ما العدمية؟
كما يوضح كروسبي، فإننا حتى حين نحاول التمييزَ بين أنواع العدمية المختلفة، يكاد يكون من المستحيل أن نتجنَّب توحيدها كلها في النهاية في «العدمية الوجودية»؛ إذ «ينكر كلُّ نوع جانبًا ما مهمًّا من حياة البشر». وهذا يفسِّر السببَ وراء اقتران العدمية في كثير من الأحيان بسمات شخصية مثل التهكم، بل بمواقف فلسفية مثل النزعة النسبية. غير أننا لا بد أن نتوخى الحذر في هذا الصدد؛ إذ إن معاملة الصور المختلفة من العدمية باعتبارها صورًا مختلفة من «توجه نحو النفي أو الإنكار» من شأنها اختزال أهمية العدمية بجعلها تبدو كأنها مجرد شاغل «فردي».
لهذا السبب نحن بحاجة إلى فهم محدد لماهية العدمية. فلنا أن نتساءل مثلًا: هل العدمية توجُّه، أم سِمة شخصية، أم موقف فلسفي، أم شيء آخر مختلف تمامًا؟ وليتحقق لنا مثل هذا الفهم، سأستكشف في هذا الفصل أربع طرق لرؤية العدمية. وبإمكان كلٍّ من هذه المنظورات الفلسفية لطبيعة العدمية أن تؤدي بنا لا إلى الكشف عن ماهية العدمية فحسب، بل تبين السبب الذي قد يجعلها ذات خطورة، لا على الأفراد فحسب، بل على العالَم.
العدمية باعتبارها إنكارًا
يصرِّح الفيلسوف التحليلي المعاصر، جيمس تارتاليا، في عنوان كتابه — «الفلسفة في حياة بلا معنًى: نظام للعدمية والوعي والواقع» (٢٠١٦) — بأنه يؤمن بأن الحياة بلا معنًى. يعرِّف تارتاليا العدمية بأنها إنكار وجود معنًى للحياة في ذاتها؛ ومن ثَم فهو يعرِّف نفسه بأنه عدمي. غير أن تارتاليا إذ يرى العدمية بيانًا لحقيقة الواقع، إنما يذهب أيضًا إلى أننا مخطئون في اعتبارنا العدميةَ شيئًا سيئًا أو سلبيًّا أو تشجِّع على أفعال سيئة أو سلبية بأي شكل من الأشكال. يقارن تارتاليا بين الحياة والشطرنج، فيشير إلى أن حركات اللعبة لها معنًى حتى لو كانت اللعبة نفسها بلا معنًى، وعلى النحو ذاته يمكننا أن نجد معنًى لحياتنا حتى إذا كانت الحياة نفسها بلا معنًى. بل إن تارتاليا يرى أننا بالفعل نجد يوميًّا معنًى في حياتنا، دون أن يكون لدينا دليل أو سبب للاعتقاد بأن الحياة في حد ذاتها ذات معنًى، وبناءً على ذلك لسنا بحاجة إلى افتراض أن انعدام معنى الحياة هو شكلٌ من أشكال الكوارث الوجودية أو الأخلاقية.
والعدمية من وجهة نظر تارتاليا وصفية وليست توجيهية. فحين تستغرقنا الحياة، وتستغرقنا «أطر» حياتنا اليومية، ننساق عندئذٍ، وفقًا لتارتاليا، إلى التصرف بطرقٍ بيولوجية وحيوية معينة، طرق نراها ذات معنًى. ثم نقارن بين معنى أجزاء من الحياة ومعنى الحياة ذاتها بأسْرها، مفترضين أنه ما دامت أفعالنا لها مغزًى، فلا بد أن يكون لمغزى أفعالنا مغزًى أيضًا. ولكن على خُطا هايدجر، يرى تارتاليا في اختبارنا لمشاعر القلق والملل «تناغمًا» مع العدمية، قدرة على تحرير أنفسنا من أطرنا اليومية، وإدراك انعدام جدوى هذه الأطر، والطبيعة الاعتباطية البحتة لها. غير أن تارتاليا يرى أن قدرتنا على العودة من القلق والملل إلى الاستغراق في هذه الأطر دليلٌ على أن العدمية ليس لها تأثير عملي أو تحريضي، خلافًا لما رآه نيتشه. وهكذا ينتقد تارتاليا نيتشه لاعتباره العدمية شيئًا «خطيرًا» ولا بد من «القضاء عليه»، بدلًا من اعتبارها «واقعًا»؛ واقعًا يمكننا «تجاهله»، بل نتجاهله بالفعل بسهولة.
كان منهج تارتاليا في تناول العدمية منهجًا يقلِّص من قدْرها، مما جعله يرى أن كل فيلسوف آخر ممن ركَّزوا على العدمية كان لديه تصوُّر مُبالَغ فيه لأهميتها. يعتقد تارتاليا أنه من قبيل الخطأ في التصنيف أن نعتبر التساؤل عن معنى الحياة في حد ذاته له معنًى في حياتنا اليومية. فالسؤال عما إذا كانت الحياة ذاتها لها معنًى هو سؤال ميتافيزيقي من وجهة نظر تارتاليا؛ ومن ثَم فإن الفلاسفة الذين يعتقدون أن العدمية سلبية أو خطيرة يعتقدون خطأً أن الميتافيزيقا لها نفس الأهمية في الحياة اليومية للناس العاديين كما هي لدى الفلاسفة.
قد يشي لنا الملل والقلق بانعدام المعنى في أنشطتنا، لكن بما أن الناس — الناس العاديين الذين ليسوا بفلاسفة — بإمكانهم التوقُّف عن الشعور بالملل أو القلق ومواصلة حياتهم، فإن تارتاليا يستنتج من ذلك أنه من الممكن أن تنكشف لنا حقيقة العدمية دون أن يجعلنا ذلك أشخاصًا لديهم نزعةٌ انتحارية أو بلا أخلاق. وإذا صار الناس بالفعل نزَّاعين إلى الانتحار أو بلا أخلاق بعد اكتشاف حقيقة العدمية، فهذا ليس ذنب العدمية، من وجهة نظر تارتاليا، بل ذنب الوهم الذي كان أولئك الناس تحت تأثيره فيما سبق. إذا كنا نخوض الحياةَ ونحن نحاول أن نسلك سلوكًا حسنًا على الرغم من صحة العدمية، فلا يجب أن يتغير أي شيء، حسب رأي تارتاليا، حين نكتشف صحةَ العدمية بخلاف استبدال اعتقاد ميتافيزيقي صحيح بالاعتقاد الميتافيزيقي الخطأ.
يزعم تارتاليا أنه ما دام بإمكان الناس أن يفقدوا إيمانهم ويواصلوا حياتهم كما كانت من قبل، فلا يمكن أن يكون الإيمان «ضروريًّا» كما افترض الناس، أو الفلاسفة أمثال نيتشه.
غير أن هذا النقد الموجَّه إلى «نيتشه وفلاسفة آخرين عدة» قائمٌ على فهم خاطئ لما ركَّز عليه نيتشه وأولئك الفلاسفة الآخرون في تحليلهم للعدمية؛ إذ كانت قدرتنا على «المواصلة» هي ما شغلت نيتشه ومن ساروا على نهجه. فأولئك الفلاسفة لم يعتقدوا أن العدمية بيانٌ لحقيقة الواقع، شيء ندَّعي صحته. فقد اعتبروا العدمية بالأحرى ردَّ فعل تجاه الواقع. لم تكن العدمية من وجهة نظر نيتشه هي اكتشاف أن الحياة بلا معنًى؛ فالعدمية هي اكتشاف أن الحياة بلا معنًى و«مواصلتها على أي حال». وما يعتبره تارتاليا وسيلةً للاستجابة إلى العدمية — التوقف عن الشعور بالملل أو القلق والعودة فقط للانهماك في حياتنا اليومية — هو بالضبط ما قصده نيتشه بالعدمية. بصيغة أخرى، ذلك الذي يريدنا نيتشه أن نتغلب عليه ليس ما يقصده تارتاليا ﺑ «العدمية»، بل ما يقصده تارتاليا ﺑ «الحياة».
يتعامل تارتاليا مع العدمية على أنها حلٌّ لمسألة حسابية. إذا كنت تعتقد أن الرياضيات لها معنًى، أن «الباي» لها أهميةٌ نوعًا ما على نطاق شامل، فلديك مشكلة يمكن حلُّها بالعدمية. وهكذا لن تؤثر العدمية على صحة الرياضيات، بل حسْبُها أنها ستكشف عدم صحة الاستنتاجات الميتافيزيقية التي اشتققناها من الرياضيات. وبما أن الاستنتاجات الميتافيزيقية ليست ما يشغل أغلب الناس أغلب حياتهم، فالعدمية ليست بالشيء الذي يشغل أغلب الناس أغلب حياتهم.
غير أن العدمية، من منظور نيتشه، كما سبق ورأينا، تدور حول ما في الحياة، وليس ما وراءها. فيذهب نيتشه إلى أن انعدام معنى الحياة لا يُعزى إلى طبيعة الكون، بل يُعزى إلى طبيعة ثقافتنا. فالحياة لها معنًى، لكن فقط إذا «عشناها». لكن إذا عشنا حياةً ذات معنًى — أي بصفتنا بشرًا، وفقًا لقيَمنا لا وفقًا للقيم التي فُرضت علينا — فسوف ينال ذلك من ثقافتنا وينال من أولئك الذين يستمدون السلطة من ثقافتنا. وهكذا، وفي سبيل حماية مجتمعنا، دفعنا أصحاب السلطة إلى الاعتقاد بأن ثمة سبيلًا وحيدًا لنكون على خلق، وهو أن نسيطر على أنفسنا. نحن نتعلم السيطرةَ على دوافعنا ورغباتنا وغرائزنا، ونمضي في حياتنا اليومية أشخاصًا بالغين متحضرين. غير أننا نفعل ذلك لا لأننا «نريد» أن نحيا على ذلك النحو، ولكن لأننا نشأنا على الاعتقاد بأننا «يجب أن نريد» العيشَ على هذا النحو. ومحاولة عيش الحياة التي «يجب أن نريدها» هو ما يجعلنا عدميين، في رأي نيتشه؛ ولهذا السبب نرى الموت حريةً، حرية من الحياة، حرية من تعريف ثقافتنا للحياة، حرية من تعريف تارتاليا للحياة.
إن ما يتقبَّله تارتاليا سبيلًا لعيش حياتنا هو ما يراه نيتشه عدميةً بكلِّ ما للكلمة من معنًى. قد يبدو تارتاليا متفقًا مع نيتشه بشأن فكرة أن العدمية هي العيش في حالة إنكار، لكن ما يعنيه نيتشه ﺑ «الإنكار» هو ما يعنيه تارتاليا ﺑ «القبول». وهكذا فإن تناول تارتاليا للعدمية باعتبارها أمرًا غير ذي بالٍ يسفر عن معاملة الحياة باعتبارها أمرًا غير ذي بال.
العدمية باعتبارها إنكارًا للموت
حتى نحوز فهمًا أعمقَ لما تعنيه العدمية، يتعين علينا البحث عن فهمٍ أعمقَ لما تعنيه الحياة، وهو ما يمكن العثور عليه في الفلسفة الوجودية. يعود أصل الوجودية إلى أعمال الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد. بل إن عناوين أعماله وحدَها — مثل «خوف ورعدة» (١٨٤٣)، و«مفهوم القلق» (١٨٤٤) و«المرض طريق الموات» (١٨٤٩) — تستثير في الأذهان الأفكارَ المفعَمة بالقلق والفزع المرتبطة بالوجودية، على غرار الفَناء والإيمان والرياء. يُعتبر الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر أيضًا من الأعلام التأسيسية المهمة في الوجودية. ورغم أن هايدجر كان من منتقدي الوجودية، فقد كان لأعماله أثرٌ على الوجوديين. وكان من أعماله المؤثِّرة بصفة خاصةٍ كتاب «الكينونة والزمن» (١٩٢٧)، الذي يستجلي فيه «زيف» الحياة اليومية، لما تزخر به من أنشطة عديمة الجدوى، مثل الأحاديث العابرة التي تساعدنا على تجاوز القلق من مواجهة الموت الذي من شأنه أن يجعلنا بشرًا «بحق».
غير أن الوجودية في أغلب الأحيان ترتبط بالفلاسفة الفرنسيين، والتدخين، وشرب النبيذ، والهوس بالموت. لا شيء من هذا خطأ، إلا أنه يجعل اهتمامنا منصبًّا أكثرَ على «سِيَر» الوجوديين الذاتية بدلًا من أن ينصبَّ على كتاباتهم. وإن ما آلت إليه الوجودية من اقتران بسيَرهم الذاتية بدلًا من كُتبهم لهو تحديدًا السطحيةُ التي كان جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبرت كامو يحاولون الكشف عنه في أعمالهم الفلسفية والأدبية على حد سواء.
إن العامل المشترك بين سارتر ودي بوفوار وكامو في أعمالهم، والعامل المشترك مع كيركجارد وهايدجر، هو الانشغال بمسألة معنى الحياة. فكما رأينا، كانت هذه المسألة شاغلًا أزليًّا لدى الفلاسفة، وكان شاغلًا ميتافيزيقيًّا على وجه التحديد. كان وجه الاختلاف في طريقة تناول الوجوديين لهذه المسألة هو كيف أن تجربة الحياة خلال الحرب العالمية الثانية قد جعلت الحياة لا تبدو بلا معنًى فحسب، بل «عبثية».
لقد قُتل ملايين الناس في هذه الحرب. وانتشرت النازية والفاشية. وبدَت نهاية العالم وشيكة. ومع ذلك ظل الناس يأكلون ويعملون ويثرثرون ويشترون البقالة وينامون، ويواصلون العيش كأن شيئًا لم يتغير. إن رؤية الأعمال الروتينية التي تشكِّل قوام الحياة الطبيعية مستمرة في حين لم تكن الحياة طبيعية بالمرة كان يعني إدراك أن مثل هذه الأعمال لا تساعد في تسهيل سيرِ الحياة فحسب، بل تساعد في تسهيل تجاهل الحياة أيضًا. فعن طريق الحفاظ على النظام والاتساق والانضباط، نستطيع اختزال أنفسنا والعالم في أبسط المشاغل؛ ومن ثَم تجنُّب الاضطرار إلى التفكير في أي شيء يتعدى ما سنتناوله على العشاء، سواء كنا نواجه حربًا عالمية أو نواجه الموت والفناء. بعبارة أخرى، نحن نعيش حيوات عبثية.
لكن المفارقة، كما يدَّعي الوجوديون، هي أننا نحقِّق هذا الاختزال من خلال التسامي. فنحن نتصرف كأن الحياة غير ذات بال، لكننا نفعل ذلك لأننا نعتقد أن الموت غير ذي بال. نحن نرى أنفسنا كائنات مخلوقة، شأن سائر الكائنات المخلوقة، وبذلك ندرك أن لدينا خالقًا، خالقًا منحنا ماهية، ماهية تتجاوز وجودنا الفردي. وسواء كنا نعتبر هذا الخالق هو الرب أو الحمض النووي، فتلك مسألةٌ أقل أهمية مما نعتقد عادة؛ إذ إننا في الحالتين نرى أنفسنا وقد خُلقنا بماهية تسبغ علينا هويةَ البشر وتمنحنا هدفًا بوصفه جزءًا من إنسانيتنا. وبناءً على ذلك يمكن اعتبارُ ما نفعله في حياتنا اليومية من هذا المنظور، نتاجًا لا لحريتنا الفردية، بل لماهيتنا، أو كما ندعوها عادةً «طبيعتنا البشرية».
عن طريق الحفاظ على النظام والاتساق والانضباط، نستطيع اختزالَ أنفسنا والعالم في أبسط المشاغل، ومن ثَم تجنُّب الاضطرار إلى التفكير في أي شيء يتعدى ما سنتناوله على العشاء، سواء كنا نواجه حربًا عالمية أو نواجه الموت والفَناء.
ونظرًا لإنكار الوجوديين وجودَ الإله ووجود هدف للحياة، فقد اعتُبروا ملاحدةً عدميين. غير أن الوجوديين لم يكونوا يسعون للدعوة إلى الإلحاد؛ فكما سبق ورأينا، من الممكن أن يؤدي الحمض النووي نفس الوظيفة التفسيرية التي يؤديها الرب. وإنما حاول الوجوديون تبيانَ أن اعتقادنا بشأن الطبيعة البشرية عدمي. فحين نريد تبريرَ أفعالنا بالقول بأننا «نتصرف بطبيعتنا البشرية فحسب» — سواء كنا نعتقد أن البشر من خلقِ الرب أو أننا مبرمجون بفعل الحمض النووي — نتجنَّب بذلك الاضطرار إلى تحمُّل مسئولية أفعالنا. فالاعتماد على طبيعتنا البشرية لتفسير أفعالنا معناه أننا نرى أنفسنا مسيَّرين لا أحرارًا، أننا نرى أنفسنا أشياءَ يمكن تسييرها وليس بشرًا يمكنهم اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
إن الإقرار بأننا قد نموت في أي لحظة يقتضي أن نعتمد الجدية في كل لحظة من حياتنا، كما لو كانت آخر لحظة لنا في الحياة. ولكن لأننا لا نريد تحمُّل تلك المسئولية، نتصرف كما لو كنا سنعيش إلى الأبد، ونرى اتباع مثل هذا الأسلوب في الحياة حرية. قد نقول إننا نعلم أننا سوف نموت، لكننا نرى الموت شيئًا سيحدث في المستقبل البعيد أو شيئًا قد يحمينا منه العلم والتكنولوجيا بطريقةٍ ما. وبناءً على ذلك، لا نأخذ حياتنا اليومية على محمل الجِد ولا نأخذ قراراتنا على محمل الجِد؛ ومن ثَم تصبح الحرية الوحيدة التي نمارسها في حياتنا هي حرية إلقاء اللوم على الآخرين، أو على الرب، أو على الحمض النووي، أو على المجتمع، أو على أي شخص آخرَ عدا أنفسنا، فيما صرنا عليه وما آلت إليه حياتنا.
النساء لا بد أن يظللن دائمًا نساءً. والرجال لا بد أن يظلوا دائمًا رجالًا. والأبطال لا بد أن يظلوا دائمًا طيبين. والأشرار لا بد أن يظلوا دائمًا أشرارًا. فمثل تلك السرديات تريح البال. صحيح أنها تستعيض عن عبثية الوجود بوضوح الماهية. غير أنها تريح البال لأنها أوهام، أوهام ننشأ عليها ونخلدها، أوهام تحوِّل لون الحياة الرمادي الباعث على القلق إلى الأبيض والأسود المطمئن، مثل المسلسلات الكوميدية في الخمسينيات. فإضفاء طابع الأبيض والأسود على الأشياء يجعل الحياة أسهل، لكنه يفعل كذلك بجعلها حياة بلا حياة.
تبيِّن الوجودية أننا بمحاولة تحاشي المسئولية، تنتهي بنا الحال بتحاشي الحرية، وأننا بمحاولة تجاهل الموت، ينتهي بنا الأمر بتجاهل الحياة. وهكذا نرى العدمية نتاجًا للخوف من الموت، وأننا كلما فررنا من الموت، صرنا أكثرَ عدمية. إن القول بأن الحياة بلا معنًى، كما يقول الوجوديون، ليس دعوة إلى العدمية بل دعوة إلى مقاومتها. بالتخلص من المصادر الخاطئة للمعنى التي نعتمدها (مثل الرب أو الحمض النووي)، يمكننا مواجهة حقيقة أننا وحدنا ونتقبل توابع تلك الحقيقة: إننا وحدنا القادرون على إعطاء معنًى لحياتنا.
العدمية باعتبارها إنكارًا لموت المعنى
ارتبطت الوجودية ارتباطًا وثيقًا بحيوات سارتر ودي بوفوار وكامو حتى إن موتهم لم يؤدِّ إلا إلى تراجع الوجودية. إلا أن حركةَ ما بعد الحداثة لم ترتبط بشخصية أو شخصيات معينة. في الواقع لقد صارت «ما بعد الحداثة» مصطلحًا يدل على الإهانة أو السخرية؛ حتى إن قليلًا من الناس، إذا تيسَّر، يودون أن يرتبطوا بها، فضلًا عن تعريف أنفسهم بأنهم أنصار لها. لذلك ربما لا نجد أيَّ اتفاق بشأنِ ما تعنيه «ما بعد الحداثة» بخلاف كونها مصطلحًا يصف ذلك الذي لا نفهمه، وما يبدو غير قابل للفهم، وما يبدو وقد وُضع لتحدي اعتقاداتنا بقدرتنا على فهم أي شيء. بعبارة أخرى، ينظر الكثيرون إلى ما بعد الحداثة باعتبارها عدمية، بل عدمية متعمدة، عدمية في ثوب معاصر، «عدمية أدائية».
أو على الأقل هكذا كان حال المعرفة قبل حقبةِ ما بعد الحداثة. فوفقًا لليوتار، فقدت السرديات الكبرى المزيد والمزيد من قوَّتها التشريعية مع ظهور تكنولوجيا الكمبيوتر؛ إذ تصاعد النظر إلى المعرفة باعتبارها «معلومات». وعفا الدهرُ السردياتِ الكبرى عن العلماء وعملهم لصالح البشرية وبحثهم عن المعرفة من أجل المعرفة. إن رؤية المعرفة باعتبارها معلوماتٍ يوازيها رؤية المعرفة باعتبارها قوة، باعتبار أنها لا بد أن يكون لها قوة تفسيرية لا في مجال المعرفة فحسب، بل قوة سياسية واقتصادية أيضًا في المجتمع. لم تأتِ شرعية ادعاءات العلماء من العلماء وحدهم قط؛ فطالما كان التمويل الحكومي والدعم الشعبي عنصرين مهمين من عناصر إضفاء الشرعية. لكن بات المزيد من التمويل الحكومي والدعم الشعبي يدعم ما هو «مربح» فقط، ما يسفر عن معلومات ضرورية من أجل اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية. بعبارة أخرى، ما هو «حقيقي» صار أقلَّ أهمية مما هو «مربح». ومن ثَم تحصل الإنسانيات على تمويل ودعم أقل من مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، تلك المجالات التي تنتج شيئًا يسهُل الإقرار بصحته بما أن إنتاجها يسهُل قياسه بالفوائد.
غير أن الانفصال بين الإنسانيات من جهة والعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من جهة أخرى قد نال من شرعية الاثنين. فقد أنتجت الإنسانيات السرديات الكبرى التي شرعنت المعرفة العلمية، سواء كانت هذه السرديات الكبرى روحانية أو أخلاقية؛ إذ أُدمجت مساعٍ علمية داخل عملية البحث عن معنى الحياة. في الوقت ذاته، ونظرًا لانخراط العلماء في ألعاب اللغة كتلك الخاصة بالإنسانيات، فقد أسهموا في شرعنة الألعاب اللغوية للغة الإنسانيات. لكن حين لم يَعُد العلماء بحاجة إلى تفسير أنشطتهم ولم يَعُد لديهم حاجة إلى شيء سوى إخراج النتائج، حدث أن حلَّت الألعاب اللغوية في لغة الإنتاج والربح محلَّ الألعاب اللغوية للغة الروحانيات والأخلاق. غير أن التقدم العلمي والتكنولوجي ما زال مرتبطًا ﺑ «التقدم الإنساني»، لكن مع تراجع الإنسانيات، لم يَعُد بإمكان السرديات الكبرى ﻟ «التقدم الإنساني» أن تخاطبنا بأي لغة أخرى غير لغة تحليل التكاليف والعوائد.
إن اتجاه ما بعد الحداثة هو الإقرار بأن السرديات والأفكار والقيم التي نستخدمها لإعطاء معنًى للحياة محض قشور فارغة، أو بمعنًى أدق، الإقرار بأن هذه السرديات والأفكار والقيم «طالما كانت» قشورًا فارغة.
غير أن اتجاه ما بعد الحداثة لا يشكو من أزمة الشرعية، بل يرحِّب بها. فحين ندرك أن المعنى هو عملية إنتاج، إنتاج لممارسات بشرية، ندرك ما يحيط بالمعنى من احتمالات خلَّاقة ونتحرَّر من الوهم المحبط بأن المعنى أزلي وعالمي وغير قابل للتغيير. وبدلًا من الأخذ بالسرديات والأفكار والقيم الموروثة باعتبارها حجر الزاوية للواقع، يدَّعي اتجاهُ ما بعد الحداثة أن الواقع ليس له حجر زاوية، ولا أساس، سوى ممارسات، ممارسات كتلك التي تحيط بقبول تلك الأسس باعتبارها «مكتشَفة» لا «مختلَقة».
رأى المنتقدون أن النزعة لرفض الأساس لدى اتجاهِ ما بعد الحداثة؛ أي فكرة أن المعنى مختلَق وليس ثابتًا، من شأنها أن تروِّج للنسبية، ووحدة الأنا، والفوضى. فهو حين يحاجج بأنه لا يوجد أساس لما نراه ذا معنًى، وأن بإمكاننا بالتبعية أن نعيد تعريف معنَى ما له معنًى يبدو وكأنه يحاجج بأن المعنى مجرد من المعنى. فإن كان لشيء أن يكون له أي معنًى، فلن يكون بذلك ثمة معنًى لأي شيء. وبذلك يعتبر المنتقدون اتجاهَ ما بعد الحداثة عدميًّا.
أما من منظورِ ما بعد الحداثة، فإن أولئك المنتقدين لا يفعلون شيئًا سوى التشبُّث بالمعنى باعتبار أنه مسلَّم به بدلًا من أن يتناولوا التسليم بالمعنى بالفحص والتمحيص. إن تجسيدَ ما يخلقه البشر في صورة مادية ومعاملته كأنه اكتشاف، كأننا عثرنا عليه ولم نخلقه، لا ينكر العامل البشري فحسب، بل ينكر معنى المعنى أيضًا. وبذلك يكون منتقدو اتجاهِ ما بعد الحداثة، أنصار المذهب التأسيسي، هم الذين يتبنَّون انعدام المعنى بعدم إقرارهم بالحاجة إلى تقصي طبيعة المعنى وتاريخه.
إن ما يسيء هؤلاء المنتقدين فهمَه هو أن اتجاهَ ما بعد الحداثة لا يدعو إلى بناء أو إنتاج اجتماعي للمعنى، بل يذهب إلى أن المعنى يُبنى اجتماعيًّا؛ وطالما كان كذلك. ومن ثَم فإن إنكار البناء الاجتماعي للمعنى هو إنكار للواقع. يفترض أنصار المذهب التأسيسي أنه لا بد من أرضية أساسية للمعنى — ليكن الرب أو الطبيعة أو الحقائق العلمية — وأن اتجاهَ ما بعد الحداثة يرفض تلك الأرضيات باسم الثورة. إلا أن أنصار اتجاهِ ما بعد الحداثة يدَّعون بدلًا من ذلك أنه لا يوجد شيء ليرفضوه، لا يوجد شيء ليثوروا ضده؛ لأنه لا توجد أرضية أساسية للمعنى. ومن ثَم فإن اتجاهَ ما بعد الحداثة لا يعارض الأسس، بل يعارض المذهب التأسيسي؛ ذلك لأن الأسس لها خلفيات ثقافية وسياسية معقَّدة بحاجة إلى التقصي؛ أما المذهب التأسيسي فيرفض تلك الاستقصاءات لعدم استعداده لاعتبار أن «الرب» أو «الطبيعة» أو «الحقائق العلمية» لها تاريخ خلفهم.
إنكار البناء الاجتماعي للمعنى هو إنكار للواقع.
ومن ثَم يمكن اعتبار أن اتجاهَ ما بعد الحداثة قد تبنَّى رؤية الوجودية القائلة بأن «الوجود يسبق الماهية» وطبَّقه لا على البشرية فقط، بل على كل شيء. لكن لما كان سارتر قد صاغ هذا الشعار الوجودي لتوضيح لماذا يختلف البشر عن أي شيء آخر؛ ولماذا لا يمكن تعريفهم بالطريقة التي تُعرَّف بها الأشياء بالتبعية، فيبدو ثَمة خلاف بين الوجودية وما بعد الحداثة.
ترى الوجودية أن العدمية نابعة من رفض لمعنى الموت، مما يؤدي إلى رفض لمعنى الحرية، والمسئولية؛ ومن ثَم رفض لإنسانية البشرية. أما مذهبُ ما بعد الحداثة، فيرى أن العدمية ناشئة عن رفض لموت المعنى، الذي يؤدي إلى رفض للتاريخ، واللغة، والابتكار؛ فيؤدي بالتبعية إلى رفض لمعنى المعنى. لكن عندئذٍ سيبدو أن مذهبَ ما بعد الحداثة يَعُد الوجودية عدمية نظرًا لبنائه مذهبًا تأسيسيًّا يتمحور حول فكرة وجود معنًى أزلي وغير قابل للتغيير للموت. وبالمثل سيبدو أن الوجودية تَعُد مذهبَ ما بعد الحداثة عدميًّا نظرًا لزعمه المناهض للتأسيسية بأن المعني كله يُنتَج اجتماعيًّا وقابل للتغيير، ويمكن اعتباره هروبًا من الموت بإنكار أن للموت أيَّ معنًى أصيل.
ومع أن الوجودية وما بعد الحداثة قد يتعارضان بشأن معنى الموت، فإن ما يجب أن يعنينا هنا أنهما متفقان على معنى العدمية فيما يبدو، بالرغم من ذلك التعارض. فبينما ترى الوجودية أن العدمية ناتجة عن إنكار الموت، ترى ما بعد الحداثة أن العدمية تنشأ عن إنكار موت المعنى. لكن في كلتا الحالتين، تُعَد العدمية هروبًا من الواقع، سواء بعدم الاستعداد لمواجهة معنَى أن يكون المرء بشرًا أو بعدم الاستعداد لمواجهة إنسانية المعنى. بعبارة أوضح، العدمية من وجهة نظر كلٍّ من الوجودية وما بعد الحداثة هي هروب من الواقع في شكل هروب من الحرية.
العدمية باعتبارها إنكارًا لموت معنى الطفولة
تقدِّم سيمون دي بوفوار — الوجودية التي كانت ما بعد حداثية أكثر بكثير من سارتر وكامو — صورةً لطبيعة العدمية في كتابها الصادر عام ١٩٤٨، «أخلاقيات الالتباس». استلهمت دي بوفوار ادعاء ديكارت بأن الكبار تعساء لأنهم كانوا صغارًا يومًا، فتصف كيف أن العدمية متصلة بمحاولة المرء أن يعود طفلًا مرة أخرى. يجد الأطفال أنفسهم في عالَم لم يصنعوه، عالَم حيث كل شيء يدبِّره الكبار بالفعل، عالَم من التعريفات التي عليهم أن يتعلموها وقواعد عليهم أن ينصاعوا لها. تطلق دي بوفوار على عالم البالغين كما يراه الأطفال اسم العالم «الجاد» تمييزًا له عن عالم اللهو الذي يتمتع الطفل بحرية العيش فيه بما أن لا شيء مما يفعله الطفل — بسبب جدية البالغين — يبدو ذا أهمية.
يتهرب الأشخاص الجادون من الحرية والمسئولية باللجوء إلى الطفولية والسلطة الأبوية. فيحوِّل الأشخاص الجادون أنفسهم إلى أطفال، ليسوا بحاجة إلا إلى مزيد من التعريفات ليتعلموها ومزيد من القواعد لينصاعوا لها. وهم بذلك إنما يطالبون بسلطة خارجية يمكنها توفير تلك التعريفات وتلك القواعد، ويمكنها ضمان أن تظل هذه التعريفات والقواعد مطلقة وبلا تغيير. من ثَم فإن الأشخاص الجادين يقولون عبارات على غرار: «أعلم حقوقي!» بنفس الطريقة التي يقول بها الأطفال: «أمرني أبي ألا أفعل ذلك!» إذ تنطوي كلتا الحالتين على احتكام لسلطة خارجية يرون أن مجرد وجودها كافٍ ليحتم على الكل التصرف بما يتفق مع أوامر تلك السلطة.
لكن مثلما يمكن للآباء أن يقولوا إن كل شيء سيكون على ما يرام ويتعرض الأطفال رغم ذلك للألم والمآسي، يمكن كذلك أن تدعي الحقوق أنها تحمينا لكن من الوارد أن تحدث انتهاكات لهذه الحقوق من دون عقوبة. وهكذا يُضطر الأطفال والأشخاص الجادون في النهاية إلى إدراك أنه لا يمكن لسلطة خارجية أن تضمن ما أرادوا، وأن تضمن أن تئول الحياة لما وُعدوا به، وأن تُطبق العدالة، وأن يفوز الأخيار، وأن يتبين في نهاية الأمر أن ثمة هدفًا مما تعرضنا له من ألم ومعاناة. بعبارة أخرى، لا يمكن لسلطة خارجية أن تحول دون أن يُضطر الأطفال أو الأشخاص الجادون إلى مواجهة غموض الحياة، وتقلبها واستعصائها على التفسير.
تَعتبر دي بوفوار العدميةَ «اضطرابًا جذريًّا»، و«توجهًا»، و«فَناءً» لذات الفرد، وطريقة للتخلص من «القلق» عن طريق «إنكار» الوجود، وهو ما تلخِّصه كله بتعريف العدمية بأنها «جدية محبَطة انقلبت على نفسها». وعرَّف نيتشه العدمية بأنها «القيم العليا حين تفقد قيمتها». تردِّد دي بوفوار هنا تعريف نيتشه؛ إذ إن الرجل الجاد الذي أراد العثور على دليل على أن للحياة معنًى لا يستطيع العثور على ذلك الدليل، فيؤدي به الإحباط في نهاية الأمر إلى رفض المعنى في حد ذاته.
يصبح الأطفال جادين حين يجدون العالم مفتقرًا إلى المعنى الذي توقعوا أن يجدوه فيه. وبعد أن يدرك الطفل أن المعنى هو شيء يمكن أن يُكتشف، شيء يمكن العثور عليه في الأشياء، يصير شخصًا جادًّا يبحث عن سلطة خارجية يمكنها أن تملأ الفراغ الذي خلَّفه انعدام المعنى في العالم. لكن لأن الشخص الجاد يرى المعنى بمنظار الأبيض والأسود، فإن الشخص الجاد الذي لا يستطيع العثور على سلطة خارجية لا يعود بإمكانه أن يجد العالم ذا معنًى. وهكذا يصبح الأشخاص الجادون المحبطون رافضين للعالم الجاد الذي كانوا مقبلين عليه فيما مضى ويتبنون بدلًا منه اللامعنى في النهاية؛ ذلك لأنه في عالم من دون سلطة خارجية يفضِّل الأشخاص الجادون المحبطون فَناء العدمية على قلق الحرية.
إن القول بأن العدمية هي «جدية محبطة انقلبت على نفسها» يعني أن منطق الجدية، ومُفاده أنه إذا كان ثَمة سلطة خارجية فإن لكل شيء معنًى، يتمخض عن منطق العدمية، ومُفاده أنه إذا لم يكن ثَمة سلطة خارجية، فلا شيء يهم. وبذلك تكون العدمية ترياقًا للقلق من الحرية؛ لأنها تفصل بين الحرية والمسئولية، ومن ثَم تفصل بين الحرية والقلق. إذا لم يكن ثَمة سلطة خارجية لجعل قراراتنا ذات معنًى، فإن العدمي يخلص إلى أن قراراتنا غير ذات بال؛ ومن ثَم بدلًا من أن يعترينا القلق، فالأَولى أن نسترخي ونهدأ بالًا. بعبارة أخرى، أن تكون عدميًّا هو أن تعيش الحياة كما أوصى تارتاليا ولين تشي.
من منظور العدمية ليس هناك جدوى من القلق بشأن الحرية ما دامت كل الخيارات تؤدي في النهاية إلى المصير نفسه، ألا وهو الموت. يرى العدمي الموت برهانًا على خواء الحرية من المعنى، والوجود بالتبعية. ومن دون سلطة خارجية بإمكانها ضمان قدرتنا على الإفلات من حتمية الموت، وبإمكانها ضمان أن يكون لأفعالنا قيمةٌ خارج حيواتنا البالغة القِصر، يبدو الوجود دعابة قاسية، الجزء المضحك منها هو الحرية. لم يفهم الشخص الجاد الدعابة؛ أما العدمي فقد فهمها؛ ولذلك فهو على استعداد للتوقف عن التصرف بجدية والاكتفاء بالضحك حتى النهاية.
أن تكون شخصًا جادًّا هو أن تحاول الهرب من القلق بإسناد مسئولية الحرية إلى سلطة خارجية. وأن تكون عدميًّا هو أن تحاول القضاء على القلق بالقضاء على الحرية، وأن تفعل ذلك بإنكار وجود معنًى لاتخاذ القرارات. وكمثال على مثل هذا الفَناء العدمي، تشير دي بوفوار إلى النازية؛ إذ لا يستطيع العدميون إنكارَ جدوى قراراتهم («إنما كنت أنفِّذ الأوامر») دون إنكار الجدوى من قرارات كلِّ مَن عداهم كذلك («إنما وُلدوا أنجاسًا»). فحرية الآخرين تمثل تهديدًا للعدمي؛ لأن مواجهة حرية الآخرين ستجعله مضطرًّا إلى مواجهة حريته، مما سيحمله على مواجهة مسئوليته، وهو ما سيعود به إلى قلقه. إن وجود الحرية في أي مكان يمثل تهديدًا لرغبة العدمي في انتفاء الحرية من كل مكان.
من المؤكد أن محاولة القضاء على الحرية لا تحتاج إلى اتخاذ شكل القتل الجماعي، وهي غالبًا لا تتخذ هذا الشكل. فمن الممكن القضاء على الحرية، على حد وصف الوجودية، بالاعتقاد بأن الموت لا يستحق أن ننشغل به، والاعتقاد بأننا لا بد أن نحاول الاستمتاعَ بالحياة بدلًا من النزوع إلى السوداوية بلا داعٍ. من الممكن كذلك القضاء على الحرية، على حدِّ وصفِ ما بعد الحداثة، بالاعتقاد بأن المعنى لا يستحق أن ننشغل به، وأننا لا بد أن نتقبَّل المعاني الموروثة بدلًا من تعقيد الحياة بلا داعٍ. وبناءً على ذلك توضِّح دي بوفوار لماذا لا يلزم اعتبار الوجودية واتجاه ما بعد الحداثة على طرفَي نقيض؛ إذ يعرِّف اتجاهُ ما بعد الحداثة العدمية بأنها استهانة بمعنى المعنى، بينما تعرِّفها الوجودية بأنها الاستهانة بمعنى الموت. وهكذا يمكننا أن نرى أن الوجودية واتجاه ما بعد الحداثة إنما يعرِّفان أشكالًا مختلفة يجوز أن تتخذها العدمية، أو سبلًا مختلفة «تنقلب بها الجدية المحبطة على نفسها».
لكن ليس المقصود بذلك أننا نكون عدميين متى لا نأخذ شيئًا على محمل الجِد. فمن المؤكد أن ثَمة أشياء عديدة لا يلزم أن نأخذها على محمل الجِد، مثل كرة القدم الافتراضية، أو العائلة المالكة البريطانية، وآين راند، الفيلسوفة الروسية الأمريكية التي نادت بالفردية وحب الذات. لكن العدمية ليست المحصِّلة النهائية لعملية تحديد جدية شيءٍ ما. وإنما تشير دي بوفوار، عن طريق تشبيه العدمية ﺑ «اضطراب جذري»، إلى أن العدمي هو مَن ينكر احتمال الجدية ويفعل ذلك بعفوية شديدة على نحو مشابه لما قصده فرويد ﺑ «آلية الدفاع». فإذا ضبطك أحد وأنت تتناول كعكًا في الساعة الثانية صباحًا، فقلت: «إن نزعتي الوراثية إلى تناول الوجبات الخفيفة من وقت لآخر هي ما جعلتني أفعل ذلك»، فإن تصرفك هذا من قبيل الجدية. أما إذا ضُبطت تأكل كعكًا في الساعة الثانية صباحًا، فقلت: «وماذا في ذلك؟ إنها مجرد قطعة من الكعك»، فإن تصرفك هذا من قبيل العدمية.
لا يحاول العدمي الدفاع عن تصرفاته مثلما يفعل الشخص الجاد بإعطاء أسباب تشير إلى وجود سلطة خارجية يمكنها تبرير تصرفاته لتبدو ذات معنًى. فالعدمي — وقد قلب الجدية على نفسها — لا يرى تصرفاته قابلةً للتبرير؛ ومن ثَم يقوض عادةَ إعطاء الأسباب نفسها. فعند تحديه لتبرير أفعاله، يقلب العدمي الطاولة، مرغمًا مَن يتحدونه على تبرير اعتقادهم بأن ثمة شيئًا يستحق الانزعاج والضيق. يبدو الأمر وكأن العدميين ينخرطون في حجج جدالية عقلانية، لكن المظاهر خادعة؛ إذ إنهم يستغلون العقلانية سلاحًا لجعل الجدل بلا هدف بدلًا من ذلك.
إن ما اصطُلح على تسميتها «عدمية» — ونميل لتحديد أصولها التاريخية، واستنكارها على الصعيد السياسي، ونسبها إلى مفكرين زُعم أنهم جرءوا على التفكير في «أفكار خطيرة» — هي في الواقع خطرٌ مُلازم لعملية التفكير نفسها. لا توجد أفكار خطيرة؛ فالخطورة في التفكير في حد ذاته، لكن العدمية ليست نتاجًا له. فما العدمية سوى الوجه الآخر للتمسك بالتقاليد؛ إذ يقوم مبدؤها على إنكار القيم الوضعية الحالية، لكنها تظل مقيدة بها. وكل المراجعات النقدية لا بد أن تمرَّ بمرحلة من إنكار الآراء و«القيم» المقبولة، ولو إنكارًا افتراضيًّا، بتحري تبعاتها وافتراضاتها الضمنية، ويجوز أن نرى العدمية، بمعناها هذا، خطرًا دائمًا من أخطار التفكير.
يمكننا أن ندرك ما تعنيه آرنت بوصف العدمية بأنها ناجمة عن «الرغبة في العثور على نتائج تجعل الإسهاب في إعمال التفكير أمرًا غير ضروري» بالنظر إلى واحدة من الاستراتيجيات المعهودة التي يستخدمها العدميون لقلب المواقف لصالحهم؛ إذ ينظرون إلى الأفعال نظرةً بالغة الضيق ويجردونها من سياقها لجعلها تبدو أتفه من أن تستدعيَ الاكتراث بها. مثال على ذلك، الاستهانة بدعابة جارحة باختزالها ووصفها بأنها مجرد بضع كلمات وُضعت معًا بهدف الإضحاك، واختزال الجنس بوصفه بأنه مجرد اجتماع بين جسدين بهدف المتعة. وبما أنه لا يمكن لأحدٍ أن يعارض الضحك أو المتعة، فمن الممكن أن يكون منظور العدمي مقنعًا جدًّا؛ وبذلك يضحي أي استرسال في التفكير في الأمر بلا ضرورة. وبهذه الطريقة يستطيع العدميون أن يثيروا شكوك الأشخاص الجادين لا في مشروعية مشاعرهم فقط، بل في مشروعية جديتهم أيضًا. بعبارة أخرى، لا تعود «خطورة» العدمية إلى كونها تدمِّر صاحبها فحسب، بل تعود أيضًا إلى إمكانية أن تكون «مُعدية».
يمكن الاستفادة من فكرة أن العدمية من الممكن أن تكون مُعدية لفهم ما قد يبدو شدًّا وجذبًا بين وصف نيتشه للعدمية بأنها ظاهرة ثقافية ووصف دي بوفوار للعدمية بأنها موقف فردي. إن العدمية لدى الفرد هي اضطراب، أما العدمية في المجتمع فهي مَرض. إنَّ بحْث الشخص الجاد عن سلطة خارجية لتعطي الحياة معنًى ليس سعيًا فرديًّا. فمثل هذا البحث، كما وصفه ليوتار، يقوم على «سرديات كبرى»، على ممارسات ومفاهيم لها تاريخ، تاريخ ينشأ عليه الشخص الجاد ومن ثَم فهو لا يخلقه، بل فقط يتبنَّاه ويعمل على استمراره. ولهذا السبب يمكن أن تكون العدمية مُعدية؛ ذلك أن الشخص الجاد المحبَط لا ينقلب على جِديته الشخصية، بل على الجِدية الشائعة في الثقافة.
تتميز حجج الشخص العدمي بأنها مقنعة لمن حوله؛ لأنها قائمة على منطق الجِدية المشترك بين أولئك المحيطين بالعدمي. وكثيرًا ما يركِّز العدميون بوجه خاص على منطق الجِدية القائم على الوسيلة والغاية. فالجدية تبحث عن سلطة خارجية، لكن السلطة الخارجية هي وسيلة لهذا الشخص الجاد ليصل إلى غايته التي تتمثل، كما سبق ورأينا، في القدرة على الاستمتاع بالحياة مثل الأطفال بدلًا من أن يكون مفعمًا بالقلق مثل البالغين. وبذلك يقدِّم العدمي للشخص الجاد طريقةً لبلوغ هذه الغاية من دون الاضطرار إلى الانشغال بالوسيلة. ينجح الشخص العدمي في الاستمتاع بالحياة كأنه طفل، لكن ليس لأنه عثر على والد جديد، الأمر الذي يظنه الشخص الجاد ضروريًّا، ولكن ببساطة لأنه انتهج السلوك غير العابئ بشيء الذي ينتهجه الأطفال. بعبارة أخرى، تتشابه العدمية مع مذهب العواقبية (العِبرة بالنتيجة)، لكن من دون الانزعاج بشأن النتائج.
حين تنتشر عدوى العدمية، تصير رؤيتنا للعالم أشبه بالشخص المريض، فلا نريد سوى ما نعتقد أنه سيجعلنا أفضل حالًا، ونتجنب أيَّ شيء نظن أنه سيزيد حالنا سوءًا. وبناءً على ذلك، يصير حكمنا على الشخصيات الممثِّلة للسلطة الخارجية مثل العلماء مبنيًّا على المشاعر وليس على الوقائع. فنصدِّق بسهولة أولئك الذين يخبروننا بأشياءَ يروق لنا سماعها (على غرار: «احتساء كأس نبيذ يوميًّا يطيل العمر») ونرفض أولئك الذين يخبروننا بما لا نريد سماعه (على غرار: «نحن بحاجة إلى خفض انبعاثات الكربون بدرجة كبيرة للحفاظ على البيئة»). ومن ثَم فإن العدمية من الممكن أن تجعلنا خالِين البالَ وسعداء مثل الأطفال، ومن الممكن كذلك أن تجعلنا مستهترين ومخرِّبين مثل الأطفال. لذا فإن العدمية هي القدرة على الاستمتاع بكأس نبيذ بينما تشاهد العالم وهو يحترق.