ما «لا» تعنيه العدمية
يمكننا أن نعرِّف «معنى» العدمية بدقةٍ أكثر بتوضيح ما «لا» تعنيه العدمية. أمَا وقد رصدنا تاريخ العدمية من سقراط حتى نيتشه، فقد رأينا أن من الممكن فهم العدمية باعتبارها مصطلحًا شاملًا يضم طائفة من الأفكار المتصلة. لكن بمجرد الشروع في فرز هذه الأفكار، يكون من السهل أن نقع في فخ الاعتقاد بأن «كل شيء عدمي!» وهو ما سيؤدي بنا بطبيعة الحال إلى الاعتقاد بأن «لا شيء عدمي!» وبناءً على ذلك فإن الحفاظ على العدمية بوصفها مفهومًا ذا معنًى يقتضي بالضرورة التمييز بين العدمية والمفاهيم التي كثيرًا ما تقترن بها برغم اختلافها عن العدمية، مثل التشاؤم، والتهكم (الكلبية) واللامبالاة.
العدمية في مقابل التشاؤم
إذا كان التفاؤل هو التحلي بالأمل، فالتشاؤم هو اليأس. أن تكون متشائمًا هو أن تقول: «ما الجدوى؟» كثيرًا ما يُشبَّه التشاؤم برؤية «نصف الكوب الفارغ» للتعبير عن رؤية المرء للعالم، لكن بما أن نصفه فقط هو الفارغ، فمن الجائز أن يظل هذا السيناريو بالغ التفاؤل بالنسبة إلى شخص متشائم. قد يكون السيناريو الأنسب لوصفه هو القول بأن المتشائم إذا سقط في بئر وعرض عليه أحدٌ أن ينقذه، فربما يرد قائلًا: «وما الجدوى؟ سواء كنت في البئر، أو خارج البئر، فسنموت جميعًا على كل حال.» بعبارة أخرى، التشاؤم كئيب ومحبط. لكنه ليس عدمية.
في الواقع، وبناءً على ما طالعناه في الفصل السابق، من الممكن حتى أن نذهب إلى حد القول إن التشاؤم هو «نقيض» العدمية. من الممكن اعتبار التشاؤم نتاجًا لليأس، شأنه في ذلك شأن العدمية. فحتمية الموت، وإحباط الرغبات، وما يترتَّب على أفعالنا من عواقبَ غير مقصودة، وتغريدات زعمائنا السياسيين، كلها أشياء من الممكن أن يؤدي بنا أيٌّ منها أو كلها إما إلى العدمية وإما إلى التشاؤم. لكن النقطة التي يتشعَّب عندها هذا الطريق إلى اتجاهين تكمن عند التساؤل عما إذا كنا نركز على يأسنا ونسهب في التفكير فيه أم نختبئ منه.
يمكنك أن تعرف المتشائم حين تراه. أما العدمي فقد تكون معه ولا تدري أنه عدمي. بل من الممكن أن تكون أنت نفسك عدميًّا دون أن تدرك ذلك.
يمكنك أن تعرف المتشائم حين تراه. أما العدمي فقد تكون معه ولا تدري أنه عدمي. بل من الممكن أن تكون أنت نفسك عدميًّا دون أن تدرك ذلك. وغياب الإدراك ذاك هو محور العدمية؛ فقوام العدمية هو التواري من اليأس وليس التركيز عليه. وقد بيَّن وودي آلن هذا الفرق في فيلمه «آني هول» (١٩٧٧)، حين جعل آلفي سينجر، الذي مثَّل شخصية آلن في الحياة، يتبادل الحديث الآتي مع رجل وامرأة استوقفهما في الشارع طلبًا للنصيحة:
إن آلفي سينجر متشائم. والرجل والمرأة عدميان.
لعل أهم ما في هذا المشهد أنه يبين كيف يمكن للمتشائم أن يتعرف على العدمي، تمامًا مثلما يمكن القول بأن تشاؤم الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور ساعد نيتشه في اكتشاف عدميته. فالثنائي كانا مجرد اثنين ضحلين وخاويين تغمرهما السعادة، قبل أن يواجههما آلفي. لكنهما لم يعودا ضحلين وخاويين حين طلب منهما أن يفسِّرا له سبب سعادتهما؛ إذ يُضطران إلى الاستيقاظ من حلمهما ويصيران واعيين بذاتهما. ليست «سعادتهما» ما تكشف عدميتهما، بل محاولتهما تفسيرَ «سبب سعادتهما» لشخص متشائم هي ما تكشف عن عدميتهما. فهما على السطح توءما روحٍ وجد كلٌّ منهما الآخر. لكن هذا الشكل البادي على السطح هو كلُّ ما يملكانه. فمحاولة سبْر أغوارهما تكشف أنهما بلا عمق. والمتشائم تحديدًا الذي تساءل «لماذا؟» حين قابل مثل ذلك الثنائي السعيد هو ما كشف النقاب عن خوائهما.
إذا كانت العدمية والتشاؤم، كما أشرت سابقًا، متناقضين، فالعدمية في الواقع أقربُ إلى التفاؤل بكثير. إن رؤية الكوب نصف ملآن معناه أننا نعتقد أننا لا بد أن نكون سعداء بما لدينا بدلًا من التركيز على ما ينقصنا. لكن السعادة بما لدينا من الممكن أن تكون أيضًا طريقة للبقاء قانعين بما لدينا، لتجاهل ما ينقصنا تجنبًا للاضطرار إلى التغيير. كذلك فالاعتقاد بأن كل شيء سيكون على ما يرام في النهاية، الاعتقاد بأن هناك دائمًا ضوءًا في نهاية النفق، إنما هو اعتقاد بأن الحياة غائية، بأن ثَمة هدفًا أو غرضًا — سواء الرب أو العدالة — يعمل في الخفاء وراء العالم الذي نختبره.
إننا حين نؤمن بوجود أهداف غيبية تتجاوز البشر وأغراض غيبية أعلى من البشر إنما نغفل عن الأهداف البشرية والأغراض البشرية. بالمثل، حين نرفع شخصًا مثل مارتن لوثر كينج جونيور إلى مرتبة القديسين والأنبياء، نراه أكثرَ من مجرد إنسان؛ ومن ثَم نحرِّر أنفسنا من مسئولية محاولة تقليده والاقتداء به بما أن أمنيتنا هي أن يأتي شخص مثله مرةً أخرى لا أكثر. إذا كان التفاؤل يؤدي بنا إلى القناعة، أو إلى انتظار حدوث شيء طيب، أو إلى انتظار شخص آخر ليأتي بشيء طيب، فالتفاؤل بهذا الشكل يؤدي بنا إلى الوقوف متفرجين. بمعنًى آخر، التفاؤل هو ما يشبه العدمية وليس التشاؤم.
العدمية في مقابل التهكم
التهكم، شأنه شأن التشاؤم، يتعلق بالسلبية. لكن في حين أن التشاؤم يتعلق باليأس، بالشعور بأن الحياة بلا جدوى في مواجهة الموت، فالتهكم في المقابل أقرب إلى الازدراء من اليأس. فالمتهكم لا يقول إن «الحياة» بلا جدوى، لكنه يقول فقط إن «ما يدعيه الناس بشأن الحياة» بلا جدوى. بل إن المتهكم يمكن أن يكون مستمتعًا بالحياة. ويستمتع المتهكم بالذات بالسخرية ممن يدَّعون أن الإيثار موجود، أو أن السياسيين موظفون عموميون يضحون بأنفسهم، وأكثر ما يضحكهم هو القول بأننا لا بد أن نحاول أن نرى الخير في الناس.
المتشائمون ليسوا عدميين؛ لأن المتشائمين قانعون باليأس لا يتجنبونه. والمتهكمون ليسوا عدميين؛ لأن المتهكمين قانعون بالزيف ولا يتجنبونه. ومن أهم سمات تجنُّب اليأس الاستعداد للتصديق، التصديق بأن الناس من الممكن أن يكونوا طيبين، وأن الخير يُجازى بالخير، وأن ذلك الجزاء يمكن أن يكون موجودًا حتى لو لم نرَه. أما المتهكم، فيرى مثل ذلك الاستعداد للتصديق استعدادًا لأن يكون المرء ساذجًا، ومغفلًا، ولعبة في يد الآخرين. يسخر المتهكم من تلك القناعات؛ لا لأنه يدَّعي بأنه على علم بأنها كاذبة حتمًا، ولكن لأنه يدرك الخطر المتمثل في الأشخاص الذين يدَّعون بأنهم على يقين من أن تلك القناعات صحيحة حتمًا.
ينتظر المتشكك الدليل قبل أن يعطي رأيًا. أما المتهكم فلا يثق في الدليل؛ لأن المتهكم لا يثق أن أحدًا أيًّا كان باستطاعته تقديم الأدلة بموضوعية. فيفضِّل المتهكم أن يظل في حيرة على أن يجازف بالوقوع في شرَك الخداع؛ ومن ثَم يرى مَن يُقدِمون على تلك المجازفات مخدوعين. ولهذا السبب يستطيع المتهكم أن يكشف عدمية الآخرين بتحدي الناس بأن يبرروا عدم إحساسهم بالتهكم، تمامًا مثلما يكشف المتشائم عن عدمية الآخرين حين يتحدى الناس بأن يجدوا مبررًا لعدم إحساسهم بالتشاؤم.
ولعل أفضل مثال على قدرات المتهكم على كشف الآخرين هو الجدال الذي دار بين ثراسيماخس وسقراط في بداية كتاب «جمهورية أفلاطون». في البداية يستهزئ ثراسيماخس بسقراط لسؤاله الآخرين عن تعريف العدالة، ثم يطلب أن يتقاضى مالًا مقابل أن يخبرهم بالتعريف الحقيقي للعدالة. وما إن يُلبى مطلب ثراسيماخس حتى يعرِّف العدالة بأنها حيلةٌ اخترعها القوي لاستغلال الضعيف، وسيلة يقبض بها القوي على السلطة بخداع المجتمع وجعله يعتقد أن الطاعة هي العدالة. يذهب ثراسيماخس أيضًا إلى أن الناس ينتهكون العدالة متى أمكنهم ذلك، إلا إذا غلبهم الخوف من ضبطهم ومعاقبتهم، وهكذا يخلُص ثراسيماخس إلى أن الظلم أفضل من العدالة.
حين يحاول سقراط تفنيدَ هذا التعريف بتشبيه القادة السياسيين بالأطباء، بأولئك الذين لديهم سلطة لكنهم يستخدمونها لمساعدة الآخرين لا لمساعدة أنفسهم، لا يقتنع ثراسيماخس بالتفنيد مثل الآخرين، بل يفنِّد تفنيد سقراط. فيتهم سقراط بأنه ساذج، ويذهب إلى أن سقراط مثله مثل شاةٍ تعتقد أن الراعي يحميها ويطعمها لأنه «طيب» دون أن تدرك أنه «يسمِّنها ليذبحها». لا يتمكن سقراط تمامًا من إقناع ثراسيماخس بأن تعريفه للعدالة خطأ، بل إن تهكمية ثراسيماخس تُفحمه بقوة؛ حتى إن سقراط يظل على مدارِ ما تبقى من الكتاب يحاول أن يثبت له أن العدالة أفضل من الظلم بمحاولة تفنيد النجاح الظاهري للظالمين مستعينًا بادعاءات ميتافيزيقية عن آثار الظلم على الروح. وهكذا لا يستطيع سقراط التصدي للتهكم في العالم المرئي إلا من خلال الإيمان بوجود عالم غير مرئي، عالم يدَّعي أنه «حقيقي أكثر» من العالم المرئي. بعبارة أخرى، تهكمية ثراسيماخس هي ما يجبر سقراط على كشف عدميته.
يمكننا هنا أن نرى أن ارتباط العدمية بالمثالية في الواقع أكبرُ بكثير من ارتباطها بالتهكم. فالمتهكم يقدِّم نفسه بوصفه واقعيًّا، شخصًا تعنيه الأفعال، لا النوايا، شخصًا يركز على ما يفعله الناس لا على ما يرجون تحقيقه، شخصًا يتذكر وعودَ الماضي الكاذبة حتى يتحاشى الوعود التي لن يُوفي بها في المستقبل. أما المثالي فيرفض التهكم باعتباره شيئًا سلبيًّا حدَّ اليأس. ومن خلال التركيز على النوايا والآمال والمستقبل يتمكن المثالي من تقديم رؤية إيجابية لمواجهة سلبية المتهكم. لكن هل في رفض المثالي للتهكم رفضٌ للواقع أيضًا؟
لا يستطيع المثالي، كما رأينا في حالة سقراط، التصدي لمنظور المتهكم للواقع، مما يضطره في المقابل إلى بناء واقع بديل، واقع من الأفكار. قد تشكِّل هذه الأفكار قصةً منطقية متماسكة عن الواقع، لكن لا يوجد ضمان بأي حال من الأحوال بأن هذه الأفكار تعدو كونها مجرد قصة. وكلما أمعن المثالي أكثرَ وأكثر فيما «يفترض» أن يكون عليه الواقع، قلَّ اهتمامه بماهية الواقع الحقيقية أكثرَ وأكثر. قد تكون الرؤى اليوتوبية للمثالي أكثرَ جاذبية من الرؤى الديستوبية للمتهكم، إلا أن الرؤى الديستوبية على الأقل تركِّز على «هذا» العالم، في حين تتمحور الرؤى اليوتوبية، حسب تعريفها، حول عالم «لا وجود له». ولهذا السبب فإن استخدام المثالية القائمة على عالَم آخر لتفنيد التهكم على هذا العالم هو ضربٌ من العدمية.
العدمية في مقابل اللامبالاة
إلى جانب التشاؤم والتهكم، كثيرًا ما تقترن العدمية باللامبالاة. اللامبالاة هي أن يكون المرء بلا شفقة، بلا مشاعر، بلا رغبة. أحيانًا ما نواجه جميعًا اختياراتٍ لا تستميلنا كثيرًا بطريقة أو بأخرى (من قبيل: «هل تريد طعامًا إيطاليًّا أم صينيًّا؟») لكن مثل هذا الفتور هو ما يشعر به الشخص غير المبالي طوال الوقت. وهكذا فالشخص غير المبالي هو مَن تراه لا يأبه لأي شيء. المتشائم يشعر باليأس، والمتهكم يشعر بالازدراء، أما اللامبالي فلا يشعر بشيء. بعبارة أخرى، يُنظر إلى اللامبالاة باعتبارها عدمية. لكن اللامبالاة ليست عدمية.
من الممكن أن تكون اللامبالاة موقفًا («لا أكترث بهذا الأمر»)، أو سِمة شخصية («أنا لا آبه لأي شيء»). ولكن في كلتا الحالتين يعبِّر الشخص غير المبالي عن شعور شخصي (أو بمعنًى أدق «لا شعور») دون التصريح بأي شيء عما يجب أن يشعر به الجميع (أو بالأحرى لا يشعر به). فالشخص غير المبالي يتفهم تمامًا أن الآخرين لديهم شعور مختلف ما داموا يشعرون بشيء من الأساس. ونظرًا لأن الشخص غير المبالي لا يشعر بشيء، فإنه لا يشعر بأي رغبة في إقناع الآخرين بأنهم لا بد ألا يشعروا بشيء مثله. قد يهتم الآخرون بأمرٍ ما، أما الشخص غير المبالي فلا يهتم، ولأنه لا يهتم، فإنه لا يهتم بما يهتم به الآخرون.
وهكذا من الممكن أن يكشف الشخص غير المبالي الستارَ عن عدمية الآخرين، مثله مثل المتشائم والمتهكم، وإن كان يختلف عنهما في أنه يفعل ذلك دون محاولة فعلية متعمَّدة. فبينما يتحدى المتشائم والمتهكم الآخرين أن يبرروا انعدامَ حس التشاؤم أو التهكم لديهم، فإن الشخص غير المبالي، على الجانب الآخر، هو مَن يقابل التحدي؛ تحدي الآخرين له كي يبرِّر انعدام إحساسه بالشفقة. وعند محاولة دفع الشخص غير المبالي لكي يبالي، يُضطر الشخص المبالي أن يفسِّر سبب مبالاته، وهو التفسير الذي قد يكشف إلى أي مدًى يُعتبر سبب مبالاة هذا الشخص ذا معنًى (أو بلا معنًى).
الشخص غير المبالي لا يكترث. غير أن «عدم الاكتراث» ليس كمثل «الاكتراث بلا شيء». فالشخص غير المبالي لا يشعر بشيء. أما العدمي فلديه مشاعر. الفارق فقط أن ما يُكن له العدمي مشاعر هو «لا شيء» في حد ذاته. وبالطبع بما أن العدمي لديه القدرة على الإحساس بتلك المشاعر القوية، مشاعر قوية نحو شيء هو في حد ذاته لا شيء، فإن العدمي ليس «غير مبالٍ» ولا يمكن أن يكون كذلك. فالعدميون من الممكن أن تراودهم مشاعر الشفقة والتعاطف والنفور، لكن لا يمكن أن يساورهم شعور بعدم المبالاة.
لا تتمحور الشفقة، من وجهة نظر نيتشه، حول مساعدة الآخرين، وإنما حول ارتفاع المرء بشأنه بالتقليل من شأن الآخرين، باختزالهم في احتياجهم، في احتياج لا نعانيه، ويكشف مقدارَ ما نمتلكه على النقيض. والشفقة سلوك عدمي لأنها تجعلنا نتهرب من الواقع، بالسماح لنا مثلًا، بالشعور بأننا أشخاص أفضل مما نحن في الحقيقة، وبأننا أفضل ممن هم في عُسر. ومن ثَم يكون بإمكاننا تفادي الإقرار بأننا ربما كنا أفضل حظًّا أو حالفتنا ظروف أفضل فحسب.
تدفعنا قيمة الشفقة إلى الشعور بالشفقة والشعور بالرضا لشعورنا بالشفقة. وامتلاك هذه المشاعر أسوأ من عدم الشعور بشيء؛ لأننا إذا كنا نشعر بالرضا حين نشعر بالشفقة، فلن يحثنا هذا إلا على مساعدة الأشخاص الذين نشعر بالشفقة تجاههم، بدلًا من العمل على القضاء على الظلم المنهجي الذي أفضى إلى تلك المواقف المثيرة للشفقة من الأساس. وفي حين تساعدنا اللامبالاة في تجنب أن تعمينا عواطفنا ورؤية مواقف الظلم بوضوحٍ أكثر، فإن الاحتمال الأرجح أن تؤدي الشفقة، في المقابل، إلى استدامة الظلم من خلال إدامة الظروف التي تتيح لنا مساعدة المحتاجين، التي تتيح لنا رؤية أنفسنا «خيِّرين» لمساعدتنا أولئك الذين نراهم «معوزين» لا أكثر.
غير أن المقصود هنا ليس الإيعاز بأننا لا بد أن نحاول بلوغَ حالة من اللامبالاة، أو أننا لا بد أن نحاول تطويعَ أنفسنا على عدم الشعور بشيء. ثَمَّة أشكال شائعة من الرواقية والبوذية تدعو إلى الهدوء، إلى الانفصال، إلى محاولة «عدم الشعور» بما نشعر به. وإجبار النفس على أن تصير غير مبالية هو من قبيل العدمية؛ لأننا بذلك نتفادى مشاعرنا بدلًا من مواجهتها. وبذلك يكون ثَمة فارقٌ مهم بين أن «يكون» المرء غير مبالٍ وأن «يصير» غير مبالٍ، بين أن يكون غير مكترث لأن هذه هي طريقته في التفاعل مع العالم وبين أن يصير غير مكترث لأنه يريد التحرر من المشاعر والارتباطات. بالمثل، حين تصير منفصلًا، لا لإيمان بالرواقية أو البوذية، بل انطلاقًا من موقف ظاهري ساخر تجاه كل شيء بمسايرة الموضة، يظل ذلك أيضًا محاولةً من جانب الفرد لفصل نفسه عن نفسه، وعن الحياة، وعن الواقع. من ثَم فإن الاتجاه إلى «السخرية» قد يكون من قبيل العدمية مثله مثل الاتجاه إلى «الأباثيا» (راحة البال) أو «النيرفانا».