خاتمة
أصاب الإضراب العام الذي شهدته مصر يوم ٦ أبريل/نيسان عام ٢٠٠٨ — ذلك الشهر الذي نُشرت فيه الطبعة الأولى من كتاب «في قلب مصر» — معظم أنحاء البلاد بالشلل التام. اندلعت المظاهرات في مدينة المحلة بدلتا النيل على مدار يومين. وتزامنت «انتفاضة المحلة» — كما أُطلق عليها — مع إضراب في المصنع الرئيسي في المدينة الذي أصبح بؤرة اهتمام مئات من العمال المضربين في جميع أنحاء البلاد. أسفرت مظاهرات المحلة عن وفاة ثلاثة مواطنين وإصابة المئات في أسوأ موجة اضطرابات شهدتها البلاد منذ عام ١٩٧٧، مما أسفر عن تصعيد أكبر موجة احتجاجات عمالية منذ ثورة ١٩٥٢ التي جاءت بجمال عبد الناصر إلى سدة الحكم.
أثار نجاح الإضراب من دون مشاركة الإخوان المسلمين دهشة كثير من المراقبين، لكن الجماعة أعلنت في وقت متأخر ودون مراوغة عن تضامنها مع الدعوة إلى إضراب عام ثان يوم ٤ مايو/أيار، بعدما نالت ما نالته من انتقاد من جانب صحف المعارضة بسبب تخلفها عن المشاركة في الإضراب الأول. لكن كان إخفاق الجولة الثانية من الإضراب العام مدويًّا على قدر ما كان من نجاح الإضراب الأول. ففي يوم ٤ مايو/أيار، اكتظت شوارع القاهرة بالزحام المروري كالمعتاد، ولم تُغلق أبواب المحال التجارية، وخلت الشوارع من مظاهرات الطلاب والعمال والإسلاميين أيضًا.
تتفق الروايتان المتضاربتان حول هذين الإضرابين تمام الاتفاق مع الطرح الرئيسي الذي يدور حوله هذا الكتاب؛ فقد ظهر بجلاء أن المجتمع المصري على شفا الانفجار، في حين ثبت أن تأثير الإخوان المسلمين — مثلما أشرت في الفصل الثاني — فيه الكثير من المبالغة. بل الواقع أن إعلان الجماعة عن تضامنها كان عاملًا رئيسيًّا في إحباط الموجة الثانية من الإضرابات؛ بل وصل الأمر إلى حد أن الجماعة لم تتمكن من إلزام أعضائها بالمشاركة يوم الإضراب.
•••
في غضون ذلك، استمرت الدعاية الجوفاء للحزب الوطني الديمقراطي برئاسة مبارك في فرض هيمنتها على الخطاب السياسي الداخلي في مصر. وبدلًا من الحوار العلني المثمر، توالت النكبات الحافلة بالمعاني الرمزية على مصر؛ وأبرزها على وجه التحديد حادثان وقعا عام ٢٠٠٨. فقد شبَّ حريق في شهر أغسطس/آب التَهم مبنى مجلس الشورى أعقبه في الشهر التالي حريق آخر أتى على المسرح القومي في القاهرة. وفي حين وصفت السلطات كلا الحريقين بالقضاء والقدر، فإن عجز الحكومة عن حماية منشآتها القومية البارزة أكد للعديد من المصريين فساد النظام وعدم أهليته.
كتبت رئيسة تحرير صحيفة ديلي نيوز — الصحيفة الرسمية الناطقة بالإنجليزية في مصر — عن حريق البرلمان محذرة أن تلك الكارثة ليست سوى «مقدمة لسلسلة حرائق مستقبلية». وقد تكررت الإيحاءات التي تنذر بثورة شعبية وشيكة على نحو مثير للقلق منذ أن نُشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب؛ ولأسباب وجيهة.
•••
في الوقت الذي سحق فيه النظام انتفاضة المحلة، وألقى القبض على من دعوا إليها، فإنه لم يفعل أي شيء لمعرفة الأسباب الكامنة وراء اندلاعها. قطعت الحكومة وعدًا بزيادة ٣٠ بالمائة في رواتب الموظفين (وهو مؤشر على مدى زعزعة الاحتجاجات العمالية للنظام)، لكنها رفعت أسعار السلع الأساسية بالقدر نفسه لاحقًا. وارتفع المعدل الرسمي للتضخم في الحضر في الوقت نفسه إلى ٢٦ بالمائة ليزيد من معاناة المواطنين البسطاء. كل هذا ولا تلوح في الأفق بادرة انفراج. تسببت أزمة الائتمان العالمية في هبوط سوق المال المصري بنسبة ٢٠ بالمائة بحلول أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٠٨ بالتزامن مع انسحاب المستثمرين الأجانب من الاقتصادات الناشئة. وامتلأت الصحف المحلية بقصص عن حوادث انتحار المصريين بعد ضياع مدخراتهم؛ وكانت تلك المرحلة الأخيرة لاستئصال الطبقة الوسطى من المجتمع، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ وهي عملية بدأت في عهد السادات في سبعينيات القرن العشرين.
وقفت الأزمة الاقتصادية العالمية عائقًا في طريق البرنامج الاقتصادي المتعثر بالفعل الذي يتبناه النظام. كان جذب الاستثمارات الأجنبية — عن طريق الخصخصة في المقام الأول — العامل المحوري الذي ترتكز عليه السياسة الاقتصادية للحكومة طوال العقدين الماضيين. لكن الجهود المبذولة لم تكن منتظمة، ولم تعد بالنفع على رجل الشارع المصري البسيط. مع هذا ظل رئيس الوزراء أحمد نظيف واثقًا ثقة عمياء في هذا المنهج على الرغم من تقييم صدر آنفًا عن رئيس البنك الدولي ذُكر فيه أن المصريين العاديين بحاجة إلى أن ينتظروا «جيلًا» كاملًا حتى يشعروا بأي فائدة تعود عليهم من النمو الاقتصادي للدولة وفق نظرية الانسياب (وهي نظرية قائمة على فكرة أن المزايا والفوائد الممنوحة للأغنياء تنساب لأسفل مع الوقت حتى تصل إلى الفقراء).
•••
لكن هل سينتظر المصريون «جيلًا» كاملًا حتى ينساب إليهم عائد النمو الاقتصادي؟ ربما يكون الإعلان عن ترشح جمال مبارك للرئاسة هو شرارة انطلاق الانتفاضة الشعبية التالية. فالاعتراض على توريث السلطة لجمال هو ما يوحِّد كافة صفوف المعارضة المصرية، فضلًا عن أن محاولات النظام لتقديمه على أنه الأقرب إلى الشعب المصري قد باءت بالفشل. وربما يكون المسمار الأخير في نعش علاقات جمال تلك المحاكمة المثيرة الجارية (وقت كتابة هذه الخاتمة) للملياردير المصري هشام طلعت مصطفى. وُجِّهَت إلى هشام طلعت — وهو العضو البارز في الحزب الحاكم ويقال إنه على علاقة وطيدة بابن الرئيس — تهمة التحريض على قتل مطربة لبنانية في دبي كانت تجمعه بها علاقة سابقة. وعلى الرغم من إصرار مصطفى على براءته من التهمة المنسوبة إليه، فإن هذه الفضيحة قد عضَّدت المفاهيم السلبية عن ابن الرئيس والزمرة المحيطة به ودائرة معارفه المشينة. ولا عجب في القرار الذي اتخذه النظام بمنع تغطية وقائع المحاكمة في وسائل الإعلام المحلية.
غير أن السخط الشعبي على محاولة تدعيم جمال مبارك بوصفه وريثًا لأبيه هو واحد من بين البلايا العديدة التي تؤجج غضب الشارع، والتي ربما تخرج به عن نطاق السيطرة. ويتزايد الغضب من ممارسات جهاز مباحث أمن الدولة، ولجوء النظام إلى التعذيب، والفساد المستشري، والإحساس بأن النخب المصرية التي ترتدي عباءة الغرب تنهب البلاد تحت غطاء تحرير اقتصادها وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين الأجانب.
•••
عندما نُشر الكتاب، منعت السلطات المصرية تداوله داخل البلاد، وهي المرة الأولى التي يُمنع فيها كتاب سياسي من التداول في مصر طوال العقود الثلاثة التي قضاها نظام مبارك في الحكم. انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم في عشرات المدونات، ووكالات الأنباء، وإذاعة بي بي سي العالمية، وقناة بي بي سي العربية، ومجلة ذا بوك سيلر البريطانية، وصحف المعارضة المصرية الرائجة، ووسائل الإعلام العربية.
وتراجعت وزارة الإعلام المصري فجأة عن موقفها بعد أن ذاع صيت الكتاب على هذا النحو في الصحف العالمية، وأصدرت بيانًا مطولًا زعمت فيه أن الكتاب لم يُمنع، وإنما نال الموافقة الرسمية على توزيعه. وتصدَّر هذا النفي الصفحات الأولى من جميع الصحف اليومية المصرية. وفي اليوم التالي، نشرت صحيفتا «المصري اليوم» اليومية المستقلة و«الدستور» الأسبوعية المعارضة عرضًا للكتاب في صفحة كاملة، وتصدَّرَت مقتطفات من هذا العرض الصفحتين الأوليين في كلتا الصحيفتين. وفي الوقت نفسه، نشرت وكالة أسوشيتد بريس خبرًا أكدت فيه أن الكتاب كان قد مُنع من النشر بالفعل في البداية، لكن أجاز جهاز الرقابة على الكتب والمطبوعات نشره في أعقاب التغطية الإعلامية التي تلت قرار الحظر.
إنني أعتبر هذا التحول انتصارًا صغيرًا لحرية التعبير في مصر وفي العالم العربي كله. فحظر كتاب «في قلب مصر» خلَّده في الذاكرة الحية باعتباره أكثر الكتب التي طُرحت للنقاش عن الأوضاع في مصر. وأظن أن تحذيره من اندلاع ثورة سياسية واجتماعية وشيكة يظل وثيق الصلة أكثر من ذي قبل، وحريٌّ بالإدارة الجديدة للبيت الأبيض أن تنظر إليه بعين الاعتبار. ففي الوقت الذي ركزت فيه حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية التي أسفرت عن فوز باراك أوباما في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٠٨ على الجدل المحتدم بشأن السياسة الأمريكية تجاه العراق وإيران وباكستان وأفغانستان، ظلت مصر — وهي دعامة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط منذ زمن طويل — بعيدة عن النقاش تمامًا، وهو ما أثار مشاعر القلق، إذ يبدو واضحًا الآن أكثر من أي وقت مضى أن أكثر الدول العربية من حيث تعداد السكان سوف تفرض تحديًا مخيفًا على الرئيس القادم. مرت ثمانية وعشرون عامًا منذ أن تولى الرئيس حسني مبارك السلطة في مصر عقب اغتيال أنور السادات عام ١٩٨١. وكما أوضحت في هذا الكتاب، فإن ترِكَته تتمثل في القمع السياسي والركود الاقتصادي وغليان الشعب المصري؛ وهو غضب جماعي لا تنفِّس عنه فصائل المعارضة المنظمة، لكنه يبدو دائمًا على شفا الانفجار. لا بد لإدارة أوباما أن تحقق أقصى استفادة من الضعف الحالي لنظام مبارك، وخاصة الفرص الجديدة التي ستلوح في المستقبل القريب تزامنًا مع تسليم السلطة، وذلك من أجل الحث على تحريك العملية السياسية في مصر وإفساح المجال أمام الدولة لمواجهة الأسباب الكامنة وراء عدم الاستقرار. لكن على واشنطن أن تتحرك سريعًا قبل أن يفوت الأوان، ولا يصبح أمامها سوى الوقوف في موضع المتفرج بينما القاهرة تشتعل.