيضًا. فيجد هيوم أن تجاربه في تقلُّب مطرد؛ تقلُّب لا يدُل على وجود «روح» أو «نفْس» أو «ذهن» مستقرين، بل يوحي بأن التقلب هو كلُّ ما هناك، أنه لا يعدو «حَفنة من الإدراكات». وتخلق ذاكرتنا شكلًا سرديًّا من هذه الإدراكات، سردًا قائمًا على فكرةِ أنه لا بد من وجود «ذات» كانت سببًا في وجود هذا السرد، ولكن أما وقد محونا السببيةَ باعتبارها أساسًا للمعرفة، فلا يمكن كذلك اتخاذها أساسًا للهوية. وهكذا أدَّى منهج التشكيك بديكارت إلى الاعتقاد في وحدة الأنا أو «الذاتية». أما هيوم، فحتى وجود «الأنا» لديه كان موضعَ شك.
قد نعتقد أننا نخوض جدالًا عقلانيًّا، لكن إذا كان قبول حججنا أو رفضها يستند فقط إلى «الذوق والعاطفة»، فلا يمكننا التمييز بين الحقائق والمشاعر، أو بين التقدم والتحيز.
تحيرني كلُّ هذه الأسئلة؛ حتى إنني بدأت أرى نفسي في أبلغ حالات البؤس التي يمكن تخيُّلها، يلفني ظلام دامس، ومحروم تمامًا من استخدام أيٍّ من أعضائي أو مَلَكاتي.
يمكن التغلب على العدمية بالتنوير من المنظور السقراطي. ومن المنظور الديكارتي، يمكن التغلب على العدمية بضبط النفس. أما من منظور هيوم، فلا سبيل إلى التغلب على العدمية. فهي مجرد نتاج للنفسية البشرية. وحين يجد هيوم نفسه في الكهف، في «الظلام الدامس»، لا يحاول تلمُّس طريقه إلى الخروج بالحجج أو المنطق، بل يلعب الطاولة بدلًا من ذلك. إن هيوم يكتشف العدميةَ بداخل نفسه، شأنه في ذلك شأن ديكارت. لكنه على عكس ديكارت، لا يقاوم عدميته، بل يرحِّب بها. فالعدمية، كما وصفها ديكارت، مبعثُ راحة، وسيلة للبقاء آمنًا، سبيل «لمحو كل هذه الخيالات»، حتى إن اقتصر دورها على مساعدتنا على محاولة تجاهلها فحسب.
كانط والأزمة
على الرغم من أن هيوم ربما كان قانعًا بالبقاء في قبضة عدميته الدافئة، فقد أسهم في تحفيز آخرين لنبذ عدميتهم. فكما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقولة شهيرة له، كان هيوم هو الذي أيقظه من «سباته العقائدي». فحين رأى كانط أن هيوم قد دمَّر أسسَ المعرفة، تاركًا الاحتمالية مكانها، ألهمه ذلك وانبرى للتصدي لبعثِ المعرفة على أسسٍ جديدة. وقد نفَّذ كانط هذه المهمة، لا بإثبات أن هيوم كان مخطئًا في الاستنتاجات التي استنبطها من المنهج التجريبي، ولكن بالادعاء بأن هيوم كان مخطئًا في أساليبه، وفي محاولة إعادة بناء المعرفة باستخدام المنهج التجريبي. فقد رأى كانط أنه لا يمكن أن نبدأ من التجربة، كما حاول هيوم أن يفعل؛ لأن التجارب ليست شيئًا «نملكه»، بل شيء «نخلقه».
يرى كانط أن هيوم كان مصيره المحتوم أن تنتهيَ به الحال تائهًا وسط الظلام والخيالات؛ لأن السببية ببساطة لا تسير بالطريقة التي تخيَّلها هيوم. واستعان كانط بمثال الشمع المنصهر، ليشيرَ إلى أننا لا نستطيع أن نعرف السبب المحدَّد وراء انصهار الشمع، لكننا مع ذلك نعلم أن ثمة «شيئًا» تسبَّب في انصهاره. وبذلك ينتقد كانط هيوم لخلطه بين عدم القدرة على تطبيق قانون السببية وعدم القدرة على إثبات وجود قانون السببية. ولمَّا كانت السببية والضرورة لهما دور محوري لا بالنسبة إلى المعرفة فحسب، بل أيضًا بالنسبة إلى الكيفية التي نختبر بها العالم، يقترح كانط أن نعكس العملية، فنبدأ بما نختبره (مثل قانون السببية) ثم نحاول أن نشرح كيف يجب أن تسير التجربة حتى نمرَّ بهذه التجربة.
يذهب كانط إلى أن هيوم كان محقًّا في أنه لا يمكن العثور على الضرورة التي تتوقَّف عليها السببية في التجربة؛ لكن هذا لأن الضرورة جزءٌ من الجهاز المفاهيمي الذي تستخدمه عقولنا لتشكيل التجربة. وردًّا على التساؤل التشكيكي بشأنِ كيفيةِ معرفةِ ما إذا كانت خبراتنا الذاتية بالعالم متوافقة مع الحقيقة الموضوعية للعالم — أن ما أراه أحمر هو أحمر بالفعل — يدَّعي كانط ذلك الادعاء الثوري بأن مثل هذا التوافق يمكن الوقوف عليه ومعرفته؛ لأن عالَم التجربة يكون من إنشاء العقل. فالمكان والزمان ليسا قائمين «خارجنا»؛ إنهما بداخلنا؛ إنهما طريقتنا لإدراك الواقع. إن «جوهر» الأشياء الزمكانية التي نستقبلها من خلال ملَكة الحس الذهنية «يتشكل» بالتوافق مع ملَكة الإدراك الذهنية. ووفقًا لكانط، لا يتأتَّى الإدراك، والمعرفة القائمة على الإدراك، إلا بناءً على النشاط التلقائي لهذه الملَكات التي تعمل معًا في انسجام.
وهكذا تنقذ «الثورة الكوبرنيكية»، التي أحدَثها كانط، المعرفةَ من حجج هيوم القائلة بأننا لا نستطيع تجاوز ما نختبره ونحسُّ به مطلقًا، وأن ما نعتبره معرفةً هو في الواقع قائم على ما اختبرناه ومررنا به حتى تلك اللحظة. عوضًا عن ذلك يخلق كانط للعلم إمكانيةً ليقوم من جديد على حقائقَ كونية مستقلة عن التجربة (فيما يطلِق عليه كانط «قبْلية»)، بدلًا من أن يقوم فقط على ادعاءاتٍ قائمة على التجربة («بعدية»). من الممكن أن نتحصَّل على معرفة قبْلية؛ لأن بإمكان العقل أن يكتشف حقائقَ كونية — والحقائق مثل كل نتيجة لا بد لها من سبب — لكن هذه المعرفة ثَمنُها أن نقبل بالضرورة فكرةَ أننا مَن نشكِّل التجربة، وأنها ليست منحةً تُقدَّم لنا.
وبفضل كانط، لسنا بحاجة إلى القلق بشأن معضلة الاستقراء التجريبية التي أثارها هيوم، من أن الادعاءات القائمة على تجربة سابقة من الممكن أن تدحضها تجربة مستقبلية؛ نظرًا لأن الخبرة متسقة من حيث كيفية تشكُّلها (وستظل كذلك دائمًا) لا من حيث الطريقة التي قُدِّمت بها (حتى الآن). لكن هذا يثير المشكلة المثالية للتصور، مشكلةَ أن التجربة تجربة «بشرية»، أو حتى تجربتي أنا، وأن التجربة غير البشرية، أو التجربة التي ليست تجربتي، من الجائز أن تكون مختلفة تمامًا دون حتى أن نتمكن من معرفة ذلك. إذا كانت تجريبية هيوم ساقتنا إلى التشكيك، فمن الممكن أن تسوقنا مثالية كانط نحو الجنون.
ويذهب كانط إلى أن الواقع موجود «ظواهريًّا» (بظاهره) و«ذاتيًّا» (في ذاته)، وأننا وإذا كنا لا نستطيع الوصول إلى العالم الذاتي، فإن وجوده يقيني. فمن دون عالم خارجي، لَما كان ثمة شيء لنختبره، ولا حتى أنفسنا، ولهذا السبب يفنِّد كانط المثالية الديكارتية بالقول بأن التجربة لا تتوقَّف على «الأنا»؛ بل تتوقَّف «الأنا» على التجربة. بعبارة أخرى، لا بد من عالَم ذاتي حتى يمكن للعالم الظواهري أن يكون له وجود؛ لأن من دون العالم الذاتي، لن تكون «الأنا» موجودة؛ «أنا» ديكارت، تلك «الأنا» الموجودة فقط ما دامت تفكر؛ أي ما دام هناك شيء لتفكر فيه وإلا فما كان لها وجود. وإذا كانت التجربة متوقِّفة على وجودي، ووجودي متوقفًا على التجربة، فلا بد أنه يوجد شيء يتجاوزني ويتجاوز التجربة؛ لأنه لولا ذلك لعلقنا في معضلة البيضة والدجاجة.
فسَّر جاكوبي وكلايست ما جاء به كانط بأنه يعود بنا بالأساس سجناء في كهف «جمهورية أفلاطون». وفي حين أن سجناء سقراط لم يعلموا أنهم سجناء يحدِّقون في الظلال، فإن سجناء كانط يعلمون أنهم يقضون حياتهم يحدقون في الظلال، لكن يُتوقع منهم أن يرتضوا بتلك الحياة التي تبدو بلا معنًى؛ لأن الهروب من الكهف (معرفة الشيء في ذاته) مستحيلة. بمعنًى آخر، حلَّ كانط أزمةَ هيوم، لكن أسفر هذا الحل عن أزمة جديدة. فبفضل كانط، صار بإمكاننا إعادةُ بناء المعرفة على أسس اليقينية العقلانية، لكن ذلك جاء على حساب زعزعة يقيننا بمعنى التجربة.
ربما يكون هيوم قد تركنا وقد أثار لدينا نزعةً تشكيكية، إلا أنه تشكيك يمكننا التغلب عليه بقضاء وقت مع أصدقائنا. أمَّا كانط فقد ترك لدينا تشككًا في قدرتنا على اكتساب أصدقاء من الأساس، ومعرفة حقيقة أصدقائنا؛ أصدقائنا «في ذاتهم» وليس كما «يبدون». تركنا كانط ونحن لا ندري حتى مَن نكون في الحقيقة، مَن نحن في ذاتنا في مقابل الذات التي نبدو بها في نظر أنفسنا. لقد جعل كانط العلم ذا معنًى، لكنه أوحى بفيض من الأسئلة الجديدة عما يجعل الحياةَ ذات معنًى. وهكذا يبعدنا كانط عما يمكن أن نسميه «عدمية إبستمولوجية» (الاعتقاد بأن المعرفة مستحيلة)، وأخذنا بدلًا من ذلك لما يمكن أن نسميه «عدمية وجودية» (الاعتقاد بأن الحياة بلا معنًى).
ولكن من الممكن أن نجد ردًّا على خطر العدمية الوجودية في فلسفة كانط الأخلاقية. فمن منطلق رغبة كانط في إنقاذ الأخلاق من التشكيك، ذلك التشكيك الناتج عن بناء الادعاءات الأخلاقية على أسسٍ محتمَلة مثل وجود إله أو التجربة البشرية، يذهب كانط إلى أنه من الممكن بدلًا من ذلك إنشاء الأخلاق على الأسس اليقينية للعقلانية. وباستخدام العقل «المحض»، اكتشف كانط في العقلانية قانونًا أخلاقيًّا «محضًا»؛ قانونًا ينطبق على أي كائن عقلاني، في أي موقف، في أي زمان. ويرى كانط أن الأفعال تكون أخلاقية، إذا أمكن تعميمُها من دون أن تؤدي إلى خلق تناقض منطقي.
يطرح كانط قانونًا أخلاقيًّا خاليًا مما تأتي به التقاليد والتجارب البشرية من احتمالات. وصحته، مثل صحة قوانين العلم؛ أي قَبْلية. غير أن البشر، كما يقر كانط مضطرًّا، ليسوا كائنات عقلانية بامتياز؛ ومن ثَم فإن «الشوائب» الناتجة عن كوننا بشرًا تحول دون قدرتنا على الامتثال للقانون الأخلاقي تلقائيًّا، بل تمنعنا حتى من إثبات امتثال أي أحد على الإطلاق للقانون الأخلاقي، بما في ذلك أنفسنا. والقانون الأخلاقي القَبْلي بطبيعته لا يمكن إثباته بالتجربة، تمامًا مثلما لا يمكن إثبات القانون القَبْلي للسببية بالتجربة. وهكذا، وكما حافظ كانط على العلم من التشكيك باستبعاد التأكد من صحته من خلال التجربة، كذلك حافظ على الأخلاق من التشكيك باستبعاد التأكد من صحتها في ضوء التجربة.
وبناءً على ذلك، يبدو أن كانط قد استأصل المغزى من الأخلاق كما استأصل المغزى من العلم. إن كانط يختزل الأخلاق إلى مسألةٍ رياضية، ومثل المسألة الرياضية، يدَّعي كانط أننا يجب ألا ننشغل بما إذا كانت تجعلنا سعداء أم لا، بل بما إذا كانت صحيحة أم لا. بل إن كانط يذهب إلى حد القول بأننا لا بد أن نُذعن للقانون الأخلاقي حتى إن كان سيجعلنا تعساء، حتى إن كان سيؤدي إلى هلاكنا؛ لأننا ما دُمنا كائنات عقلانية، فإن من «واجبنا» أن نستجيب للقوانين العقلانية، ونحن بذلك، لا نحافظ على سعادتنا، ولا حياتنا، بل على «كرامتنا»، على حد قول كانط. فلا بد من اتباعِ ما هو عقلاني مهما كانت العواقب؛ فالعواقب مثلها مثل التجربة البشرية، والسعادة البشرية، والتقاليد البشرية، طارئة وغير خالصة وظواهرية ومخجِلة.
نيتشه والتشخيص
وُلد فريدريك فيلهيلم نيتشه — أكثر الفلاسفة الذين اقترن اسمهم بالعدمية — في عام ١٨٤٤ في روكين، بألمانيا. نشأ نيتشه في كنف كلٍّ من الكنيسة اللوثرية والمدرسة الفلسفية الكانطية. كان والد نيتشه قسًّا لوثريًّا، وتوفي ولم يزل نيتشه في الخامسة من عمره. وفي المدرسة بدأ بدراسة اللغات الكلاسيكية، التي أدَّت به فيما بعدُ إلى التخصُّص في فقه اللغة. وعلى الرغم من تعيينه رئيسًا لقسم فقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل ولم يتجاوز الخامسة والعشرين، فقد منعته صحته المعتلة وأعماله التي لم تلقَ رواجًا من البقاء في المسار الأكاديمي.
- (أ)
العدمية باعتبارها علامةً على ازدياد قوة الروح: وهي العدمية «الإيجابية».
- (ب) العدمية باعتبارها تراجعًا لقوة الروح وانحدارها: وهي العدمية «السلبية».14
لكن بما أن هذه الملاحظات لم تُنشَر في حياته، فليس هناك سبيل لمعرفة رأي نيتشه النهائي فيها، وما إذا كان اعتبرها كلَّها جزءًا من تشخيصه للعدمية، أم بعضًا منها فقط، أو ربما ولا واحدة منها. لكن بما أن هذه الملاحظات قد كُتبت أثناء كتابته أعمالًا نشرها فعلًا، فمن الممكن أن نحاول تجميعَ آرائه عن العدمية من خلال مقارنة ملاحظاته مع أعماله المنشورة. وهنا سأركز بالأساس على كتابه «في جينيالوجيا الأخلاق» (١٨٨٧)؛ إذ كان أكثر أعماله تنظيمًا ومنهجية، الذي كتبه في نفس الوقت الذي كتب فيه كثيرًا من ملاحظاته عن العدمية، وهو العمل الذي تمنَّى أن يساعد على نشر أفكاره التي جاءت في أعماله الأخرى بين قِطاع أعرض من الجمهور.
لم تكن الأخلاق — أو على الأقل ما اعتبره الأوروبيون في زمن نيتشه أخلاقًا — مطلقة أو عامة كما اعتقد كانط، بل كانت نتاج حرب بين «أخلاقيات متناحرة». ومن خلال اكتشاف أن ثقافات مختلفة قد طبَّقت «الخير» بوصفه قيمةً في أزمنة مختلفة، لا على طرائق مختلفة للحياة فحسب، بل كذلك على طرائقَ متعارضة ومتناقضة للحياة، تبيَّن أن اعتبار شيءٍ ما «خيرًا» لا يضمن أنه «خير»، ولا اعتبار شيءٍ ما مندرجًا ضمن «الأخلاق» بضامن على أنه «أخلاقي». وبعد أن أشار نيتشه إلى أن كانط كان مخطئًا في اعتقاده بأن للأخلاق أسسًا قَبْلية، تثبت صحتها بمعزل عن الخبرة وبالتبعية عن التطور، طلب من القراء أن ينظروا بجدية إلى فكرة بعدية الأخلاق، وأنها واحدة بين عدة نُظم أخلاقية محتملة متضاربة، بل وأن الأخلاق خطر، وأنها «وبالٌ على الحياة».
في المقال الأول من كتاب «في جينيالوجيا الأخلاق»، يستعين نيتشه بأبحاثه في فقه اللغة لرصد التطور الاشتقاقي للقيم الأخلاقية في أصولها التي تعود إلى ما قبل المسيحية، في زمن حيث كان هناك ما لا يقل عن نظامَين متنافسين للقيم: أخلاق «السادة» وأخلاق «العبيد». قبْل نيتشه، كان هيجل قد تناول فكرةَ الحياة الأخلاقية الناشئة عن الصراع بين متعادلين، صراعٍ نتج عنه أن الفائز صار «سيدًا» على «العبد»؛ على الطرف الذي خسر حين بادر بالتراجع والنكوص في لعبة التحدي بينهما. أما نيتشه، فيعتقد أن ما يحدِّد مَن السيد ومَن العبد هو الأصل والمنشأ وليس الصراع؛ مَن يُولد قويًّا ومَن يُولد ضعيفًا. فالقوي يسيطر لمجرد أنه يستطيع ذلك، وهو ما يُعَد السبب في أنه يصير أقوى فيما يصير الضعيف أذكى؛ إذ يُجبر على التفوق على السيد بالذكاء بدلًا من التفوق عليه في البأس. وهكذا بينما يرى السادة أن «الخير» هو أنفسهم وصفاتهم الجسدية ويرون «الشر» في أولئك الذين لا يشاركونهم خصالهم، يرى العبيد، في المقابل، أن «الشر» هو السادة وما يفعلونه وأن «الخير» يتجسَّد فيمن لا يشاركون السادة في أفعالهم تلك؛ أي أنفسهم.
وعلى الرغم من أن نيتشه يصف زمنًا مبكرًا من التاريخ البشري، فليس من الصعب أن نرى نسقًا مماثلًا في مرحلة مبكرة من حياتنا نحن، حيث السادة غالبًا هم الأقوياء ذوو القدرات الجسدية الرائعة، بينما العبيد غالبًا هم الأذكياء المفكِّرون ذوو القدرات العقلية البارعة. فالأقوياء يتولون الفعلَ بينما يتولى الأذكياء المفكِّرون التخطيط. يرى الأقوياء جسديًّا أنهم الخير لأنهم أقوياء وجذابون، في حين أن الأذكياء المفكِّرين ضعفاء ودميمون؛ ومن ثَم فهم الشر وفي تعذيبهم متعة، ولا يستحقون منهم سوى ذلك. وعلى الجانب الآخر، يكره الأذكياء المفكرون الأقوياء المسيطرين، ويكرهون كلَّ ما يفعلونه، ويرون أنهم، على عكسهم، يمثلون الخير، معتقدين أن باستطاعتهم أن يفعلوا أيَّ شيء مما يفعله الأقوياء، لكنهم «أفضل» من أن يفعلوا مثل تلك الأشياء.
بالإضافة إلى السادة والعبيد، يعرِّف نيتشه مجموعةً ثالثة، وهم «الكهنة». الكهنة هم الذين وُلدوا أقوياء مثل السادة لكنهم يفضِّلون النقاء أو «الطهر» على أي شيء ملوَّث أو «دنس». وهكذا نجد على ساحة اللعب النيتشية، إلى جانب الأقوياء المسيطرين والأذكياء المفكرين، الصبيةَ «المتأنقين»، الصبية الأثرياء، الذين يرون أنفسهم أفضلَ من أن يشاركوا في أنشطة الصبية الأقوياء جسديًّا، على غرار المجتهدين، لكنهم على عكسهم، ليسوا أضعفَ من الأقوياء جسديًّا.
وهذا هو السؤال الأساسي الذي يطرحه نيتشه في كتاب «في جينيالوجيا الأخلاق»: كيف هزم العبيد السادة؟ في رأي نيتشه أن قيمَ العبيد، قيم التواضع، والتعفف، وإنكار الذات، والتضحية بالنفس، هي القيم التي فازت، تلك القيم التي صار متعارفًا عليها الآن بأنها «أخلاقية». نحن نتاجُ انتصارِ العبيد على السادة، انتصارٍ كان حاسمًا حتى إننا لم نَعُد مدركين أن ذلك الانتصار قد وقع، وأنه كان هناك فيما مضى نظمٌ قيمية متبارية وأخلاقيات متنافسة. ولهذا السبب يذهب نيتشه إلى أننا لا نعلم مَن نكون؛ إذ نتخذ الأخلاقيات أمرًا مسلَّمًا به، دون أن ندري تاريخها وما كان وراءها من إراقة دماء. ودُون أن نعرف كيف هزم العبيد السادة — هزيمةً كانت مستبعدة كاحتمال أن يصبح الأذكياء المجتهدون في الدراسة محبوبين أكثرَ من الأقوياء ذوي الأجسام الرياضية، أو أن تصبح القصص المصوَّرة وألعاب الفيديو أكثرَ شعبية من الرياضة — لا يمكن أن ندرك مَن نحن ولماذا نقدِّر ما نقدِّره.
لا شك أن إخبار الشخص الذي يظلمك بأنه سيذهب إلى الجحيم ربما لن يكفي لإقناع هذا الشخص بالتوقف وكفِّ يده عنك. لكن مع قدوم المسيح، قدوم الرب لحمًا ودمًا، صارت فكرة الوجود الفعلي للفردوس والجحيم أكثرَ واقعيةً بكثير. وكما ذهب بليز باسكال فيما بعد، فإن مجرد احتمال أن الفردوس والجحيم حقيقةٌ كفيلٌ بأن يجعل الشخص «يراهن» على الاختيار الآمن بالعيش كأنهما حقيقة بدلًا من أن يكتشف بعد فوات الأوان أنه قد أخطأ الرهان. بعبارة أوضح، صُوِّر المسيح مبشِّرًا بدينٍ جديد، دينٍ يدعو إلى الحب والخلاص، دين يسمح للسادة بالحصول على العفو عن حياتهم «الآثمة» (حياة المحاربين) ودخول الفردوس، فقط إذا توقفوا عن كونهم «آثمين» (سادة) وصاروا بدلًا من ذلك «صالحين» (عبيدًا). وهذا التصوير، في رأي نيتشه، هو ما سمح للعبيد باستخدام المسيح «طُعمًا» لتحويل السادة إلى ديانة العبيد اليهودية، بأن غيَّروا اسمها ببساطة إلى «المسيحية».
مع تحوُّل السادة، بات من الممكن أن يعيش السادة والعبيد معًا ويكونوا مجتمعًا. غير أنه لتحقيق التوازن الاجتماعي، كان على السادة السابقين والعبيد السابقين أن يتعلموا كيف يعيشون في مجتمع واحد معًا. وهكذا اكتسب الكهنةُ النفوذ. علَّم الكهنة السادةَ أن يعيشوا مثل العبيد، أن يعيشوا وفقًا للقيم اليهودية المسيحية، مما أدَّى إلى نشأة فكرة أن على المرء أن يتعلم كيف يكبَح غرائزه لكي يكون «ذا خلق». وبالطريقة نفسِها التي يُصطحب بها أطفال المدارس إلى المتاحف ليتعلموا كيف «يشاهدون الأشياءَ دون لمسها»، استخدم الكهنةُ ما يسميه نيتشه «أدوات الثقافة» ليعلِّموا المجتمع كيف «يفكر دون أن يفعل شيئًا». ومن خلال إقناع الناس أن لديهم روحًا، من الممكن أن تُحاسب على تصرفاتهم ومن الممكن أن تلقى مكافأة أو عقابًا أبديًّا، غرس الكهنة في نفوس البشر القدرةَ على التذكُّر، والتفكير المنطقي، وقطع الوعود، والأهم من ذلك كلِّه الشعور ﺑ «الذنب». يرى نيتشه أن الذاكرة، والعقلانية، والحفاظ على الوعود، والشعور بالذنب ليست أشياء فطرية، بل هي نتاج قرون من العقاب والتعذيب، لا تختلف عن استخدام العلماء الألم لتكييف حيوانات المعمل على التصرف بعقلانية، والسير بحذر عبْر المتاهة التي بناها لها العلماء.
الطبيعة البشرية، كما يشير نيتشه، أقربُ إلى الحيوانية منها إلى الرهبانية؛ ومن ثَم فإن محاولة عيش حياة أخلاقية تقتضي محاولةَ عيش حياة غير طبيعية، محاولة عيش حياة «مخالفة للحياة».
خلقَ الكهنةُ (وهي فئة لنا الآن أن نرى بين أفرادها كلًّا من القديس بول والقديس كانط) مجتمعًا زاهدًا ساعدنا على البقاء على قيد الحياة. لكن هذا البقاء تحقَّق من خلال حثِّنا على تجنُّب الحياة. ولهذا السبب يذهب نيتشه إلى أن الكهنة استبدلوا بخطر السادة داء العدمية. ويشخِّص نيتشه الداء العدمي الذي رآه يحيط به من كلِّ جانب مشبهًا نفسه بطبيب ثقافي. إنه الداء الذي يأتي من العيش في مجتمع ينتج الضحالة، مجتمع يرى الهوان فضيلةً والكبرياء خطيئة، مجتمع يعرِّف «التقدم» بتعلمِ المرء عدم الاستجابة إلى غرائزه وأن يكون متحضرًا، ويصير عدوانيًّا سلبيًّا في المقابل. لو كان نيتشه حيًّا بيننا الآن، لربما تصوَّر «مجتمعنا المتحضِّر» أشبه بحافلة ضخمة، حيث الكل ثابت بلا حَراك، يصلي للرب لكي تنتهي الرحلة سريعًا، وهو جالس بجانب حقيبة وُضعت بطريقة استراتيجية بغيةَ تحاشي الجلوس بجوار أي شخص آخر، بينما يمسك هاتفًا ذكيًّا لتحاشي النظر إلى أي أحد، ووضع سماعاتٍ في أذنيه لتحاشي سماع أي أحد. بعبارة أخرى، لقد صرنا نرى الحياةَ شيئًا علينا تحمُّله والصبر عليه لا شيئًا نستمتع به، وأصبحنا نرى البشريةَ شيئًا يستحق البغض لا الحب.
لا يرى نيتشه خسارةَ الأسياد خسارةً لمصدرِ خطر فحسب، بل خسارة لمصدر فخر وعزة كذلك. فقد كان السادة يمثِّلون ما يستطيع البشر إنجازه؛ ومن ثَم كانوا يثيرون الخوف في الوقت نفسه الذي كانوا يثيرون فيه الإعجاب. ومع تحوُّل السادة إلى المسيحية، صار الرب هو رمز الخوف والإعجاب. لكن كما أشار كارل ماركس في مقاله «العمالة المغتربة» (١٨٤٤)، كلما زادت قوة الرب، قلَّت قوة البشرية. وفي حين أراد العبيد أن يصيروا مثل السادة البشر، يريد المسيحيون أن يصيروا مثل السادة الخارقين، فلم يعودوا يتساءلون عما يستطيع البشر فِعله، بل «ماذا سيفعل يسوع؟» إن العيش في ظل السادة أجبر العبيد على أن يصيروا أبرعَ وأذكى كفايةً للتغلب على السادة، أما العيش في ظل كينونة خارقة قاهرة، فقد أجبر أفراد المجتمع على أن يصيروا خاضعين كفايةً لكي يكونوا جديرين بالاستمتاع بالحياة بعد الموت عند الحساب.
كان إعلاء عالم الغيبيات واختزال ما هو طبيعي السببَين الرئيسيين للعدمية من وجهة نظر نيتشه. فالإيمان بوجود عالَم وراء العالم الذي نعيشه، الإيمان بالحياة بعد الموت، كان مسوِّغًا للزهد الذي وعظ به الكهنة؛ إذ كان أسهل على المرء بكثير أن يتقبَّل القسوة على الذات، وإنكار الذات، والتضحية بالنفس باعتبارها مُثلًا عليا ما دام المرء يعتقد أن الذات التي يعذِّبها وينكرها ويضحي بها ليست «ذاته الحقيقية». ولكن بالرغم من أن الكهنة قد علَّموا البشر أن «هذه الحياة وهذا العالم» بلا معنًى مقارنةً بالحياة والعالم المقبلين، فقد علَّمنا الكهنةُ كذلك أن الانتحار خطيئة، وذلك في سبيل الحفاظ على المجتمع. بمعنًى آخر، سواء كان المرء من أتباع سقراط أم يسوع، فالمحصِّلة هي أن البشرَ سجناء، مجبَرون على عيش حيوات بلا معنًى في عالَم بلا معنًى. إلا أن الفارق الأساسي أن البشر، في ظل المسيحية، يعلمون مَن سجَنهم، يعلمون أن سجَّانهم ربٌّ خيِّر ومثالي، ربٌّ خلق هذا السجن حتى وإن بدا أن الغرض الوحيد منه هو اختبار السجناء لمعرفة إن كان من الممكن إطلاق سراحهم لحسن سلوكهم.
التنويم الذاتي هو طريقة لتحاشي الألم بتنويم المرء نفسه؛ بالتأمل، أو شرب الخمر، أو مشاهدة موقع «يوتيوب»، على سبيل المثال. والنشاط الآلي هو طريقة لتجنُّب اتخاذ قرارات باتباع أوامر الآخرين، مثل طاعة رئيس العمل، أو الالتزام بروتين، أو الاستجابة لجهاز من أجهزة فيتبيت. والمباهج الصغيرة هي طريقة لتجنُّب الشعور بالعجز بأن يعين المرء نفسَه على الشعور بالقوة، بالتطوع، أو التبرع، أو تصفُّح تطبيق «تندر» على سبيل المثال. أما تكوين قطيع، فهو وسيلة لتجنُّب الوحدة بالانضمام إلى جماعات، ومن ذلك مثلًا المشاركة في فريق، أو دخول لجنة، أو الاشتراك في موقع «فيسبوك». أما الصخب الشعوري — الذي يميِّزه نيتشه باعتباره وسيلةً «آثمة» على عكس الوسائل الأربعة السابقة «البريئة» نسبيًّا — فهو وسيلة لتحاشي المسئولية بالمشاركة في تعبيرات صاخبة عن المشاعر والانفعالات، بأعمال الشغب، أو الصخب، أو نشر التعليقات الغاضبة على موقع «ريدت» على سبيل المثال.
إنَّ جَعْل الرب مسئولًا عن كل شيء يعني جَعْل البشرية غير مسئولة عن أي شيء، وهو ما يجعل وجودَ البشر بلا معنًى، مما يجعل حكم الرب بوجودنا بلا معنًى، مما يجعل وجود الرب بلا معنًى.
واستخدام هذه الوسائل هو ما يعينه نيتشه عاملًا حالَ دون تدمير المجتمع، لكن جاء ذلك على حساب تدهور نزعتنا العدمية. وهكذا يشبِّه نيتشه الكهنة بالأطباء الفاشلين. لقد أدرك الكهنة أن محاولةَ أن نكون كائناتٍ متحضرة تعيش في مجتمعٍ متحضِّر جعلت البشريةَ مريضة. لكن بدلًا من محاولة علاج الداء، سعى الكهنة إلى معالجة الأعراض فحسب، وفعلوا ذلك بوصفِ مزيد ومزيد من المسكِّنات ليس غير. وهكذا ساعدت علاجاتُ الكهنة هذه على تخدير المريض، لكنَّ هذا الخدر إنما أسفر عن مزيد من العدمية؛ فالخدر، شأنه شأن التنسُّك والزهد، رفضٌ للحياة. فتحاشي الألم، واتخاذ القرارات، والعجز، والوحدة، والمسئولية هو تَحاشٍ لأن نكون بشرًا. من ثَم فإن الشعور بالخدر لا يؤدي إلا إلى مزيد من المرض، خاصةً أن العيش وسط بشرٍ آخرين لديهم ذلك الخدر نفسه يزيد من نقمة المرء على ما آل إليه حال البشرية. وهكذا فإن الكهنة حين جعلوا المرضى أشدَّ مرضًا لم يفعلوا شيئًا سوى أن جعلوا العدميين أشدَّ عدمية.
في حين أن علاجات الكهنة قد جعلتنا مخدَّرين كفايةً بما يسمح بالبقاء في المجتمع، والبقاء متمسكين بالقيم التي تبنَّاها المجتمع، فإن نتيجة هذه العدمية المتزايدة، وفقًا لنيتشه، هو تنامي شعورنا بانعدام معنى المجتمع وقيم المجتمع. فما زلنا نبتهل إلى الرب، لكن لم يَعُد ﻟ «الرب» المعنى الذي كان له من قبل، تمامًا كما نقول «يرحمك الله» حين يعطس أحد، لكنه مجرد رد فعل لا إرادي وليس فعلًا ذا معنًى. ولكن نيتشه يشير إلى أنه بالرغم من أن عدميتنا قد «قتلت» الرب، فإننا لم ننصرف عن الدور الذي لعبه الرب في المجتمع. فحين لم يَعُد الرب يؤدي دور المصدر الخارق للمعنى في حياتنا، لم نحاول أن نعطي حياتنا معنًى من تلقاء أنفسنا، بل لجأنا إلى مصادر جديدة خارقة للمعنى. وبذلك حافظنا على حميتنا الدينية حتى وإن لم تبقَ هذه الحمية مرتبطةً بدِين بعينه.
وهكذا يذهب نيتشه إلى أن العلم ليس عدوَّ الدين، بل هو بالأحرى دين جديد، مصدر جديد للمعنى، له كهنته، وطقوسه، ونصوصه المقدسة، وقيَمه ومُثُله العليا التي توجِّه الحياة. لقد ارتقى كهنةُ العلم (على غرار الوضعيِّين) بالقيم العلمية مثل «الموضوعية» إلى مستويات تجاوزت مستوى البشر، مما أدَّى بالمجتمع إلى الشعور بأنه «مستنير»، وبأنه قد تقدَّم متخطيًا «العصور المظلمة» للمسيحية. قد يبدو «الخير» و«الشر» قيمًا بالية مقارنةً بقيم «الموضوعية» و«الذاتية» ذات الطابع العلمي، ومع ذلك لا تزال القيم العلمية تخدم الغرض نفسه الذي تخدمه القيم الدينية. فهاتان المجموعتان من القيم تشتركان في كونهما تؤديان إلى أسلوب تنسكي في الحياة، حياة يغلب عليها إنكارُ الذات والتضحية بالنفس، حياة تُكبح فيها الغرائز لأنها «آثمة» أو لأنها «غير عقلانية».
إن ما حدا نيتشه على التركيز أكثرَ على العدمية في أعماله هو أن موت الرب لم يؤدِّ إلى موت الدِّين. بوسعنا الآن أن نرى أنه بالرغم من أن تشخيص نيتشه للعدمية كان معقدًا جدًّا وواسع المجال، فقد كان شغله الشاغل منصبًّا على فكرة العدمية باعتبارها تجنبًا لما يعني كونك إنسانًا. وقد حدَّد نيتشه تلك النزعة العدمية للتجنب في المسيحية والبوذية والفلسفة والفن والعلم والثقافة. كان تشخيص نيتشه أن هذه الصور المتنوعة من النزعة العدمية للتجنب تشترك في كونها نتاجًا للقهر اللازم للعيش في مجتمع متحضر، للعيش في سلام بدلًا من المجازفة بالعيش في خوف.
حاول نيتشه أن يحملنا على إدراك كيف أن أخلاقيات العبيد مدمِّرة للذات، وكيف أن أخلاقيات القيم اليهودية المسيحية والمُثُل التنسكية معادية للحياة. غير أنه — على عكس ما ظن كثير من أتباعه ومنتقديه — لم يدعُ إلى تدمير المجتمع أو العودة إلى حياة الخوف، أو عودة أخلاق السادة. فقد رأى نيتشه أن استبدال تدمير المجتمع بتدمير الذات لن يجدي في الحد من عدميتنا؛ إذ إن موت الرب لم يُفض بنا إلا إلى البحث عن رب جديد تلو الآخر. ولهذا السبب كان دافع نيتشه شخصيًّا أكثرَ منه سياسيًّا؛ فلا يمكن لحركة سياسية أن تحل مشكلة عدميتنا ما دمنا مستمرين في رفضنا الحياةَ بدلًا من أن نُقبِل عليها.
صار الناس بعد نيتشه يرون العدمية موضوعًا جديرًا بالبحث الفلسفي، وتنامى هذا الاتجاه أكثرَ وأكثر. كان نيتشه قد أوضح أنه على الرغم من أن العدمية هدامة، فإن دورها في الحياة اليومية هو التحفيز على الأنشطة التي يُعتقد عمومًا أنها بناءة، مثل التأمل، وممارسة التمارين الرياضية، والتطوع، ومخالطة الآخرين، والاحتفال. ولهذا السبب، ألهم نيتشه الفلاسفة لاستقصاء العدمية باستقصاء الحياة اليومية. كان الهدف من مثل هذه الاستقصاءات توضيح أن السلوك العدمي روتيني أكثر بكثير مما نتصور؛ إذ صارت الثقافة الشعبية بمنزلة وسيلة لترويج العدمية. وهكذا لم يَعُد تعريف العدمية يُنظر إليه باعتباره مجرَّد تمرين أكاديمي، بل جزء من صراع سياسي ضد تطبيع الممارسات المدمِّرة للذات، وضد شيطنة أي شخص ينتقد ما هو «طبيعي».