أين توجد العدمية؟
أمَا وقد استعرضنا تحليلًا أكثرَ تفصيلًا لماهية العدمية في الفصول السابقة، فبإمكاننا في هذا الفصل أن نبدأ في وضع تحليل لمواضع وجود العدمية. العدمية ليست مجرد إنكار أن الحياة في جوهرها بلا معنًى؛ إذ من الممكن اعتبارها بالأحرى استجابةً للقلق الناجم عن اكتشاف أن الحياة في جوهرها بلا معنًى. العدمي لا ييئَس مثل المتشائم، ولا ينفر مثل المتهكم، ولا ينأى بنفسه مثل الشخص غير المبالي. فالعدمي من الممكن أن يكون متفائلًا ومثاليًّا وشفوقًا؛ إذ إن هدفه في الحياة هو أن يكون سعيدًا وهانئ البال كما كان وهو طفل، سعيدًا وهانئ البال كما كان قبل أن يكتشف أن الحياة خالية من المعنى الذي كان يظن أنه سيجده حين يكبر.
وكما رأينا، لا يمكن فهْم استجابة العدمي إزاء انعدام معنى الحياة فهمًا صحيحًا إذا اختزلناها في موقف فردي. فالعدمية، من ناحية، توجُّه معدٍ يمكن أن ينتقل سريعًا من فرد إلى آخر. ومن ناحية أخرى، تُعتبر العدمية معدية؛ لأن العدمية كأسلوب حياة هي نتاج أسلوب حياة ينشأ عليه العدميون ويشاركونه مع الآخرين.
حين نتأمل خطورة أن يُحاط المرء بأشخاصٍ لا يأبهون لتبِعات أفعالهم، قد نتوقع أن ينخرط المجتمع انخراطًا فعالًا ونشطًا في القضاء على العدمية. ولكن بالرغم من أن مسمَّى «عدمي» يُستخدم في الحياة اليومية مصطلحًا للنقد، يمكن أن نجد منطق العدمية مدعومًا من عناصرَ شتَّى في المجتمع. ومن ثَم فمن الوارد ألا يكون انتشار العدمية نتيجةً لعدوى نَشرت موقفًا عدميًّا بين بعض الأفراد فحسب، بل قد يكون كذلك نتيجةً لمؤثرات ثقافية تشجِّع موقفًا عدميًّا وتساعد في جعله شديد الانتشار. وتلك المؤثرات الثقافية تحديدًا هي ما سيستعرضها هذا الفصل؛ إذ من الممكن أن نجد العدمية على شاشات التليفزيون، وفي الفصول المدرسية، وفي العمل، وفي السياسة.
العدمية في المنزل
بالوضع في الاعتبار أن العدمية تأتي من الرغبة في التخلص من القلق الناجم عن الحرية، فربما يجب ألا نندهش من أن الثقافة الشعبية المعاصرة تتبنى العدمية؛ فإذا كنا نلجأ إلى الثقافة الشعبية من أجل الترفيه، والتسلية، والإلهاء، فبذلك تكون الثقافة الشعبية مشتركة فعلًا مع العدمية ولو في هدف الحد من الضغط على أقل تقدير. لكن ما يجب أن يشغلنا ليس الثقافة الشعبية، وما إذا كانت تجذب العدميين، بل ما إذا كانت تلك الثقافة الشعبية تدفع الناس إلى أن يصيروا عدميين.
طالما كان الآباء قلقين من التأثيرات المفسدة للثقافة الشعبية، مثل ما إذا كانت مشاهدة التليفزيون يمكن أن تجعل الأطفال أشدَّ بلادةً أو ما إذا كان يمكن لممارسة ألعاب الفيديو أن تجعل الأطفال أشد عنفًا. غالبًا ما تركِّز مثل هذه المخاوف على محتوى الثقافة الشعبية وليس على الوسائل التي نتلقى من خلالها الثقافة الشعبية. ومن الأسباب وراء ذلك أن مشاهدة شاشة تليفزيون قد صارت أمرًا عاديًّا تمامًا؛ حتى إننا لم نَعُد نرتاب في هذه الطريقة لقضاء الوقت. بعبارة أخرى، نحن نسأل الناس «ما» الذي يشاهدونه، لكننا لا نسألهم «لماذا» يشاهدون ما يشاهدونه.
قد تمرُّ الأسرة في المسلسل الكوميدي بمشكلة، لكن في غضون ٣٠ دقيقة (أو ٢٢ إذا حسبنا الفواصل الإعلانية) ستُحل المشكلة. وأي اضطراب قد ينشأ لخلق جو كوميدي ودرامي من الإثارة ما يلبث أن يختفي، ولا يُثار مرةً أخرى قط على الأرجح، وتصفو الأجواء. وهكذا تبعث البرامج النمطية على طمأنينة بالغة؛ إذ تساعدنا على الشعور بأن المواقف التي تبدو جديرةً بالقلق ستنتهي بما فيه صالح الجميع، وأن تبِعات أفعالنا لا تهم في الواقع. وهذه الحاجة إلى الطمأنينة تحديدًا هي بالطبع ما يجذبنا إلى الشاشات لمشاهدة البرامج النمطية.
لكنَّ معرفتنا بأن تلك البرامج تبعث على الشعور بالطمأنينة لا تعني أننا مدركون لما قد تفعله تلك البرامج بنا خلاف ذلك. كان الهاجس الذي يشغل أدورنو هو أن تلك البرامج، علاوة على أنها تمنحنا السلوى والطمأنينة، كانت تساعد أيضًا في إثارة شعور بالرضا عن النفس بداخلنا؛ إذ إن مبعث اطمئناننا تحديدًا هو الرجوع إلى الوضع القائم في نهاية كل حلقة. من ثَم فإن التليفزيون لا يسلينا فقط، لكنه يعلِّمنا أيضًا. إن الحفاظ على الوضع القائم أمرٌ «طيب». أما الإخلال بالوضع القائم فهو «سيئ».
لا شك أن مثل هذه التحليلات قد تبدو قديمةً ونحن في عصر البرامج ذات المستوى الفني الرفيع. ربما كانت البرامج التي كان أندرس وأدورنو يشاهدانها في خمسينيات القرن العشرين نمطية وتعزز شعورًا بالرضا عن الذات، أما الأعمال التليفزيونية الحالية فمن المفترض أنها أعمال فنية متقنة نُفِّذت بحيث تماثل الأعمال الأدبية، ولم تُصنع ليظل الناس يحدِّقون إلى الشاشات فيما بين إعلانات الصابون. لكن رغم أن الأعمال ذات المستوى الرفيع على غرار «انحراف» (بريكينج باد)، و«رجال ماديسون» (ماد مين)، و«صراع العروش» (جيم أوف ثرونز) لا تَستخدم القوالب التي اعتادها مَن نشأ على مشاهدة التليفزيون، فهذا لا يعني أن هذه البرامج ليست نمطية. فقد ظل والتر وايت ينحرف. وظل دون دريبر يحنث بوعوده. وظل آل لانستر يهزمون آل ستارك. إن الأعمال ذات المستوى الرفيع تصنع قوالبها الخاصة، قوالب تتوقَّع الجماهير أن يلتزم بها المسلسل، وتحاول المسلسلات التالية تقليدَها لاستغلال نجاح المسلسل الأصلي.
بالرغم من أن هذه المسلسلات ربما لا تتخلَّلها إعلانات الصابون، فإنها لا تزال تسعى إلى إبقاء أعين الناس محدِّقة إلى الشاشات. وفي حين كانت البرامج التقليدية في الغالب تحاول تقديمَ عالَم خيالي نقي وشاعري ليكون صورةً أفضل للواقع، فإن البرامج المعاصرة غالبًا ما تقدِّم صورًا مريعة للواقع كافية لإخافتنا حتى من مجرد الرغبة في الخروج من المنزل مرةً أخرى. المهم في أيٍّ من الصورتين هو فكرة أن الشاشات تقدِّم مهربًا من الواقع، والواقع يُقدَّم ضمنيًّا أو صراحةً بهذا الشكل الذي يحتم الفرار منه.
في عصر الإسراف في المشاهدة والشاشات المحمولة الذي نعاصره الآن، نرى تجارة الهروب من الواقع — تلك التجارة التي تعمل على أن يظل الناس يحدقون إلى الشاشات — تزداد نجاحًا على نجاح. لقد صار الهروب من الواقع من خلال التحديق في الشاشة هو الوضع الراهن، الوضع الراهن الذي تدرِّبنا الشاشات على الانصياع له والارتضاء به، الوضع الراهن الذي صرنا مقتنعين بأن من الجيد أن نحافظ عليه ومن السوء أن نخالفه. وفي حين كان التحديق في الشاشات في الماضي يُعد تبطلًا عن العمل، و«تكاسلًا» أمام «شاشة للحمقى»، صار التحديق في الشاشات في العصر الحاضر لا يُعتبر نشاطًا فحسب، ولكنه يصير يومًا بعد يوم الطريقةَ الوحيدة لمعرفة كيفية فِعل أي شيء، والفضل في ذلك يعود إلى هالة «المستوى الرفيع» و«إشادات النقاد».
في عصر الإسراف في المشاهدة والشاشات المحمولة الذي نعاصره الآن، نرى تجارة الهروب من الواقع — تلك التجارة التي تعمل على أن يظل الناس يحدقون إلى الشاشات — تزداد نجاحًا على نجاح.
العدمية في المدرسة
صار التحديق إلى الشاشات مألوفًا جدًّا؛ حتى إننا غالبًا ما نرتبك ونغضب حين يطلب منا أحد الأشخاص أن نرفع بصرنا عن شاشاتنا. قد يحدث هذا مثلًا حين يطلب معلِّم من الطلاب أن يتركوا هواتفهم. ولكن بالطبع حين يطلب المعلِّم من الطلاب التوقُّف عن التحديق في شاشاتهم والانتباه في الفصل، غالبًا ما يعني ذلك أن على الطلاب التوقُّف عن التحديق في شاشاتهم فقط لينظروا بدلًا من ذلك إلى «شاشة المعلِّم»، تلك الشاشة الضخمة الموضوعة في مقدمة الفصل ليتمكن الكلُّ من التحديق إليها معًا.
قد تكون هذه الشاشة سبورة أو عرض باوربوينت، لكن يظل المتوقَّع، حتى في الفصل، أن تتجه الأعين كلها نحو الشاشة بالضرورة. وهكذا يكون المعلم مثله مثل مسئول تنفيذي للبرامج في إحدى الشبكات التليفزيونية، يواجه المحتوى المنافس على الشاشات المنافسة للاستحواذ على انتباه المشاهدين. ومثل مسئول البرامج أيضًا، كثيرًا ما يستخدم المعلم صيَغًا بالية («المنهج السقراطي» مثلًا) لتقديم المحتوى بأكثر الطرق جذبًا للجمهور، وبأسهل الطرق للجمهور ليستوعبه.
يستخدم فريري استعارةَ المصرف ليصف ما يفعله داء السرد بالتعليم. إن المتوقَّع من الطلاب أن يُصغوا بسلبية إلى المعلمين؛ لأن من البديهي أن المعلمين لديهم معلومات والطلاب لا. وبذلك تكون المعلومات شكلًا من أشكال النقود، نقود يودِعها المدرسون في رءوس الطلاب. وهكذا يُعتبر الطلاب أوعية فارغة — أو مصارف — في انتظار مَن يملؤها. ومثل هذا الرأي يترتَّب عليه حتمًا علاقة تراتبية بين المعلم والطالب، حيث المتوقَّع من المعلمين أن يكونوا خبراء مطَّلعين، والطلاب ناشئين جهلة. وتؤدي هذه العلاقة إلى ظهور علاقة ديناميكية، حيث يتمتع المعلمون بكل السلطات والطلاب لا حول لهم، بما أن المعلمين لديهم السلطة للتوجيه كيفما أرادوا وإنزال العقاب كيفما أرادوا، في حين يُترك الطلاب بلا أي خيارات سوى الطاعة أو الرحيل.
ليست القضية هنا، من وجهة نظر فريري، أنه من الخطأ أن نرى أن المدرسين لديهم معلومات أكثر من الطلاب، بل من الخطأ أن نظن أن التعليم مجرَّد عملية تبادل معلومات. وما دامت المعلومات هي ما يقيم له المجتمع وزنًا، وما دام المجتمع لا يرى التعليم إلا نوعًا من الصفقات الاقتصادية، فمن المنطقي أن تستخدم المدارس نموذجًا تنازليًّا في التعليم. قد تقل أهمية «المقصود» من المعلومات يومًا بعد يوم، ولكن حيازة المعلومات هي كلُّ ما يهم. ونظرًا لأن حيازة المعلومات هي الأهم، فإن الطلاب لا يُشجعون على ارتكاب السرقات الفكرية فحسب، بل يجادلون بأنه لا بد من اعتبار السرقة الفكرية مشروعة ما دامت هي الطريقة المثلى لضمان صحة المعلومات التي يحوزونها.
لا شك أنه من الصعب تفنيد حجج الطلاب والقول بأن السرقة الفكرية خطأ في حين أن نموذج التعليم الذي يجدون أنفسهم فيه يشجع على اعتبار التعلم وسيلة من أجل غاية. وكما رأينا، فإن هذا التوجه لا نجده في معاملة التعليم كوسيلة لغاية وليس غاية في حد ذاته فحسب، ولكن كذلك في معاملة الطلاب والمعلمين كوسائل لتخزين المعلومات وتوزيعها. ولا تزال اللهجة المستخدَمة عند الحديث عن التعليم في المدارس هي نفس لهجة التبجيل والتقديس التي طالما أحاطت به، مما يضفي عليه هالة شيء جيد في جوهره. لكن نظرًا لأن اللهجة المستخدمة عند الحديث عن التعليم لا تتفق وما يُطبَّق في الواقع، صار الطلاب ببساطة يرون التعليم أجوفَ والمدرسة عملًا روتينيًّا. وإن لم يصل الطلاب إلى تلك الاستنتاجات من تلقاء أنفسهم، تقدِّم لهم المدارس اختباراتٍ موحدةً لضمان أن يرى الطلاب التعليم مجرد عملية لتوحيد البشر على نمط واحد.
بحسب زعم فريري، فإن معاملة الهدف من التعليم باعتباره استظهارًا للمعلومات يحول دون تنمية القدرة على التفكير النقدي لدى الطلاب. ومع أن انعدام التطور النقدي من شأنه أن يبدوَ عيبًا في النموذج المصرفي للتعليم، يرى فريري أنه لا بد أن يُعد بالأحرى دليلًا على أن نظام التعليم هذا يحقِّق ما صُمِّم لأجله بالضبط.
إن الطلاب، من وجهة نظر فريري، لا يتعلمون كيف ينتقدون المجتمع، بل يتعلمون كيف يمتثلون له. ولهذا السبب يذهب فريري إلى أن النموذج المصرفي في التعليم هو نظام قمعي صمَّمه الطغاة لتعليم المقهورين الرضا بقهرهم. وهكذا تكون حجة فريري ضد التعليم موازيةً لحجة نيتشه ضد الأخلاق. المشكلة في كلتا الحالتين ليست أن المجتمع يفشل في خلق مواطنين صالحين، ولكن المشكلة أن المقصود ﺑ «الصالح» هو الصالح ﻟ «المجتمع» لا الصالح ﻟ «البشر»، للناس الذين عليهم العيش في المجتمع الذي تدعمه هذه الأنظمة التعليمية والأخلاقية.
يمكن الآن اعتبار «داء السرد» الذي أشار إليه فريري هو داء العدمية الذي أشار إليه نيتشه. فالحفاظ على الوضع القائم يتأتى بتقدير الخضوع باعتباره الصواب، وهو التقدير الذي يعززه الحصول على «درجات جيدة» على «جودة الأداء». ومثل تلك المفردات الأخلاقية ترسِّخ مفهوم الامتثال أكثرَ بالربط بين القيم التعليمية والقيم الأخلاقية، فتوضح للطلاب أن عليهم الشعور بالفخر والزهو حين يكونون مطيعين (طالب نابه) والشعور بالذنب إذا كانوا عصاة (طالب بليد). وهكذا غالبًا ما يُقال للطلاب الذين يسرقون أفكار غيرهم إنهم يرتكبون «خطأً» لأنه مخالف للقيم الأخلاقية؛ لأن السرقة الفكرية ضربٌ من «الغش»، والغش فِعل يرتكبه الناس ذوو «الطباع السيئة».
قد يكون نظام التعليم مصممًا بحيث يجعل الطلاب يرون السرقة الفكرية منطقية تمامًا في ضوءِ ما هو متوقع منهم. غير أن النظام الأخلاقي مصمَّم بحيث يحمي نظام التعليم بجعل الطلاب يشعرون بالمسئولية الشخصية عن السرقة الفكرية. فنظرًا لأن النموذج المصرفي في التعليم يحول دون تطوير ملَكة التفكير النقدي لدى الطلاب، فليس من المرجَّح أن يدرك الطلاب مدى مسئولية النظام التعليمي نفسه عن جعل السرقة الفكرية تبدو منطقية. وإذا حدث وشكَّكوا في نظام التعليم، يُوصمون بأنهم «مشاغبون» ويُعاقبون على «وقاحتهم» مع معلِّميهم. بعبارة أخرى، نظرًا لأن نوعية التعليم المعتد بها حاليًّا قد جرَّدته من قيمته، لا بد أن تتدخل الأخلاق وتملأ الفراغ، بدعم القيم التعليمية الأصيلة المستأصلة (على غرار: التعلم من أجل التعلم) بقيم أخلاقية (من قبيل: التعلم واجب).
وكما حذَّر نيتشه، فإن المجتمع الذي لا يعتد إلا ببقائه، الذي لا يعبأ إلا بحماية الوضع القائم، هو مجتمع مريض، مجتمع يفرز «مواطنين صالحين» لكنهم «بشر طالحون». بالمثل يذهب فريري إلى أن القهر في نموذج المصرف في التعليم يسلب الطغاة والمقهورين على حد سواء إنسانيتَهم. ويرى فريري أن التعلم يتطلب القدرةَ على إقامة حوار، لكن إقامة حوار يحتِّم على أطرافه أن يعتبر كلٌّ منهم الآخر ندًّا وعلى قدم المساواة معه، حتى يكون الحديث متبادلًا وليس من طرف واحد. واختزال التعليم في ضخِّ المعلومات يحول دول تمكُّن المعلمين والطلاب من التواصل معًا كأطراف متساوية لا مجرد طرف عالم وطرف جاهل. وهكذا فإن التعليم القائم على ترتيب تنازلي في تمحوره حول المعلومات يحول دون قدرة البشر على رؤية بعضهم بعضًا بصفتهم بشرًا؛ ومن ثَم يحول دون قدرة كلٍّ من المعلمين والطلاب على التعلم بحق بعضهم من بعض بالتمكن من الدخول في حوار مشترك معًا.
وكما حذَّر نيتشه، فإن المجتمع الذي لا يعتد إلا ببقائه، الذي لا يعبأ إلا بحماية الوضع القائم، هو مجتمع مريض، مجتمع يفرز «مواطنين صالحين» لكنهم «بشر طالحون».
إن هذا الافتقار إلى التعليم الحقيقي لا يضر بالطلاب والمعلمين فحسب، ولكن بالمجتمع بأسره. قد يكون النموذج المصرفي في التعليم مفيدًا في الحفاظ على الوضع القائم في المجتمع، لكنه يضر بمستقبل هذا المجتمع. وكما حذَّر نيتشه، فالحفاظ على المجتمع دون تغيير إنما يؤدي إلى ركوده، وهو ما يؤدي إلى دماره في النهاية. فالتعليم، شأنه شأن الترفيه، من الممكن استخدامه لجعل الحياة أيسر وأكثر استقرارًا، لكن إذا كان الاعتراض والشك ضروريين من أجل النمو، فإن الحياة اليسيرة المستقرة ليست سوى مجرد موت بطيء وأكيد. بعبارة أخرى، الحياة على هذا النحو هي حياة عدمية.
العدمية في العمل
من الحجج التي يمكن الرد بها على انتقادات فريري لنموذج المصرف في التعليم أنه لم يدرك من الأساس أن الغرض الحقيقي من التعليم هو إعداد الطلاب ﻟ «العالم الحقيقي». والعالم الحقيقي يسير على نمطٍ توجيهي يسير من الأعلى إلى الأسفل. العالم الحقيقي متمحور حول المعلومات. لهذا، إذا تعلَّم الطلاب على النحو الذي دعا إليه فريري؛ أي باعتبار رموز السلطة أندادًا لهم لا أشخاصًا يفوقونهم علمًا ومكانة، وتعلموا الاعتراضَ على الإذعان والتشكيك في القواعد بدلًا من الامتثال لها، فسيواجهون هزةً عنيفة صادمة رغمًا عنهم حين يُنهون دراستهم ويحاولون الحصول على عمل. بعبارة أخرى، نموذج المصرف في التعليم ليس «عدميًّا»، بل «واقعي».
من الصعب معارضة مثل هذا الرأي بشأن العلاقة بين التعليم والعمل؛ فلا شك أننا بحاجة إلى نوع معيَّن من التعليم لإعداد الطلاب لنوعية العمل الذي يرجَّح أن يلتحقوا به. لكن المؤكد أن هذه الحجة تجعلنا نتساءل لماذا صرنا نرتضي هذا النوع بالذات من العمل إذا كان يستلزم هذا النوع بالذات من التعليم. فإن كان فريري محقًّا في أن الطريقة التي نعلِّم بها الطلاب تجرِّدهم من إنسانيتهم، وإذا كانت الحجة المضادة ليست أن فريري مخطئ، ولكننا نعلِّم الطلاب بهذا الأسلوب لأنه يَعدُّهم للعالم الحقيقي، فإن هذه الحجة المضادة في الحقيقة هي مجرد طريقة أخرى للقول بأن «العالم الحقيقي» يجرِّد البشر من إنسانيتهم، وأن علينا أن «نتعلم قبول ذلك» فحسب.
كانت فكرة أن ما درجنا على قبوله باعتباره «العالم الحقيقي» هو عالمٌ يجرِّد فيه العملُ الإنسان من إنسانيته، فكرةً أيَّدها كارل ماركس تأييدًا كان له تأثير بالغ. يمكن أن نجد الركائز الفلسفية لانتقادات ماركس للرأسمالية في مقاله «اغتراب العمل»، الذي لم ينتهِ منه ولم ينشره قط. يحلل ماركس في هذا المقال الطرقَ المتعددة التي يمكن أن تنال بها محاولتنا لكسب المال من آدميتنا في نهاية الأمر، وشتى الطرق التي يُعمي بها المال بصيرتنا لينتهي بنا الحال أيضًا أكثر اكتراثًا بحلم الثراء من اكتراثنا بحقيقة أننا لم نَعُد بشرًا.
يرى ماركس أن «العمل» هو عملية نصنع من خلالها الأشياء، الأشياء التي نحتاج إليها حتى نتبين ماهيتنا. إن الطفل حين يبني قلعة من الرمال ويحاول باستماتة أن يجعل أباه يتحول ببصره عن شاشة هاتفه حتى يرى ما بناه، لا يحاول بذلك أن يجعل أباه يبدي تقديرَه لقلعة الرمال فقط، بل له هو أيضًا. أو بعبارة أكثر تحديدًا، إن تقدير الأب لقلعة الرمال التي بناها ابنه هو تقديره له هو أيضًا. إنه حين بنى قلعةَ الرمال بذل فيها من جهده؛ ومن ثَم فإن رأي أبيه فيما صنعه يعادل رأيه فيه هو شخصيًّا. نحن نبني قلاعًا من الرمال لنتبيَّن ما إذا كنا مبدعين، ونلقي النِّكات لنتبيَّن ما إذا كنا ظرفاء، ونقيم حواراتٍ لنتبيَّن ما إذا كنا مُسلِّين. نحن نصنع الأشياء لنتبين ماهيتنا؛ لأننا نعرِّف أنفسنا بما نصنعه ومن خلاله.
في المجتمع الإقطاعي، حيث كان تبادل البضائع عن طريق المقايضة، كان الناس يتعرفون بعضهم على بعض عن طريق عملِ كلٍّ منهم. وهكذا فإن صناعة الأشياء ليست السبيلَ لتبيين هويتنا فقط، بل لتبيين هوية الآخرين أيضًا. ومن ثَم فإن العمل ضروري لا من أجل اكتشاف المرء هويته فحسب، بل لبناء المجتمع أيضًا. ربما يمكن أن نرى العلاقة بين العمل والهوية والمجتمع في أوضح صورها في شيوع اسم سميث (المشتغِل بالمعادن). فالحدادون (سميث) وصُنَّاع المشغولات الذهبية (جولدسميث) وصُنَّاع المشغولات الفضية (سيلفرسميث)، عرَفَهم أفرادُ مجتمعاتهم لاشتغالهم بالمعادن؛ ومن ثَم صاروا معروفين بالاسم سميث (أو ما يقابله من الأسماء الأخرى المشارِكة لها في الأصل اللغوي، مثل شميت (بالألمانية)، وكوفالسكي (بالبولندية)، وكوفاك (بالسلوفاكية)، وفيرارو (بالإيطالية)، وهيريرا (بالإسبانية)، وفيبر (باللاتينية)). كذلك ما زال لدينا في العصر الحاضر أسماء أخرى شائعة تشير إلى مهنٍ على غرار آبوت (رئيس دير)، وآرتشر (رامي السهام)، وبيكر (خبَّاز)، وباربر (حلاق)، وكاربنتر (نجار)، وكوك (طاهٍ)، وفارمر (مزارع)، وفيشر (صياد سمك)، وجليزر (تاجر زجاج)، وجلوفر (صانع القفازات)، وهانتر (صيَّاد)، وجادج (قاضٍ)، ونايت (فارس)، وميسون (بنَّاء)، وبينتر (دهَّان)، وشيبرد (راعي غنم)، وتانر (دبَّاغ)، وتايلور (حائك)، وهذا غيضٌ من فيض. بعبارة أخرى، العمل جزء جوهري من الهوية؛ حتى إنه من الممكن أن يظل عمل الأسلاف يعرِّف هوية عائلة الشخص أجيالًا قادمة.
وهذه العلاقة الجوهرية بين الهوية والعمل هي ما جعلت ماركس يصبُّ اهتمامه على نشأة التصنيع من خلال تقسيم العمل. من المؤكد أن التحوُّل من أداء العمل بواسطة حِرفيين أفراد إلى أدائه بواسطة أشخاص متعدِّدين يعملون على خط تجميع ساعد على تسريع الإنتاج وجعله أكفأ. لكننا حين نسمي هذا ببساطة «تقدمًا»، فنحن بذلك نتجاهل ما يفعله تقسيم العمل بالعمال. ففي حين أن مخاوفنا بشأن الصناعة غالبًا ما تنحصر في ظروف العمل المريعة في المصانع، يوضِّح ماركس من جهة أخرى كيف أن تقسيم العمل في حد ذاته يؤذي العمال. من الممكن تحسينُ ظروف العمل، لكن مع تقسيم العمل إلى مهامَّ يمكن القيام بها ساعاتٍ متواصلة دون حاجة إلى تركيز، صار العمَّال منعزلين عن عملهم؛ ومن ثَم صاروا منعزلين عن هويتهم.
وهكذا تنشأ أزمة هوية حين نفقد السيطرة على ما نصنعه. وكما أوضح تشارلي تشابلن في فيلم «العصور الحديثة» (مودرن تايمز) (١٩٣٦)، يصنع العاملون في خطوط التجميع أجزاءً من أجزاء من أجزاء، ويعملون دون أن يعلموا ماذا يصنعون أو لماذا، وبذلك يصبحون مجرَّد تُرس آخر في آلة. وكما بيَّن مايك جادج في فيلم «ساحة العمل» (أوفيس سبيس) (١٩٩٩)، فإن الانتقال من خط التجميع إلى حُجيرات في المكاتب لم يساعد في التخفيف من وطأة شعور العاملين بأنهم مجرَّد تروس في آلة، بل قد يكون زاده سوءًا. والآن وقد تحسَّنت ظروف العمل، وصار لدينا رعاية صحية، و٤٠ ساعة عمل أسبوعيًّا، وإجازات مَرضية، وإجازات سنوية، وآلات لتصوير مستندات، وماكينات لإعداد القهوة، فلم يتبقَّ لدينا من الأسباب لكره العمل سوى «العمل نفسه».
وحين يعرِّف الشخص نفسه براتبه فهو بذلك يعرِّف نفسه بما يستهلكه بدلًا من أن يعرِّفها بما يستطيع صُنعه، مستبدلًا الزهوَ بما يمتلكه بالزهو بما يصنعه. نحن نعمل حتى نكسب المال، فنؤجر عقولنا وأجسادنا لمن يدفع أعلى مقابل. وبذلك لا تعود عقولنا وأجسادنا تمثِّل هويتنا، بل تصبح مجرَّد وسائل تحت تصرُّفنا من أجل كسب المال؛ ومن ثَم لا يعود لها غرض لدينا أكثر من الغرض من الموظفين لدى رب العمل. وبناءً على ذلك، لا تكون ثنائية العقل والجسد مجرَّد نظرية ميتافيزيقية، بل أيضًا استراتيجية فعَّالة للإدارة.
بعبارة أخرى، من الأسهل كثيرًا أن نجتاز كلَّ يوم من أيام العمل إذا كان بمقدورنا إنجاز مهامنا دون الاضطرار إلى «إدراك» ما نفعله. فالتفكير والتأمل والوعي غالبًا ما يضر بقدرتنا على الاستمرار في العمل، سواء كان عملنا هذا في مصنع أو على جدول بيانات ملف إكسل. وكلما أمكن أن يكون العمل آليًّا، كنا أقدرَ على العمل كالزومبي. وكلما كنا أقدرَ على العمل مثل الزومبي، قلَّ شعورنا بالعمل أثناء أدائه؛ فكائنات الزومبي «لا تشعر بشيء على الإطلاق».
لا شك أن العمل، كما يوضح ماركس، حتى إن لم يَعُد يؤدي الغرض الذي كان يؤديه من قبل، وهو «إشباع حاجة»، فهو لم يَعُد بلا غرض؛ إذ بات الآن «وسيلة لإشباع حاجات قائمة خارجه». نحن لا نحول أنفسنا إلى موتى أحياء بلا مقابل، بل لتدبُّر المال اللازم حتى نأكل ونشرب ونتزاوج. إذن فالمشكلة التي يشير إليها ماركس في هذا المقام لا تكمن في أن العمل صار بلا معنًى، بل في أننا نظل نجده ذا معنًى بما يكفي للاستمرار فيه، حتى وإن صار منفرًا وسالبًا لآدمية الإنسان. لقد استُبدل معنى المال بمعنى العمل. بيْد أن المال، سواء كان قطعة من المعدن، أو الورق، أو شفرة (كما هو الحال في الآونة الأخيرة) هو شيء بلا معنًى في حد ذاته، سوى أننا نستطيع المقايضة به للحصول على سلع وخِدمات. لذا فإن السلع والخدمات التي يمكننا شراؤها بالمال الذي نحصل عليه من عملنا لا بد أن تكون هي ما يحفزنا على الاستمرار في العمل بعد أن صار عملنا نفسه بلا معنًى.
حين يكون المرء عاملًا، حين يُضطر إلى العمل لكسب قوته، فهذا يعني أنه واحد من الموتى الأحياء، كما بيَّن المخرِج جورج إيه روميرو في كثير من الأفلام الزاخرة بالمعاني المُبطنة.
ولكن نظرًا لأن هذه السلع والخِدمات ينتِجها عاملون مثلنا، هم أنفسهم لا يعملون من أجل العمل ولكن من أجل المال، فقد فقدت هذه السلع والخدمات هي الأخرى ما كان لها من معنًى يومًا ما. فقد صارت السلع تُنتَج بكمياتٍ ضخمة، ومن ثَم لم تَعُد تدل على شخصية صانعها بأي حال. أما الخدمات فربما ما زالت تُقدَّم بابتسامة، لكن ليس لأنها ما زالت تمثل تفاعلًا إنسانيًّا حقيقيًّا، بل لأن العاملين في قطاع الخدمات يُروَّضون من قِبل رؤسائهم على الابتسام لتجنُّب الفصل، ويُروَّضون من قِبل العملاء على الابتسام للحصول على إكرامية.
إذن فالبضائع والخدمات ذات معنًى ليس لأننا نتعرف من خلالها على الأشخاص الذين يقدِّمونها، بل لما تجعلنا نشعر به لحصولنا عليها. ربما لم نَعُد نأبه بمَن يُعدُّ طعامنا أو يصلِح لنا السباكة، لكننا ما زلنا بحاجة إلى تناول الطعام والاستحمام. وحين نضحي قادرين على شراء طعامٍ أفضل والحصول على حمَّامات أفضل، نصير قادرين على الانتقال من مجرد إشباع حاجاتنا إلى إشباع رغباتنا بدلًا من ذلك. وهذا الوعد بأن نصير قادرين على إشباع رغباتنا هو ما يحفزنا إلى الاستمرار مدةً طويلة في العمل بعدما لم يَعد العمل نفسه مشبِعًا ولا مرغوبًا. العمل في حد ذاته ليس له معنًى. والمال الذي نتحصل عليه من العمل ليس له معنًى في حد ذاته. والسلع والخدمات التي نحصل عليها بالمال ليست ذات معنًى في حد ذاتها. أما الشعور بالرضا الذي تحقِّقه لنا السلع والخدمات فله معنًى.
غير أنه من الجائز أن يبدو هذا المعنى الجديد الذي يصفه ماركس للعمل مبنيًّا على فرضية أن «الإنسانية تعني الخَواء». فإذا كان شعور الرضا والإنجاز لا يأتي عن طريقِ ما نفعله، بل من خلالِ ما يمكننا شراؤه؛ أي من خلال السلع والخدمات التي يمكننا الحصول عليها، فنحن إذن من دون تلك السلع والخدمات لا شيء. فلا نعود قادرين على الشعور بالرضا، ولا نعود قادرين على رؤية إبداعاتنا مرغوبة. وبدلًا من ذلك نلجأ إلى إشباع ذواتنا عن طريق الامتلاك والاستهلاك؛ لأن ما يمكننا امتلاكه واستهلاكه مرغوب فيه. لكن إذا كنا فيما مضى قادرين على إشباع ذواتنا من خلالِ ما يمكننا فعله وليس ما يمكننا امتلاكه، حسبما يفيد ماركس، فبذلك لا تكون الرغبة في الامتلاك والاستهلاك فطريةً؛ فهي في حد ذاتها شيء اكتسبناه واستهلكناه.
إن كون هذه الرغبات غير فطرية هو أمرٌ منطقي، بما أن رغبتنا في السلع والخدمات غالبًا لا يكون لها علاقة بالسلع والخدمات في حد ذاتها. إن ما نرغب فيه هو مكانة تلك السلع والخدمات في المجتمع والمكانة التي نكتسبها بالتبعية عن طريق اقتراننا بها. فإذا كان المجتمع ينظر إلى سلع وخدمات معينة باعتبارها رفاهية، فإن امتلاك تلك الرفاهيات يعني أن المجتمع يعتبرها من قبيل الحياة المرفهة. وإذا استطعنا أن نعيش حياةً يرغب فيها الآخرون، نستطيع عندئذٍ أن نشعر بأنفسنا مرغوبين. غير أن تلك المرغوبية النابعة من الاقتران بالأشياء يمكن أن تكون خداعة بطبيعة الحال، كما أوضح إيدي ميرفي في فيلم «القدوم إلى أمريكا» (كامينج تو أمريكا) (١٩٨٨)؛ إذ لا يسعنا على الإطلاق أن نعلم ما إذا كان الناس الذين يدَّعون أنهم يرغبون فينا سيظلون راغبين فينا إذا ألمَّ بنا سوء حظ ولم يَعُد لدينا تلك السلع والخدمات المرغوبة. بعبارة أخرى، نظل شاعرين بالخَواء حتى حين نحقِّق ذواتنا بهذا الأسلوب.
إذا كان الامتلاك والاستهلاك يجعلاننا نشعر بالإشباع — وإذا كانا هما وحدهما ما يجعلاننا نشعر بالإشباع غالبًا في نظام العمل الحالي — فإن ذلك الإشباع القصير الأجل بطبيعته إنما سيزيدنا عزمًا على الامتلاك والاستهلاك بقدرِ الإمكان. وكما يوضح أفلاطون، فإن مَن يسعون إلى مثل هذا الإشباع غير المشبع هم أولئك «الذين لا عهد لهم بالعقل أو الفضيلة». بعبارة أخرى، إذا كانت الحياة الوحيدة التي نعرفها هي حياة الامتلاك والاستهلاك، فلن ندرك أن الحياة التي نؤدي فيها أعمالًا بلا معنًى، من أجل الحصول على مال بلا معنًى، لشراء بضائع وخدمات بلا معنًى، من أجل شعور بالرضا والإشباع بلا معنًى، هي حياة بلا معنًى، بل سنرى أنها «العالم الحقيقي».
إن حمل العمال على الاعتقاد بأن ليس لديهم خيار سوى العمل من أجل كسب العيش هو اعتقاد يفيد بلا ريب أشخاصًا ليسوا بحاجة إلى العمل لكسب العيش، على الأقل ما دام هناك عمال يمكنهم أن يعيشوا عالةً عليهم. وبذلك يكون السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: كيف ولماذا اقتنع الناس بهذا الاعتقاد؟
الإجابة عن هذا السؤال، من وجهة نظر ماركس، هي أن العمال كانوا على استعداد للعمل من أجل كسب العيش لاعتقادهم أن النفع (المال على سبيل المثال) سيفوق التكلفة (خسارة آدميتهم على سبيل المثال). أما أفلاطون، فإجابته عن هذا السؤال هي أن العمال كانوا على استعداد للعمل لكسب قوتهم لاعتقادهم أنه الطريقة الوحيدة للعيش. ومن ثَم، كان تكوين تلك القناعات يتطلب من العمال أن يكونوا قادرين على النأي بأنفسهم عن إنسانيتهم دون القلق من العواقب من جهة، ومن جهة أخرى كان عليهم أن يتعلموا الخضوع للواقع بدلًا من الاعتراض عليه. بعبارة أخرى، إذا أردت أن يقتنع الناس بفكرة أن العمل من أجل كسب العيش هو الطريقة الوحيدة للعيش، فأنت تريد أن يقتنع الناس بالعدمية.
إذا استطعنا أن نشتِّت أنفسنا عما نفعله بأنفسنا — حين نحملق في الشاشات ساعات متتالية يوميًّا على سبيل المثال — فإننا نستطيع العمل من أجل كسب العيش دون الشعور بأننا على قيد الحياة إلى حد الاهتمام بالعواقب. إذا كان بإمكاننا أن نتعلم في المدارس كيف نكون خاضعين بدلًا من تعلُّم النقد — بأن نكتسب قناعة بأننا أوعية فارغة، وأن رموز السلطة لديهم كل الإجابات مثلًا — فمن الممكن عندئذٍ أن ندرج على الاقتناع بأن العمل من أجل كسب العيش ليس سلوكًا عدميًّا، بل ببساطةٍ سلوك «طبيعي». ومن ثَم فإن العدمية في المنزل، والعدمية في المدرسة، والعدمية في العمل ليست أمثلة مختلفة على نفس «السلوك العدمي»، بل هي أجزاء مختلفة من نفس «النظام العدمي».
إذا كنا نعيش في عالَم عدمي، فهذا ليس لأن العالم عدمي، ولكن لأن تسليمنا بالعدمية يكرس للعالم الذي نعيش فيه. وكلما صرنا أكثرَ تسليمًا بالعدمية، أصبحنا أكثرَ عرضة للاستغلال. إذا اعتقدنا أن كوننا بشرًا يعني أن نكون خاوين، وأن حياتنا بلا معنًى في الأساس، وأننا بحاجة إلى أن نمتلك ونستهلك حتى نشعر بالإشباع والرضا، فإن مقايضتنا القدرةَ على الامتلاك والاستهلاك بإنسانيتنا لا تبدو «تجريدًا من الإنسانية»، بل تبدو ﻛ «صفقة». لذا فإن أفضل سبيل لفهم العدمية ليس أن نراها تجربة فردية توجد أينما وُجد العدميون، بل أن نراها تجربة ظهرت نتاجًا لنظامٍ يتغذى على العدمية، نظام يتغلغل في كل جانب من جوانب الحياة البشرية.
إن القول بأن العدمية حقيقة لا جدال فيها ليس مجرد ادعاء «بشأن» طبيعة الواقع، ولكنه ادعاء يسهم في «تشكيل» الواقع. فلا يمكن اعتبار العدمية مجرَّد موقف أخلاقي أو ميتافيزيقي فقط دون تجاهل أبعادها السياسية. إذا كانت مساعدة الناس على القبول بالعدمية كوضع طبيعي يساعد على استغلال الناس وتجريدهم من إنسانيتهم، فإن الحجج التي تتناول العدمية باعتبارها قصورًا فرديًّا أو واقعًا كونيًّا هي حجج تخدم أغراضًا استغلالية وتهدف إلى تجريدهم من إنسانيتهم.
إننا إذا رأينا العدمية طريقةً لوصف الاعتقادات الأخلاقية لشخصٍ ما (أو انعدامها)، فنحن بذلك نختزل العدمية في مسألة يمكن للأفراد فقط أن يحلوها بمفردهم. وإذا رأينا العدمية طريقة لوصف المغزى من الكون (أو انعدام مغزاه)، فإننا بذلك نرتفع بالعدمية إلى مستوًى يجعل منها مسألة، وحدَهم الآلهة مَن يستطيعون حلَّها بمفردهم. وبذلك يحول كلا الأسلوبين في رؤية العدمية دون أن ندرك الحاجة إلى مواجهة العدمية كمسألة لا يمكن حلها إلا «على نحوٍ جماعي»، على المستوى القائم بين الأفراد والآلهة؛ أي على المستوى «السياسي».
العدمية في الدوائر السياسية
عبَّرت هانا آرنت عن الجانب السياسي للعدمية وصلتها بالسياسة أيَّما تعبير. ففي كتاب «مقدمة في السياسة» (١٩٥٥) — الذي لم تتمه آرنت لكنه ما زال يُنشر منذ ذلك الحين في هيئة مقال طويل — تعزي آرنت تاريخ معنى كلمة سياسة إلى أصولها اليونانية القديمة. تقدم آرنت هذا التحليل التاريخي لتبيِّن لنا أن مفهومنا عن «السياسة» في العصر الحاضر لا يمت بصلة إلى مفهوم أفلاطون وأرسطو عن «السياسة».
في عصرنا الحالي غالبًا ما نرى أن السياسة هي الحكومات والانتخابات والحدود والقوانين والجيوش والضرائب والسياسات الداخلية والسياسات الخارجية، والفساد بالطبع. أو بعبارة أخرى، السياسة اليوم هي في الأساس كلُّ ما ننتخب ممثلين عنَّا حتى يتدبَّروه بحيث لا نُضطر إلى الانشغال به. أما في زمن أفلاطون وأرسطو، فكانت السياسة نشاطًا يمارسه الناس لا كوسيلة لغاية بل كغاية في حد ذاته، نشاطًا يحدِّد معنى أن تكون بشرًا.
أما الإغريق، فكان اعتبار السياسة وسيلةً، سواء لحماية الحرية أو خطرًا على الحرية سيبدو منافيًا للمنطق؛ لأن السياسة لديهم هي الحرية. كانت السياسة في الأصل تُعتبر نشاطًا يمارسه أولئك الذين كانوا قادرين على تحرير أنفسهم مما كان يعتبر لا إنسانيًّا؛ ولهذا السبب كان انخراط المرء في السياسة يعني أنه إنسان. كان الشيء غير الإنساني هو الإكراه. فكان إكراه المرء على فعل شيءٍ ما — سواء كان مَن أجبره شخصًا أو الطبيعة — يعني أنه يعيش حياته كالحيوان، كشيء أقل من البشر. فالحيوانات تتصرف بدافع الضرورة، أما البشر فقادرون على التصرف من تلقاء أنفسهم من دون مؤثر خارجي. أو بعبارة أخرى، يملك البشر «الفعل»، أما الحيوانات فلا تملك إلا «ردَّ الفعل». وكما تشير آرنت، حين يعرِّف أرسطو البشر بأنهم كائناتٌ سياسية، فهو لا يقصد بذلك أن البشر طالما كانوا منخرطين في السياسة وسيظلون كذلك دائمًا، بل يقصد أن الكائنات التي تستطيع الانخراط في السياسة هم البشر. وقد رأى الإغريق أنفسهم — وأنفسهم فقط — بشرًا لأنهم حقَّقوا ما لم يحققه آخرون، وهو إقامة الدولة-المدينة أو «البوليس»، إقامة ساحة لممارسة السياسة.
بدلًا من أن يرى الإغريق أن العبيد هم أناس سلبهم الاستعباد إنسانيتهم، كانوا يرون أن أي شخص لا يماثلهم، شخص لم يكن رب منزل، هو شخص «وُلد من أجل الخدمة». وبناءً على ذلك وكما حاجج أرسطو، كان العبيد هم أولئك الذين بإمكانهم — بل عليهم — تلبية الحاجات الضرورية غير الإنسانية للمنزل؛ ليُتيحوا لأولئك القادرين على أن يكونوا بشرًا «رفاهية» أن يكونوا بشرًا.
لم تكن الرفاهية — أو تحرُّر المرء من عبء تلبية حاجاته ومنزله — آنذاك تُعتبر حرية، بل كانت «شرطًا مسبقًا» للحرية. فكان بإمكان رب المنزل، وقد ضمن لنفسه الرفاهية، أن يغادر الحيز الخاص للمنزل ويخطو إلى العالم العام للمدينة. فقد أتاحت المدينة ساحة للسياسة، وللحرية بالتبعية؛ لأنها أقامت مكانًا خارج المنزل حيث كان بإمكان «المواطنين» (أي أرباب البيوت من الرجال الإغريق البالغين) أن يلتقوا ويتحدثوا.
كان معنى أن تكون مواطنًا أن تعتبر المواطنين الآخرين أندادًا لك، وأن يعتبرك المواطنون الآخرون ندًّا لهم، لكم المكانة نفسها في المدينة. ومن هذا المنطلق كانت الساحة السياسية مكانًا حيث يستطيع المواطنون الحديثَ مع نظراءَ لهم وبصفتهم نظراء متساوين. من ثَم لم تكن المساواة إلا نتيجة لشرط أن تكون المدينة ساحة للحرية. كانت الحرية بالنسبة إلى اليونانيين القدامى هي التحرُّر من الإكراه لا بمعنى التحرر من الحاجات الطبيعية فحسب، ولكن أيضًا بمعنى التحرر من التفاوت الطبقي.
لذا كانت التفاوتات التي أوجدت المدينة (اليوناني أعلى شأنًا من غير اليوناني، الزوج أعلى شأنًا من الزوجة، الأب أعلى شأنًا من الابن) هي التي أتاحت المجالَ لخلق قيمة المساواة بين المواطنين في «الأجورا». كانت الأجورا، أو الميدان العام، هي المكان المخصص في المدينة للقاء بين المواطنين حيث يمكنهم الحديث معًا ﺑ «حرية»، دون الحاجة إلى الانشغال بتلبية حاجاتهم أو الانشغال بإصدار الأوامر. وكانت الشئون الداخلية وكذلك الشئون الخارجية يَعُدها الإغريق حينذاك شئونًا «غير سياسية».
تنطوي إدارة الاقتصاد أو إدارة شئون الجيش على إصدار الأوامر. ولما كانت الأوامر تحتم أن تكون العلاقة بين متحدث يأمر ومستمع يطيع، فلم يكن الحوار المشتمل على أوامر مساويًا لِما اعتبره الإغريق حوارًا حرًّا. كانت الأجورا ساحةً سياسية؛ لأنها كانت ساحةً استطاع فيها المواطنون أن يكونوا بشرًا، ساحةً استطاع فيها المواطنون أن يكونوا بين نظراء لهم، ساحةً أمكن للمواطنين فيها التحرر من الإكراه ونيل حرية الكلام.
إذا كان المنزل هو الساحة الخاصة لتلبية الحاجات الحيوانية، فالأجورا هي الساحة العامة لإشباع حب المعرفة والفضول الإنساني.
بوسعنا الآن أن ندرك لماذا كانت السياسة لدى الإغريق غايةً في حد ذاتها وليست وسيلة لغاية. لم تكن غاية السياسة في الأصل حمايةَ الحياة حتى يمكننا الاستمتاع بالحياة «على نحو فردي»، بل كانت غايتها إرساء الحرية حتى يمكن أن نجعل للحياة معنًى لنا «جميعًا». وهذا ما أعُدُّه جوهر تحليل آرنت في هذا المقال. لقد زدنا من عدد الناس التي يمكنها المشاركة في السياسة إلى حد كبير في العصر الحديث، لكن نظرًا لأننا قلَّصنا نطاقَ العملية السياسية إلى حد كبير، فقد جعلنا تلك المشاركة «بلا معنًى».
تُرجِع آرنت بداية اختزال معنى السياسة إلى أفلاطون. كانت «الحقيقة» من منظور أفلاطون مختلفة عن «الإجماع» وأرفع مقامًا منه. فقد ذهب أفلاطون إلى أن الجدال السياسي بين عدة أشخاص لا يمكن أبدًا أن يصل إلى الحقيقة؛ نظرًا لأن التجربة البشرية لا تنتمي إلى عالم الحقيقة. وسعى أفلاطون إلى إقامة ساحة خارج دائرة السياسة حيث يمكن لقلة من الأشخاص الانخراطُ في شكلٍ أصدق من أشكال الجدال، وهو ما أسماه أفلاطون «جدلية» الفلسفة مقابل «بلاغة» السياسة. فكانت الأجورا مكانًا في الدولة حيث يمكن لأي رب بيت المشاركةُ في نقاشات حول طبيعة «التجربة»، أما «أكاديمية أفلاطون»، فكانت مكانًا داخل المدينة هدفه تحويل الأجورا إلى مكان مهجور، مكانًا يتمكن فيه طلابه وحدَهم من المشاركة في نقاشات حول طبيعة «الواقع».
وبالرغم من أن الأكاديمية لم تكن ساحةً سياسية بما أنها لم تكن ساحة عامة، فقد ظل الهدف منها أن تكون مكانًا حيث يتمتع المشاركون بحرية الكلام بالتحرر من الإكراه. وفي سبيل تحقيق هذه الحرية، طالَب أفلاطون وطلابه الدولةَ بإتاحة وقت الفراغ اللازم لهم لمغادرة الأجورا، تمامًا كما أراد أرباب البيوت من العبيد أن يتيحوا لهم وقت الفراغ اللازم لمغادرة المنزل. وهكذا، مثلما رأى الإغريق العبودية وسيلةً لبلوغ غاية الحرية السياسية، رأى أفلاطون السياسة وسيلةً لبلوغ غاية «الحرية الأكاديمية».
ارتقى أفلاطون بنشاط الفلسفة المعني بالبحث عن الحقيقة فوق نشاط السياسة المعني ببناء الإجماع، وهو الارتقاء الذي دافع عنه أشدَّ دفاع بتشبيه المشاركة في مجال السياسة العام بالحبس في كهف تحت الأرض. أرسى أفلاطون فصلًا بين الحقيقة والسياسة بالقول بأن الحرية الأكاديمية ضرورية للوصول إلى الحقيقة، وأن الحرية الأكاديمية تعني التحرر من السياسة. والفلاسفة وحدهم هم مَن بإمكانهم الوصولُ إلى الحقيقة إذا حِيل دون تداخل السياسة مع الفلسفة، تمامًا كما كان يعتقد من قبلُ أنه لا يمكن للمواطنين الوصول إلى الإجماع إلا إذا حِيل دون تداخل الحياة العائلية مع السياسة.
بعد أفلاطون، صارت كلٌّ من الأنشطة السياسية والعائلية تُعدُّ أنشطة بلا معنًى في حد ذاتها، وإنما مجرد وسائل لغاية نشاط ذي معنًى. فحين أنشأ الإغريق ساحةً سياسية لممارسة نشاط ذي معنًى، استلزم ذلك معاملةَ المنزل باعتباره ساحةً لنشاط بلا معنًى. لكن إنشاء أفلاطون للساحة الأكاديمية جاء بمنزلةِ تحدٍّ لمغزى الساحة السياسية، مما تدنى بالأنشطة السياسية إلى مستوى الأنشطة المنزلية.
كان الشيء المشترك بين كلٍّ من الأنشطة المنزلية والأنشطة السياسية أنها أنشطة قائمة كليةً على التجربة البشرية. وقد ذهب أفلاطون إلى أن التجربة البشرية ما دامت خاصة لا عامة، ودائمة التغير لا ثابتة، فإنها بذلك تفتقر إلى سِمتَي الشمولية والاستمرارية الضروريتين اللتين تميزان الحقيقة. ومن ثَم فإذا كانت الحقيقة هي ما تحدد ما له معنًى، فإن النشاط ذا المعنى لا يمكن أن يوجد في المنزل ولا في الأجورا؛ بل يمكن أن يوجد في الأكاديمية فقط.
حين أرسى أفلاطون فكرةَ انتماء الحقيقة إلى عالم واقعي بعيد عن تجاربنا، مهَّد الطريق بذلك ليحل نشاط الخبراء محل النشاط السياسي. فوفقًا لقول أفلاطون، نحن لا نستطيع الاعتمادَ على حواسنا للحكم على الواقع حكمًا دقيقًا؛ ومن ثَم فإذا أردنا ألا نجازف بالانخداع بما يبدو حقيقيًّا في الظاهر فقط، فلا بد أن نعتمد على حكم الخبراء بدلًا من ذلك. وهذا ما نفعله الآن طوال الوقت. فنحن نذهب إلى الطبيب حين لا نكون على يقين مما نشعر به. ونسأل النادل حين لا نكون على دراية بمذاق أكلةٍ ما. ونلجأ إلى المراجعات والنقد حين لا نكون على يقين مما إذا كان فيلمٌ ما يستحق أن نشاهده. وإذا ساورنا شكٌّ في إمكانية الوثوق بالخبراء، نسأل جوجل. لكن إذا كانت مداولة آرائنا بشأن الواقع بعضنا مع بعض هي السبيل لنصبح بشرًا، فإن في استعاضتنا عن حكمنا بحكم الخبراء إنما نستعيض عن المشروع السياسي لبلوغ «الآدمية» بالمشروع العلمي لبلوغ «اليقين».
لكن قد يلقى مثل هذا الرأي معارضةً بالقول بأن إعلاء الحقيقة واليقين فوق التجربة والإجماع أدَّى قطعًا إلى تطورات في كل مجال من مجالات العلم، مما أتاح لنا اكتسابَ رؤًى لا تُحصى عن طبيعة الواقع. فلا شك أن استبعاد المواطنين من النقاش العلمي قد أتاح للعلماء العملَ بكفاءة أكبر بكثير مما لو احتاج العلماء إلى الدولة للوصول إلى إجماع كلما أرادوا إجراء تجربة. علاوة على ذلك، ليس الغرض من استبعاد المواطنين من النقاش العلمي أن ينفرد العلماء بميزات خاصة؛ إذ إن القدرة على فهم الواقع بصورةٍ أفضلَ تمكِّن العلماء من مساعدة المواطنين ليعيشوا حياةً أفضل.
ولهذا السبب حل اليقين محلَّ الإجماع في السياسة أيضًا؛ إذ حلَّت «البيروقراطية» محلَّ الديمقراطية. فلم يَعُد المواطنون يشاركون في مناقشات سياسية، بل صاروا يشاركون في التصويت لاختيار ممثلين عنهم بدلًا من ذلك. ولم يَعُد الممثلون يشاركون في نقاشات سياسية، بل صاروا يشاركون في التصويت لاختيار السياسات. وهذه السياسات يَعُدها ويديرها بيروقراطيون، خبراء سياسيون يطبِّقون المنهجيات العلمية لحل مشكلات الحياة. وهكذا يساعد العلماء المواطنين على عيش حياة أفضل؛ لأن البيروقراطيين يستخدمون الفهم العلمي للواقع لخلق أفضلِ حياةٍ ممكنة للمواطنين. من ثَم سيكون من الخطأ من هذا المنظور أن نميز بين المشروع السياسي لبلوغ الآدمية والمشروع العلمي لبلوغ اليقين؛ إذ ينبغي اعتبار اليقين ضرورةً من أجل النهوض بالبشرية. بعبارة أخرى، «التقدم العلمي هو تقدُّم للبشرية».
لا شك أنه من الصعب معارضة هذه الحجة؛ ولهذا السبب يمكن أن ندرك لماذا استطاع التقدم العلمي كقيمة التغلب على القيم الأخرى المنافسة، وصارت أسمى القيم في كل مجتمع تقريبًا على وجه الأرض في العصر الحاضر. ومن ثَم صرنا نسلِّم اليوم بأن تقدم البشرية جاء مسايرًا للتقدم العلمي، وهو ما نراه مثلًا حين نتتبَّع تاريخ البشرية من منظور تاريخ العلم حيث التقدم المطرد من العصور المظلمة حتى عصر النهضة وصولًا إلى عصر التنوير وعصر الحداثة. غير أن آرنت تحاجج بأن إيماننا بالتقدم العلمي لم يؤدِّ بنا إلى الحقيقة واليقين، بل إلى العدمية والنوائب.
ترى آرنت أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تؤدي السياسات العلمية للبيروقراطيات إلى حروب عالمية واختراع القنبلة الذرية. لقد كان انتهاء عصر العبودية، وانتصار الحركات المطالبة بحق المرأة في الانتخاب، وإقرار تشريع الحقوق المدنية، كل ذلك كان مؤشرات للتقدم السياسي. وتشير آرنت إلى أن ذلك التقدم استوجب أن تبتعد «القوة الغاشمة» التي أبقت الناس تحت نِير العبودية عن الدوائر المحلية أكثر وأكثر لتحل بدلًا من ذلك في الدوائر السياسية مع ازدياد ثقة البيروقراطيين في قدرتهم على السيطرة على تلك القوة. وأدَّى استحكام قبضة الحكومة على تلك القوة الغاشمة إلى تحرير النساء والأقليات من العنف والقهر اللذين هيمنا على الأسر في الماضي. لكن هذا التحرُّر من القهر المنزلي لم يكن معناه تمتُّع هؤلاء المُحرَّرين بحرية أن يصيروا بشرًا كما حدث مع الإغريق.
أدَّى انتهاء عصر الرِّق وما صاحبه من اتساع نطاق المواطنة إلى ارتفاع هائل في عدد الناس الذين احتاجوا إلى القدرة على العمل لكسبِ عيشهم، وارتفاع هائل في عدد المنتجات الضرورية لبقاء العاملين على قيد الحياة. وأدَّى هذا بدوره إلى ارتفاع هائل في القوة الإنتاجية للدولة في نفس الوقت الذي صارت فيه القوة الغاشمة تحت قبضتها على نحو محكم. وهذا المزيج بين القوة الإنتاجية التي صار بإمكان الدول حشدُها والقوة الغاشمة التي استطاعت الدولة السيطرةَ عليها هو ما أدَّى إلى تحوُّل النظرة الموجَّهة للسياسة من كونها وسيلةً للحرية إلى تهديد للحرية.
لقد أدَّى الاعتماد على الخبراء بدلًا من الاعتماد على التجربة إلى تطوُّرات في مجالات علمية لا حصر لها. غير أن الحروب هي الأخرى مجالٌ قابل للتقدُّم علميًّا، وهو ما تمثَّل في اختراع القنبلة الذرية. ولهذا السبب تشكِّك آرنت في مساواة التقدم البشري بالتقدم العلمي، بل تشكِّك فيما إذا كان في ذلك التقدم أي شيء «إنساني» بحق. إن الشك في التجربة الذي امتد من الميتافيزيقيا الأفلاطونية إلى اللاهوت المسيحي وصولًا إلى البيروقراطية الرأسمالية جعلنا عاجزين عن الحكم على التجارب بأنفسنا، مما جعلنا أقلَّ استعدادًا لمحاولة التوصل إلى إجماع بعضنا مع بعض، وأكثر استعدادًا (بل أكثر قدرة) لمحاولة تدمير بعضنا بعض في المقابل.
تختتم آرنت تحليلها بالمقارنة بين الحياة في عالم السياسة البيروقراطية الحديث — حيث صارت السياسة شيئًا نحاول الفرار منه بدلًا من أن تكون شيئًا نطمح إلى مزاولته — وبين الحياة في الصحراء. تقول آرنت:
إن الهدف من هذه الاستعارة هو تنبيهنا تحديدًا إلى مدى ما آلت إليه حياتنا من قفر وجمود. فحين نعيش في صحراء نصير مجبَرين على عدم الانشغال بشيء سوى مجرد البقاء على قيد الحياة، فلا يشغلنا إلا الحاجات الحيوانية التي تحرِمنا من الإحساس بحريتنا كبشر.
ذاك هو الحال الذي صرنا إليه على حد اعتقاد آرنت؛ إذ لم يؤدِّ بنا انعدام ثقتنا في السياسة إلى انعدام ثقتنا في العقلية العلمية التي سيطرت على السياسة فحسب، بل أدَّت بنا أيضًا إلى انعدام الثقة فيما بيننا. لقد تمخَّضت ثقتنا في التقدم العلمي عن فقدان ثقتنا في الإنسانية؛ ولهذا السبب على وجه التحديد ازداد إيماننا بالتقدم العلمي قوة ورسوخًا؛ إذ نفترض أن التقدم العلمي يصلح كل ما هو معيب في البشرية. ومن ثَم فكلما ازدادت معاناتنا من التقدم العلمي، زاد لجوءنا إلى التقدم العلمي ليخلِّصنا من معاناتنا. نحن مثل شخص ضلَّ طريقه في الصحراء، نتشبث يائسين بأي دليل يدعي أنه يعرف المخرج، حتى إن كان ذلك الدليل هو الشخص الذي قادنا إلى الصحراء من البداية.
كانت حياتنا المقفِرة القاحلة في عالمنا الصحراوي هي ما استكشفه فرانتس كافكا في حياته العملية، سواء خلال فترة عمله محققًا في مطالبات التأمين أو خلال عمله بالكتابة. تزخر كتابات كافكا بتجسيدات واقعية إلى حدٍّ مرعب لمحاولة العيش في نظام بيروقراطي لا قِبل لأحد بتفسيره أو الدفاع عنه، لكن الكل خاضع له دون اعتراض، ويكشف ما قد يترتب على ذلك حين نستيقظ فجأةً لنجد قضاةً مجهولين قد أدانونا باتهامات مجهولة. أو قد يؤدي إلى ما هو أرجح بكثير، وهو أن نستيقظ لنكتشف أننا قد تحولنا بطريقةٍ ما إلى كائن ممسوخ يتوق إلى العودة بشرًا، لكن لا تواتيه هذه الرغبة على سبيل الأمل، وإنما يتعذب بها.
تزخر أعمال دوستويفسكي بتحليلات للحيوات الداخلية الغنية والمعقَّدة لشخصياته. أما أعمال كافكا فهي مليئة بشخصيات هي في حد ذاتها شفرات، أشخصيات ليس لها أسماء كاملة، ليس لها خلفية، شخصيات تبدو غالبًا كأنها وُلدت أمس. إن أهم شيء، من منظور كافكا، كما من منظور آرنت أيضًا، لفهم العالم الحديث، عالم البيروقراطية، ليس العلاقة بين «العقل والجسد»، بل العلاقة بين «الناس والمكان». وما تراه آرنت مهمًّا بصفة خاصة هو كيف يمكن لمكانٍ ما — على غرار الأجورا — أن يحث الناس على تكوين علاقات بعضهم مع بعض وتقاسم عالم واحد معًا، وكيف يمكن لمكان آخر — على غرار الصحراء — أن يدفع الناس إلى أن يصيروا عاجزين عن تكوين علاقات بعضهم مع بعض ويصير اهتمامهم الوحيد هو النجاة، كلٌّ بنفسه.
وهذا الموقف، على حد قول آرنت، هو ما حدا فلاسفةً بعينهم إلى طرح أسئلة من قبيل: «لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟» و«لماذا يوجد أحد بدلًا من لا أحد؟» تذهب آرنت إلى أن هذه الأسئلة تبدو عدمية، لكن لا بد أن نعتبرها مناهضةً للعدمية. إن طرْح هذه الأسئلة يفنِّد الرؤية الكونية التي قد تبدو منطقية جدًّا — القائلة إنه «لا بد ألا يكون هناك شيء أو أحد» — بإرغامنا على التساؤل عن ذلك الشيء الذي يميز العالم والذي يجعل تلك الرؤى تبدو منطقية. بعبارة أخرى، لا يمكن التسليم بما هو منطقي، أو ما هو عقلاني، أو ما هو طبيعي، بل لا بد أن نشكِّك فيه ونعارضه. وهذا الشك وهذه المعارضة للمسلَّمات هما تحديدًا قوامُ ما عُرف دائمًا ﺑ «السياسة». وهكذا فمن خلال إعادة النشاط السياسي إلى الدائرة العامة، واسترداد الساحات العامة لتعود ساحات للحرية، والسعي إلى الإجماع بدلًا من البحث عن الأصوات، والتصرف كبشر بدلًا من البقاء على قيد الحياة كحيوانات، يمكننا أن نشرع في التغلب على العدمية «معًا» بدلًا من التكيف الانتحاري معها كلٌّ «بمفرده».