مقدمة الطبعة العربية
عندما اندلعت الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني عام ٢٠١١ — بعد عامين من ظهور هذا الكتاب لأول مرة بالإنجليزية وبالعنوان الفرعي «أرض الفراعنة على شفا الثورة» — ربما كنت الأقل اندهاشًا بين المراقبين الغربيين لدولة اعتبرتها وطنًا لي ما يقرب من عقد كامل. وبالطبع لم يندهش المفكرون والنشطاء الحقوقيون والسياسيون وعامة المصريين الذين تحدثت معهم في السنوات التي سبقت الثورة والذين عبَّرتُ عن مشاعر الضيم والإحباط والأمل (ربما بقدر أقل) لديهم في هذه الصفحات. أدركَت جموع المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع منذ وقت طويل — مثلي — أن أكثر دول العالم العربي تعدادًا للسكان، والحليف الأهم لواشنطن في المنطقة، على وشك الانفجار.
والسبب في ذلك أن الشعب المصري لم يكن لديه ما يخسره بعدما لم يكتف النظام — مثلما قيل لي مرارًا وتكرارًا — بسلب ثروات بلاده الطائلة فحسب، وإنما سلب كرامته أيضًا. قضى نظام مبارك على نفسه تمامًا حتى صار عاجزًا عن تنفيذ إصلاحات ولو بسيطة تتعلق بمطالب الشعب بتحقيق تغيير جذري عاجل ذي جدوى. بعبارة أخرى لم يكن وجود النظام إلا للإبقاء على حكمه الفاسد الغاشم؛ ولم يكن الإصلاح يعني شيئًا سوى إتاحة الفرصة أمام القطط السمان لتكديس ثروات هائلة باسم الخصخصة والاستثمار الأجنبي واقتصاديات السوق الحرة، وهو ما اتضح أنه بمنزلة انتحار سياسي، لأن جميع المصريين العاديين شهدوا مزيدًا من الفقر وعنف الدولة العشوائي نتيجة لذلك.
أثناء السنوات التي سبقت الثورة كان ثمة انفصال لافت للنظر بين ما كان يردده «خبراء» الغرب عن مصر، وبين الحالة السوداوية التي كانت تسود الشارع المصري مثلما أوضحتُ في هذا الكتاب. ففي نظر «الخبراء» الغربيين كانت مصر دولة مستقرة حقيقةً؛ فلديها جهاز أمني قوامه مليون فرد، مستعد دائمًا لأن يسحق دون رحمة أدنى تهديد من جانب المعارضة الشعبية. سمعنا مرارًا وتكرارًا أن حالة من اللامبالاة تسيطر على الشعب المصري. كان البديل الوحيد لحكم مبارك جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسميًّا مع أنها الكتلة المعارضة الرئيسية. ولم يكن الإخوان المسلمون بحال يتمتعون بشعبية كبيرة، ولذا لم يكن أحد يعول عليهم في إثارة الجماهير. ولمّا لم تكن هناك قيادة أخرى تحض المصريين على النزول إلى الشارع أو قائد كاريزمي يلهب حماسهم للقيام بعمل جماعي، خلُصَت هذه القراءة للسيناريو المصري إلى أن الواقع سيظل على ما هو فيه من تخبط إلى أن يقضي حسني مبارك أجله ويرث ابنُه الحكم.
لكَمْ انتشرت هذه القراءة المغلوطة لمصر المعاصرة على نطاق واسع حتى إنه في فبراير/شباط ٢٠١١ — بعد بضعة أيام من تنحية مبارك في أعقاب واحدة من أكثر الثورات شعبية في التاريخ — عبَّر جون ماكين المرشح السابق للرئاسة الأمريكية عن استيائه من أن واشنطن «كان ينبغي لها التنبؤ بذلك عندما أخفقت الحكومة المصرية في المضي قدمًا في طريق إرساء قواعد الديمقراطية.» والواقع أنه لم يكن ينبغي لأحد أن يندهش من قيام الثورة مثلما كان الحال مع الفوضى التي أعقبت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة؛ فبالمثل لم يتنبأ «الخبراء» بالوضع المتأزم في العراق. قطعًا لو كان ماكين قد قرأ هذا الكتاب، لما بدا مندهشًا هكذا، على الرغم من اضطرابات الشيخوخة.
على مدار سنوات غضَّ الإعلام الغربي الطرف عما يحدث في قلب أهم دولة في العالم العربي يعيش ستون بالمائة من سكانها في فقر مدقع حيث ثبات الأجور مع ارتفاع هائل في معدلات التضخم. كان الشعب المصري المشهود له بالود ودماثة الأخلاق غير المألوفين يغلي من شدة الغضب داخل أحيائه الفقيرة وفي الوظائف التي تدر رواتب متدنية محاولًا في يأس سد حاجات العيش وفي الوقت نفسه اجتناب ويلات جهاز الشرطة الهمجي. لكنه أيضًا — في ظل غياب أي حوار سياسي جاد مع المعارضة — كان حبيس دائرة من اليأس والعجز مثلما أخبرني الطبيب النفسي المصري أحمد عكاشة في الفصل الأول من الكتاب. كان واضحًا لكل من ألمَّ بهذه الحقيقة على أرض الواقع أن اندلاع ثورة ربما يكون هو التصعيد المحتمل الوحيد للجنون والطغيان اللذين انحدر إليهما نظام مبارك.
ذاك الانقسام بين ما كان يردده المراقبون الغرب المعزولون عن الشارع المصري وبين الواقع المقيت الذي يعيشه معظم المصريين انعكس بوضوح في ردود الأفعال المتناقضة إزاء نشر كتاب «في قلب مصر» داخل القاهرة وفي العالم الخارجي المتحدث بالإنجليزية. في مصر، أسرعت السلطات بحظر الكتاب على الفور في إشارة واضحة — إذا أعدنا التفكير في الأمر — إلى أن نظام مبارك استشعر الخطر. لكن في الوقت الذي كان فيه أولو الأمر في القاهرة بمعزل عن الواقع — أو كانوا على الأقل عازفين عن الإنصات — أيَّدَ الإعلام المصري المعارض النشط رسالة الكتاب. ومثلما أوضحتُ في الفصل الخاص بالإعلام فإن نظام مبارك منح الصحف المصرية مستوى غير مسبوق من الحرية، لأنه يعرف أن أكثر قراء هذه الصحف من أهل النخبة. فالسماح بدرجة من الحرية أمام الآراء المعارضة ما دامت لا تمثل تهديدًا مباشرًا على النظام سيعطي انطباعًا للأجانب أن مصر دولة الحرية والآراء المتنافسة. لم يسعني إحصاء عدد اللقاءات والمقالات التي أُجريَت أو نُشرَت باللغة العربية، وعدد الصفحات التي دُشِّنت على موقع «فيسبوك» بهدف التأكيد على موضوع الكتاب وترجمة بعض فقراته الرئيسية. وعندما رفعت الحكومة الحظر عن الكتاب — بعد نحو شهر من مداهمة مسئولين من وزارة الإعلام لمكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة لمصادرة بضع عشرات من النسخ المعروضة هناك — صار على الفور واحدًا من أكثر الكتب مبيعًا في العديد من المكتبات الإنجليزية في مصر.
وعلى النقيض من هذا، عندما نُشر الكتاب في نيويورك ولندن عام ٢٠٠٨، شعرت بأسى بالغ من ضآلة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والإنجليزية على السواء بالكتاب. مكثت بائسًا بضعة أسابيع في واشنطن أنتظر الدعوات للحديث إلى وسائل الإعلام، لكني لم أتلق أي دعوات في نهاية الأمر. حدث هذا على الرغم من أن كتابي السابق «خبايا السعودية» (٢٠٠٥) نال ما يربو عن عشرين نقدًا بارزًا، وأُدرج ضمن قائمة أفضل الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة. وبدا واضحًا تمامًا أن قليلين في الغرب هم من أرادوا سماع الرسالة التي يوجهها الكتاب. ولا عجب إذن في أن أمثال جون ماكين تأسفوا على انعدام رسائل التحذير من اندلاع الثورة بعد اندلاعها أخيرًا.
الأسوأ من ذلك أنه عندما كان يرد ذكر الكتاب في وسائل الإعلام المتحدثة بالإنجليزية تكون اللهجة ساخرة تمامًا. كان رأي ماكس رودينبيك — مراسل مجلة «ذا إيكونوميست» في الشرق الأوسط — أفضل مثال على ذلك؛ إذ أخبر قراءه قبل ثورة القاهرة بستة أشهر فحسب قائلًا: ««في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة» هو العنوان المؤثر الذي اختاره الصحفي البريطاني جون آر برادلي لكتابه. وللأسف لم يكن تنبؤ الكتاب بثورة وشيكة إساءة التقدير الوحيدة للكتاب.» بل إن هذا الانقسام — بين إشادة النقاد العرب الذين فطنوا إلى اقتراب الثورة وبين التشكيك الصفيق والمفعم بالثقة من جانب نظرائهم الغربيين الذين أخطئوا التقدير «للأسف» — امتد حتى وصل إلى المراقبين الغربيين المقيمين في مصر. ففي نقد حاد نشرته صحيفة «بيكيا مصر» الإلكترونية الناطقة باللغة الإنجليزية في القاهرة، خاطبني جوزيف مايتون رئيس تحرير الصحيفة أنا وغيري من القراء قائلًا ببساطة: «مصر ليست على شفا ثورة يا سيد برادلي.»
أكثر سؤال تردد على مسامعي بعد الثورة هو كيف استطعت التنبؤ بها دون أي غربي آخر، ولِمَ جازفتُ بفعل ذلك على هذا النحو الحاسم. وكانت إجابتي بسيطة وهي أني لم أصدق ما كان يقوله هؤلاء «الخبراء» المزعومون في الغرب عن مصر طوال العقد السابق. أثناء عملي مراسلًا صحفيًّا في المنطقة، لم أقابل قط صحفيًّا غربيًّا آخر ولو لإجراء حوار قصير. ولم أقم قط بزيارة إلى إحدى سفارات الغرب للحديث مع الملحقين الصحفيين المتعالين. بل استمعت إلى عامة المصريين الذين عشت إلى جوارهم في الأحياء الفقيرة متحدثًا معهم بلهجتهم العربية. انتقلت إلى القاهرة عام ١٩٩٩ لتعلم اللغة العربية بعد أن تخرجت من الجامعة. ونظرًا لضيق ذات اليد (ذلك أني أنا نفسي نشأت في أسرة فقيرة)، انتهى بي المطاف في حي شبرا لأعيش إلى جوار ٤ ملايين مصري ينتمون إلى الطبقة العاملة. ساعدني الأصدقاء الذين تعرفت عليهم هناك — وأثناء أسفاري التالية داخل البلاد — على رؤية جانب كامل آخر من مصر لا يعرف عنه الصحفيون القابعون داخل الفنادق شيئًا.
بعيون هؤلاء الأصدقاء آنذاك شاهدت الاهتراء التدريجي الذي أصاب المجتمع المصري من بطالة مزمنة، وفقر مدقع، واضطهاد سياسي مصحوب بحملات اعتقال عشوائي مفزعة للمواطنين والزج بهم في أقسام الشرطة حيث أصبح التعذيب — الذي أفردتُ فصلًا للحديث عنه — روتينًا يوميًّا.
في يناير/كانون الثاني من عام ٢٠١١، عندما احتشد ملايين المصريين في ميدان التحرير وغيره من شوارع وميادين المدن الكبرى الأخرى، أولى الإعلام الغربي الكِتابَ الكثير من الاهتمام أخيرًا. ودون شك سررت أخيرًا بالتردد على المحطات الإخبارية التليفزيونية في كل من بريطانيا وأمريكا، واسترددتُ اعتباري عندما شاهدت الصحف الغربية تدرج الكتاب ضمن قوائم الكتب المهمة. لكن خُيِّل إلي أنه قد أُسيءَ فهمي، إذ افترض صحفيو الغرب أني كنت أنادي بقيام ثورة، وأصبحوا يسألونني الآن هل أشعر بالرضا.
غير أن المغزى من وراء الكتاب لم يكن التحريض على ثورة (وكأن هناك من كان سيعيرني أذنًا صاغية على أي حال)، ولا القول إن قيام ثورة — سواء على المدى القريب أو البعيد — سيكون في صالح المصريين. قلَّما تتمخض الثورات عن المجتمعات التي يرنو إليها مؤيدو هذه الثورات والتي تعتنق فكرة المساواة، مثلما يتضح من تاريخ الثورات الثلاث الأكثر شعبية — من حيث المشاركة الفعالة لأفراد الشعب — في العصر الحديث. فالثورة الفرنسية أسفرت عن «الإرهاب الأعظم»، والثورة الروسية أسفرت عن كابوس «ستالين»، بينما أتت الثورة الإيرانية بآية الله الخميني والملالي المتعصبين الملتفين حوله. الاستثناء الواضح الوحيد لهذه القاعدة في التاريخ الحديث — حسبما يتراءى لي — هو الثورة الأمريكية التي أدت إلى وضع أكثر الدساتير وضوحًا وشمولًا وإلى ظهور أكثر الدول ديمقراطية وانعزالًا في العالم، طوال بضعة عقود على الأقل.
وهكذا لم يعد السؤال يدور عن إمكانية قيام ثورة، وإنما عن الطريق الذي ستسلكه الثورة. فمع حلول شهر فبراير/شباط وتنحي مبارك اتضح أمر واحد، وهو حدوث انقلاب عسكري. لم يكن هناك بد من ذلك لسببين؛ إذ لا يوجد حزب أو مؤسسة أخرى تحظى بتأييد الشعب، فضلًا عن أن القيادة العليا في مصر كانت على استعداد في الأساس للتضحية بمبارك — في ظل الضغوط التي تمارسها واشنطن عليها — من أجل الحفاظ على الوضع الراهن ممثَلًا في قاعدتهم السياسية وفي المساعدات التي يتلقونها سنويًّا بقيمة ١٫٤ مليار دولار من الولايات المتحدة. ومع أن الانقلاب العسكري كان أمرًا محتمًا — مثلما أشرت في الفصل الأخير — فإنه دل أيضًا على اختطاف ثورة الشعب. شهدت مصر تكرارًا لسيناريو عام ١٩٥٢ عندما أدت ثورة شعبية اندلعت في يناير/كانون الثاني من العام نفسه إلى انقلاب جمال عبد الناصر وتأسيس الحكم العسكري. ولأن قادة الجيش الذين تولوا مقاليد حكم البلاد في ٢٠١١ عُيِّنوا في الأغلب من قبَل مبارك، ولأن المشير طنطاوي نفسه صديق قديم له فلم يكن من العجب أنهم سعوا بدلًا من تقويض تركته إلى بسطها عن طريق حملات الاعتقال الجماعي للمتظاهرين، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية، ورميهم بتهم العمالة الأجنبية، والاستدعاء المتكرر لرؤساء التحرير والصحفيين الذين يُرى أنهم أساءوا إلى المجلس العسكري.
مع هذا يصر «الخبراء» الآن على أن مصر في طريقها إلى نظام ديمقراطي على المنوال الغربي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر وحرية التعبير. وقد سمعنا في مناسبات عدة أن هذا هو مولد «الربيع العربي» بقيادة مصر صاحبة السبق في تبني الاتجاهات الجديدة في المنطقة على مر التاريخ. تبنى كتاب «في قلب مصر» من بدايته إلى نهايته وجهة نظر مخالفة تمامًا ترى أنه — مثلما حدث في إيران عام ١٩٧٩ — في ظل الفوضى التي تشهدها مصر بعد الثورة لن يكون النصر في النهاية من نصيب الجموع التي تدفقت إلى الشوارع من مختلف طبقات المجتمع حتى ولو سقط النظام. بل إن شجاعة هؤلاء وبطولتهم سيمهدان الطريق — من دون قصد — لوصول الإسلاميين إلى السلطة بعد حدوث انقلاب عسكري. ولهذا السبب كثيرًا ما حذرت من السماح بمزيد من سوء وتدهور الأوضاع. وللأسف، تدهورت الأوضاع، واختطف الإسلاميون الثورة بموافقة ضمنية من المؤسسة العسكرية.
ذكرت في الفصل الذي تحدثت فيه عن الإخوان المسلمين — وأيضًا في الفصل الأخير — أن الإخوان ليسوا ثوريين، ويمكن استبعادهم من إشعال فتيل التغيير الثوري المرتقب. يحذر الإسلاميون المتشددون بشدة من الفوضى والثورة، وعندما اندلعت الثورة، عارضها الإخوان المسلمون — مثلما تصورت — وكذلك فعلت الجماعات السلفية الأكثر تشددًا. لا بد أن نذكِّر أنفسنا مجددًا أن هذه ثورة شعبية محضة، وأنها قامت بسواعد شباب ليبرالي ويساري وعلماني انضمت إليهم أغلبية لم يكن لهم أي اهتمام قط بالسياسة كان هدفها الوحيد هو الخلاص من نظام نشئوا على كراهيته. لكن كان هذا حال الثورة الإيرانية — في مراحلها الأولى — أيضًا عام ١٩٧٩.
وفي الشهور التي تلت تنحي مبارك بدا واضحًا — خاصة وأن الليبراليين الذين أشعلوا فتيل الثورة أعلنوا في تفاخر (وفي حماقة لو أعدنا التفكير في الأمر) أن ثورتهم «بلا قائد» — أن الإسلاميين منظمي الصفوف كانوا يتحركون لملء الفراغ تمامًا مثلما فعلوا في إيران. ومع هذا واصل «الخبراء» الغرب ونظراؤهم المصريون الليبراليون ترديد العبارات ذاتها: ما من شيء يدعو إلى القلق، وشعبية الإخوان المسلمين محدودة، ومصر صاحبة تاريخ ثري وطويل من التعددية والتنوع، والشعب المصري لا يريد العيش تحت مظلة دولة إسلامية.
من المؤكد أن معظم المصريين لا يريدون العيش تحت مظلة دولة إسلامية، لكن هكذا كان حال الإيرانيين عام ١٩٧٩. تجاهل هذا التحليل التفاؤلي إنذارًا بالغ الخطورة؛ فالإسلاميون لا يحتاجون لتأييد أغلبية الشعب من أجل تحقيق الفوز في الانتخابات. بل يحتاجون لتأييد أغلبية من يدلون بأصواتهم، وهؤلاء تقدر نسبتهم في مصر تاريخيًّا بعشرة في المائة فقط ممن لهم حق التصويت. ولذا عندما صوَّت المصريون في مارس/آذار ٢٠١١ على التعديلات الدستورية التي أُعلن عنها بعد قيام الثورة، فإن ٤١ بالمائة فقط ممن لهم حق التصويت كلَّفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ صحيح أنها نسبة تفوق ما كانت عليه في الماضي، لكنها تظل منخفضة إلى حد كبير بالنظر إلى كونها أول انتخابات حرة ونزيهة تتسنى لمعظم المصريين فرصة المشاركة فيها. وهكذا فالإسلاميون — حتى ولو كانوا يتمتعون (مثلما ذكرت كثيرًا) بتأييد نحو عشرين إلى ثلاثين بالمائة فقط من إجمالي عدد السكان — لا يزالون قادرين على كسب أغلبية الأصوات لسبب بسيط، وهو أن أتباعهم هم الأكثر تفانيًا وتعصبًا ومن المرجح بشدة أن يشاركوا في التصويت.
قبيل استفتاء مارس/آذار كان الإخوان المسلمون الكتلة المعارضة الوحيدة التي تحث على الموافقة على التعديلات الدستورية، غير أن أكثر من ثلثي المشاركين في التصويت استجابوا لندائهم؛ أي سبعة وسبعين بالمائة. ونؤكد مجددًا أنهم ليسوا سبعة وسبعين بالمائة من المصريين جميعًا، وإنما سبعة وسبعين بالمائة من الواحد والأربعين بالمائة الذين صوتوا، ومن هنا كانت الأغلبية الساحقة للإسلاميين على الرغم من قلة مؤيديهم. خسرت الأحزاب الممثلة للنخبة المصرية التقدمية العلمانية، التي عارضت بشدة الدستور المعدل بدعوى أنهم يحتاجون مزيدًا من الوقت لتنظيم صفوفهم. علاوة على هذا فإن الإخوان المسلمين فازوا أساسًا في الاستفتاء لمجرد زعمهم أن أي تعديلات أخرى على الدستور ستمهد الطريق أمام المؤامرة الأمريكية والإسرائيلية لإلغاء «المادة الثانية» التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وبعبارة أخرى، تغلبت العبارات والشعارات المبسطة على البيانات السياسية الأشد تعقيدًا.
إضافة إلى ذلك أظهرت استطلاعات الرأي التي أُجريت منذ قيام الثورة أن التلهف لتطبيق الديمقراطية وإجراء الانتخابات على المنوال الغربي يأتي في آخر أولويات من خرجوا إلى الشوارع أثناء الثورة. وكالعادة ذكر نحو عشرين بالمائة أن الدافع الرئيسي وراء الإطاحة بمبارك هو تطبيق الديمقراطية والمشاركة في انتخابات حرة. أما الباقون فكانت أولى أولوياتهم دائمًا مثلما ورد في الاستطلاع استعادة كرامتهم والتعبير عن غضبهم من تردي الأوضاع الاقتصادية للدولة. ومن ثم أحيطت استجابة النخبة في الغرب (والقاهرة) بخداع الذات، تمامًا كما أن تأييد النخبة لنظرية «نهاية التاريخ» المنافية للعقل التي وضعها فرانسيس فوكوياما في بداية التسعينيات من القرن العشرين — عقب سقوط سور برلين — يبدو أمرًا هزليًّا لأي شخص فطنٍ يلقي نظرة على الماضي. بالمثل يشير الليبراليون الرواد الآن إلى أن الشعوب العربية المضطهَدة — بزعامة المصريين — انتفضت ضد الطغيان لأنهم يتوقون إلى قيم الغرب الليبرالية الكلاسيكية من قبول الآخر والحكم التمثيلي. أيضًا يصرون على أن الإنسانية مرهونة بالتبني الجماعي للدساتير التي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير الفردي.
لا شك أنه ما من عاقل يود أن يُلقى القبض عليه ويعذَّب لا لشيء سوى أنه عبر عن رأيه سواء أفي القاهرة أم في نيويورك. لكن عندما ننظر إلى الصورة من المنظور الأشمل — بأن نتساءل هل المطلب العام بالكرامة الإنسانية الأصيلة يُترجم حتمًا على أنه ولع بالنظام البرلماني البريطاني وتأييد الفردية وفق النهج الأمريكي — يصبح التقييم ناقصًا ومبسطًا للغاية. ولنفكر في استمرار شعبية جمال عبد الناصر الذي حكم مصر بعد انقلاب عام ١٩٥٢ الذي أطاح بالملكية المدعومة من بريطانيا. فكما يبين الفصل الأول قمع عبد الناصر بوحشية حرية التعبير وفرض حظرًا على المعارضة السياسية. وبالرغم من شعبيته الأكيدة فإنه لم يترشح للانتخابات قط خلال العقدين الذي حكم فيهما البلاد. ومع هذا كانت الجماهير ترفع صورته عاليًا أثناء الثورة المصرية ٢٠١١ في حين شوهدت بضع صور لأنور السادات بالرغم من حكمه المؤيد للديمقراطية إلى حد ما. ويكاد يكون من المحال أن ترى مصريًّا عاديًّا — باستثناء الإسلاميين الذين مارس عبد الناصر بحقهم جرائم التعذيب والقتل — يقبل بكلمة سوء تقال في حقه. ولا عجب في أن استطلاع رأي كبير أُجري بعد الثورة المصرية أظهر أن الرغبة في تطبيق الديمقراطية على المنوال الغربي حتى بين الثوار أنفسهم تأتي كأولى الأولويات لدى تسعة عشر بالمائة فقط ممن شاركوا في الاستطلاع. لِمَ كل هذا التقدير لعبد الناصر الديكتاتور المتسلط إذن؟ طرحت هذا السؤال مرات لا أحصيها على مر العقود، ودومًا كنت أحصل على التفسير نفسه من المصريين؛ وهو أنه لم يكن شخصيًا حاكمًا فاسدًا، وأنه احترم كرامة شعبه، ولم يكن توفير الغذاء بالأمر الصعب في عهده. يبدو أن ميوله الاستبدادية لا دخل لها بالموضوع.
ومما يدعو للسخرية أن تونس كانت هي المحفز لاندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي؛ ذلك أن الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الذي حكم البلاد بعد الاستقلال أدار ظهره لسياسة الوحدة العربية ومعاداة الغرب التي تبناها عبد الناصر مؤكدًا بدلًا من ذلك على تفرد بلاده. وعلاوة على ذلك، فطوال سنوات تكرر استقبال عامة التونسيين للهجتي المصرية المميزة بالفتور، لأنهم لا يحملون الكثير من مشاعر الحب للمصريين. فالتونسيون ينظرون إلى المصريين على أنهم مخادعون محترفون، وأنهم منافقون بسبب إظهارهم المتفاخر — والظاهري عادةً — للتقوى والورع. وفي المقابل، ينظر المصريون الأكثر تحفظًا إلى حظر ارتداء الحجاب في تونس وأحياء الدعارة المنتشرة تحت مظلة القانون على أنها نوع من الجنون. ولا غرو في أن مباراة كرة قدم جمعت بين فريقين من البلدين في القاهرة — بعد اندلاع الثورتين التونسية والمصرية ببضعة أشهر — قضت سريعًا على كل ما كان يقال عن مشاعر الحب بين الأشقاء العرب في كلتا الدولتين في أعقاب بداية «الربيع العربي». فعقب قرار مشكوك في صحته اتخذه حكم المباراة اندلعت أعمال الشغب في الجانب المصري حيث اندفعت الجماهير إلى أرض الملعب وهاجمت اللاعبين التونسيين. وصادف أن كنت في تونس تلك الليلة، ولم يكن من السهل أن أطلب فنجانًا من القهوة باللهجة المصرية.
وأثناء أسفاري المتتابعة جيئة وذهابًا بين تونس ومصر بعد الثورة، هالني أيضًا ما رأيت من مشاعر الازدراء التي يكنها عامة المواطنين في كلا البلدين للشعب الليبي في ظل نشوب حرب أهلية هناك. لدى معظم المصريين انطباع خاطئ بأن جميع الليبيين ينعمون بالثراء الفاحش، ولذا لم يروا سببًا لقيامهم بالثورة من الأساس؛ وهذا دليل آخر نستنبطه من الأحاديث المتداولة على أن المعاناة الاقتصادية — وليس التلهف لتشكيل حكومة تمثيلية على المنوال الغربي — هي التي دفعت المصريين إلى التظاهر. التونسيون من جانبهم كثيرًا ما نظروا إلى الليبيين نظرة ازدراء إلى حد يبدو معه فتورهم تجاه المصريين عاطفة مكبوتة. فهم يعتبرون الليبيين بدوًا حمقى، وسرعان ما هاجموا بعنف مخيمات اللاجئين التي أقيمت من أجل الليبيين جنوب بلادهم. لذلك اتضح أن الرأي القائل إن الثورات العربية مثلت إحياءً لحلم الوحدة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر — مثل العديد من النظريات التي يروج لها «خبراء» الشرق الأوسط — هو محض تمن لا حقيقة له.
نظرًا لأزمة الآراء السياسية الراديكالية المعارضة في الوقت الراهن — حيث تتحلى الشعوب العربية من دون شك بالجرأة التي كانت جزءًا محوريًّا في جميع الثورات الكبرى على مر التاريخ، لكنهم يفتقرون إلى التلاحم وإلى وجود استراتيجية بل ولغة سياسية يستخدمونها في صياغة أهدافهم — فالحقيقة المؤسفة أن الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان الأخرى كانت تصب دومًا في صالح الإسلاميين أولًا وقبل كل شيء. ذلك أن الإسلاميين يتحدثون لغة يتردد صداها بين العامة. ليس معنى هذا أن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية كبيرة في مصر، ومثلهم في ذلك السلفيون. لكن عندما يصل الأمر إلى جوهر الخلاف السياسي نجد المصريين غير مبالين تمامًا، والأحزاب التقدمية تكاد لا تكون معروفة، والإخوان المسلمين بالتبعية الفصيل المعارض الأفضل تنظيمًا وصاحب الرسالة الأكثر وضوحًا والأيسر استيعابًا.
وكحال كل جماعات المعارضة الإسلامية، لا يسعى الإخوان المسلمون إلى الحكم، لأنهم ينجحون ويزدهرون في جانب المعارضة، حيث ينشغلون بموضوعات غير ذات جدوى تتعلق بالإسلام — بدءًا من التصدي لمسابقات الجمال وحتى حظر الكتب التي تُرمَى بالكفر — في محاولة لأسلمة المجتمع من قاعدته. بعبارة أخرى، ينظر الإسلاميون إلى المدى البعيد، ولا يسعون إلى السلطة من أجل السلطة. ومن هنا كان استبعادهم الفوري للترشح في الانتخابات الرئاسية الهامة جدًّا. وبدلًا من ذلك نراهم يريدون أسلمة المجتمع تدريجيًّا من قاعدته، معتقدين أنهم مؤيَّدون من قِبل الله وتساندهم النزعات الاجتماعية المحافظة. وطوال عقود من الزمان كان البرلمان الهش ساحتهم المفضلة، والعمل الخيري بين الفقراء أداتهم الرئيسية لاستقطاب الآخرين. ومع تردي الوضع الاقتصادي المصري جراء الثورة، زادت الحاجة إلى أعمالهم الخيرية أكثر من ذي قبل، وصار البرلمان الجديد الأكثر تحررًا أكثر إغراءً لهم.
في حوار مع قناة «بي بي سي» في مارس/آذار ٢٠١١ قال عضو في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، «معتدل» على حد زعمه: «نريد حريتنا حتى نتمكن من تأسيس أحزاب سياسية في مجتمع مدني تعددي.» وواصل الشاب حليق اللحية حديثه قائلًا: «لا يمكنكم إصدار حكم علينا ما لم تمنحوننا الفرصة. نحن الإسلاميون بحاجة إلى فرصة.» لكن الدرس المستفاد لمصر — ولهذا الإسلامي تحديدًا إذا تأمل الواقع لحظة — من تجارب الدول الأخرى واضح وضوح النهار؛ لا يمكنك استيعاب الإسلاميين بالرغم من اعتدال بعض أتباعهم. أعطِهم جزءًا صغيرًا من ساحة اللعب، وسوف يستأثرون بالساحة كلها لأنفسهم، ويغيرون قواعد اللعبة على نحو يضمن انتصارهم دائمًا. وفوق كل شيء لن تستطيع دحرهم في المنافسات طويلة المدى؛ فعندما يتعلق الأمر بالجلد والثبات تكون الغلبة من نصيبهم. وعلى كل حال فالتعريف الدقيق للاعتدال هو معرفة الوقت الذي يجدر بك التوقف فيه، وكل الإسلاميين يشتركون في أنهم لا يكلُّون لحظة. والتعرض للإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط بالنقد صار مرادفًا للدعوة إلى خفض السن القانونية لممارسة الجنس إلى ثماني سنوات في جلسة كاملة لمجلس الشيوخ الأمريكي؛ أي صار أمرًا كارثيًّا. لا بد لكل الحجج أن تصاغ في حذر الآن باستخدام مصطلحات إسلامية، فضلًا عن أن التأييد الذي حظيت به الحركات العلمانية في الماضي ذهب أدراج الرياح؛ بين العامة على الأقل.
طوال العقدين الماضيين، أرسى الإخوان المسلمون دعائم نجاحهم الوشيك. فقد أظهر استطلاع رأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» قبل الثورة بوقت قصير أن غالبية المصريين يؤيدون رجم الزاني، وقطع يد السارق، وقتل المرتد عن الإسلام. والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها مع الأسف هي أن المجتمع المصري — بعد عقود من حكم نظام مبارك الفاسد (الذي قوَّى شوكة الإسلاميين كوسيلة لتجنب غضب الشعب جراء تحالفه مع واشنطن) — صار محافظًا ورجعيًّا للغاية، وأصبحت النخبة التقدمية بمعزل هائل عن الشعب، حتى إن شعار الإخوان المسلمين — الإسلام هو الحل — يطغى على الدعوات الأكثر تعقيدًا وبراعة إلى الصبر والتسامح والاعتدال. والأسوأ من هذا دخول السلفيين المتطرفين الآن إلى الساحة السياسية، حيث استغل السلفيون الأكثر تطرفًا الفوضى التي أعقبت سقوط مبارك لمهاجمة الصوفيين والمسيحيين. يرى هؤلاء المتشددون أن المزيد من الديمقراطية لا يعني مزيدًا من التعددية حتى مع تأسيسهم أحزابًا سياسية مؤخرًا بهدف تدعيم العملية الديمقراطية. والآن يتحول السيناريو المفجع الذي تصورته لمصر في هذا الكتاب — عندما كانت على أعتاب تغيير ثوري هو اعتلاء الإسلاميين السلطة — إلى واقع أسرع كثيرًا حتى مما توقعت.
في بداية أغسطس/آب ٢٠١١ — بعد اندلاع الثورة بستة أشهر — شهدت مصر ما يمكن وصفه بأنه «اللحظة الإيرانية» في البلاد. نزل ما يقرب من مليون سلفي وإسلامي متشدد إلى ميدان التحرير، وشقوا صفوف المعارضة الليبرالية والعلمانية التي كانت قد وافقت على الانضمام إلى المظاهرة من باب التدليل على وحدة الصف. وما حدث أن الإسلاميين دعوا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وإزاحة الأفكار العلمانية جانبًا. ردد الإسلاميون شعارات إسلامية، وارتدوا الزي السلفي، بل ولوَّحوا بالأعلام السعودية في دلالة أكيدة على الرغبة في العودة بالمجتمع إلى العصور الوسطى.
بعدئذ تحرك الجيش لإخلاء ميدان التحرير من بضعة مئات من المتظاهرين الليبراليين، وأعلن عن مثول مبارك أمام المحكمة. لا شك أن قرار محاكمة مبارك — بعد شهور من التباطؤ — كان انتصارًا لليبراليين الذين استبسلوا في مواصلة الضغط على المجلس العسكري من أجل محاكمة الديكتاتور. لكن الخطر يكمن في أن محاكمة مبارك (الجارية وقت كتابة هذه السطور) ستثبت أنه انتصار باهظ التكاليف. فقد سُحب البساط من تحت أقدام الحركات الثورية الليبرالية مثلما استُغلت حالة الزخم القائمة من قِبل الإسلاميين الذين يشاع أنهم أبرموا اتفاقًا مع الحكام العسكريين الجدد: دعونا نؤسلم المجتمع من قاعدته ونشارك بحرية في الانتخابات، وسوف نساعدكم في الحفاظ على الوضع الراهن. نفى الجيش نفيًا قاطعًا وجود مثل هذا الاتفاق، لكن الحقيقة واحدة سواء أكان الاتفاق قد أُبرم رسميًّا أم لا. وسط الفوضى والخراب اللذين تشهدهما مصر بعد الثورة والتنفيس عن المشاعر برؤية مبارك ماثلًا أمام المحاكمة تجلت حقيقة جديدة؛ من المرجح كثيرًا أن تصبح مصر — عاجلًا أكثر منه آجلًا — دولة إسلامية أكثر من احتمال كونها دولة ديمقراطية تسير على منوال الغرب.
بعبارة أخرى الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم — شئنا أم أبينا — لذا فمن الأفضل تقديم الدعم للطرف الرابح. لكن ماذا عن نساء المنطقة ومسيحييها وشيعتها ومفكريها من أنصار الفكر الحر الآخذ عددهم في التضاؤل طوال الوقت و«شعوبها» الإسلامية المعتدلة — على حد تعبير أوباما — الذين لا يريدون العيش في دولة دينية وهابية رجعية؟ ليذهبوا إلى الجحيم على ما يبدو؛ فالأولوية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا بد من تحقيقها ولو بإبرام اتفاق مع الشيطان. وبالرغم من أن هذا المنطق يتنافى مع الأخلاق فإن دوافعه مفهومة — من المنظور البراجماتي المحض الذي تتبناه واشنطن — إذا كان يخدم المصالح الأمريكية حقًّا.
غير أن مشكلة الحجج البراجماتية أن التاريخ اعتاد تفنيدها. ساند البراجماتيون الأمريكيون الأنظمة الفاسدة في جنوب فيتنام واحدًا تلو الآخر، لكنهم خسروا الحرب مع ذلك، وسلموا المنطقة إلى الصين على طبق من فضة. وساند البراجماتيون شاه إيران واكتسحت الثورة لتمكِّن آية الله الخميني، وقد شهد التاريخ لتوه تكرارًا لهذا السيناريو في مصر. في الثمانينيات من القرن العشرين، سلَّح البراجماتيون أسامة بن لادن. وثمة أمر واحد واضح: وهو أن واشنطن ستواصل تفضيل مصالحها ومصالح تل أبيب على مصالح الشعب المصري. والنتيجة ستكون كارثة أخرى في السياسة الخارجية. وعندما تندلع الثورة المصرية القادمة — وهو أمر مؤكد — سيقف الإسلاميون المتشددون في الصفوف الأمامية منذ اللحظة الأولى.