تمهيد
من المحتمل أن يُثير البناء الغريب للقصص الأربع الأولى في هذه المجموعة استغرابَ القارئ والناقد على حدٍّ سواء، بل ربما استدعى بعض التوضيح الذي سأشرع في تقديمه.
في «القصص البوليسية» التقليدية، ينصبُّ الاهتمام على السؤال الدائم: «من الفاعل؟» وتظل هوية المجرم سرًّا مصونًا لا ينكشف إلا في السطور الأخيرة من الكتاب، ليمثِّلَ الكشفُ عن السر الذروةَ النهائية للأحداث.
لطالما رأيتُ هذا النسق خاطئًا نوعًا ما. ففي الواقع الفعلي، تُعدُّ هويةُ المجرم مسألةً ذات أهمية قصوى لأسباب عملية، أما في الخيال، حيث تنعدم تلك الأسبابُ العملية، أرى أن اهتمام القارئ ينصبُّ بالأساس على عرض ما يترتب على الأفعال البسيطة من عواقب غير متوقعة، وعلى الروابط السببية التي لا تخطر ببال، وتطور سلسلة منظمة من الأدلة المستندة إلى عدد من الحقائق تبدو ظاهريًّا بلا ترابط أو صلة من أيِّ نوع. إن سؤال «من الفاعل؟» لا يُثير فضول القارئ بقدر ما يُثيره سؤال «كيف اكتُشفت الحقيقة؟» بمعنًى آخر، يهتم القارئ الحصيف بالأفعال الوسيطة أكثر من اهتمامه بالنتيجة النهائية.
عرَض مؤلف معروف لإحدى «القصص البوليسية» جائزة للقارئ الذي سيتمكن من تحديد هوية المجرم في قصته، مخالفًا بهذا العرض الرأيَ الذي استقر في ذهني، فأثار ذلك لديَّ سؤالًا مثيرًا:
هل من الممكن كتابة قصة بوليسية يعهد فيها المؤلف بسرِّه للقارئ منذ البداية، فيكون القارئ شاهدًا فعليًّا على الجريمة، ويكون في متناوله كلُّ الحقائق التي يمكن الاستعانة بها في اكتشافها؟ هل سيترك ذلك للقاصِّ قصةً ليرويَها لقارئ في متناوله كلُّ الحقائق؟ أعتقد أن الإجابة هي نعم؛ وعلى سبيل التجربة، بهدف اختبار صحة اعتقادي، كتبت قصة «قضية أوسكار برودسكي»، وفيها تنعكس الظروفُ المعتادة؛ فالقارئ يعرف كلَّ شيء، والمحقق لا يعرف أيَّ شيء، وينصب التركيز على الدلالة غير المتوقعة لملابسات عادية تمامًا.
بعد اطلاع محكَّمين بارزين من أمريكا وأوروبا على القصة — ومنهم محرر مجلة بيرسونز — لاقت القصةُ من الاستحسان ما جعل البعضَ يدعوني لكتابة قصص أخرى على النسق نفسه.
كتبتُ ثلاث قصص أخرى، أضعها بين دفتي هذا الكتاب، بالإضافة إلى قصة كُتبت بالنسق المعتاد، ليتسنَّى للقارئ المقارنةُ بين مميزات أسلوبَي السرد والحكم عليهما.
سيلاحظ القارئ ذو الدراية بشئون الملاحة البحرية أنني قد افترضتُ وجود منارة من النوع الذي تُدق أعمدته الحاملة في قاع النهر في جيردلر ساند بدلًا من السفينة المضيئة التي تُستخدم كمنارة (وهذا لأسباب واضحة متعلقة بقانون التشهير). وقد حرصتُ على التنويه بذلك درءًا للانتقادات ولأوفِّر على القارئ عناء الكتابة إليَّ لتنبيهي لهذه الملاحظة باعتبارها خطأ.