خزعل الماجدي في «عكازة رامبو»
نعيم عبد مهلهل
«أسمع من بعيد أمه تتكلم معه:
آرثر حبيبي … خذ هذا الصليب وتيمم به … خذ الوردة العذراء وشمَّها … خذ القدح وتنفَّس به … خذ منديلي وإياك أن تنسى هيمان الذهب الذي تحت سريرك، إياك أن تنسى حصتي في وصيتك.»
برقة الإحساس … ضيعت عمري.
الحكمة في الشعر أنه القادر الوحيد على إمساك البوصلة، وأن الاتجاهات التي نراها في الحياة هي وليد اللحظة الشعرية، هذا ما يؤكده غوص أي منا في جوف التاريخ وليشاهد، أن إغواءات الشعر هي التي صنعت الموسيقى، والموسيقى هي التي حركت أجفان آلهة سومر لتخط بأنامل الذهب شكل الحرف، ومن يومها بدأت الحضارة تسير على قدميها بعدما كانت تمشي متكئة على عكاز الإشارة. والشعر مصنوع بدالة الإيحاء، وهو قدرية مصنوعة من زمن لا يُحسب، إنما يولد من أجل غير مرئي؛ لذلك فأغلب القصائد لا تأتي بلحظاتها، إنما من مخاض تتفاعل فيه المواقف وصراعات القلم والورقة: «ومتى تولد القصيدة، ينطفئ نيون الغرفة ليبدأ ضوء آخر.» هذا وصف لأندريه برتون، يحتكم الشعر إلى فكرة التخيل، وقدسيته مرهونة بغايته الروحية، وهو واحد من المشاعر الجادة التي نرى فيها الوجود على حقيقته، ومن هذه الخاصية أخذ المتصوفة فكرة الاشتغال لديهم، وسبحوا كما الوزة في مياه التشفي وقراءة القصيدة، لعلهم يكسبون رضى الكامن فيهم، لهذا كانت كل المدونات الشفاهية للمتصوفة يتلوها الشعر على مجالس الجالسين، فلا يعرف من يغيب عن الوعي أولًا: المتصوف، أم سامعه؟!
أضع تلك المقدمة نافذة ملائمة لرؤاي عن عمل شعري نشر في تسعينيات القرن الماضي بكتاب عن دار «الأمد»، وقبله كان الشاعر «أدونيس» قد نشره في مجلة مواقف. العمل الشعري هو: «عكازة رامبو» للشاعر العراقي خزعل الماجدي.
النص بدأه مجهزًا بتصوير يهيئ لحال صاحب المدونة، الشاعر هنا يضع وجوده أمام فجائية الحدث الذي هو صنيعة أزمنة لا تفترض لذهنيتها أبدًا أن ترتبط بالجمال، إنما الأمر مجرد وقيعة الحدث السياسي، أي أن الشعر يكتب تحت ظل الدولة، ويقرأ في مؤسساتها، ويطبع في مطابعها، إذن النص كان حديثًا عن مرئية الفجيعة واليأس وشيء من الأسف؛ لأن الشاعر قد انحنى بقبعته لهذا الوجود ليس وحده بل الجميع في مرحلة ما، لأن الجميع كان يعيش في ظل الدولة منذ هوامش ساطع الحصري على دستور دولة العراق الحديثة وحتى هذه اللحظة؛ لهذا فالنص هنا يتمثل كصوت آخر أراد به الشاعر أن يكشف ماهية ما يحس به ويريد أن يقوله، فكانت «عكازة رامبو» هي: دكة الاتكاء وصانعة الفهم لرؤى الروح التي تحدث بها خزعل الماجدي إلينا.
النص، إذن، في شكله العميق بناء جديد لتفكير الشعر في بعد إحساسه بأجل القرن الجديد، وربما أجل الدولة التي هي كغيرها؛ إما صنيعة مندوب سامٍ أو صنيعة الانقلاب، وأظن أن حماس أدونيس لنشرها بُني على جزء من إعجابه بفكرة حداثة مثل هذه الرؤى المصنوعة من خيارات الشعراء القابعين في عزلة التفكر والتذكر وشيء من عسر المخاض. لهذا أتى القصد هنا مشبعًا بالرموز والتماثيل الحية والمشاهدات، وفيه بعض ألم القلب والسياحة الذاهبة إلى المجهول في مغامرة لا تُشبه عنف المغامرة الرامبوية، لكن الأمر عند خزعل أخذ الزاوية من قناعة أن هذا الرمز يحفظ جلد الشاعر من السلخ:
لم تكن هذه التقديمات سوى بوابة لفهم المراد، وأظن أن الشعر في قدرته على تفسير نفسه يسعى إلى إظهار جزءٍ من هيبة تخيل الحدث الصانع لتلك اللحظة التي نبتكرها ونقول إنها قصيدة. فالمعاناة من أمر ما، أظهر الغرض، وأن الأمر يحتاج إلى حداثة في إظهار هذا القلق، يحتاج إلى مهارة، إلى صائغ يعتني بجمال الذهن ليرينا حلم الشعور للتخلص من وخزة ما. وكان الشاعر يدفع بذهنية الشعر إلى تخيل المأساة وما يجري من خلال رؤيا الخراب وهذا الهدم، فلجأ إلى العوق والرمز، واتخذ من تلك الذات الجرمانية التي يلفُّها الغموض والإباحية شكلًا مقاربًا للدافع الذاتي المتمثل في نظرة الشاعر إلى ما يحدث في هذا العالم «ويقصد وطنه»، ثمة إباحية، وثمة عنف، اتجاه الرقة المستلبة والغائبة في تناولات الحديث الفج في المقهى أو البار، أو في سرير الزوجية وغرفة الوظيفة … كان يباب الأمكنة موجود، وعدمية الأزمنة موجودة، لهذا اختار الشاعر عكازًا لبحر يفترضه وتجارة، آملًا بها الوصول إلى الحلم الرامبوي، وهو برغبته تلك يريد أن يأخذ معه من هم بدرجة وعي الشعر، أو من هم بدرجة الحلم ليكونوا شعراء؛ أو من أولئك الذين يشفق عليهم، وبعضهم مدون اسمه في القصيدة، وهذا في تقديري أحد عيوب النص.
يبدأ الاستهلال في قصيدة الشاعر العراقي: «خزعل الماجدي / عكازة رامبو» بشيء من التحضير لصناعة معزوفة، هناك إيقاع حدث ستتصاعد انفعالاته، هناك التحضير لاغتراب وسفر … هناك نص مفتوح لا نهايات له سوى أنه يضع نبوءة التفاسير تحت أجفاننا، وما نقوله بأي شكل: هو ما يقصده النص. وكلما ذهبت مع النص بعيدًا زاد عليك الغموض … وغطت جزمتك في أوحال أسمرة، وتشابكت عليك أغصان الغابات الأفريقية وهي ذاتها: نهارات عدن الرطبة، ذباب ميناء مصوع، لُزوجة الأمطار الاستوائية: هي ذاتها أيام بغداد بعد الهزيمة الثانية في حفر الباطن.
إذن كان المرئي في شعور القصيدة يتأرجح مع قصدية الرمز، وأن التأويل متروك لذهن القارئ، وما أقوله أنا الآن هو ما قلته أمس عن القصيدة، الفرق: في الأمس عند السماع الأول والقراءة في الكتيب الصغير لدار الأمد عام ١٩٩٣م كان الخوف من وضع النقاط على الحروف قد يقود إلى اليتم، أو حتى الذين يقرءون التأويل يستهجنون، بفضل التطهير العرقي للدمعة. لهذا كانت أغلب الرؤى النقدية لمثل تلك الأعمال شفاهية، وعندما تقودنا شجاعتنا للتحدث عنها، فالحديث يكون في فضاء الثمالة وبين الثقات.
(الآن سيكتب بعكازته كتابه الثامن الكبير وسيسميه معنا: عكازة رامبو.)
الرؤى التي تقدمت الكتاب هي استعراض لسيرة التيه التي مر بها رامبو، ولكن الشاعر خزعل الماجدي وظَّفه لما يريد أن يجعله فهمًا لقضية، وربما أراد به صناعة نصٍّ تكون لحداثته ريادة أن يأخذ الفهم المحلي إلى عالمية الذائقة والثقافة، واختيار التيه والألم الرامبوي لم يأت بمزاجية، أو خيال موجة تعم عالم الثقافة، إن الأمر هنا في تصوير متاهة الشاعر الفرنسي استهلال لمتاهة الشاعر نفسه، وهذا يخلصنا من جعل عكازاتنا موروثة من خيالات الصحراء ومفاعيل الخليل وأوزانه العصامية، فالقرن العشرون سينتهي بعد سنوات قلائل، ولا بد من موجة تركب مركب التغير حتى لو كان هذا المركب سكران؛ لأن الجديد في وعي الشخصية الكونية هو اليوم قابع في «شارلفيل»، وعلينا أن نصنع محليتنا ووطنيتنا في مقاربة لهذه الكونية عن طرق اشتغالات لها خصوصية المكان والزمان الذي فيه نحن، ولكن بالشكل المتطور، ولأن رامبو مر على وعي الشعر لديه مئات السنين، إلا أن قدرته الروحية وتأثيراته الاجتماعية والحسية والجمالية ظهرت للتو في العالم الرأسمالي، وحتى في المناطق التي بترت فيها ساقه، ومارس محرمات الجسد والتهريب والانكفاء في مؤخرة السفينة. لقد كان آرثر رامبو، رغم صغر سنه، يمثل وعي الحضارة في روحانيتها القادمة، وكان إلهام العبقرية لديه وملكة الرائي القادم يأتيان من وحي ملاكين في جسده الناعم الأحمر؛ الملاك الرائي المتدين، وهي ربما روح والدته، والملاك المتمرد الآخر وهو ربما روح صديقه الذي يكبره بعشرات السنين «بول فرلين».
لهذا كان على خزعل، في نصه المفتوح، أن يعرج على تلك التفاصيل الحياتية وسياحتها العجيبة وفق ما يتخيله هو في استعاناته للإثباتات التاريخية، أتت من كُتاب السيرة والنقاد ودارسي الظاهرة الرامبوية، وهم بالعشرات … وكان النص في تخيله لهذا الوجود، رغم تشابه الأمكنة والأزمنة، إلا أن رؤى الشعر عند خزعل تبحث عن تاريخية للحس المشابه، الحس المقارن وهو بذلك يبتعد كثيرًا عن تفاسير من درسوه، أمثال «أرشيبالد مكاليش» في الشعر والتجربة، و«س. إم. بورا» في «التجربة الخلاقة»، و«غايتان بيكون» في «الشعر الفرنسي»، و«هوجو فريدرشك» في كتابه «بناء الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر». وكتب كثيرة أخرى، ومنها لكتاب عرب أضاءوا ببعض ترجماتهم الجميلة لشعر رامبو شيئًا من محطات حياته، وأعتقد أن الشاعر قد قرأ جميع هذه الكتب، بل وصنفها وهو يعلن تأثره بتلك العبقرية البدائية التي ملكها بإيحاء غريب وشاعرية فذة، ثم غادرها بظروف لا تفسر ليتحول رامبو إلى كائن أشبه بحجر مرمي في زاوية كنيسة مهجورة … ولكن الرائي في «عكازة رامبو» اشتغل على العصر الذهبي للشاعر في محاولة منه لخلق نصٍّ لا نهاية له، نص بتفسيرات سائبة، وافتراضات لا تنتهي مع تجربة ذاتية أو زمنية يفترضها الشاعر لتراثه، إنه هنا، أي خزعل الماجدي، يأخذ مقولة «سلفادور دالي» التالية بعين الاعتبار: غرابة اللوحة تعطيك معاناتك الحقيقية، وأنت تنظر إليها رغم أنك لست الذي رسمها.
هذا ينطبق، تمامًا، على رؤية خزعل للشخصية الرامبوية وصلة النص بتلك الحداثة المفتوحة على أكثر من موهبة لتفسر ما الذي اكتمل في ذهن الشاعر، وجعل من هذا العكاز نصًّا يقودنا إلى تقابلات لا تنتهي، مع أمكنة نرتادها، وصحاب نشرب معهم الثمالة، ونساء نتعلم على أسرَّتهن أسرار اللهاث.
يعطينا وصف الرحلة الذي اعتنى خزعل في سكب شاعريته، ببعض من تمكن البناء لجملة الشعر وجدية وصفيتها، وخيارات اللفظ المقارب لمحطات سني الشاعر؛ يعطينا الإحساس بأن تلك الإطالة في استعادة عذابات الشاعر إنما هي قصد لتأكيد ما يريده النص، أي أنه في اشتغاله المفتوح، وتفاسيره المتعددة أراد أن يقف على حقيقة الفهم، ومدى استيعاب ثقافتنا للجديد، وأن اختيار هذا الرمز له دلالات تهم فعل الشخصية في العالم بعد صمته وموته. وأن الذي سيحدث على مستوى الوجود الثقافي والوطني ستدون بعض ملامحه هذه العكاز مستفيدة على ما ملكه الشاعر من قدرة على صناعة الرؤى، بعد ارتداء قناع صبي الحس، وبذلك يكون خزعل قد تخلص من تأويلات الفهم الذي يقودنا إلى قول: لماذا هذا الإصرار على التجربة الغربية؟ وبعضهم يقول لماذا السير بعكاز شاعر شاذ؟ آخر يهتف: إنه لم يفهم شيئًا؟ البعض يطلب تفسيرًا أو قراءة أخرى، لكن المدرك للمغزى يفهم.
كان لرامبو عصر من تخيل لعصور أتت، وكأنه «صاحب النبوءة».
الشاعر خزعل الماجدي أراد في روح العمل أن يثبت هذا وقد نجح، وفي هذا النص المجتزأ من مدونة خزعل، فهم لكل ما تحدثنا في أعلاه:
«من هنا مر جان نيقولا، انظري أيتها الغبية يحمل على طرف عصاه التي علقها على كتفه، الحقول وصرة ملابسه، خرائطه وخبزه … يشم رائحة الأشجار ويتلذذ بالذهب …
كانت سجلاته إسطبلًا للمطر، ورغم انتفاخ ركبتيه وترطب أوهامه بالحشيش وبالتبن، فقد غطَّس عن عمدٍ كتبه في البحر ومضى إلى الغابات … كفى ماءً
انظري … خلف خمسين ميلًا من «دبري زيت» يلوح لي.»
لقد عمد الشاعر أن يجعل روحه كاملةً مع الشاعر في رحلته، وكأنه ابتدأ الرحلة معه من مرسيليا حتى عدن، وسارا على أقدامهما في الغابات الموحلة بلزوجة المطر الوحشي.
كان النص الجديد يمشي من الفكرة القديمة، وكانت روحانية الزمنين تشتغلان تحت تأثير جذب قطب واحد، حتى أحس الشاعر خزعل كأنه جزء من الهم المتكبر والعنيد الذي ملكه رامبو في مفارقة عجيبة من إحساسه الطفولي يوم كانت دروس أستاذه في «شارلفيل» تعطيه وعيًا غيبيًّا بأنه ربما ذات يوم سيتحول إلى «ملاك»، ولكن حدث العكس، ورغم هذا، ثمة رؤى جديدة، ربما أعمق، وأكثر دهشة من تلك الرغبة التي لو تحققت وتحول بها الشاعر إلى ملاك. لهذا لم يكن خزعل الماجدي في: «عكازة رامبو» مرتديًا ثوب الشاعر الجرماني، بل كان مرتديًا روحه وظله، وكان يشاركه كل طقوس رحلة المغامر:
«يدي في حقيبته … وخطواتي تلاحق أقدامه … أخذ رامبو الحطب والحبوب واللبن، وأعطى لهن المناديل والعقود والأقراط … صفقن له «ولي» وأثداؤهن ارتعشت.»
هذه التداخلات تكشف للنص وجهًا آخر، روحه تشع بما تريد أن تقول وهو قول يأخذ من ظل الشاعر شمسه وسطوع الغرض، لقد أراد الشاعر أن يذهب بنا إلى مخيلة أخرى غير التي نجدها في قصائد رامبو، فالجديد هنا أننا قد وقعنا تحت سحر مخادعة القناع، لأننا لم نجد رامبو الذي نعرف، بل وجدنا خزعلًا الذي نقرأ فكرته التي أراد بها أن يمسرح الواقع ويظهره بالخفي الذي فيه، فكان أن سيَّس سيرة الشاعر وجعلها عنوانًا لغرض ما، فالنص معبأ بالقصد، وهو عند نشره أول مرة بعد المطالعة المتأنية كان يمكن أن تكون له مفاتيح تُبعد عن العارف شبح التوهم، أكثر الذين قرءوه كانوا هائمين في تفسير البناء، وأن النص المفتوح يضع المخيلة أمام افتراضات لا حصر لها. والحقيقة، أن النص كان موجهًا بفعل المعاناة، ولأن معاناته حقيقة وليست مستهلكة وميالة إلى بهرجة الصورة والجملة، فقد خضع لتصور محدود بفعل الخوف من تأويلات الفهم، ولهذا قالوا عن النص: إنه رؤى مفتوحة على الأزمنة القادمة، وهي تربط الأمس باليوم، أما الغد فقد أراد الشاعر أن يترك تفسيراته لنا، وكانوا في وهم، كان النص يقرأ الغد أكثر من قراءته الآنية والماضية، كان رمز رامبو ليس تخليصًا من حدة التساؤل، بسبب ارتباط الشاعر بمشاعر الجسد، بل كان بفعل تجربته الخاصة التي احتكمت إلى رؤية ذات مساحة استشراقية، لأن رامبو كان رائيًا من الدرجة الممتازة:
«كان يرى في الفجر شعبًا من الحمام، وكان يداعب بعكازته الشمس وهي تظهر فوق الأفق، عود بين شفتيه وشاربيه …»
يضع النص عبر ما ورد أعلاه في خيالات من فجائية المكان، وما هذا الوصف الدقيق للمرئيات المكانية التي مارس عليها رامبو جزءًا مهمًّا من حياته إلا تأكيد على أن الشاعر كان في الدائرة التي يحس فيها أنها كانت في يوم ما نقطة العالم، حيث درج رامبو هنا على ممارسة غوايته وخداع شيوخ القبائل البدائية بشراء بضاعته، بنادق، خشخاش، أساور من معدن، ملابس حريرية، إيماءات فاضحة. لقد كان الشاعر يعيش عالمًا هو جزء من نمط مثَّل لديه خيارًا لهروب من نزاعات روحية وجسمانية مر بها جراء التيه الفاضح الذي ملكه بالغريزة، ولهذا حين وجد الشاعر خزعل الماجدي المكان، وتفاجأ بظل شجرة الصمغ الذي يحتسي تحته الآن ذات القنينة التي كان رامبو يحتسي منها وهو يتجول بين قرى مدينة هرر في إثيوبيا حيث هيمن المكان على خزعل، وبفضل قدرة الشعر لديه، ولد العكاز، وربما كان من مسودات رامبو الأولى ورق مبعثر، تسكنه جمل غائبة عن وعيها، تخطيطات لا تنتهي لقصائد ملوثة بسرعة التأثر، وفضائح مستعجلة.
كان للمكان الذي أرتنا إياها مشاعر الوصف تأثير سحري، ويبدو أن الشاعرين عاشا لزمن في هرر، ولأن خزعل في جعبته ثقافة رامبو ومحطات سيرته الذاتية وكوامن عالمه، ولأن في بنائه الطبيعي يظل متمثلًا في ذات الذائقة رغم تبدل الأزمنة افترض الشعر عند الماجدي مسيرة على عكاز، وكان كما هي أحاسيس النص ثمة تداخل جسدي وروحي بالمكان والتذكر والفجائية التي صاحبت الشاعر المعاصر وهو يسمع من سكان المنطقة: أن الأسطورة آرثر رامبو كان يعيش هنا!
«سأترككِ هذه الليلة تُحصين ملابسك التي اشتريتيها من أسواق أديس، سأتلصص على ليلة رامبو، أقترب من بيته وأقف خلف الشباك،
ما زال ساهرًا …
يكتب الشعر أم الرسائل، أقرأ الكتب التي تحيط به
أي عقاب لشاعر؟! أي مقاصل تلعب برقابه؟!
يخنق عرائس الدمى، ويتحلَّى بكحلةٍ وطيوب.»
لقد عاش المكان في جسد صاحب العكاز، تملكته أنطولوجيا الشعر القديمة بكل حيواتها التي أدركت فصول الترحال برغبة التمرد، وكأن العكاز قد اتكأ على محنة جديدة، ولكنها أثمرت نصًّا مفتوحًا، وهذا النص الذي صنع ببهجة العيش في المكان الواحد، فتح لخياله البصري والذهني سموات لا تنتهي من الكشف، وعلى حد قول لديوجين وهو يطفئ شمعة الظهيرة حتى لا يراه الناس: أفتح بصيرتي على ذهني، كي أرى ما في روحي من ألم.
وبذات المعنى حول الذهنية الواسعة، ويقابلها هنا: النص المفتوح «عكازة رامبو» يقول أحد المتصوفة البغداديين: «خزعل أيضًا شاعر بغدادي قادته ظروف وظيفته أن يكون في إثيوبيا، وفي هرر بالذات لعدة أشهر.» يقول هذا المتصوف: «ما أدركت خاصية الوعي في قحفتي، إلا حين فتحت الذهن والقرطاس معًا، وجعلتهما يسجدان إلى مكاني هذا ولحظتي التي لا أراها إلا بوجودك يا صاحبي.» هذا كلام مدهش يعتني بالمفتوح، كنقطة «لسعة التأمل»، والنفري يقول: «تأملت روحي، ففتحت الأبواب، مساحة السموات التي تأوي المنى.» ولم يقل: فتحت السموات الأبواب، عندها يموت فهم العبارة، ولا نفهم من هذا النص المفتوح ما نتمناه.
هكذا تعامل خزعل مع الهاجس وتأثيراته، وكذا سيذهب معنا في سياحة النص إلى حيث لا يدري ولا ندري نحن أيضًا؛ حيث يبدأ لقاءه برامبو منذ هذا المشهد وفي ذات المكان، في: دبري زيت، في إقليم هرر في إثيوبيا:
«ضحكت منظفة الغرفة مساءً، على بعد أمتار من الباب، كان ضحكها ينتفخ ويتفكك وتسقط منه فراشات صفر وأنا أمسك نفسي بالخمر، وأتحاور مع جان نيقولا، قال لي بالحرف الواحد: لا أود بعثرة كنزي.
قلت له: كم أود أن أعطيك ذهبًا وأجعلك ترتاح وتكف.
قال بسرعة: إياك … إياك أن تريني ذهبًا، وإلا ارتميت على السجادة وتلويت،
مر من هنا.»
كان الإحساس بوجود الزمن الذي تألم به رامبو موجودًا في المكان، وذلك الحس افترض الرؤية الجديدة لنص لم يكن مقدرًا له أن يُكتب، وحين يُكتب في غير مناخ هذه القدرية فلن يكون صادقًا أبدًا، فالصدفة والوظيفة التي في طبيعتها لا تهم الشعر ولم تقترب إليه في أي فاصلة من فواصله، لكنها في هذه المرة كانت عاملًا مساعدًا في خلق ما يعتبره خزعل كشفًا في تجربته الشعرية؛ ولهذا لم يتخيل ما حدث لشاعر هرر، ولم يضع افتراضات لمحنة رامبو، وصمته المتوحش والحجري إزاء تراثه، حتى قيل إنه ما بعد الصمت لم يقرأ كتابًا سوى مقاطع شائعة من الكتاب المقدس، وعلى هذا الفهم واللغز اشتغلت ذائقة الماجدي، لتسرف كثيرًا في وصف الألم ورؤاه المرسومة وجعًا ومبادلات وغوايات لأجساد سمر، ورغبة ولدت متأخرة عند رامبو ولم يتشجع لإمساكها؛ وهي تعلُّم سحر أفريقيا من خلال شعوذة كهنة القرى، لقد ترك جرمانيته في شارلفيل، وفي كئوس فيرلين، الذي ما عاد يتذكره، ليعقد صلحًا مع الشاعر الماجدي، وليستمتع بقراءة مدونة تتحدث عنه.
كان الشاعر الماجدي يكشف بعكاز من وجده في تلك الأقاصي، زمنًا تتحدد مرئياته في خلط غير متجانس من الثقافات والمعايير، وكانت لغة الأدب بعد حرب حفر الباطن تعاني من قساوة محنتها إزاء الهدم الذي ينخر في الروح الحلم، وأسوار العفة التي أردنا بها أن نبقي على نورانية الإرث الذي امتلكناه من فرادة هذه الذات التي أتت من همسة التاريخ للزمن، فالثقافة، ومنها الشعر، بدأ يعاني من كساد الفكرة، وأن الحضارات التي يمكن أن تصنع من خلال التقابل والتلاقي أنماطًا جديدة للتفكير، وحتى تنمية المخيلة، لم تعد موجودة بفضل الحصار الذي كمَّل صنيعة الحرب بجعل الرؤى هي المكان والزمان الواقع في محيط سرية العسكر، وصارت بطاقات التموين جزءًا من جسد الهم الشعري، حتى دفع أحدهم ليخاطب المبعوث الأممي «أغا جان» والذي أتى في عام ١٩٩٣م ليدرس تأثير الحصار على الإنسان:
(النص أعلاه غير موجود في عمل «عكازة رامبو»، وهو من تأليف صاحب الدراسة هذه.)
لهذا كان العكاز نمطًا جديدًا لانتقال وعي الشعر بحاله، رغم أن القصيدة كتبت خلال زمن بطاقة التموين، لهذا كان النص شائكًا حتى في استهلاله. فالشاعر يريد له مجدًا من خلال مدونة تلبس الزمن المكرر في ذات المكان، ولأنه لم يتعود أن يمتهن التقليد والتأثر وارتداء معطف غوغول، كان حتى وهو يصف أزمنة رامبو الأفريقية ويتخيله في المكان وطريقة العيش والتعامل والتفكير، كان يحشر أُلفته، ومبررات التناول، إنه يريك مساحات التوهج اللاإرادية التي أتت من حالها لصنع تناصٍّ مصنوعٍ بشيء من توقيتات لم تحسب، ومواعيد لم يقدر لها إلا لحظة الشعور بأن رامبو كان قد شرب مثله تحت شجرة الصمغ خمرة القرى المحلية المصنوعة من خميرة الذرة، وفي الصباح كانا يشربان بذات الإناء الحجري من حليب تلك المعزى المتوحشة التي لم يداهمها شبق البحارة، ولكن الجفاف وخمول الرمل علمها أن تصنع من ثدييها أنوثة زنجية، جعلت رامبو وخزعل يغطان في بهجة تبادل الأدوار، وكأن العكاز في التصور الجديد هو القصيدة التي كان على رامبو أن ينهي بها حياته؛ لهذا لم تتصدع البنية في إطالة المشهد، وتتعدد النواظير لوضع الشاعر، حين يكون متمددًا أو ثملًا، أو حتى وهو في حضرة شاعر معاصر مثل خزعل الماجدي. فهي، أي «عكازة رامبو» قد أفاضت من سياحة قدرتها على التناول الكثير من أمطار التخيل، وربما جددت وعي المشهد الثقافي برمته من خلال الغرائبيات الكثيرة التي حملت تصاوير بأكثر من جهة لحداثة القصيدة وبنائها ولغتها وطريقة أدائها وخروجها من نمطية الذهن الشاعر الذي خضع لاستلاب وهيمنة الموجود الذي تقوقع في إطار الجريدة الرسمية والمطبعة الرسمية والاتحاد الرسمي والمقهى الرسمي … إلخ.
«يا إلهي … كم مضى من العمر وأنا أتسلق هذه الجنة، تنفطر أقدامي؟ كم مضى وأنا أكسر جِراري؟ كم مضى وأنا أرش البذور والماء لكي أعثر على أسناني؟
بعصاه وببعض عصافيره رتب الأرض ونقرها وخلف فيها جليدًا وماءً.
بعصاه استدار على قبة السماء ووضع لها سمتًا ومحارات وغيومًا.»
يمكن أن نسمي قصيدة «عكازة رامبو» هي مشروع للكشف، أو لإعادة اكتشاف من خلال هاجسَي الزمان والمكان، وشخصيتَي صاحب مدونة العكاز، ورامبو … الشاعر الفرنسي الذي قال عنه غايتان بيكون: لو أن بودلير قرأ قصائده لتمنى خنقه.
ورامبو في هذا النص المفتوح هو ليس رامبو الذي عرفه الجميع: صبي الشعر الفاتن، وصاحب لغز الانكفاء والتوقف، والظاهرة الوحيدة في كونية الثقافة من قطعت حبل الماضي بلاأبالية عجيبة، وكأنه حين رأوه في أيامه الأخيرة لم يكتب مفردة حلوة بحياته.
كان حديثه للقس ومَن جالسه في تلك اللحظة باهتًا ومقتضبًا، وجمله لا تعني أن ثمة إشراقة قديمة في هذا اللسان، كان يتحدث عن ترتيبات موت أي فلاح عادي في قرية من قرى الجنوب الفرنسي. جملة واحدة قالها هي الوحيدة التي فسرت عناده على الإصرار على قطع حبل الزمن لديه، قوله: الأمر ترتب بشكله الحالي! بعد ساعة كان قد أغمض عينيه إلى الأبد، ليقول عنه أندريه جيد بعد مائة عام: في قراءتي لرامبو، صححت الوضع الجسدي والروحي لي أنا أندريه جيد.
لهذا كانت «عكازة رامبو» مشروعًا للكشف، ولكنه دون سابق تخطيط كما أظن، فالأمر كما أشرت في مكان ما من هذه المدونة خضع لقدرية أوجدها ظرف لم يهيَّأ له ليكون من تلك الأزمنة التي تُساعد على إنجاب العمل الإبداعي، لكن الفعل حدث، وبدأت أصابع الشاعر تتحدث من خلال أيامها في المكان المعاش من قِبل الاثنين عن تصور آخر وجديد عن حياة ومعاناة آرثر رامبو، مع الانتباه أن الأمر في وقيعته حاصل من إعجاب قديم للشاعر خزعل الماجدي بالتجربة الثرية والرائية للشاعر آرثر رامبو، وهذا أمر طبيعي، فلكي تكون شاعرًا مثقفًا عليك أن تقرأ للرائي الآخر، وهم كثيرون بدءًا من أول شاعر سومري، وانتهاءً بأي شاعر يعترف النقد والذائقة بموهبته.
«لم تحبه النساء … أحبته تلَّة من الأرض، فلم يمل إليها، وفي الليل عندما ألقى عصاه ونزع ثيابه، حضنته وناسلته بقوة، صباحًا كانت الأعشاب ترف على السهول، وفي الغابات خرج العاج من فم الفيلة والبن في البذور.»
يذهب خزعل الماجدي مع رامبو في كشف متبادل، ولتدوين الحالتين يتطوع خزعل ليكون هو من يدون مساءات هرر، والمحطات الأخرى، من شارلفيل، إلى المدن التي ذهب إليها الشاعر، وأغلبها مدن مائية تعج بصخب الببغاوات، وتجني بيوض السلاحف المنقرضة، ولكن هذه المحطات تؤرخ لتاريخ الأبدية في تأليف النص، في التخلص من مرارة المؤسسة، في جعل هذه الرحلة زاوية لتأمل المنجز والانتماء، في إعادة الحسابات، في إيقاف عدم التبعثر الذي يهيم على الذاكرة جراء تراكم الحروب ومنع السفر، وانعدام الحرية وقت التلاقح أو تدوين الحلم. كل هذا تحقق بعد أن أحس الماجدي أن وهجًا جديدًا أتى مع هذا العكاز، وأن منجز الميثولوجيا الأول القائم على أناشيد إسرافيل، والبحث شعريًّا عن دلمون وأمكنتها الغائرة في قلب الشعرية السومرية وخيال عولمتها المتجدد حتى مع طروحات فوكو، لم يعد خيارًا طويل الأمد يثري المنجز بشكل يمنحنا خصوصية أن نكون من أوائل سدنة معبد الشعر العراقي، فمع هذا النص المفتوح، تغيرت المرئيات المشعة بابتكار الآلهة الجديدة في ألواح خزعل، وأن يقظة دلمون ما عادت بالهاجس الأزلي لذهن الشاعر، لأن يقظةً أخرى بدأت تُصاحب الجدل الجديد الذي يُريد به أن يمسك دخان روحه وهو يتشكل خيوطًا ملونة في فضاء المكان الجديد، المكان الذي خلق القصيدة، عندما بدأ النص يشيد بناءه من جديد، وبدأت المسافة تظهر في شوارع النص كأنها مداد لتدوين الفكرة، وأن الشاعر في القادم مع نصه سيظل يُلاحق هذا الظل الطفولي المتمرد من ميناء إلى آخر، ومن حانة إلى أخرى، رغبة في اكتشاف خزعل، رغم أن أداة الكشف هي السيرة التجارية «اللغز» وحياة العبث والمغامرة والمجون للشاعر آرثر رامبو، ولهذا يكشف ما يقرأ في المدونة في مسيرتها الأخرى أن الأماكن التي وفد إليها آرثر تفتح ذهن خزعل لمتغير بدأت بوادره تظهر بعد سنوات الحرب الثمانية، وتحققت في حرب التسعين، ولكن اكتمالها جاء مع سقوط بغداد في نيسان الذي لا سنة له …
أظهر النص «عكازة رامبو» الكثير من أمكنة النبوءة الحسية للمقروءة منذ لحظة الكتابة، وكأنه يُريد بالنسبة لقناعة الانتماء لديه لعالم معين، وخاصة في جانبه المؤسساتي: أن كل أيمان بعد هذا الأيمان القادم من رؤى تخيل الآخر في ذات المكان الذي يعج بأصناف من قطعان البقر النحيف، وهو يخضع مجاعته لعقاقير الشاعر الذي أوفدته الدولة إلى هرر لمعالجة حزنها وكآبة التصحر.
«ما من شجرة، حتى ولو يابسة ولا نبتة خضراء، ولا بقعة من الماء العذب، ماذا دهى الجنة؟ أليست هي أقصى أحلامنا،
فليقبل … فليقبل الزمن الذي نتعشقه، ولتكن متطرفًا على الدوام … إياك أن تعتدل.»
من هنا … تظهر للعيان روح المدونة بشكلها المقصود … يظهر المعنى خالعًا ثوب الضباب، يظهر وضوح قراءتنا للنص، وتبادل الأدوار، وحجم تفكير الشاعر بحاله في أديم تلك المخيلة، وذلك العشق والسكر والتهيب من أثر قدم الشاعر القاسي النظرات مثل بتول مفزوعة. فما نقرؤه من الآن هو الفهم الذي يخص صاحب مدونة «عكازة رامبو»؛ إذ نراه الآن يدون بثمالة الذاهب بعيدًا مع رغبته، ولكي يصل عليه أن يبقى متمسكًا بأطراف سيد القافلة الذي هو آرثر رامبو.
هنا لا يتقيد الشعر بلحظة أو موسم كما سبق، الآن ما يريد الشاعر أن يخبئه ظهر بدون رغبة منه، لقد أخذه النص إلى المحظور، وعليه أن يتكلم ما في داخله. وها هو قد بدأ يتكلم.
لغة ترتدي عاطفتها بصفات مؤثثة ببهجة التدوين، أمطار من الشعر تهبط بمظلات صحوة الحدث، وشاعر يصنع من جملته مأوًى لكل رتابة الإيفاد، ساحر يبرق كالنجم على صاري السفينة، وعابر سبيل تدارك في اللحظة الأخيرة أن المكان ملكه، فدعاه ليكونا سوية رغم أنه: «أكثر بطالة من ضفدع، عاش في كل مكان».
يقول دارسو الشعر: إن التأويل في أغلب حالته يكون لصالح القصيدة على حساب كاتبها، وهم يقصدون في ذلك التأثيرات الحياتية والمادية للشعر؛ فقد يقود التأويل كاتبها إلى مقصلة، فيما تنال القصيدة السلامة والخلود، رغم أن القصد لم يكن كما تصوره الجلاد، وما أكثر الذين خسروا حياتهم بهذه الطريقة عبر أزمنة كثيرة.
هنا في هذا النص، التأويل محكوم برؤى تشتغل على نمط يحقق الأمان لكل الرؤى التي قالها الشاعر في محاورة الروح والعبث مع الآخر الذي كان في المكان قبله. فالقصيدة بحسها المفتوح لنمط التدوير على مساحة الظل المبعثر مثل لقى المنطقة الأثرية، حاولت جاهدة ألا تُظهر للعيان سرًّا، فالأمر ليس سوى اشتباك جسدين وروحين ولكنهما يغرقان سوية في حداثة التأليف والإبداع، هذا جانب اعتنت به القصيدة بفضل محاسن التقنية التي يمتلكها خزعل وجدية إبداعه كشاعر لا يريد لنفسه أن يكون نمطيًّا يبحث عن الأرائك والمناسبات ورؤساء التحرير. في نتاجه كانت هناك غاية تُبرر سعيه لاكتشاف رغبة الشعر لديه في الرجوع إلى الوراء، لأن الكمال البهيج كان هناك ولا زال. وهذه المرة وجد بعضًا من مرئياته في مكان النأي والمهمة الموكلة إليه لمداراة فزع «البقر»، كما أرانا النص في بعض إيحاءاته، وهي إشارة إلى السبب للتواجد في المكان، والرؤية هنا تختلف في منظورين جمعتهما الصدفة، وهما حقيقيان وحدثا في مفارقة التذكر، وأنا أشتغل على نص خزعل، والحالتان لهما علاقة بآرثر رامبو، الأولى: هي ما حصل للشاعر خزعل الماجدي وتواجده في هرر، وكان الذي كان في سببية خلق وتدوين النص الحالم بفتوحات المحنة وتطوير لرؤى الشعر: «عكازة رامبو»، والحالة الثانية عندما رأيت في ألبوم أحد الأصدقاء، وكان نائب ضابط في القوة الجوية العراقية، وأعرف أنه في إحدى السنين قد أوفد إلى فرنسا للتدرب على ميكانيكية طائرات الميراج الفرنسية، والتي سلحت بها فرنسا العراق في حربه مع إيران. ومفاجأة الصورة أنني وجدت هذا النائب ضابط ملتقطًا صورة له قرب تمثال رامبو في شارلفيل. ذهلت وسألته: تعرف من هذا الذي وقفت قربه وأخذت صورة؟!
قال: لا. أعجبني شكله الجميل.
قلت: ومن أرسلك إلى هناك؟
قال: في هذه المدينة والتي تسمى شارلفيل ورشة لصناعة بعض أجزاء الميراج.
الفائدة من إكمال الحديث معه، فهو بالكاد أنهى المتوسطة وتطوع برادًا في صف الجوية.
إذن الأمر تكرر بمشهدين والفرق بينهما شاسع جدًّا، وإني أتساءل هنا لو أن الدولة أوفدت خزعل إلى شارلفيل هل يخرج العكاز إلى الوجود بشكله الأثري والساحر هذا. الجواب: كلا!
ما كُتب في هرر نهاية ثمانينيات القرن الماضي هو وليد حالة أتت بشيء من اتفاق الحس مع الأمنية، لهذا عرف النص كيف يشتغل ويحدث وينمي قدريته في ظل متاهات الوحدة والتأمل والبحث الجدي عن حقيقة أن يكون الشاعر رائيًّا وصاحب رسالة، وقد أيدت القصيدة صاحبة العكاز في طبيعة تناولها اللاحق ما ذهبت إليه، وأزاحت عني حزن المفارقة التي أرتني برادًا في الجيش يلتقط صورة قرب تمثال آرثر رامبو، ولا يعرف من هو!
ولأجل هذا كانت رؤاي للقادم من النص تعتمد في جديتها على ذلك الحس المتبادل الذي أرانا إياه النص، وهو ينمو بشكل متصاعد داخل جسد النص المفتوح، وأن الجديد في الفكرة أن السياقات والبنية والمعالجة وروح النص صنعا كيانًا يؤجج اللحظة بالسعي إلى اكتشاف شيء من غربة الروح في ليل لا تسمع فيه سوى صوت الضباع وموسيقى الأغصان اليابسة.
كان نص «عكازة رامبو» بناءً متقنًا لحلة الشعر الجديدة، بل هو خطوة إلى الأمام، وقد نال ما يستحق من الاحتفاء وهو يؤطر فضيحة المهمة، ورصد المحطات التي غاب فيها طرفا المعادلة، رامبو وخزعل، وفي ذلك إشارة إلى نمو عاطفة وتناسخ للرؤى بين مذهبين على مستوى الدين والروح والمجتمع، وحتى على مستوى الإنجاز، رغم أن خزعل لا يفكر في الوصول إلى دكة الوضوح الرامبوية، لأن هذا مستحيل، ولكنه شاعر وعليه أن يحاول، وما يفعله يعتبره رد دين، أو وفاء تلميذ لأستاذه. هذا الوفاء الذي نراه وهو يعبر عن مزاوجة وتناسخ وشرب ودخان وذهول وأسئلة وعتابات ووصف ساحر للرحلة بدءًا من ظهر السفينة، إلى ظهر القطار، إلى ظهر الحمير إلى ظهر نقالة المرضى. لهذا خيم الافتتان بالمشاهد السحرية لهذا النمط من الحياة على عقل وروح صاحب العكاز، وتحيرت رؤى الشعر لديه إلى أي الاتجاهات تنحني، فقد قدر لهذا المكان أن يصنع بعضًا من شجن التودد إلى تلك المتاهات التي غاب فيها التاريخ لعقود كثيرة (والقصد: المتاهات الأفريقية).
لذلك كان الشاعر يعلن الطواعية أمام هذا الرمز، وينحني لكل النبوءات التي صنعها قيظ تلك المدن التي لا تحتمل، وكانت حسية العكاز ترتمي في خيال موهبة الأمس، ولكنها عند التعبير تستخدم خيالها الخاص، خيال تجربتها وموهبتها وثقافتها. لقد أراد خزعل أن يشمل وعيه إزاء مثل هذه المدونة، بارتداء الزمان والمكان من خلال تخيل الأمر على أنه لقاء بين اثنين مختلفين، وأن القصد هو ولادة جاءت من مشيئة غامضة، ولكنها ارتبطت بروحَي الشاعرين من خلال كونية الشعر وقدرته على صنع الأخوة دون الحاجة إلى جداول الأرحام والقبائل، ويظهر لنا النص التالي من القصيدة، ما أردنا في توضيحه أعلاه:
«أمام انحطاط اليدين أضع مدوناتي وأسمل عيوني وأتيه معك … أرزم رسائلك … أحمل نقالتك وأربط ساقك،
قطرة دواء، أم قطرة الكحل، عيناك اللاهبتان تشيخان. خذ هذا تمر وعجين وضعه على ركبتك، هذه كمادات وأعشاب.»
ثم يذهب خزعل فيما يريد تحقيقه من وجود رامبو معه، إنه يخضع الأمر هنا إلى شكله الحضاري، ومؤثرات الأمكنة وثقافاتها، وهو بذلك يريد أن يجعل من الرمز مادة يحق للجميع أن يضعوه على صدورهم كنياشين، هو للجميع، وما دام قد اختار مكانًا كهذا، فإن مرجعية المكان جزء من هاجسه وإبداعه وحتى الانتماء، وأنا أقصد هنا الشاعر رامبو … الذي تواصلت مع إشراقات النص المفتوح لتتحدث في مداخلة شعرية تعتمد على الرؤى أعلاه كالآتي:
«عبد الله رامبو … أليس كذلك؟
هل صليت حاسر الرأس باتجاه مكة أو عدن … باتجاه آدم أم باتجاه الفردوس؟ قل يا عبد الله … قل يا حبيبي.
في الغرب أقام شرقًا اسمه الشعر، وفي الشرق أقام غربًا اسمه العمل!
كان يلعب بالكمال ويضحك منه هاربًا،
هذه هرر تلدغ وكنوزها تنفتح وتنغلق … سهول تشبه فك التمساح تتخبط في عريها، وفي طول راهب يتمشى لوحده في ليليها …
أيها الشجاع النادر.»
تلك هي حسية تبادل قيم الجمال بين روحين، بلاغة لتبجيل المنجز الذي يؤرخ مجد الرجل، وإعجاب بشاعرية المكان رغم قسوته ووعورته وخطورة التوغل فيه. إنه هنا (أي خزعل) يدير قفاه للحاضر، يتركه خلفه، ورغم أنه يتحدث عن الماضي، إلا أنه في الحقيقة يذهب بنا إلى الأمام، يتخيلنا نسبح في متعة النص، ونسمع أناشيد بهجته بهذا الارتباط الوثيق مع الأسطورة التي عاشت لبعض من الوقت في هرر:
هذا النشيد الفاتر بسبب قلة المتعة يظل يسترد الرغبة والمنية طوال تلك المناداة الحميمية للخيال الرامبوي، حتى تحس أن الاشتياق صار وطنًا، وأن اللذة تحولت إلى أمسية من أماسي الاتحاد «الأربعائية» حيث صحبة الخدر، والرغبة بقراءة هذا المنجز، ووصف الفصام الذي يحدث بين أوراق البحث البقري ولاأبالية المرأة الفعل الإسقاطي «رفيقة السفرة» وبين الإحساس بجدية أن تكون مع رامبو في سرير واحد، وهناك في وطنك رفاق الحزن والشجن الموحد يستعجلون القناني كي يؤموا إلى سيارة أجرة في آخر الليل؛ النص هنا يعود إلى محلية لا توازي الحس، أو الغرض المبتغى من الاستحضار:
«اليوم أكثر حزنًا … الأربعاء يسهر أصدقائي في النادي ويغنون … وأنا مقيد بأغلالي التي تلمع، وسجني الذي يتسع.»
في الهاجس المعنون: حوار ليلي في اتحاد الأدباء، تركبنا موجة الترصد لذات الشغل الشاغل للوضع البشري الذي يخص الإيماءات التي تشتغل عليها حواس المكان، وأن الذين ينبغي إحضارهم عبر مخيلة النأي وبوساطة العكاز وصاحبه هم ألفة الغد، أولئك الذين يترددون على المخيلة لربما لأنهم أكثر الندامى، ولكنهم ليسوا أكثر من يحس بحركة العالم من خلال الطاقة وذهنية الشعر، وهم يكتبون القصيدة بفضل «دواء الكأس المنشط» وبعضهم له خصوصية أن يكون الشعر عنده بوصلة توصل رأسه سالمًا إلى الغد كي تبدأ ندامة الكأس من جديد. وعدا، كزار وجان دمو، فإن الأمر يأخذ مع الآخرين حتمية المؤانسة الليلية، فخزعل لا يتقارب في الرؤى مع نصيف مثلًا، فهو — أي نصيف الناصري — في تقديري شاعر يرتجل الصورة بفطرة عجيبة، ويصنعها لفكاهته، وحتى طريقة تعامله مع ثقافة المقهى والشارع لا تدل على أنه يوصلك إلى فهم الذي سكن هرر، لمجرد أنه أراد أن يزيل الحياء عن حمرة خديه. وهجره للشعر (أي رامبو) مثل ديالكتيك لحركة تاريخ ما لا يمكن تجاوزه كما يقول أنجلز: «إن الأمر مقترن بحتمية القدر الذي يصنعه وعي ما.»
فيما عبد الأمير الحصيري، فهو يمتلك عدمية تقترن بزوايا الفندق، والحياة ارتهنت لديه بمجرد أن يُدار اليوم على حس الثمالة ولا شيء غير ذلك. ولكن ينبغي الاعتراف أن قصائد الحصري مشحونة بموسيقى هائلة وبناء معماري متمكن، غير أن جان دمو وكزار يمتلكان وعيًا شفافًا يقترن باستراتيج للسلوك رغم تلك اللااكتراثية التي تهيمن على حياتهما. لكن تلك العدمية عند جان تقترن بهيبة الصمت المثقف، بفضل إجادته لتناول المفردة المتحضرة، وكانت طروحاته تتقارب مع فهم الحكمة للجنون العاقل الثمل في كل حين. كان جان الذي ينطق في اليوم جملة واحدة، لكنها تكفي لتكون قصيدة. إذن يكفي أن نقول عنه إنه شاعر. فيما تتحسن الصورة والمحلية الذكية والموسيقى المسجوعة بكاركتيرية مقصودة عند كزار حنتوش، ورغم بوهيمية وريفية السلوك، إلا أن عشرته البدائية وفطريته ونقاء قلبه يحسسانك بحكمة مدن الفرات التي تتخيل في إجادتها للنطق بلغة الماء أنها متمكنة من صياغة تعابير الشعر، وكزار أحد هؤلاء، بل رائد من روادهم … هذا التصور لما يجري في ذلك الليل وذلك المكان الذي هو «نادي اتحاد الأدباء» حمل رؤية الشاعر الماجدي لإحساسه بالمكان الإثيوبي شيئًا من التمرد على حاله، وقد أحس أن الشاعر رامبو لن يسعفه بشيء يُبعد عنه بلادة المرأة الغبية، لهذا عاد إلى الذكريات ليأخذ منها طقوس الرتابة في البلاد التي ما حوت منذ عشرات السنين سوى عصيانات برزان والانقلابات والحروب، والمنافي، ورغم هذا ثمة شعور بالمودة إلى تلك الأحاديث التي تفترض رؤى متخيلة لثقافة البلد وتتحول موائد الأنس فيها إلى فرضيات ومشاريع ومنتديات، وحسب ظرفية ومزاج المؤسسة، وحتى في استعادة صحاب الألفة بمجموعهم، تبقى هيمنة المشاعر لظل الشاعر المولود في شارلفيل تهيم على تلك الأماسي الاتحادية التي يناديها الآن ويستنجد كي تخلصه من رائحة الروث ودخان القوارير وبلادة المرأة التي صار غباؤها عالة عليه ومجيء أطياف رفقة الأمس هو خلاص لضجر الغربة هذا:
«مباهجنا مؤجلة، وقد قطعنا عن عمد حواسنا المتصلة بالمطر ووضعناها في التراب،
في أديس لو لمحني أصدقائي مع هذه المرأة الغبية المملوءة دسمًا لاختطفوني.»
لقد وضع الشعر في نص «عكازة رامبو» قدميه على جادة جديدة من رؤى الاشتغال العراقي في ذلك الوقت، وهي وإن كانت ليست انفرادًا إلا أنها كشفت على قدرة الوعي على معايشة حسية ما يملكه الشعر من قدرة على الاكتشاف والتأثير، أي أن «عكازة رامبو» قاد مخيلته للعوم في المؤثرات التي صنعت اليوم العراقي عبر شيء من معاناة مثقفيه، وإحساسات الوجود لديهم، وكان النص في قصده لوعي هذه الحالة إنما يريد أن يتحدث صادقًا عن هواجس كثيرة لتلك الذوات المبدعة التي يتحسسها المكان بجدية وينسج معها جمله الساحرة، الذوات المعنيون باليوم وليله، وبالإبداع وحسه، الذوات المميزون بخصب الحلم لديهم عن طريق التيه في نبوءة المائدة واغتنام الليل فرصة لمكاشفة الكثير من المرئيات الحالمة التي كان خزعل يرى فيها صيغ الإجبار لمنادمة تلك الهياكل والظلال المبعثرة مثل لقى الأقبية المقدسة على المكان الذي لا مكان غيره يجمع إبداعنا وحزننا الوطني، وهذا المكان يدعى «بناية اتحاد أدباء العراق»، وتلك الوجوه يمثلها نصيف أو كزار أو جان الذي أعتقد أن النص في مزاوجته السحرية لتلك المناخات الاستوائية ومناخات ساحة الأندلس ورطوبة الفنادق المهمشة في ساحة الميدان قد رسم الظل الآخر لجان النحيف الذي هو في الأصل الصورة «النيجاتف» لجان نيقولا. وفي تقديري، إن ثقافة النص هنا هي بعض من تأثيرات ما كان جان ينطق به في عينيه وليس بلسانه، وأنه (أي جان دمو) كان يمثل الحياة المستلبة، والجسد الذي مهره جوع الغياب والسلطة التي تبارك خلودها على أساس عرافة النفاق والمهرجانات الوقتية، وغير هذا كان جان بعض محطات الثقافة العراقية، ولكن من غير منجز هائل ولا حضور بوعي البياتي أو السياب أو آخرين، ولكنه في حضور جسده ونظراته الزائغة يمثل زاوية من زوايا الثقافة المشرقة رغم انحسار الكتابة فيها السنين الأخيرة بفضل الكأس الذي لا يسقط من بين الأصابع المرتعشة، وبفعل شعور جان بالنفي حتى داخل جسده ووطنه، وأعتقد أن البناء الجمالي لهذا المقطع المهيب من «عكازة رامبو» كان يعتني بذكرى جان دمو والإنحاء له.
«روحه تظهر في أمواج النهر، شاليهات الشمس هذه كان يفرقها دائمًا بعصاه، الجسد موقده الأخطر، الجسد يا لحزنه … فاكهة مدلاة خارج البستان أمام شفتين غيمتين، وضحك يضخ ورودًا.
أمام نهر أصم ونساء مطرودات من عافيتي يتحلين بالمكاحل وبمراود ودهون،
يد تمد لي نورًا أسود.
ماذا أقول لكل هذه الغلالة المترفة، أمه تريد إعادة دفن جثته فتجدها بعد عشر سنوات من موته ناصعة، قوية، واسمه على القبر لم يمسه صدأ، ماذا أقول ليدين تخطان نورًا ونهرًا؟»
أغنية
هذا النص فضح الأزمنة قبل حدوثها، وجان نيقولا يرتدي القدر الذي تعرض له جان دمو.
كان الشاعر خزعل الماجدي يشتغل على ثيمة اللاوعي. وقد وجدها فعلًا، تلك المصادفة الجميلة أن يكون جان نقولا وجان دمو يشربان في هرر رتابة الوقت والتحسر إلى تلك الأفياء المظللة بشهوة الشراب والمنجز الجديد مع الصحب المتكئين على زمجرة الصمت ونظرات مسئولي الثقافة؛ حيث يمكن أن نعتبر «عكازة رامبو» تمردًا على مألوف التناول في تلك المكانات والأزمنة، وهو في نصه هذا يريد أن يقول: إنه لا يقل موهبة وتشردًا في غابات الشعر والحياة من «الجانين» دمو ونيقولا.
إذن النص يذهب إلى جدليات بخيارات عدة، ولكنها تبتعد عن غموض الكثير من النصوص المفتوحة. والتأويل هنا لا يتسع لأكثر من فرضيتين أو ثلاث. ولا أريد أن أتخيلها لأني في كتابتي عن «عكازة رامبو» أضع تأويلات الآخرين وتأويلاتي، في مساهمة مني لتوضيح ملاحظات البعض عن النص لحظة نشره وحد هذه اللحظة. وهم يقتربون معي في مشاعر متطابقات الرؤى، وعلى حد قول النفري: أتقابل معه في نظرة، فيريني روحي مشرقة، كوسادة من لاقى الغالي.
والغالي هنا معروف من هو. لهذا فالنص قابل لكي يتسع في تفاسيره إلى مديات لا تنتهي، إنه قصيدة، روحانية، قادرة حتى على أن تلبس رداء التصوف وتذهب بنا إلى ما تريد، إلى تلك الصحارى المفتوحة مثل قلوب منسجمة مع الوسائد، إلى أزمنة تتحاشى الأمكنة والمخداعات الزرق، ولأنها بريئة في الوصف والغاية والولادة، أتت لتضع ما يطلق عليه سانت بيف في مقالات السبت الشهيرة: الصنع المتخيل بالنظرة الثاقبة.
أو قول غيوم أبولينير عن الحس المتبادل شعريًّا بين كائن وكائن قوله:
هذا ملخص ما يرتئيه الشاعر من قصيدته، لقد صنع الملل في حشرجة المكان وتفاهة المهمة رغبة في حل لتلك الأوضاع البائسة الرتيبة، فكان الشعر هو المنقذ الأول:
«ما أسرع أن يتحول الشاعر إلى عانس،
أنت أعظم زنجي، أما نحن فزنوج مزيفون، هذا ورد لك، وهذه أطالس وتصاوير وأعتدة،
تكتب كتابًا في جغرافيا الحبشة … هكذا إذن يا رامبو؟
حسنًا سأغوي هذه السمينة التافهة التي معي.
عد … عد … يا رامبو،
ولكن هيهات … النهر لا يعود إلى مصبه أبدًا.»
وعلى سياقات مثل تلك يبقى هذا النص يلملم رؤاه معتمدًا على غرائبية ما يتعرض له الشاعر في واقعة من وقائع عمره. ليطهر أزمنته وتراثه القديم بنحافة هذا الضوء المتسلل من عتمة الزمن وهو يحمل ألم ومتاع شاعر اللذة والمعصية والغموض المعزول والموت البطيء آرثر رامبو. وفي حكمة ما جاء في النص بعد كل هذه التلاوات: إن الشعر في «عكازة رامبو» مثَّل قدرًا هيمنت عليه خيالات الروح وقادته ليكون تصوفًا جديدًا، مدركًا في حتمية صنعتها ميثولوجيا المكان وغرائبية توافق الأزمنة أن ما يحدث ليس سوى ارتداء بهجة القديم والغوص معها إلى الجديد، وعكسها على مجمل تعاملات الشاعر، البيت، الوظيفة، الصداقة، الشعور بمرارة الواقع، وأخيرًا الحلم بكتابة نص إشراقي جديد وربما تحقق هذا مع مدونة «عكازة رامبو» التي ظلت حتى في مقاطعها الأخيرة تجسد حلمها الأول والغاية من ولادتها، وظلت في تداول المشهد بين الشاعر المعاصر والشاعر المحمول على محفة تمثل وعيًا بزمن وفلسفة بنيت على أساس ما ملك الشاعر خزعل الماجدي من قيم وثقافة ومنجز. إنه رغم إصراره بجعل ظل الشاعر معه دائمًا، إلا أنه أرانا نسقًا جماليًّا من بنائية الشعر العراقي الحديث، وحقيقة كان النص رغم هيمنة المشهد الواحد عليه والمناجاة التي لا تنتهي، كان نصًّا يخرج، مع القلة من تدوينات تلك الفترة، عن نمطية الشعر والاستشعار عند الكثير من يدَّعون أنهم شعراء، فجدلية هذا النص الموسوم: «عكازة رامبو» تحاول أن تؤسس لفهم روحي على مستوى التجربة الجديدة للمبدع عندما يختار له زمانه قدرًا يحس فيه أن شيئًا من بهجة الماضي وهيبته يسكنان معه. ولهذا اختلفت مسألة خزعل عن مسألة هذا الذي تحدثنا عنه في صدر دراستنا وهو يلتقط صورة تذكارية قرب تمثال الشاعر آرثر رامبو في شارلفيل. رغم أنه الأجدر بهذه اللحظة الجميلة والمؤثرة أن يعيشها شخص آخر غير نائب ضابط في الجيش، لكن القدرية التي توفرت له ولخزعل رمزها واحد رغم اختلاف الأمكنة. فكان التعامل مع الرمز مختلفًا. وليظهر لنا انعكاسان عن وقع الحدث لاثنين: الأول صورة منسية في ألبوم. والثانية قصيدة تخلد في سفر ثقافة العراق وتراثه (وهذا رأي لصاحب المقال).
«كان حشد من الخيول يتراكض في غابته، وكانت الأزهار تنبح وراءها … مادة العالم في يديه، يركض بها ويريد أن يضعها على مصطبة ليبدأ التكوين.»
(في المقطع أعلاه المأخوذ من القصيدة في نهايتها هو تمامًا ما ينطبق على الشاعر الذي كتب نصه المفتوح «عكازة رامبو».)
لقد صنع من مداخلاته اليومية في هرر في ثمانينيات القرن العشرين استشراقات جديدة لتراث الشاعر آرثر رامبو، ولكن وفق رؤية شرقية من شاعر عراقي. وأعُدُّ هذا الأمر إنجازًا في تحولات الاشتغال الشعري. وحين تعد رؤيتي هذه مغالاة وتهويلًا لنص لا يستحق كل هذا. أقول: يكفي لهذا النص، أنه يذهب بذاكرة القارئ إلى ممالك الوحي المتخيل. وأن تعابير الجمل التي يرتديها النص تضج بشيء من موسيقى النص الجديد، تلك الموسيقى التي تشعرنا بنشوة النصر على رتابة الكثير من موروث الشعر لدينا الذي يعيش على التكسب وتخيل اليوم من خلال لافتة معلقة على جدار أو دخان سيكارة لحظة إفلاس، أو إهداء لوكيل وزير لأنه سمح لذلك الشاعر أن يدخل مبنى الوزارة دون أن تستلب منه هوية التعريف، وأن يشرب قدح القهوة مع مدير المكتب فقط:
كاميرتي التقطت أربعة وعشرين صورة كلها لرامبو:
(١) يصطاد في غابة.
(٦) يمشي وتمس جبهته السماء.
(١١) يعلِّم أطفال هرر القرآن.
(٢٠) يشعل شمعة ويقف خلف تابوته.
(٢٤) وأخيرًا … عجلة العالم تطحنه تحتها.
(تاريخ التقاط الصور هو ١٥ / ١١ / ١٩٨٩م.)
وهكذا عالج النص رغم الكثير من التجانس بين الجسدين «رامبو وخزعل»، عالج مسألة الذات وبناءه النفسي وإرثها الميثولوجي والاجتماعي وأماني أمراء العائلة الفقراء. أحداث تعود إلى الوراء دائمًا، ولكنها أتت هنا لتمتزج بما يسميه علم النفس: «الفعل الإسقاطي» والمراد واضح، لأن نهايات النص كشفت عن الكثير من تلك الإسقاطات، وهي ما تعني الشاعر كاتب مدونة «عكازة رامبو» ومتلاه إزاء هذا الحس وتلك الإسقاطات التي قد نجدها في أماكن أخر من إرث الشاعر خزعل الماجدي، ولكنها هنا بدت أكثر نضجًا، وأوضح تعبيرًا، ليس لأنها اقترنت بعظمة شاعر آخر في مشابهات مكانية فقط، بل لأن مستوى التعبير عنها من الناحية الجمالية والفكرية واللغوية كان كبيرًا:
«يفتح رامبو القرآن ويقرأ لأطفال هرر فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدِّهانِ … يغلقه … يا إلهي ما الذي أتى بالإشراقات إلى هنا؟
ما الذي أتى بالأسماك على أرض الفندق؟ طفحت من الأعماق ورقصت؟
كان يتمنى أن يتزوج … وأن ينجب ولدًا يسميه «محمد» ويجعل منه مهندسًا.
كان يبكي طوال الليل وينفطر …
لماذا لست معي يا رامبو؟
لماذا لست معك؟
لماذا لا نسكر أو نقامر أو نغوي … لماذا يا أبهة؟»
وقريبًا من مرئية الخاتمة يتبين أثر هذا التماثل، وتظهر حتى قيمته الميثولوجية والحضارية، ويرينا الشاعر ما حل به وصاحبه في هرر. إن الأمر غدا معالجة لألم إنساني يعود إلى عصور سحيقة من ميراث الشاعر خزعل الماجدي، وأن الافتراضات لقصد النص وحدود التأويل فيه لا تنتهي عند إعجاب شاعر تعددت قراءاته ثقافاته، فهنا خضع الأمر لشجن الحس وارتداء الآخر للآخر، وهذا كما تحدثنا عنه سالفًا شعور بصوفية النص، وهو قد لا يكون معرفًا بشكله من قارئ النص، أو حتى الشاعر نفسه، ولكننا نراه هكذا. نحن الذين قرأنا النص: أنا، وتأويلاتي، وثقافتي، وقراءتي للنص وهذا الارتداء؛ أي أعطيك ثوبي وتعطيني ثوبك، ظل قائمًا على كل مساحة النص، ولكنه في التالي من نهايات النص يتضح تمامًا:
«دخلت عليه وأنا بعمامة وجبة أحمل طاستي وكتابي … كان رامبو يتراصف على الصليب تمامًا ويجوِّد … كمنجة يابسة قربه ويداه تتمتمان، ليس السرطان هو الذي يصعد في عظامه بل الذهب.
يمسك وردة … ويشمها ويضحك …
هل الورد انحطاط القلب وشكله الأول؟
يا إلهي: لماذا أنا هنا؟
تأملته وهو يقرأ،
خرجت منه وأنا أبكي، وخرج من الباب الآخر، كاهن يحمل الصليب، وكان يبكي هو الآخر.»
لقد منحنا هذا النص سياحة لا تنتهي من تأمل الداخل والخارج معًا، وقد أشركنا في التفاسير الذي يخلقها ألم المكان وإبداعه. وكان خزعل الماجدي واعيًا لقيمة وحسية مثل هذا المنجز، ولكنه أطال مكوثه في جبته، ولم يخرجه مثلما يخرج النيزك جسده من جوف السماء، لأنه في نصه هذا، والموسوم: «عكازة رامبو»، أراد أن يصنع من صبره وجدية الامتزاج بالمشهد وتحسسه، أراد أن يصنع قصيدة حقيقية، تعتني بالجمال والصدق. والتجربة والغاية، وكأنه يأخذ من أرسطو أمثولته القائلة: يأتي الشعر مع معاناتنا الكبيرة مع الآلهة.
ومع خزعل الماجدي حدث ذات الشيء … كانت كيانات الشعر لديه تتوارث رغبتها بالشدو الليلي والمعاناة من هذه المزاوجة المؤلمة وخطورة التمثل في تراث شاعر كبير مثل آرثر رامبو، لكنه تجاوز الأمر وسار في طريقه غير عابئ بالنكاية والحسد والتأويل والمشاكسة، وما قاله في هذا النص الذي أراه منجزًا يرتقي بأدب العراق ومكانته الكونية. لقد صنع وعيًا داخل وعي. وتجربة داخل تجربة. وفي حالات لا تعد داخل النص تخلص من هيمنة الآخر، وتحدث بعفوية التجربة وخصوصيتها وصدقها. لنراه في النهاية قد جمع حشدًا كبيرًا من التصاوير والجمل والمديات المفتوحة على ذهن المتخصص في تداعيات تبتكر الحدث بفنية عالية تصلح أن تكون مشهدًا مسرحيًّا كبيرًا يتحدث عن المعاناة الفردية بشكلها الكوني والجمعي، وهذا ما قصده النص الرائع «عكازة رامبو» للشاعر العراقي خزعل الماجدي:
«أمتنع عن إبداء الرأي في ماضيه كشاعر، لكنني أؤكد بكل قواي أنه كان تاجرًا متحمسًا وحاذقًا …
يقول التاجر قبل أن يشرب آخر جرعات السم:
كنت أطوف وألتقط صورًا فاشلة له، ولما يتساقط منه وهو يمر بين أديس وهرر محمولًا على نقالة يحملها زنوج تحت المطر.
أنزل القدح الأخير من فمه وقال لأخته:
إيزابيل … إيزابيل،
سأمضي تحت الأرض،
وأنت تمشين تحت الشمس،
الله … الله كريم.»
إشارات
-
حاجتي لبعض المعلومات عن النص والشاعر أخذتها أغلبها من جلسات قديمة مع الشاعر عبد العظيم فنجان، وهو رفيق الشاعر وصديقه في الدراسة الجامعية.
-
بعض المعلومات جاءت من الشاعر خزعل الماجدي في حديث تليفوني. ولكنها متأخرة؛ إذ كنت قد انتهيت من إنجاز هذه الدراسة في ١٣ أبريل ٢٠٠٤م.
-
نشرت هذه الدراسة في صحف عراقية وفي موقع جهة الشعر: