مستقبل العدمية
يُعتبر المستقبل من الموضوعات البارزة في أعمال نيتشه. فكان من أوائل المحاضرات التي ألقاها محاضرة عنونت في عنوانها الفرعي: «عن مستقبل مؤسساتنا التعليمية». ويشير العنوان الفرعي لكتابه «ما وراء الخير والشر» إلى أن الكتاب «مقدمة لفلسفة للمستقبل». كما يحمل الفصل الأخير من كتابه «هذا هو الإنسان» العنوان: «لماذا أنا مصيَّر». وكثيرًا ما أعلن نيتشه أنه يكتب من أجل المستقبل وأن قراءه لم يُولدوا بعدُ.
أرض الأحرار ووطن العدمي
رأينا في الفصول السابقة من هذا الكتاب أن العدمية كانت موجودة في الماضي، وأن العدمية موجودة في الحاضر؛ ومن ثَم لدينا سبب قوي للاعتقاد بأن العدمية ستكون موجودة في المستقبل. كذلك رأينا حججًا متعددة تبيِّن الأسباب وراء «ضرورة» ألا يكون للعدمية وجود في المستقبل، وكلها تشير إلى خطورة أننا كلما ازددنا عدميةً، زاد احتمال ألا يكون لنا مستقبل. لذا فإن السؤال الذي علينا أن نطرحه من منظور نيتشه هو: «ما المُثُل التي لا بد من معارضتها في الحاضر من أجل خلق مستقبل بلا عدمية؟»
اتفقت آرنت مع نيتشه في وجوب معارضة قيمة الحقيقة، وما بعث عليه من ثقة في العلم؛ فقد أفضت هذه الثقة إلى موت السياسة وميلاد القنبلة الذرية. لكن نظرًا لمعارضة نيتشه قيمة التضحية بالنفس، فقد دعته عدميته الإيجابية إلى الترويج لمُثُل مضادة، على غرار الاعتماد على النفس الذي نادى به رالف والدو إمرسون، والتغلب على النفس الذي جاء به داروين. ذهبت آرنت إلى أن مِثل تلك المُثُل الفردية من الممكن أن تؤدي إلى العدمية السلبية المطلوب مقاومتها. قد يكون خوف نيتشه مما اعتبره «غريزة القطيع» هو ما حال دون اعتبار أن تلك القطعان لا تنشأ عن «غرائز» عدمية، بل عن أنظمة عدمية، أنظمة لا يمكن مكافحتها إلا جماعيًّا لكنها تستمر حين يحاول كلٌّ منا التصرف بمفرده.
لذا فإن السؤال الذي علينا أن نطرحه من منظور نيتشه هو: «ما المُثُل التي لا بد من معارضتها في الحاضر من أجل خلق مستقبل بلا عدمية؟»
توضح دي بوفوار هنا أن تعظيم الذات يؤدي إلى تدمير الذات. إن أمريكا أمةٌ ذات نزعة فردية، بل «نزعة فردية شديدة»، حيث يفترض أن يحصل المواطنون على الحياة والحرية الضروريتين لبلوغ السعادة. غير أن ما وجدته دي بوفوار في أمريكا، عوضًا عن السعادة، هو أمةٌ بات أفرادها «في غاية اللامبالاة مع أنهم ليسوا عميانًا أو فاقدين للوعي». كان الأمريكان الذين التقت بهم دي بوفوار قادرين على إدراك أن الفقر والعنصرية والقمع في أمريكا قد جعلت التغيير السياسي بالغَ الضرورة لتحاشي «ميلاد نوع من الفاشية». لكنهم يشعرون بعجز شديد كأفراد أشدَّ من أن يمكِّنهم من إحداث تغيير سياسي، فاستجابوا عوضًا عن ذلك بالتغيير الوحيد الذي بإمكانهم تحقيقه كأفراد، فأصبحوا «بلا إحساس».
إن إشارة دي بوفوار إلى لامبالاة الأمريكيين باعتبارها نتاجَ «سلب أي قوة حقيقية» من الأفراد يوحي بوجود صلة بينها وبين حجة آرنت القائلة بأننا لا بد أن نرى العدمية سياسية لا سيكولوجية. إن ما وصفته دي بوفوار بأنه القوة المسلوبة لأمريكا هو ما وصفته آرنت بأنه الحياة المقفرة العديمة الحياة في الصحراء. والاستجابة إلى الشعور الفردي للمرء بالعجز بحمل نفسه على عدم الشعور بشيء هو الاستجابة لمعاناته من وجوده في الصحراء بالتكيف مع الصحراء.
نحن نسعى إلى التكيف؛ لأن النظام الذي يمجِّد الفردية ويؤيد الاستقلالية باعتبارهما الطريقَ إلى السعادة يؤدي بالأفراد الذين يعيشون في هذا النظام إلى الشعور بأنهم «لا بد» أن يكونوا سعداء. وهكذا يكون أي شعور بالتعاسة علامةً على وجود عيب، لكنه ليس عيبًا في «النظام»، بل في «الفرد». وبذلك تكون الفردية والاستقلالية مدمِّرتين، ما دامتا تؤديان بنا إلى الهوس بالسعادة الشخصية واعتبار تعاستنا شيئًا يفصلنا عن الآخرين، ويجعلنا شاذين، ولا بد من علاجه.
بدلًا من تبيُّن ما إذا كان الآخرون تعساء مثلنا، تدفعنا قيمة السعادة الشخصية إلى الخوف من البوح بتعاستنا للآخرين وادعاء السعادة لتفادي احتمال أن يرانا الآخرون غير طبيعيين. ويترتَّب على هذا الخوف أننا لا نستطيع أن نعرف ما إذا كان الآخرون الذين يبدون سعداء جدًّا وأسوياء تمامًا يتظاهرون هم أيضًا في الواقع. ومن ثَم لا نستطيع أن نعرف ما إذا كان القطيع الذي تبدو عليه السعادة الذي نبَّهَنا نيتشه إلى تجنُّبه قد يكون في الحقيقة مؤلفًا من أفراد تعساء يعيشون في صحراء مثلنا، ومن ثَم فهم أفراد علينا التعاون معهم إذا كان لدينا أيُّ أمل في الهروب من الصحراء. بناءً على ذلك، فإن النظام القائم على الحياة والحرية والبحث عن السعادة من الممكن أن ينتج العدمية بمعاملة قفر الحياة والقمع والتعاسة باعتبارها «مشاعر شخصية»، تدل على مرض الشخص بانعدام القدرة على الشعور بالسعادة، وهو ما يترتَّب عليه الاستجابة لمعاناتنا بالرغبة العدمية في «تغيير أنفسنا» بدلًا من المطالبة السياسية ﺑ «تغيير النظام».
النظام القائم على الحياة والحرية والبحث عن السعادة من الممكن أن ينتِج العدمية بمعاملة قفر الحياة والقمع والتعاسة باعتبارها «مشاعر شخصية»، تدل على مَرض الشخص بانعدام القدرة على الشعور بالسعادة، وهو ما يحفز بداخلنا الرغبة العدمية في «تغيير أنفسنا» بدلًا من المطالبة السياسية ﺑ «تغيير النظام».
التكنولوجيا والعدمية
إذا أردنا خلْق مستقبل بلا عدمية عن طريق معارضة المُثُل الفردية والأنظمة المحفزة للعدمية التي تؤيدها، فلا بد أن ندرك أن تلك الأنظمة ليست سياسية فحسب، بل «تكنولوجية» أيضًا. أو بعبارةٍ أدقَّ، لا بد أن ندرك أن سياستنا تكنولوجية، وأن تكنولوجياتنا سياسية.
إن القول بأن السياسة تكنولوجية ليس كمجرد القول بأننا ننخرط في السياسة من خلال التكنولوجيا. لا ريب أن الأنشطة السياسية بحاجة واضحة إلى التكنولوجيا، كما يحدث حين نستخدم ورقة وقلمًا للتصويت في الانتخابات أو حين نستخدم «تويتر» لتنظيم احتجاج. لكن ما ليس واضحًا بالقدْر ذاته هو كيفية تأثير التكنولوجيا على سياستنا، بل «تشكيلها»، كما يحدث مثلًا حين نسلِّم بأن الخيارات الوحيدة المتاحة لدينا لاتخاذ إجراء سياسي هي الخيارات التي تظهر على شاشة الكمبيوتر.
نحن نسلِّم بتلك الأشياء بديهيًّا؛ لأننا نعتقد أن التكنولوجيا ليس لديها القدرة على التصرف «بمفردها». فإذا قلنا إن التكنولوجيا لديها القدرة على إحداث تغيير بنفسها يبدو مثل القول بأن التكنولوجيا كائن حي. لكن حتى الروبوتات لا تتصرف إلا بناءً على برمجتها، التي أعدَّها البشر. ومن ثَم نميل إلى الاعتقاد بأن من العبث أن نقلق مما يمكن أن تفعله التكنولوجيا بالناس؛ إذ إن ما يجدُر بنا أن نقلق بشأنه هو ما يمكن أن يفعله الناس بالتكنولوجيا.
تلك الرؤية هي ما صارت معروفةً في فلسفة التكنولوجيا باسم الرؤية «النفعية» أو «المحايدة» للتكنولوجيا. وهذه الرؤية هي التي حذَّر هايدجر من أنها أخطر رؤية يمكن اتخاذُها للتكنولوجيا على الإطلاق؛ لأنها الأكثر شيوعًا. كان هايدجر قد أُقصيَ عن المجال الأكاديمي بسبب تعاونه مع النازيين، فحاول إحياءَ سيرته المهنية بإلقاء سلسلة من المحاضرات العامة في ألمانيا في خمسينيات القرن العشرين، وكان أشهرها محاضرة جاءت تحت عنوان «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا».
غير أن هايدجر يشير إلى أنه لو كانت هذه الغايات غاياتنا، فليس ذلك لأننا اخترناها، بل لأننا صرنا متماهين معها. فحين نكون في أحد المطارات، ونبحث تلقائيًّا عن مقعد بجوار مقبس كهربائي، نعتقد أننا إنما نبحث عن أفضل مقعد. لكننا في الحقيقة نبحث عن المكان «الأفضل» لهاتفنا، وجهاز الكمبيوتر المحمول، وأي أجهزة أخرى بتنا نعتقد بلا ريب أنه من «الأفضل» لنا أن تكون في حوزتنا عند السفر. بعبارة أخرى، لا تشكِّل التكنولوجيا رؤيتنا للعالم والكيفية التي نتصرف بها في العالم فحسب، ولكنها تحدِّد أيضًا طريقة تقييمنا للعالم، أي الكيفية التي نحدِّد بها ما هو «أفضل» وما هو «أسوأ».
لقد مكَّنتنا التكنولوجيا من الشعور بالقوة أكثرَ وأكثر، لكن ليس ذلك إلا لعدم إدراكنا أننا حين نختزل الواقع في منطق الوسيلة والغاية، يختزلنا هذا المنطق نحن أنفسنا أكثرَ وأكثر. إننا حين نبحث عن مقبس لتوصيل جهاز بالكهرباء، لا ندرك أننا أنفسنا قد صرنا وسيلةً لغاية، وسيلةً لغاية جهاز. فالجهاز في هذا الموقف حوَّلنا إلى أداةٍ من أجل غايته. وبذلك يصير الأفضل للجهاز هو الأفضل لنا.
دائمًا ما تستلزم الأجهزة أن ننظِّم أنشطتنا حسب ما هو ضروري لاستمرارها في العمل على نحوٍ سليم. بل إننا بتْنا نعطِّل أنشطتنا أكثرَ وأكثرَ حتى نساعد الجهاز على تنفيذ وظائفه. وهي في أغلب الأحيان وظائفُ لم نخترها للجهاز كي يؤديها، ولا نفهمها حتى. فالجهاز يخبرنا أن علينا تنزيل تحديثٍ ما، فننقر على اختيار التنزيل. ويخبرنا الجهاز أن علينا نقر اختيار موافق، فننقر اختيار موافق. يخبرنا الجهاز أن علينا إعادة تشغيل الجهاز، فننقر زرَّ إعادة التشغيل. ويخبرنا الجهاز أن علينا إدخال كلمة مرور جديدة، فندخل كلمة مرور جديدة، ليبادرنا الجهاز عندئذٍ بأنه لم يقبل كلمة المرور التي أدخلناها، وينصحنا بخصوص طريقة إدخال «أفضل» كلمة مرور، فنظل نحاول حتى نحوز موافقةَ الجهاز.
بصيغةٍ أخرى، التكنولوجيا قوية؛ أما نحن فلا. نحن نشعر بأننا أقوياء فقط عندما نوازي بين غاياتنا وغايات التكنولوجيا بحيث نشعر حين نتصرف لخدمة التكنولوجيا كأننا نتصرف لخدمة أنفسنا. لكن المهم لدى هايدجر هنا هو أننا، سواء كنا نتصرف لخدمة التكنولوجيا أو لخدمة أنفسنا، فإننا نظل نتصرف فقط وفقًا لمنطق الترتيب. والعيش وفقًا لمنطق كهذا معناه أن يصير المرء مسلوبَ الآدمية.
ينوِّه إلول إلى أنه لا يمكننا اتخاذُ قرارات حيال التكنولوجيا ما دمنا لا نفهم كيف تعمل. لذا يُجبَر مشرِّعو القوانين على التحول إلى خبراء في التكنولوجيا على نحوٍ متزايد حتى يسنُّوا قوانين خاصة بالتكنولوجيا. لكن لما كانت القوانين المتعلِّقة بالتكنولوجيا ستؤثِّر حتمًا على أولئك الخبراء التكنولوجيين أنفسهم، يشكِّك إلول في احتمال أن يتمكن أولئك الخبراء من تقديم خبرتهم بموضوعية؛ نظرًا لأن أي خطر يمس التكنولوجيا سيمسهم هم أنفسهم.
وهكذا لا يجدُر بنا أن نندهش حين نجد أن القرارات السياسية نادرًا ما تتعارض مع التقدم التكنولوجي، إن حدث أيُّ تعارض أصلًا. ومن ثَم فبإمكان شركاتٍ مثل فيسبوك وجوجل أن تتصرف بطرقٍ تضر بالمستخدمين الأفراد، بل بمجتمعات كاملة. ولكن شركات التكنولوجيا لا تخشى غضبًا من مستخدمين أو مجتمعات؛ إذ صار اعتماد المستخدمين على شركات التكنولوجيا يفوق بكثير اعتمادَ شركات التكنولوجيا على المستخدمين. تستطيع فيسبوك وجوجل استغلالنا — بانتهاك خصوصيتنا مثلًا — لأنها، شأن المستغلين، تعلم أننا لا نملك إلا الرجوع إليها. وغالبًا ما تردُّ فيسبوك وجوجل على الاتهامات بالاستغلال بتحدينا أن نتركهما؛ إذ تعرفان أننا سينتهي بنا الحال دائمًا عائدين لنستزيد من خدماتهما.
لكن الخطر الحقيقي الذي تشكِّله الشركات على شاكلة فيسبوك وجوجل، والذي يحاول هايدجر أن يساعدنا حتى نعيَه، لا يكمن في «انتهاكها» خصوصيتنا، بل في «إعادتها تعريف» معنى «الخصوصية» الذي نعرفه. إن فيسبوك وجوجل — فضلًا عن شركات التكنولوجيا مثل آبل وأمازون وتيندر وتويتر — كلها تدافع عن ممارساتها المهددة للخصوصية بالإشارة ببساطة إلى أنها تعطي المستخدمين ما يريدونه لا أكثر. فإذا كان المستخدمون يريدون تفاعلًا اجتماعيًّا، فلا بد أن تكون التطبيقات والأجهزة قادرةً على مساعدتهم في العثور على آخرين للتواصل معهم، ولا بد أن تكون قادرة على إيجاد مزيد ومزيد من السُّبل للمستخدمين لمشاركة مزيد ومزيد عن حياتهم للآخرين. وإذا كان المستخدمون يريدون الالتقاء بأشخاصٍ آخرين «مناسبين» لهم، والاطلاع على الأحداث والفعاليات «المناسبة»، والعثور على المنتجات «المناسبة»، فلا بد أن تكون التطبيقات والأجهزة على أقصى دراية ممكنة بأنشطة المستخدمين واهتماماتهم.
تفحص التطبيقات والأجهزة المستخدمين، ولا تعاملهم كمصادر طاقة فحسب، بل كمصادر معلومات أيضًا. طالما احتاجت التكنولوجيا إلى الطاقة حتى تؤدي وظائفها، لكن التطبيقات والأجهزة تتطلب مزيدًا ومزيدًا من المعلومات من أجل أداء وظائفها. ولكن حين تدفعنا التكنولوجيا إلى الإفصاح عن مزيد ومزيد من التفاصيل عن حياتنا الخاصة للتكنولوجيا ومن خلال التكنولوجيا، لا نشعر بأن التكنولوجيا قد اختزلتنا إلى وسائلَ لبلوغ «غاياتها»، بل يئول بنا الحال باعتبار أن الإفصاح كغاية طالما كان «غايتنا» من البداية. ومن ثَم فإنه فقط عند خيانة ثقة المستخدمين خيانةً صارخة، فقط عند اكتشاف أن شركات التكنولوجيا كانت تبيع معلومات المستخدمين دون إذنهم، أو عند اكتشاف حدوث اختراق لبيانات المستخدمين، هنا فقط يشعر المستخدمون بالغضب. فالمستخدمون يساقون إلى النظر إلى خيانة الأمانة التي تمارسها شركات التكنولوجيا يوميًّا لا باعتبارها «انتهاكات»، بل باعتبارها الثَّمن الواجب دفعه مقابل «رغبتهم في التفاعل الاجتماعي».
وهكذا صارت التعريفات التقليدية للخصوصية في عِداد البالية، وصار الناس الذين ما زالوا يرغبون في العيش وفقًا للمعنى التقليدي للخصوصية يُعتبرون «انطوائيين». وأن يراك الناس انطوائيًّا في عالمٍ صار المعيار فيه أن تكون اجتماعيًّا معناه أن تُعَد «غير طبيعي». تبرِّر شركات التكنولوجيا ممارساتها بادعاء أنها تقدِّم للمستخدمين ما يريدونه، لكن في العالم التكنولوجي، حيث قد يُنبَذ الناس لعدم استخدامهم التكنولوجيا بالقدْر الكافي، تزداد صعوبةُ تحديدِ ما إذا كان ما يريده المستخدمون يتحدَّد أكثرَ بناءً على «الرغبة» أم «الخوف».
ولكن التكنولوجيا بالطبع هي التي تشكِّل رغباتنا ومخاوفنا، من منظور هايدجر وإلول، وبناءً عليه لا يمكن لشركات التكنولوجيا أن تبرِّر ممارساتها بالإشارة إلى ما يريده المستخدمون بما أن تلك الممارسات هي ما يحدِّد ما يريده المستخدمون. فوجود التكنولوجيا في كل شيء جعل من المستحيل أن يكون لنا منظورٌ للتكنولوجيا يخلو من تأثير التكنولوجيا. ولكن ما دمنا لا نستطيع الإفلاتَ من تأثير التكنولوجيا، فلا يمكن أن نكوِّن أحكامًا مستقلة بخصوص التكنولوجيا. وما دمنا نعيش في عالمٍ تكنولوجي، فهذا يعني بالتبعية أنه ليس بوسعنا تكوينُ أحكام مستقلة بشأن العالم الذي نعيش فيه. فالتقدم التكنولوجي يجعلنا نشعر بمزيد ومزيد من القوة، لكنَّ هذا التقدم يزيدنا عجزًا أكثرَ وأكثر على المستوى السياسي.
إذا نظرنا إلى الأمر من منظور نيتشه، فسنجد أنفسنا في عالم تكنولوجي؛ لأن حاجتنا العدمية لتحاشي الشعور بالوحدة، وتحاشي الشعور بالعجز، وتحاشي الشعور بمشاعرَ تقودنا إلى التماس سبلٍ جديدة لتحاشي الشعور بأننا «بشر». وبذلك نكون قد انتقلنا من الهروب من الواقع باستخدام الخيال لدخول عوالمَ مثل الجنة والجحيم، إلى الهروب من الواقع باستخدام الأفلام وألعاب الفيديو لدخول عوالمِ هوجورتس وهيرول. لكن إذا نظرنا إلى الأمر من منظور آرنت، نجد أنفسنا في عالم تكنولوجي لا لأن البشر عدميون وفي بحثٍ دائم عن أشكال جديدة للهروب، ولكن لأن الأنظمة السياسية التي تَعِد بالسعادة الفردية وتنتِج بدلًا منها معاناةً فردية تدفعنا إلى الشعور بأننا مسئولون مسئوليةً فردية عن معاناتنا. وهكذا انتقلنا من اللجوء إلى العلاجات النفسية من عقاقير وجلسات علاجية لتعيننا على التأقلم على حياة الصحراء المقفِرة إلى اللجوء للعلاجات التكنولوجية على غرار نتفليكس وفيتبيت لتعيننا على التأقلم مع الحياة المقفِرة في العالم التكنولوجي.
بعبارة أخرى، سواء من منظور نيتشه أو آرنت، لن يكون السؤال عما إذا كان التقدم التكنولوجي قد زاد من تنامي العدمية أم أعاقها. وسيكون السؤال الوحيد الأجدر بالطرح هو كيف صرنا نساوي بين التقدم التكنولوجي والتقدم البشري، وكيف يمكننا أن نمنع هذه المعادلةَ من الاستمرار في إعماء أعيننا عن الطبيعة العدمية للتقدم التكنولوجي.
مقاومة العدمية بالعدمية
إذا كنا نبحث عن طريقةٍ جديدة تمكِّننا من تدمير قيم الماضي والحاضر الرافضة للحياة حتى يمكننا بناءُ مستقبل قائم على قيمٍ جديدة تعزِّز معنى الحياة، فسيبدو عندئذٍ أن التكنولوجيا لديها الإمكانيات التدميرية والخلَّاقة الضرورية لتحقيق تلك الأهداف. لكننا رأينا في الجزء السابق أن التكنولوجيا تُنتِج عدميةً سلبية بدرجة كبيرة بدلًا من أن تُنتِج عدميةً إيجابية. المفارقة أن المشكلة تبدو أن التكنولوجيا ليست «ثورية» كما تدعي شركات التكنولوجيا.
من المؤكد أن التكنولوجيا لها خطورتها، كما أوضح هايدجر وإلول، غير أن خطرها تبلور في شكلِ إعادة تعريف قيَمنا، وليس تدميرها. لقد خلق التقدم التكنولوجي عالمًا تكنولوجيًّا، لكن هذا العالم الجديد لا يزال محتفظًا بقيمٍ قديمة؛ وإذا كنا نريد بناءَ مستقبل قائم على قيم جديدة، وما دمنا لا نستطيع تخيُّل مستقبل بلا طابع غير تكنولوجي، فإننا إما بحاجة إلى تغييرِ ما نتخيَّله ممكنًا، وإما بحاجة إلى تغيير طبيعة التقدم التكنولوجي.
من منظور الأخلاق والسياسة، لم يكن التقدم التكنولوجي ثوريًّا، بل كان «رجعيًّا» إلى أقصى حد. فما فتئت التكنولوجيا تتداخل مع قدرتنا على عيش حياة مستقلة؛ لنكون قادرين على التفكير بعقلانية، وقادرين على اتخاذ قرارات استنادًا إلى ما نعلم أنه صحيح بدلًا من الاستناد إلى ما يُقدَّم لنا باعتباره صحيحًا. ولكن شركات التكنولوجيا التي تبتكر هذه التقنيات لا تعطي مبرِّرات لتدخلها بما تروِّج له من قيم جديدة، ومحاولة استبدالها بالقيم الإنسانية للاستقلال والعقلانية والحقيقة التي تعود إلى عصر التنوير على أقل تقدير. بدلًا من ذلك تنكر شركات التكنولوجيا أن يكون أيُّ تدخل متعمَّدًا، وتجادل بأن ما يراه المنتقِدون تدخلًا متعمدًا ليس سوى محاولتها لابتكار أدوات يمكن استخدامها للحفاظ على القيم الإنسانية بمساعدتنا على أن نصير أكثرَ استقلالية وعقلانية ووعيًا بالحقيقة.
غير أن زوكربيرج لم يشعر أنه بحاجة إلى تعريف المقصود ﺑ «الصالح». وهذا الإغفال إنما يشير إلى رغبة في التسليم بالقيَم التقليدية بدلًا من إنشاء قيم جديدة. قد يكون فيسبوك أسهم في تدمير وسائلنا التقليدية لممارسة الديمقراطية — فالمرشَّحون الآن يقيمون ساحات سياسية افتراضية، والمواطنون الآن يتناقشون معًا من خلال منشورات «فيسبوك» بدلًا من الاجتماعات — إلا أن القيم التقليدية مثل قيمة ممارسة الديمقراطية بقيَت بلا مساس. لا شك أن «فيسبوك» تورَّط في مشكلات طائلة كان أغلبها لأنه يوفر العديد والعديد من الوسائل الجديدة لممارسة الديمقراطية.
وكما يشير إلول، إذا كان خبراء التكنولوجيا أمثال زوكربيرج لديهم السلطة اللازمة لإقامة دول تكنولوجية، فلا ينبغي أن نفترض بناءً على ذلك أنهم يريدون استخدامَ تلك السلطة لتحقيق أي أغراض أخلاقية أو سياسية في مقابل الأغراض الاقتصادية المحضة. إن الدول التكنولوجية، كما يراها إلول، هي محض بيروقراطيات معزَّزة تكنولوجيًّا وليست تكنوقراطيات؛ لأن خبراء التكنولوجيا القادرين على الحكم ليس لديهم رغبة في الحكم. لذا فإن خبراء التكنولوجيا يسهِمون في بناء دول لا سياسية في المقام الأول، دول همُّها الوحيد الحفاظ على الوضع الراهن، الحفاظ على غايات الدولة دون تغيير، حيث الشيء الوحيد الذي يتغيَّر هو الوسائل المتاحة لتحقيق تلك الغايات.
وهذا المنهج في صنع القرارات نافذ؛ لأنه ينشئ هالةً من «الموضوعية» شبه منيعة. فالتفكير العلمي يتيح للبيروقراطيين ردَّ اتهامات التحيز والتحامل ببساطة بالاحتجاج بأن الأرقام لا تنحاز، والرياضيات لا تتحامل. بل إن الاستدلال الإحصائي يجعل العنصريةَ والتحيز الجنسي يبدوان كأنهما نتاج تميُّز «طبيعي» لا نتاج تميُّز «سياسي». ولكن ما دام البشر هم القائمون على إنشاء النماذج الإحصائية والاستدلال العلمي، فسيظل المنتقدون قادرين دائمًا على دحض ادعاءات البيروقراطيين بالإشارة إلى أن المقاييس قد تكون محايدة، لكن البشر الذين يحدِّدون ما يجب قياسه ليسوا محايدين.
وهكذا فإن عبارة حكم لا أحد من الممكن أن تصير واقعًا حرفيًّا في الدولة التكنولوجية. فمن الممكن لإنشاء النماذج الإحصائية الذي تؤديه الخوارزميات أن يحوِّل البشرَ إلى مجرد مجموعات من البيانات، ومن الممكن للاستدلال العلمي الذي يؤدي بنا إلى الثقة في الخوارزميات أن يختزل السياسةَ في تحليل للربح مقابل التكلفة. لكن ما يجدُر بنا إدراكه هنا مجددًا هو أن هذا الاختزال للبشر والسياسة ليس مشروعًا تكنولوجيًّا جديدًا؛ إنما مجرد تتويج لمشروع التنوير، لمشروع إنشاء علم للبشرية. ومن ثَم فحتى القيمة التي ننسبها إلى شيء مستقبلي مثل الذكاء الاصطناعي لا ينبغي اعتبارها قيمةً جديدة، بل قيمة قديمة جدًّا في شكل جديد متألق.
لكن نظرًا لأن التقدم التكنولوجي ليس ثوريًّا بحق كما يدَّعي رواد شركات التكنولوجيا، فهذا هو تحديدًا السببُ في أن التكنولوجيا يمكن أن تساعدنا في القضاء على العدمية. إن جوهر التكنولوجيا هو كشفها عن حقيقة الأشياء، كما زعم هايدجر. فإذا كانت التكنولوجيا لا تساعدنا في إنشاء قيم جديدة، بل بالأحرى تسير وفقًا للقيم القديمة، فمن الممكن أن تسهِم العدمية الناشئة عن التكنولوجيا في الكشف عن الطبيعة العدمية لهذه القيم. نحن نعيش في عالَم تكنولوجي، عالَم تحقَّقت فيه أحلام عصر التنوير. ونحن إذ نرى هذا العالَم يصير عدميًّا أكثرَ وأكثر، يتكشف لنا أن هذه الأحلام هي في الواقع كوابيس، كوابيس علينا أن نستيقظ منها قبل فوات الأوان.
الحكم عن طريق بيروقراطيين غير بشريين — المعروفين أيضًا بالخوارزميات — يمكن أن يجعل المواطنين يشعرون أنهم بمأمن من التحيُّز والتحامل، ومن الممكن أن يجعل القادة السياسيين يشعرون أنهم بمأمن من «الاتهام» بالتحيُّز والتحامل.