ثورة باءت بالفشل
على بعد مسافة قصيرة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ بين شوارع منطقة وسط البلد المزدحمة، في العاصمة الأكبر في أفريقيا والأكثر ازدحامًا في العالم العربي؛ يقع مقهى صغير متهالك يدعى الندوة الثقافية، كراسيه ومناضده الخشبية تطل على الشارع خارجه، ويرتاده المناضلون من المفكرين الليبراليين، وتتبارى فيه أصوات الزبائن الصاخبة مع أصوات أبواق السيارات، وتلتقي أثناء إدلائهم بالطلبات — التي يجلبها نُدُل يرتدون معاطف بيضاء — مع أصوات الباعة المتجولين المتكررة المجاورة صانعة مزيجًا أوبراليًّا، يختلط فيه الدخان المتصاعد من نارجيلة المقهى بعوادم سيارات المرور التي توقف سيرها من فرط الزحام. إنها صورة مصغرة للقاهرة المعاصرة: زحام المرور، والتلوث الضوضائي، والحياة الاجتماعية الزاخرة بالأحداث لأناس أكثر ما يعشقونه هو الخوض في الأماكن العامة فيما عظم وصغر من الأمور، على الرغم من الاضطرابات المحيطة بهم (أو ربما بسببها). في تلك الآونة، في شتاء عام ٢٠٠٦، حقق فيلم بعنوان «عمارة يعقوبيان» نجاحًا ساحقًا في البلاد. قصدت آنذاك مقهى الندوة الثقافية؛ للقاء الكاتب علاء الأسواني، مؤلف الرواية التي ارتكز عليها الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ السينما المصرية، الذي شارك في بطولته الكثير من نجوم السينما في مصر، وحطم جميع الأرقام القياسية لإيرادات الأفلام المصرية في الأسابيع الأولى من عرضه. دارت أحداث الفيلم في مبنى من أبنية الماضي الشامخة في منطقة وسط البلد التاريخية بالقاهرة، أي قريبًا من مقهى الندوة الثقافية، ومثلت شخصياته المتنوعة شرائح مختلفة من المجتمع المصري المعقد. والمبنى في حد ذاته شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم؛ إنه مرآة بسيطة لمنتهى الازدهار الذي شهده المبنى في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات الساحرة، الحقبة التي تعرف في مصر ﺑ«الزمن الجميل»، ويرمز تهالك المبنى إلى تدهور مكانة مصر تدريجيًّا إبان الحكم العسكري الذي دام أكثر من خمسة عقود منذ انقلاب يوليو/تموز عام ١٩٥٢، الذي أطاح بالنظام الملكي المؤزر من قبل بريطانيا، ليصعد بجمال عبد الناصر والضباط الأحرار إلى السلطة. صدر الفيلم ليعرض بقوة وعلى نحو فريد الواقع المرير الذي يواجهه المصريون يوميًّا، في بيئة ثقافية تكاد تكون قاحلة، تخلت فيها عن السينما المصرية عظمتها السابقة، وأضحت خاضعة لرقابة مكثفة، وباتت تنتج اليوم عددًا لا حصر له من الأفلام الكوميدية الرخيصة. الانحلال الجنسي والفساد السياسي تفشيا في العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتنافس فيه القوادون والعاهرات وصغار المحتالين ومحترفوهم على غنائم الأمة المتهاوية التي باتت الآن تعيش كابوسًا من جانبين: اتساع أملاك الطبقات العليا بلا حدود، واجتياح الإسلاميين للطبقات الدنيا. إنها صورة يزداد فيها الثري ثراءً والفقير فقرًا، أما الشرائح الوسطى فقد اندثرت واندثر معها كل أمل في التطور الاجتماعي القائم على التعليم الجيد والرغبة في العمل الجاد، في الوقت الذي استغل فيه الإسلاميون المتشددون الضعفاء والمعدمين الذين تخلى عنهم النظام الحاكم، ووقع المثقفون المتعلمون تحت أقدام عصابات شبيهة بالمافيا يشار إليها باسم «أغنياء الحرب»؛ وهو مصطلح يقابله في الإنجليزية مصطلح يعني «القطط السمان». إنه بلد يحلم شبابه جميعًا تقريبًا بالهروب منه، وأملهم الأخير للتمتع بمستقبل أفضل هو مفارقة الأحباب، والسفر بحثًا عن العمل والكرامة.
•••
يلتقي علاء الأسواني كل خميس في مقهى الندوة الثقافية بأصدقائه ومحبي رواياته، وبغيره من المفكرين؛ لمناقشة آخر التطورات السياسية والثقافية في مصر. كان الأسواني يملك قاعدة عريضة من المعجبين، فحتى قبل أن يصنع نجاح فيلم «عمارة يعقوبيان» الهائل اسمه بوصفه روائيًّا عالميًّا، حققت الرواية ذاتها أعلى المبيعات في مصر والعالم العربي منذ صدورها في عام ٢٠٠٢، بل وذهب البعض منذ وقت مبكر إلى تلقيبه بخليفة نجيب محفوظ، الروائي العظيم الحائز جائزة نوبل، الذي تحولت رواياته إلى أفلام شهيرة، وتوفي في أحد المستشفيات بالقاهرة في عام ٢٠٠٦ بعد صراع طويل مع المرض إثر محاولة اغتيال تركته عاجزًا عن الكتابة، نفذها متطرف إسلامي في أوائل التسعينيات. يشير اسم الأسواني — وهو رجل في أواخر الأربعينيات له رقبة ملاكم وساعِداه — إلى انحدار أصوله من قلب النوبة؛ من مدينة أسوان الساحرة بجنوب مصر. وتوحي شخصيته الودودة المتواضعة بأنه — مرة أخرى كنجيب محفوظ — لم يدع الشهرة التي اكتسبها في الآونة الأخيرة تصيبه بالغرور. لقد عاش في الولايات المتحدة وفرنسا، وصار يتقن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية إلى جانب العربية؛ لغته الأم. أسس أولى عياداته بوصفه طبيب أسنان في المبنى الذي يشير إليه اسم القصة وتدور حوله أحداثها الخيالية، وكان شأنه شأن أغلب الرجال المصريين الذين التقيتهم يدخن السجائر باستمرار، وهو أمر مستغرب من طبيب أسنان. عندما قدمت له نفسي، لاحظ أنني أدخن سجائر كليوباترا المحلية فيما هو يمسك بعلبتي سجائر من ماركة أمريكية يفضلها، فأطلق مزحة عن التمازج بين الثقافات المختلفة — الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أحدث رواياته؛ «شيكاجو» — لإذابة الجليد واستهلال الحديث.
في تلك الأمسية الباردة من شتاء عام ٢٠٠٦، اجتمع ما يقرب من خمسين شخصًا في مقهى الندوة الثقافية، جلست في الصف الخلفي، أتابع ما يجري من حولي دون الانخراط فيه، وتناقل المجتمعون جهاز ميكروفون متصلًا بمكبر صوت سمح لصوت كل شخص بأن يبز ضجيج المرور بالخارج. دار الجزء الأكبر من النقاش الذي افتتحه الأسواني حول أصداء تصريح أدلى به وزير الثقافة فاروق حسني مؤخرًا، قال فيه إن ارتداء الحجاب — الذي انتشر في مصر منذ أوائل التسعينيات، ولا تعارضه إلا الأقلية القبطية المسيحية — هو دلالة على «الرجعية». لكن الهجوم المضاد لتصريح فاروق حسني كان قاسيًا، بقدر ما كان محبطًا؛ فقد جاء ليثبت فقط صدق إعلانه، وهو ما أدهشني. اتحد أعضاء من البرلمان المصري من حزب الرئيس مبارك الحاكم؛ الحزب الوطني الديمقراطي (العلماني ظاهريًّا) — الذي يسيطر على المجالس التشريعية المؤلفة بموجب انتخابات محددة النتائج سلفًا — مع أعضاء برلمانيين من جماعة الإخوان المسلمين في الدعوة لاستقالة فاروق حسني، وشن كاتبو الأعمدة في الصحف القومية والمعارضة هجمات شرسة ضد الوزير تتعرض لشخصه، بل وأشار البعض بخبث (وبلا سبب واضح) إلى أن من لا يبدو أن النساء تهمه كثيرًا يجب أن يكون آخر من يدلي برأي قوي فيما يرتدينه. ظاهريًّا قد يبدو هذا تحالفًا غريبًا بين الإسلاميين والعلمانيين، لا سيما بالأخذ في الاعتبار أن النظام يُتهم دائمًا بحبس وتعذيب النشطاء المعارضين وملاحقتهم بلا هوادة، بالأخص من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، لكن إن أنعمنا النظر في الأمر، فسنجد أن ردة الفعل إزاء تصريحات فاروق حسني توضح بقوة أن النظام يسرق عباءة الإسلاميين لرفع شعبيته الآخذة في التدهور بين العامة. إنها ممارسة ليس من قبيل المصادفة أنها تساهم في تهميش أصوات التقدميين أكثر مع الترويج لخطورة الإسلاميين التي يحاول النظام أن يلفت الأنظار — قدر الإمكان — إلى جسامتها لتقليص حملات الضغط والنقد التي يتعرض لها من مموليه في واشنطن.
أيد الجميع تقريبًا في صالون الأسواني غير الرسمي فاروق حسني، لم يؤيدوا بالضرورة آراءه عن الحجاب، لكنهم ارتأوا بلا شك أنه لا يستحق أن يُهاجَم، مما أظهر ميولهم الليبرالية وجهلهم بالرأي العام السائد؛ وعلى كل حال، إن كان المعارضون والحزب الحاكم يرون في تعليقات فاروق حسني فرصة سياسية، فهذا يدل على أنهم يجدونها قضية ذات صدى في الشارع المصري، ومن هنا يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. وكان أكثر ما عجز المجتمعون في الندوة عن تصوره هو كيف استطاع فرد — أيًّا كان موقعه في الحكومة المصرية — أن يثير مثل هذه الجلبة، في الوقت الذي فشلت فيه القصص عن استشراء الفقر والبطالة والفساد المستوطن وثقافة المحاباة الواسعة الانتشار — وهي الأفكار الرئيسية التي تدور حولها قصة الأسواني — في تحفيز الجماهير لاتخاذ ردة فعل تقترب من هذا الحد. ردة الفعل تلك أثبتت انعدام الحوار الثقافي في البلاد، وسيطرة الإسلاميين على العقل الجمعي المصري، لكنها أوضحت أيضًا سذاجة مفهوم العدالة لدى الحاضرين بالصالون الثقافي؛ فالجلبة حول الحجاب صرفت انتباه الناس عن واقع محزن يعيشونه، لكنهم لا يستطيعون في الوقت نفسه معالجته. لا عجب في أن الكوميديا الرخيصة تسيطر سيطرة كبيرة عندما تتعذر معالجة القضية الملحة إلى درجة مقبضة للصدر.
•••
قال لي الأسواني بعد أن انفض الحشد وجلسنا على طاولة خارج المقهى: «نشأت في منطقة وسط البلد بالقاهرة، أعتقد أن تلك المنطقة ليست جزءًا من العاصمة بقدر ما هي حقبة تعود إلى أكثر من مائة وخمسين عامًا قبل ثورة يوليو، عندما كانت مصر متسامحة إلى حد بعيد.»
تمثل الطرز المعمارية المختلفة التي انتشرت في القاهرة قبل ثورة يوليو تغير العصور والأذواق من منظور مجتمع الصفوة الليبرالي الذي انبثق منه الأسواني؛ إنها تعبر عن فترة تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، عاش وعمل فيها المسلمون، والمسيحيون، واليهود، والمصريون، والعثمانيون، والأرمن، والإيطاليون، والفرنسيون معًا، وصارت المدينة بفضل مظهرها نموذجًا للتعدد والاختلاف. تُبرز رواية «عمارة يعقوبيان» هذا المجتمع الذي اتسع للجميع؛ إذ يتحول المبنى الذي سميت باسمه القصة، الكائن في القاهرة كما نراها في الواقع، والمصمم على طراز «الآرت ديكو»، إلى نصب تذكاري يُذكِّر بالطراز الكلاسيكي الأوروبي الرفيع، وقد اكتمل مظهره ذاك بأعمدة وأحجار إغريقية الطابع.
احتك الأسواني بالمجتمع الغربي في سن صغيرة، وذكر أنه في جزء منه «ليبرالي بالدرجة الأولى»؛ فقد كان والده كاتبًا وفنانًا، لذا نشأ على حب قراءة الكتب وحرية الرأي؛ «فمن أراد أن يصلي، صلى، ومن أراد أن يشرب الخمر، شربه، ومن أراد أن يصوم، صام»، هكذا أخبر مجلة «إيجيبت توداي» المحلية التي تصدر باللغة الإنجليزية في مصر إبان حملته الدعائية لدى صدور روايته. وقد حرص على أن يبين لي أنه لا يشبه أيًّا من شخصيات قصته، فإحدى نقاط قوته ككاتب بالفعل هي قدرته — على طريقة الروائي الفرنسي مارسيل براوست — على تفهم آراء شخصياته المختلفة على الرغم من تعارضها. لكن مع تواصل حديثنا تبين أنه كبطل روايته الأرستقراطي المسن زكي باشا، يزدري الواقع الكئيب الذي تعيشه القاهرة المعاصرة ويشعر بالحنين إلى مصر ما قبل ثورة يوليو، مع التحفظ بشدة على الاستعمار البريطاني الذي ميز هذه الحقبة.
قال الأسواني وهو مستغرق في التأمل: «الاستعمار في الأحوال كافة شر، فإيجابياته — أيًّا كانت — ليست لمنفعة أهل الوطن، ولكن الحقيقة هي أنه قبل هذه الثورة، كان مفهومنا عن الدين متسمًا بالفعل بالتسامح، لهذا كان مجتمعنا متعدد الأعراق؛ عاش فيه أناس من كل ربوع الأرض.» هنا قاطعته مجموعة أخرى من المعجبين تطلب توقيعه على النسخة الإنجليزية والعربية من روايته.
عمل الأسواني فيما مضى بصحيفة تدعى «الشعب»، كان فيها مسئولًا عن الصفحة الأدبية. والصحيفة ذاتها تملك تاريخًا مشوقًا؛ فبعدما كانت يسارية، أخذت تتخذ أكثر فأكثر طابعًا إسلاميًّا، ويفسر هذا على الأرجح سبب توقف الأسواني عن العمل فيها. إحدى التفسيرات القوية لتبرير هذا الاتجاه الذي تحولت إليه الصحيفة هو أنها سعت لأن تعكس بدقة آراء من تزعم أنها تمثلهم، كما يوحي اسمها، والبديل العملي أشار إلى إمكان تحقيقها مبيعات أفضل إن تخلصت من ميولها اليسارية. ولكن سبب النقلة هو في الواقع اهتزاز ثقة كبار الشخصيات المؤثرة في الصحيفة في الحلول اليسارية، إن جاز التعبير. من هنا شنت «الشعب» من قبل حربًا شعواء على وزارة الثقافة لإصدارها رواية تدعى «وليمة لأعشاب البحر»، اعتبرتها الجهات الرقابية المحلية منافية للإسلام. لعل الأسواني تعاطف على مستوى شخصي مع وزير الثقافة فاروق حسني في صدامه مع المتطرفين الإسلاميين حول مسألة الحجاب — التي أنجته فيها صداقته لسوزان مبارك قرينة الرئيس التي ترفض ارتداء الحجاب — لأنه بدوره تعرض لهجمات شرسة مماثلة تستهدف تشويه صورته في الصحف الموالية للحكومة؛ إذ اتهمه كاتبو أعمدة الرأي في تلك الصحف بتلويث سمعة مصر بالخارج (وهي رسميًّا جريمة)، لا سيما لأن إحدى شخصيات روايته كان لواطيًّا يجاهر إلى حد ما بلواطه. (اللواط منتشر بين الشباب المصريين، لكنه لا يناقش في العادة بانفتاح)؛ علاوة على أن الرواية حوت مشهدًا يصف اغتصابًا وحشيًّا لإسلامي مشتبه به على يد بلطجي مأجور من الحكومة في أحد مراكز الشرطة التي يزعم أن اغتصاب الرجال والنساء يمارس فيها ممارسة دورية كعقاب وكوسيلة لانتزاع الاعترافات.
الشعب المصري هو الأكثر حبًّا لوطنه في العالم العربي. قد يبدو هذا غريبًا بالأخذ في الاعتبار أنني لم ألق من قبل مواطنًا مصريًّا لا يكره رئيسه بطريقة أو بأخرى، وبالنظر إلى أن أحد استطلاعات الرأي التي أجراها معهد بيو للأبحاث في يوليو/تموز عام ٢٠٠٧ كشفت عن أن نسبة كاسحة من المصريين تبلغ ٨٧٪ (أكبر نسبة بين سبعة وثلاثين دولة أجري فيها الاستطلاع نفسه) غير راضين عن أداء حكومتهم. لكن من الصعب في الوقت نفسه أن تجد بين المصريين من لا يحب وطنه، ويعتز بماضيه ويؤمن بطاقات الشعب المصري عندما تسنح له فرصة شبه لائقة لصنع مستقبله. مفتاح فهم هذا التناقض الواضح هو إدراك أن المصريين رغم وعيهم بمواطن ضعف وطنهم يكرهون أن يشير إليها الغرباء، بل ويمقتون أن يفضح مصري تلك المعايب على الملأ ليحشد آذانًا من المجتمع الغربي الذي يعتقد المصريون أنه يتدفق عليه سيل من الصور السلبية عن العالم العربي.
ذكرت الأسواني بهذا قبل أن أقرأ له ما قاله عن مصر في المقابلة الصحفية نفسها التي أجرتها معه مجلة إيجيبت توداي، تعقيبًا على دراسة مخيبة للآمال عن مصر، أجرتها شركة مونديال بالمملكة المتحدة، وهي شركة استشارية رائدة تقدم خدماتها للشركات الأجنبية التي تستثمر في مصر وللراغبين في برامج تأمين السفر. أثارت الدراسة حالة من التأمل للأوضاع الداخلية للبلاد في الإعلام المصري، وليس فقط القليل من ردود الفعل التلقائية والمتسرعة، وذلك عندما حصل قطاع الخدمات والسياحة المصري في تقييم مونديال على صفر صريح. قال الأسواني للمجلة: «بلغ الأمر أننا وصلنا إلى الصفر، لكن الصفر الذي أعطته لنا مونديال كان نتيجة عادلة، عادلة تمامًا. ليس فقط في المونديال، بل في كل شيء؛ وإن كان من يجب أن يحصل على الصفر هو الحكومة المصرية وليس المصريين. الحكومة المصرية تقييمها صفر في كل المجالات، لا على صعيد كرة القدم فحسب، بل أيضًا على صعيد الصحة والتعليم والديمقراطية، وكل شيء.» ولما سألته عن مسئوليته كمصري عن صورة مصر أمام العالم الخارجي؛ القراء الأساسيين لمجلة إيجيبت توداي، أجابني: «مهمتي بوصفي روائيًّا ليست أن أحرص على أن يزور ملايين السياح مصر كل عام.» ثم أضاف أنه متأكد — على أي حال — أن عبيد السلطة؛ أصحاب أعمدة الرأي التي تهاجمه في أجهزة الإعلام الحكومية، قد تلقوا مكافآت سخية من الحكومة لتعبيرهم عن «آرائهم»، وهو ما يجب أن يسبب إحراجًا قوميًّا. لقد أثبت استقبال عوام المصريين له عندما يسير في شوارع القاهرة أن الكثيرين على مستوى المواطن العادي يقدرون محاولاته. وفي النهاية عاد متنهدًا إلى فكرته الرئيسية حيث قال: «مشكلة حكم جمال عبد الناصر هي أنه أنشأ نظامًا غير ديمقراطي في الأساس، ما زلنا نحتفظ به إلى اليوم.»
وصلت الشرطة السرية يوم الخميس من ذاك الأسبوع إلى مقهى الندوة الثقافية قبل وقت قصير من بدء انعقاد الصالون الثقافي — وكأنها تبرهن على رأي الأسواني — وأُبلغ صاحب المقهى بأن هذا التجمع غير قانوني، وتعرض الندل هناك للضرب، وأمروا بالتوقف عن تقديم المشروبات للضيوف. وانتهى الأمر بقطع صاحب المقهى الذي أصابه الذعر (وهو صديق للأسواني منذ أكثر من عقد) الكهرباء عن المكان، مما اضطر جماعة المفكرين الأحرار المعارضة الصغيرة إلى البحث عن منبر آخر للتعبير فيه عن آرائهم. ولم ينج الأسواني من الاعتقال — الذي كان نصيب الكثير من أصحاب المدونات والنشطاء السياسيين المعارضين والمفكرين الليبراليين الأقل شهرة — إلا لأن شهرته على المستوى الدولي بلغت حدًّا قرر معه النظام أن الاحتجاجات الحتمية في الصحافة العالمية التي ستنجم عن هذا القمع البشع؛ ستخلق من المشكلات أكثر مما يستحقه الأمر. وعلى أي حال فإن كل الأنظمة الديكتاتورية باستثناء الأكثر قسوة منها تدرك أنها تجني بعض المنفعة بترك بعض الليبراليين البارزين وشأنهم، ولعل هذا القرار جاء بضغط من واشنطن ومنظمات الرقابة الدولية بناءً على ملف النظام المفزع في مجال حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية؛ وبذا يكتسي النظام أمام العالم الخارجي بلباس الحرية والتعددية والسماح بالاختلاف.
•••
في مقطع شهير من رواية «عمارة يعقوبيان»، يقول زكي باشا بطل الرواية الذي كان والده أحد الأرستقراطيين الذين أزيحوا عن السلطة في عام ١٩٥٢: «عبد الناصر أسوأ حاكم في تاريخ مصر كله.» أما الفيلم، في أغلبه، فيحاكي الرواية بإخلاص، إذ تطورت نظرة النظام إلى تراث ناصر وأتباعه لتسمح بالمعارضة. لكن لعل ما يدل على أنه لا تزال هناك حدود يحظر تخطيها في الانتقادات اللاذعة المباشرة، التي توجه عبر وسائل الإعلام الشعبية كالأفلام؛ هو أن العبارة السابقة حُذفت من الفيلم ومعها شرح زكي باشا الصادق لها في صفحات الرواية؛ حيث يقول بعدها: «… ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر، التخريب اللي عمله في الشخصية المصرية محتاج سنين طويلة لإصلاحه … عبد الناصر علم المصريين الجبن، والانتهازية، والنفاق …» وعندما تسأله عشيقته الفقيرة بثينة (المستاءة بدورها بشدة من تراث الثورة) عن سبب حب الناس لعبد الناصر إلى الآن، يجيبها ثائرًا: «اللي يحب عبد الناصر إما جاهل أو مستفيد … الضباط الأحرار كانوا مجموعة عيال من حثالة المجتمع … معدمين أولاد معدمين … حكموا مصر وسرقوها ونهبوها وعملوا ملايين.»
•••
كانت رواية «عمارة يعقوبيان» أبرز مثال على عملية إعادة تقييم ثقافية مستمرة في مصر لثورة ١٩٥٢ من ناحية، والنظام السياسي الاجتماعي الذي حكم مصر قبل الثورة من ناحية أخرى، والذي أدانته المناهج التعليمية وأجهزة الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة المصرية واصفةً إياه بأنه عهد استعمار وشرور. والحق أن جمال عبد الناصر الذي تمتع بشخصية كاريزمية إلى حد هائل عشقته جماهير المصريين حتى وفاته في عام ١٩٧٠، وليس من الصعب علينا فهم السبب؛ فقد كانت هناك فوائد هائلة قصيرة الأجل لحكم عبد الناصر: تحررت مصر أخيرًا من السيطرة الأجنبية، واتسع نطاق التعليم، وضمن خريجو الجامعات الحصول على وظائف حكومية، وتأممت قناة السويس، وبُني السد العالي، وتوزعت الأراضي على نحو أكثر عدلًا. والزعم أن الضباط الأحرار كانوا من «حثالة المجتمع» قد ينطوي على قدر من المغالاة، لكنهم بلا شك عرفوا كيف يحصلون على الدعم بتحقيق المكاسب للفقراء، واستغلال كراهيتهم للأثرياء. ولعل أكثر ما يساعد في فهم سبب شعبية عبد الناصر هو روح الكرامة التي بثها في كثير من المصريين، مع أنه خانهم عندما قضت إسرائيل على القوات الجوية المصرية في غضون ساعات من بداية حرب عام ١٩٦٧، في الوقت الذي أذاعت فيه إذاعة صوت العرب التي يمولها، أنباءً غريبة عن نصر ساحق لمصر. لكن حتى الفوائد قصيرة الأجل التي تحققت من حكم عبد الناصر أضحت اليوم ذكرى بعيدة مشوشة لدى الجميع عدا النظام الحاكم نفسه، ومجموعة صغيرة من المفكرين المناوئين بشدة للتغيير، والأحزاب والمطبوعات الناصرية المتعددة. وبصرف النظر عن بعض التقدير الباقي في النفوس لناصر كزعيم للوحدة العربية، ومناهض للاستعمار والصهيونية، أصبحت اليوم ذكرى الثورة مناسبة للتحسر لا الاحتفال، هذا إن انتبه لها أحد من الأساس. فعلى صعيد الحياة اليومية، سيطر شعور عميق بكساد الأحوال، في الوقت الذي يتفجر فيه المجتمع المصري داخليًّا، ويتخلى فيه النظام عن دور مصر التاريخي القيادي في العالم العربي. وقد كتبت مجلة ذي إيكونوميست، التي تبرع في تغطية أخبار مصر أكثر من أي دورية غربية أخرى، عن الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري أن مصر «ليست في مزاج يسمح بالاحتفال. فاقتصاد البلاد وسياستها تجمدا في الوقت الذي تعوق فيه النزاعات المحيطة بها أي أمل في الفرج القريب. ومع هذا تحركت الحكومة المصرية ببطء بالصخب والاستعراضات والخطابات … لتغذية روح الفخر الوطني، لكن يبدو أنها بدلًا من ذلك أججت الشعور بالاستياء والغضب في أمة أصبحت غير راضية عن نفسها ولا عن العالم الخارجي.»
•••
ماذا كانت حقيقة نظام عبد الناصر الثوري؟ يقودنا التقييم الموضوعي إلى نتيجة واحدة فقط: إنه نظام قاد مصر إلى كارثة عسكرية بالخارج، وهزأ هو نفسه بمزاعمه الرائعة عن الديمقراطية والكرامة لجميع المواطنين في الداخل. كان عبد الناصر في الرابعة والثلاثين من العمر إبان انقلاب عام ١٩٥٢ والدولة العربية الوحيدة التي زارها بخلاف مصر قبل صعوده للسلطة كانت السودان، لكن آنذاك جمعته معرفة شخصية ببعض العراقيين والسوريين والفلسطينيين. وبعبارة أخرى، قامت رؤيته للوحدة العربية على وهم، تبخر ما إن اصطدم بالواقع ممثلًا في محاولات التحالف مع الدول العربية الأخرى، وفشل هذه التحالفات، وأشهر مثال على ذلك هو التحالف المصري السوري. غير أن التأثير التراكمي للانقلاب العسكري الذي قاده كانت له تبعات كارثية على المدى الطويل وعلى نطاق العالم العربي الكبير كله. تلخص لورا إم هذا في كتابها «ناصر في الحرب: التصورات العربية للعدو» (٢٠٠٦)، فتقول: «ألهم انقلاب عبد الناصر حركات مماثلة أدنى، قامت بها جماعات سرية من الضباط الأحرار في جميع أنحاء العالم العربي، وأسفرت عن حمامات دم في العراق، ومسرحية مظهرية خادعة في اليمن، ومهزلة في ليبيا.» أما قرار ناصر بخوض الحرب بالوكالة عن اليمن ضد المملكة العربية السعودية في الستينيات بإرسال ثلاثين ألف جندي من أفضل جند مصر إلى ذلك البلد القبلي العربي الجنوبي — ليترك بذلك مصر بدفاع هزيل في عام ١٩٦٧ — فلم يكن خطأ تكتيكيًّا وحسب، فلقد نم أيضًا عن رياء صارخ، بالنظر إلى أنه صدر عن رجل عارض التدخل الأجنبي في بلاده ووضع الوحدة العربية على قمة أجندة سياسته الخارجية، إلا أن الرياء كان سمة مميزة لعهد عبد الناصر منذ البداية. فلو لم تكن المخابرات المركزية الأمريكية وراء هذا الانقلاب العسكري «المناهض للإمبريالية»، فهي بلا شك كانت على علم مسبق به. وقد أثبت عبد الناصر فيما بعد استعداده التام للعمل مع الأمريكيين إلى أن انقلبوا ضده، بل حتى قوانين إصلاح الأراضي كانت جزءًا رئيسيًّا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية آنذاك التي تهدف إلى منع انتشار الشيوعية في المنطقة.
أما في مصر، وكعادة زعماء القرى، رقَى عبد الناصر المقربين له في المناصب بناءً على ولائهم الشخصي لا على أهليتهم، وأشهر مثال على ذلك هو عبد الحكيم عامر الذي عينه عبد الناصر رئيسًا لأركان الحرب، ثم نائبًا أول له، والذي لم يتخلص منه إلا بعد أن قادت مشوراته العسكرية — التي قدمها بناءً على تكهنات غير واقعية وحرص أبدي على إرضاء صديقه القديم بدلًا من إخباره بالحقائق القاسية — مصر إلى الهزيمة في عام ١٩٦٧. لقد شكل الضباط الأحرار الذين أحاطوا بعبد الناصر وعامر وغيرهما من قادة الانقلاب دوائر سلطة، تكرس مجهودها كله للحرب التي تلت على السلطة، لكن هذه النخبة الجديدة الفاسدة لم تتمتع بأي من سمات الأرستقراطيين الذين استبدلتهم وأذلتهم، الذين انغمسوا في الملذات لكن تمتعوا مع ذلك بثقافة رفيعة. مارست هذه النخبة الجديدة الفاسدة من موقعها الجديد ما مارسه الأرستقراطيون على الدوام؛ إذ استغلت نفوذها، وانتزعت من كل صفقة استيراد أو تصدير مهما كبرت أو صغرت حصة لها، وتربحت من مصادرات العقارات (وهو ما يُفهم على أنه سرقة)؛ وكل هذا تم باسم الجمهورية والشعب.
•••
لكن لم تكن هذه إلا البداية، فقطاع الصحافة الذي تمتع بحرية كبيرة لأكثر من نصف قرن في ظل الملكية التي دعمتها بريطانيا تأمم عام ١٩٦٠ بعد سنوات من القهر، وصار رؤساء التحرير الأوفياء الذين عينهم عبد الناصر بنفسه أكثر وفاءً للثورة والجمهورية من مؤسسيها أنفسهم. على سبيل المثال: برز محمد حسنين هيكل الذي عُين رئيس تحرير لجريدة الأهرام اليومية الأكثر مبيعًا — التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر — كأشهر الصحفيين المصريين؛ إذ كانت قراءة عموده الذي يصدر كل جمعة ضرورة لكل من أراد أن يعرف ما يدور بخلد عبد الناصر، وهذا في حد ذاته اتهام صارخ للصحافة المطبوعة في ذلك الوقت. زعم الكثيرون أن هيكل هو المروج والرقيب الأول لعبد الناصر، بصرف النظر عن فصاحة عباراته، واتهم هو وغيره من المحررين بإخماد روح أعظم الصحف المصرية اليومية؛ فإلى اليوم لا تزال الصحف الرسمية الحكومية تصدر وصفحتها الأولى تتقدمها وجوبًا العناوين التي تمتدح آخر خطابات مبارك السخيفة عن القضايا الداخلية والدولية، فقط لأن التمويلات الحكومية التي تحابيها وشبه الاحتكار الذي تمارسه الحكومة على الدعاية الصحفية هو ما يساعدها على البقاء ويمنعها من الغرق في الديون.
علاوة على هذا، حظر عبد الناصر أنشطة الأحزاب السياسية المعارضة التي نما دورها هي الأخرى في مصر قبل الثورة. وجاءت التبعات كارثية بقدر ما كان هذا الإجراء نفسه؛ فنشأ نظام شمولي بقيادة حزب واحد، يضمن احتكار الجيش للسلطة السياسية، برز فيه ناصر — الذي لم يخض انتخابات رئاسية قط — بوصفه صاحب اليد العليا بعد صراع داخلي مرير على السلطة مع زعيم الجمهورية الأول اللواء محمد نجيب. وكانت للهيئات التنفيذية التي تأسست للفصل بين السلطات — شأنها شأن كتاب أعمدة الرأي — عرضة للترهيب بسهولة، ففشلت بدورها في توجيه نقد حقيقي للمساوئ التي ارتكبها مخططو الانقلاب. وتأسس جهاز أمن واستخبارات واسع النطاق للتجسس على الشعب والسيطرة عليه، تفوق تفوقًا كاسحًا على شبكة التجسس التي أسسها الملك فاروق؛ ملك مصر الأخير التعس، وأحكم قبضة الضباط على السلطة.
أما عن جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام ١٩٢٨ باعتبارها جمعيةً خيرية شعبية تهدف إلى إعادة عموم أفراد الشعب إلى أصول الإسلام؛ وفق تفسير الإخوان)، فقد سجن ناصر عشرات الآلاف من أعضائها وعذبهم إلى أن لقي العشرات منهم حتفهم، ولعل أشهرهم هو سيد قطب، الذي أرسى — من نواحٍ عديدة — المبادئ الفكرية للإرهاب الذي ابتليت به فيما بعد مصر وغيرها من الدول في مختلف أنحاء العالم العربي والعالم. ومن نجا من تلك التصفية من الجماعة فر مؤقتًا إلى دول الخليج العربي شديدة التشبث بالمحافظة، وتشرب بالفكر الوهابي المتطرف الذي عززته الأسرة السعودية الحاكمة. ويتنافى هذا الفكر تمامًا مع مبادئ التسامح والتعدد الإسلامية السائدة في مصر، لكن الإخوان المسلمين سيحملونه في نهاية الأمر معهم عندما يدعوهم أنور السادات للعودة إلى البلاد في السبعينيات لمواجهة المعارضة الماركسية التي ظهرت إبان حكم عبد الناصر. لقد شُنق الكثير من قادة الإخوان المسلمين الذين ظلوا بمصر، وعلى المدى الطويل كانت التبعات الثقافية لهذا الفكر الوهابي المنقول كارثية، لا سيما فيما يخص الأقلية المسيحية التي يرميها الفكر الوهابي — وربما السياسة الرسمية للإخوان — بالكفر؛ تمامًا كما يرمي اليهود والصوفيين بالكفر أيضًا.
لكن تبين أيضًا مدى استعداد الضباط الأحرار لقمع منافسيهم العلمانيين غير الأصوليين باسم حرية الشعب، في الأشهر التي تلت الانقلاب العسكري عندما حوكم قادة مظاهرات عمالية وأعدموا على عجل، فبعثت تلك المحاكمات الصورية رسالة واضحة إلى كل من يجرؤ على مخالفة النظام.
هكذا أسس ناصر في غضون بضع سنوات قواعد دولة بوليسية تحكمها ديكتاتورية عسكرية تصطفي من بين صفوفها رئيسًا ذا صلاحيات شبه مطلقة. وظلت مصر خاضعة لقانون الطوارئ (أي الأحكام العرفية) منذ عام ١٩٥٢ حتى الآن باستثناء فترة لم تدم سوى ثمان سنوات فقط. ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، تضم سجون مصر اليوم ثمانية عشر ألف معتقل بلا تهمة. ولما صدر أخيرًا تعهد في عام ٢٠٠٧ بالتخلص من قانون الطوارئ قوبل بالسخرية؛ لأن النظام أدخل معه تعديلات متزامنة على الدستور جعلت أسوأ ملامح القانون دائمة إلى الأبد. فالنظام العسكري الذي يرأسه مبارك يخلص لمدرسة عبد الناصر، وهذا يتضح أشد الوضوح من رفضه أن يخاطر بفقدان السلطة إن سمح لمؤسسات الدولة أن تكون ديمقراطية بالفعل، مما من شأنه أن يطلق حرية الرأي العام، لا سيما بعد أن صار الرأي العام يجد أفضل تعبير له (بفضل أخطاء النظام) في حملات الكراهية الشرسة التي يستبدلها الأصوليون الإسلاميون بالمناقشات الحقيقية. ولا تزال المؤسسات إلى اليوم وإلى حد بعيد تديرها شخصيات تدربت سياسيًّا على يد النظام الذي سبق وفاة عبد الناصر.
وصف مبارك ثورة ١٩٥٢ في احتفال بالذكرى الخمسين لها في خطابه أمام خريجي الكلية الحربية التي تخرج منها بأنها «المجد الذي توج كفاح الشعب المصري»، وهو ما لا يدع مجالًا للشك في اتجاه ولائه الشخصي.
•••
هكذا، لا تزال آليات النظام المستبد التي أسسها عبد الناصر على حالها إلى اليوم، على الرغم من مرور أكثر من خمسين عامًا اتسمت بوقوع تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة في مصر. ولا عجب إذن في ظهور ذلك الحنين إلى العهد الذي سبق الثورة والذي وُظف ببراعة في رواية عمارة يعقوبيان. فينظر اليوم الليبراليون والمفكرون المتأثرون بالغرب والعامة المنشغلون بتوفير نفقات معيشتهم إلى تلك الحقبة على أنها عصر ذهبي بائد، وإن كانت تلك نظرة رومانسية. والشواهد على ذلك نجدها في كل مكان. على سبيل المثال: عقب الثورة، حُظرت الألقاب كلقب باشا (الذي يشير إلى رتبة كبيرة في النظام السياسي للإمبراطورية العثمانية) ولقب بك (الذي يشير إلى رتبة أقل من الباشا)، دلالة على محو المراتب الطبقية وألقاب الشرف. لكن تلك الألقاب عادت من جديد، والمفارقة أن أكثر من يستخدمها هم من سعى إلى محو الألقاب الإقطاعية؛ من المسئولين الحكوميين وكبار الضباط ووكلاء الوزراء ومن يتبعونهم. وقد اتضح لي التغير الذي طرأ على أقدار تلك الألقاب في التسعينيات، حين خاطبت مارًّا كنت أعرفه داعيًا إياه باشا، فانزوت بي جانبًا امرأة مصرية مسنة — كانت قد انتقلت للعيش في أستراليا عقب انقلاب عام ١٩٥٢ وعادت إلى مصر مؤخرًا لتساعد في وضع المنهج الدراسي لمدرسة اللغة العربية التي كنت أدرس بها — وقالت ناصحة إياي بلهجة جادة: «هذا الرجل سيغضب بشدة إن استخدمت هذه الألقاب». وفيما بعد سألت معلمتي إن كان هذا صحيحًا، فضحكت ضحكة مكتومة ثم قالت لي إن تلك العجوز لا تزال تعيش في مصر في حقبة الخمسينيات فيما يبدو.
تتناول كتب لا حصر لها الآثار السلبية لانقلاب عام ١٩٥٢، أحدها كتاب عالم الاجتماع المصري القدير جلال أمين «ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصري في نصف قرن ١٩٤٥–١٩٩٥» الذي يأسى فيه على التغييرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على مصر بعد الثورة بمقارنتها بقصص ساحرة عن طفولته قبل الثورة. حاز الكتاب جائزة في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام ١٩٩٨ وبيعت منه العديد من النسخ بالعربية والإنجليزية، حتى إن جلال أمين أصدر كتابًا ثانيًا استكمالًا للموضوع نفسه حقق أعلى المبيعات بعنوان: «ماذا حدث أيضًا للمصريين؟ مصر من عهد الثورة إلى العولمة». غير أن جلال أمين ليس المثال الوحيد. كتبت ليلى أحمد، وهي باحثة أكاديمية مقيمة في الولايات المتحدة، ولدت لعائلة من الطبقة العليا في القاهرة في الفترة بين الحربين العالميتين في سيرتها الذاتية التي حملت عنوان «عبور الحدود» (الصادرة عام ٢٠٠٠)، تقول: «نشأتُ في آخر أيام الإمبراطورية البريطانية، وعشت طفولتي في عهد لم تكتسب فيه كلمتا «الغرب» و«الإمبريالية» الدلالات التي اكتسبتاها اليوم.» ومثل الكثير من السير الذاتية المماثلة التي نُشرت في الغرب لمصريين يحاولون تصحيح ماضيهم قبل الثورة، تصف هذه السيرة ببراعة كيف أن الكثير من أسر الطبقة العليا والوسطى لم تر تناقضًا بين إيمانها المخلص القوي بقوميتها وبين حرصها على أن تعهد بتنشئة أبنائها إلى معلمين غربيين، من المفترض أنه أن لا يمكن الاعتماد عليهم في تأجيج مشاعر مناهضة الاستعمار لدى طلابهم. تتناول السيرة ببراعة جيلًا نشأ في مجتمع راقي متعدد الثقافات، تعد الاختلافات الفردية فيه مهمة بقدر أهمية الطموحات الوطنية.
آنذاك كان الظلم المؤكد الراسخ في المجتمع المصري، والتلاعب السياسي الانتهازي للقوى السياسية الخارجية بالسياسة المصرية؛ تلطف من حدته بقدر ما ثقافة تسامح وتعددية وعقلانية وفخامة في المعمار جلبها الأجانب، وعززتها الطبقة الأرستقراطية المنحدرة من الدولة العثمانية، واستقت منها الحركة القومية المصرية نفسها إلهامها عندما عارضت الحكم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر. لذا استطاع الزعيم الوطني العظيم سعد زغلول — الذي أثار نفي الإنجليز له في عام ١٩١٩ الشعب المصري لصنع ثورة صغيرة قادت إلى استقلال جزئي عن الاستعمار البريطاني — أن يقول باعتدال عن الغربيين في بلاده: «ليست بيني وبينهم خصومة شخصية … لكنني أود أن أرى مصر مستقلة.» هذا الرأي المثير للجدل عن حقبة ما قبل الثورة يبين أن المصريين اعتنقوا أفضل ما أنتجته ثقافة العالم؛ إذ كانوا ظاهريًّا أقل تشددًا دينيًّا من اليوم، ولكن أكثر تشبثًا بالأخلاق، ومن ثم أكثر احترامًا لرسالة الإسلام الجوهرية التي يعبر عنها العمل الصالح، وليس فقط الحرص على الشعائر الدينية الصارمة، وإصدار عدد لا حصر له من الفتاوى الغامضة والبغيضة في أحيان كثيرة. لقد أخضع علماء الإسلام آنذاك القرآن نفسه للدراسة والتحليل العقلاني؛ لحرصهم على دمج مبادئ العصر الحديث والديمقراطية في الدين الإسلامي.
بل حتى الملك فاروق رُد له اعتباره، ففي رمضان الموافق سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠٧، كان البرنامج الأكثر شعبية في مصر والعالم العربي لدى من يتاح لديهم إرسال تليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، هو مسلسل تليفزيوني قصير يصور صعود الملك فاروق إلى السلطة وسقوطه منها، مسلطًا الضوء على «الجانب الإنساني» للملك. أنتجت قناة إم بي سي الفضائية السعودية المسلسل وبُث على قناة أوربيت السعودية التي تتمتع بشعبية مكافئة، لكنه لم يذع في البداية على التليفزيون القومي المصري الذي يقال إن المسلسل كتب ليعرض عليه قبل خمسة عشر عامًا؛ إذ رفضت الحكومة المصرية تمويله لدواع سياسية. لكن إم بي سي قررت تمويل إنتاجه — على الرغم من محاولة المسئولين الحكوميين المصريين إعاقة إنتاجه برفض إصدار التصاريح لطاقم المسلسل للتصوير في المواقع والقصور الملكية والأماكن التي شهدت أحداثه الواقعية — ومن الصعب ألا يخطر ببال المرء أن قرار قناة إم بي سي قد يكون قائمًا — جزئيًّا على الأقل — على دواع سياسية؛ إذ لم يضع كاتبو أعمدة الرأي في الصحف التي تمولها المملكة العربية السعودية وقتًا قبل أن يشيدوا بفضائل الملك فاروق، وهم يمتدحون أسر الخليج الحاكمة التي نجت من محاولات ناصر لتقويضها. وأذعن التليفزيون المصري للضغوط التجارية، وأعلن أنه سيعيد عرض المسلسل في ساعة المشاهدة القصوى بعد أن تبين أنه من أكثر المسلسلات الرمضانية نجاحًا على مدى سنوات.
بعد يوم ٢٣ يوليو/تموز الحاسم عام ١٩٥٢، أُلقيت القاهرة — «باريس النيل»، كما أُسميت حبًّا فيها من قبل الأجانب الذين تدفقوا عليها وساعدوا في تصميمها وبنائها وإدارة شئونها إبان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين — في مزبلة التاريخ كما يقال في المثل الشائع. شاعت المشاحنات لتحل محل الود بين المصريين والأجانب، وصودرت ممتلكات الأجانب طبعًا، فاختاروا في نهاية الأمر مغادرة البلاد مع الأرستقراطيين، أو أجبروا على الفرار منها بعد حرب قناة السويس عام ١٩٥٦. ويُستدل على كراهية عبد الناصر المطلقة للأجانب من خلال طرده لنصف يهود مصر الذين ربطت أجهزة الدعاية لنظام عبد الناصر اسمهم بدولة إسرائيل الناشئة. وهذا مثال على حملات ضغط عديدة (استهدفت إحداها الإخوان المسلمين) استخدمها عبد الناصر لصرف الانتباه عن عيوب نظامه، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. وفي حالة اليهود، لم تضعف هذه الحملات بالقطع مع محاولات إسرائيل المتخبطة لتجنيد وتمويل مجموعة صغيرة من يهود القاهرة لتنفيذ أعمال إرهابية في القاهرة؛ سعيًا لإثارة الفتن الاجتماعية والاضطرابات السياسية. لكن إن كان معيار الحكم على الديمقراطية هو الحماية التي توفرها للأقليات الدينية وغيرها من الأقليات، فإن رحيل اليهود إلا قليلًا جدًّا منهم عن مصر، مع تحول كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» إلى مترادفين في سياق المحادثات العابرة المعادية للسامية بين المصريين أنفسهم، يكشف بوضوح ملامح ميراث عبد الناصر «الديمقراطي»، كما تدل عليه حقيقة أن المعبد اليهودي الرئيسي بالقاهرة تحيط به حراسة أمنية يوفرها الجيش على مدار أربع وعشرين ساعة يوميًّا.
•••
يقول الباحث العربي الأمريكي فؤاد عجمي إن شعورًا رهيبًا بخيبة الأمل والإحباط يكمن الآن في أعماق الحياة المصرية. حاز العجمي احترامًا واسع النطاق كمراقب للتيارات السياسية والثقافية العربية، لكنه انتُقد عقب دفاعه الحماسي عن الغزو المشئوم للعراق بقيادة الولايات المتحدة في عام ٢٠٠٣. أوضح عجمي في مقال عن حنين المصريين إلى الماضي نشر عام ١٩٩٥ في صحيفة فورين أفيرز أن فخر مصر الحديثة يتجاوز بكثير حجم إنجازاتها، والشواهد المحزنة على ذلك قائمة في كل مكان؛ «في الفقر الذي تعانيه الطبقات الدنيا، في الساحة السياسية الكئيبة التي تسمح لضابط عادي باحتكار السلطة السياسية والحط من قدر منافسيه في المجتمع المدني، في اتجاه البلاد إلى السقوط في هاوية الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، في الوضع التعليمي والثقافي البائس.» هذا الشعور بالإحباط كما يرى عجمي ولّد موجة قوية من الشعور بالحنين إلى حقبة السياسة الليبرالية في مصر التي امتدت من العشرينيات إلى ثورة ١٩٥٢، إلى الديمقراطية البرلمانية والملكية الدستورية؛ إلى «الحياة السياسية النابضة بالحيوية والصحافة النشطة التي اتسمت بها تلك الفترة، إلى ثقافة رجال الأدب والفن الرفيعة، والمرأة الحرة التي تعبر عن نفسها وتحفر لها مكانًا في الحياة السياسية والثقافية والصحافة». يقول عجمي معترفًا بأن بعضًا من تلك الأماني هو «نموذج لحنين مجتمع مزدحم مثقل بالهموم لعهد براءة وعظمة مفقود.» ويضيف عجمي: «لكن بعضها الآخر هو تعبير مشروع عن الاستياء من تواضع أحوال الحياة العامة.» ويرى العجمي أن مصر أفرزت في العهد الليبرالي سينما تتمتع بحرية أكبر من اليوم، عندما كان قادة الفكر فيها عمالقة يطرقون بقوة القضايا المعاصرة الهامة، ويضفون على الأدب المصري والعربي لمسة من العبقرية الخالصة.
هذا الشعور باليأس وما تولد عنه من حنين إلى الماضي، زاد عمقًا على مدار العقد الذي مر منذ ظهور مقال فؤاد عجمي. قال عوض المر كبير قضاة المحكمة الدستورية العليا السابق في الذكرى الخمسينية لانقلاب عام ١٩٥٢: «لا أعتقد أن ثورة عام ١٩٥٢ كان لها أي ميزة إيجابية، طالما لا تزال الديمقراطية مفقودة. فشلت الثورة فشلها الأكبر في تحقيق الديمقراطية، وهو ما أدى في رأيي إلى هزيمتنا عام ١٩٦٧. ولم تشهد مصر حكومة ديمقراطية منذ عام ١٩٥٢ حتى الآن … الثورة حملت شعار «ارفع رأسك يا أخي؛ لقد ولى عهد الذل والاستبداد»، لكنها بعدئذ استبدلت به قدم عبد الناصر التي أحنت الرءوس.» ويبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى غريبًا بالنظر إلى أنه صادر عن أحد أعمدة النظام الذي خلف عبد الناصر، مع أن القضاء المصري أثبت في أحيان كثيرة أنه شوكة في حلق النظام، سارع عبد الناصر بفصل المئات من كبار القضاة الذين اعترضوا على حكمه الديكتاتوري. وفي الواقع، بحلول عام ٢٠٠٦، صار كبار قضاة الدولة الذين احتجوا على فساد الانتخابات التي خُولوا دستوريًّا بالإشراف عليها لكن منعهم نظام مبارك من مراقبتها؛ بمنزلة قادة غير رسميين لحركة احتجاج واسعة النطاق جذبت قطاعات المجتمع المصري كافة: من مفكرين علمانيين، إلى طلاب، إلى نشطاء عماليين، إلى إسلاميين معتدلين. وبدا لوهلة أن النظام يتداعى بفعل القوى التي تعارضه سواء التي تدخل في نطاق سيطرته أو تخرج عنها؛ إذ شهدت مصر الاضطرابات الأوسع نطاقًا على مستوى البلاد منذ عهد الثورة. لكن هذه المرة احتشد المضربون والمتظاهرون في مواجهة الكساد السياسي، ووحشية نظام حسني مبارك الصارخة؛ فمبارك شأنه شأن سلفه (وخليفة عبد الناصر)، أنور السادات، رجل عسكري، وهو آخر حماة نظام عبد الناصر العسكري الفاسد غير الديمقراطي الذي ما زال يقبض على المجتمع المدني بقبضة من حديد.
إلا أنه في الوقت الذي وضع فيه عبد الناصر قيودًا شخصية صارمة على مدى استعداده للتنازل عن السيطرة على بلاده لحساب بريطانيا والولايات المتحدة من بعدها، عن طريق تأميم قناة السويس في خطوة استراتيجية بارعة، أنهت فعليًّا سيطرة الاستعمار الإنجليزي على مصر وعلى المنطقة ككل؛ فإن مصر في عهد مبارك أضحت بطريقة ما أكثر اتكالًا على الولايات المتحدة؛ الإمبريالية الجديدة، صاحبة القرار في المنطقة. وقد شبه الزعيم العراقي الراحل صدام حسين — الذي امتلك نوعًا ما باعًا في صفقات الخداع والمساومات التي يعقدها طغاة الحكام العرب للتشبث بالسلطة — مبارك بأسلوب لاذع بأنه «مثل هاتف العملة؛ تضع فيه النقود فتحصل على ما تريد.» لكن عامة المصريين يشعرون بالسخط والمذلة لاعتماد النظام المصري باستمرار على عطايا الولايات المتحدة (التي تمد مصر بمساعدات عسكرية قدرها مليارا دولار سنويًّا منذ معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام ١٩٧٩، وهي مساعدات ينظر البعض إليها على أنها رشوة للإبقاء على السلام البارد مع الدولة العبرية). هذا لأن عامة المصريين بادئ ذي بدء لا ينتفعون بأي حال من الأحوال بتلك الأموال، بينما يجدون الفجوة بين الفقراء والأغنياء تتسع أكثر فأكثر. وربما يكون السبب الأهم في هذا البلد الذي ترسخ فيه الشعور بالفخر بالهوية القومية هو أن المصريين يمقتون أيضًا جسارة سياسات الولايات المتحدة على الصعيد العسكري في المنطقة ودور حكامهم في ذلك، لا سيما لتعاطفهم القوي مع القضية الفلسطينية، ولأن قطاعًا كبيرًا من المصريين ينظر إلى الاحتلال الذي قاده المحافظون الجدد الأمريكيون لغزو العراق على أنه احتلال تم بأمر عصبة من المتآمرين المعاونين لإسرائيل في واشنطن.
عادت مصر من حيث بدأت بعد خمسة عقود من الانقلاب العسكري. أصبحت المظالم نفسها التي قادت إلى تمرد استغله الضباط الأحرار هي الأساس الذي انطلقت منه مظاهرات جديدة في الشوارع، ومقالات ساخطة في وسائل الإعلام المعارضة الصاعدة، تطالب بسقوط الاستعمار ومعاونيه، وانتهاء سيطرة الرأسماليين الاستغلاليين على الحكومة وإهمال العدالة الاجتماعية، وتنادي بالحاجة إلى نظام حكم ديمقراطي لا يكتفي بتقديم وعود كاذبة. فمع وجود (ولي العهد)، ابن مبارك المتغطرس المتأنق جمال مبارك، الذي يرى الكثيرون أنه يُعد لخلافة والده المعتل في الرئاسة، لن يُرى أي اختلاف بين النظام الحالي والنظام الملكي الذي أطاح به عن السلطة قبل خمسة عقود باسم تحرير الشعب المصري. إن الحنين إلى عهد الملكية لا يختلف عن اشتياق أهل السلف إلى نقاء عهد محمد وأتباعه؛ إنها رغبة يائسة في العودة إلى الماضي، في حاضر شديد البؤس.
•••
لكن حتى مع إقرارنا بالآثار السلبية المؤكدة للحكم الاستعماري المباشر أو غير المباشر، فإن النظام المصري الحالي يفشل على جميع المستويات عندما يقارن بالنظام الملكي الذي سبق الثورة، والذي ساهم غزو نابليون بونابرت القصير لمصر عام ١٧٩٨ في تأسيسه؛ فالانقلاب الذي قاده عبد الناصر قضى على كل ما هو جميل بمصر، ورويدًا رويدًا أبدل كل ما هو سيئ بما هو أسوأ كثيرًا. لقد جاءت الدولة المصرية الحديثة نتيجة عرضية لمحاولات نابليون بونابرت للاستيلاء على مصر وللهزيمة المذلة التي لاقاها على يد الإنجليز والتي أنهت تلك المحاولات. لقد تطورت على مدار القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على غرار تطور أوروبا، لا سيما تحت قيادة الخديوي إسماعيل وجده محمد علي الذي يشار إليه كثيرًا على أنه «مؤسس مصر الحديثة»، والذي حكم أحفاده مصر مع التمتع بدرجات متفاوتة من السلطة حتى حفيد حفيده الملك فاروق الذي أزاحه عبد الناصر في نهاية الأمر عن السلطة في عام ١٩٥٢.
بعد أن رحل الفرنسيون عن مصر، ظل الجيش العثماني الذي حكم مصر منذ عام ١٥١٧ في البلاد، عازمًا على الوقوف في وجه إحياء سلطة المماليك واستقلال مصر عن الحكم العثماني، لتخضع مصر لحكم الحكومة العثمانية المركزية. شكل المماليك طبقة أرستقراطية من الرقيق الأبيض حكمت مصر باعتبارها دولة مستقلة منذ عام ١٢٥٠ إلى عام ١٥١٧ ثم ظلوا بها رعايا عثمانيين شكلوا الطبقة العليا في المجتمع المصري. إلا أنهم استعادوا السلطة في القرن السابع عشر؛ فأعادوا تجديد صفوفهم من خلال أسواق الرقيق على مدى مائتي عام حكموا فيها بالاستبداد. وفي غمرة الفوضى التي خلفها رحيل نابليون، ظهرت طبقة حاكمة جديدة ذات نفوذ شُكلت من فرقة عسكرية ألبانية أُلحقت عام ١٨٠١ بالقوات العثمانية لمحاربة الفرنسيين، ودانت اسمًا فقط بالولاء للحكومة العثمانية، وتورطت في الصراع بين المماليك والحكومة العثمانية. قاد تلك الفرقة محمد علي نفسه الذي كان جنديًّا مرتزقًا أتى مصر قائدًا صغيرًا في القوات الألبانية، وبلغ بحلول عام ١٨٠٣ مرتبة القائد الأعلى ثم انتخبه أولو النفوذ من شيوخ الدين بالقاهرة واليًا على مصر عام ١٨٠٥ بعد أن عزز شعبيته؛ ولما خلع عليه العثمانيون لقب والي البلاد خطط لتصفية منازعيه، وهذا ما فعله ببراعة في مارس/آذار عام ١٨١١ حين اغتال أربعة وستين مملوكًا من بينهم أربعة وعشرون بيك عقب دعوتهم لحفل رسمي. وهكذا أصبح محمد علي صاحب السلطة الأوحد في مصر، وسنحت له فرصة فريدة لتوحيد أمة توشك الفوضى على ابتلاعها.
كان انفصال مصر النهائي عن الدولة العثمانية أحد أكبر طموحات محمد علي، إلا أنه أدرك أن البلاد يجب أن تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية لتحقيق هذا؛ ومن ثم تملق الأوروبيين من البداية، مغدقًا الثروات على باريس ولندن لدى التفاوض معهما واحدة وراء الأخرى. وتقف مسلة رمسيس الثاني في قصر الكونكورد بباريس ومسلة كليوباترا على سد نهر التايمز بلندن شاهدًا على ذلك إلى اليوم. وشرع أيضًا في بناء المصانع الجديدة التي تستخدم آلات مستوردة، وأحاط نفسه بالمستشارين الأوروبيين المهرة عاكفًا ساعات طويلة على العمل وزيارة مشاريعه المفضلة، وغمس نفسه في تكنولوجيا العصر الجديدة المتقدمة؛ فيُذكر على سبيل المثال أنه ضحك ضحكًا شديدًا عندما تلقى صدمة كهربية بسلك مشحون بالكهرباء عند توضيح كيفية عمل الكهرباء له. كما تعهد بالرعاية أنبغ من التقاهم بالقاهرة، الخبراء المتفانين في عملهم الذين أتوا من خلفيات متنوعة مثله؛ من مهاجرين أرمن إلى خبراء ماليين أقباط، وشكل هؤلاء بيروقراطية جديدة وجيشًا تحت رئاسته الشخصية المباشرة. وسمح الحكم المركزي والسلطة التي تمتع بها هذا الألباني الذي وُلد في مقدونيا باتخاذ مبادرات هامة أسست قواعد النظام التعليمي المصري، وأحيت الحياة الثقافية، وأصلحت النظام الزراعي بإلهام من باريس التي تطلع إليها محمد علي دائمًا. تعود المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في الأجيال التالية إلى تلك الحقبة، لكن حتى مع نهاية عهد محمد علي، كان لدى البلاد طاقم من الموظفين البيروقراطيين، وجيش من الضباط عازم على إصلاح البلاد على النمط الغربي وتحقيق استقلالها.
من أهم إنجازات محمد علي أنه شجع زراعة القطن لتصديره إلى مغازله الآخذة في الانتشار بأوروبا، لتمول عائداته الرواج الاقتصادي الذي شهدته البلاد في عهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من عام ١٨٦٣ إلى عام ١٨٧٩. فمع تطلع بريطانيا بلهفة إلى مصر لإمداد ليدز ومانشيستر بالقطن لتوقف الولايات المتحدة عن تصديره إبان الحرب الأهلية بين عامي ١٨٦١ و١٨٦٥، ارتفع سعر القطن المصري. ومع تدفق الأموال على الخديوي إسماعيل، أخذ في استكمال طموحات جده بتأسيس مشروعات عامة عظيمة كحفر القنوات واستصلاح الأراضي وإنشاء المدن وإقامة البنى التحتية، فشرع في غضون عام واحد في بناء أربعمائة وخمسين جسرًا وستة وأربعين مصنع قطن، وإنشاء سكك حديدية تمتد إلى ما يقرب من ألف ميل. كما أسس اتحاد البريد العام، وامتدت خطوط التلغراف جنوبًا في البلاد حتى السودان، فأصبحت مصر في غضون وقت قصير تتمتع بأحد أكفأ خطوط البريد في العالم، وتخلصت أخيرًا من صورتها باعتبارها بؤرة راكدة من الإمبراطورية العثمانية تحكمها طبقة من العبيد مع تدفق المهندسين المعماريين والفنانين والساسة والموسيقيين إلى القاهرة ومدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على البحر المتوسط.
كانت زيارة إسماعيل للمعرض العالمي بباريس في ساحة عرض تشامب دي مارس عام ١٨٧٦ زيارة فارقة، وكان لها آثار شديدة الأهمية على مصر؛ فعقب زيارة المعرض بوقت قصير صرح إسماعيل تصريحًا شهيرًا قال فيه: «لم تعد دولتي جزءًا من أفريقيا، نحن اليوم جزء من أوروبا.» واغتنم إسماعيل فرصة افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ لبناء أحياء جديدة على النمط الغربي ذات متنزهات فخمة وشوارع واسعة وقصور لاستضافة ضيوفه الأوروبيين، رغبةً في أن يصنع للقاهرة ما صنعه البارون جورج هوسمان لباريس. وفتح إسماعيل أبواب المجتمع المصري واقتصاده للكثير من الأوروبيين، ولما تولى البريطانيون إدارة الخزانة المصرية (ومن ثم إدارة البلاد) عام ١٨٨٢ عقب أزمة مالية من تدبيرهم؛ تدفق مئات الآلاف من الأوروبيين على مصر بحثًا عن المال والثروة، حيث استقر بهم المقام في القاهرة والإسكندرية وأنشئوا أحياءً لهم وأسسوا وأداروا شركات على النمط الغربي. أرسى إسماعيل بعبارة أخرى قواعد مدينة القاهرة، فمهد شوارعها وعبد طرقها الطويلة وأنشأ بها الحدائق والمتاحف والعمارات السكنية والنافورات على الطراز الفرنسي، وأسس بها دار أوبرا من طراز عالمي (عرضت أوبرا عايدة التي ألف موسيقاها فيردي لأول مرة في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول عام ١٨٧١ بسيناريو كتبه ماريت باشا). قامت مدينة أوروبية بين ميدان العتبة والنيل، ونشأت طبقة وسطى مصرية جديدة انتشرت شمالًا. وفي ذلك كتبت سينثيا مينتي في كتابها «باريس على النيل: فن العمارة في قاهرة الزمن الجميل» (١٩٩٩) تقول إن سكان القاهرة وزائريها وجدوا فيها «متاجر الكتب الإنجليزية والفرنسية، وصالات شاي، ومقاهي مطلة على الطريق، وبوتيكات شهيرة، ومعارض للفنون، ومتاجر متعددة الأقسام … وأقيمت فنادق شهيرة كفندق شبرد وسافوي وسميراميس وإيدن بالاس. وفيما بعد ظهرت دور السينما وحلبات التزلج الترفيهية.»
ومع أوائل القرن العشرين، في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، بعدما منحت بريطانيا مصر السيادة الاسمية على أرضها، وأضحت البلاد خاضعة لحكم ملكية دستورية وديمقراطية برلمانية تسيطر على كافة شئون البلاد عدا الأمن القومي وقناة السويس، أصبحت القاهرة أكثر مدينة متعددة الثقافات في العالم. لكن قبل ستة أشهر من اندلاع ثورة ١٩٥٢، في يوم يذكره التاريخ باسم يوم السبت الأسود، أضرمت حشود من الغوغاء المعادين لبريطانيا النيران في معالم القاهرة الغربية الشهيرة، ومن بينها نادي تيرف وفنادق هامة وبنوك ودور سينما ومقار ضيافة، فتحول جزء كبير من القاهرة إلى رماد يحترق تحت غطاء كثيف من الدخان. واستغل الضباط الأحرار تلك القلاقل واسعة الانتشار للاستيلاء على السلطة بعد ستة أشهر. ولما فعلوا لم يرثوا عن النخبة السابقة ثراءها وفسادها وحسب، بل اضطلعوا أيضًا بمسئولية بناء العاصمة.
•••
كتب فنان وناقد وكاتب القرن التاسع عشر جون راسكين يقول: «فن العمارة هو فن إتقان تصميم وتجميل الصروح التي يشيدها الإنسان … إلى حد يسهم في صحته النفسية وطاقته وبهجته.» وأكثر من يؤمن بهذا الرأي في القاهرة في وقتنا الراهن هو سمير رأفت وهو مؤرخ هاو بارز ينحدر من عائلة أرستقراطية بارزة، ويتمتع بشخصية شديدة الجاذبية، حتى إن مسامرته ساعات تمر كالدقائق. لقد بذل جهدًا مضنيًا في توثيق تاريخ القاهرة المعماري على مدى العقود الماضية والمدينة تتداعى أمام عينيه، ونُشرت الكثير من أبحاثه في كتابه «القاهرة: سنوات المجد» (٢٠٠٣)، الذي ينتقد فيه «الدولة الاشتراكية» في عهد عبد الناصر وخلفائه واصفًا إياهم بأنهم إقطاعيو القاهرة الجدد الذين لا يرجى منهم نفع.
يذكر رأفت في مقدمة كتابه أنه قد يصعب على المرء أن يتصور أن القاهرة كانت يومًا ما مدينة ساحرة معماريًّا بالنظر إلى حالها المتدهور اليوم وتخطيطها العشوائي، لكنها شهدت ازدهارًا معماريًّا منقطع النظير من أواخر القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين، إذ احتضنت الطرز المعمارية المختلفة جنبًا إلى جنب: «كالطراز الباروكي، والنيو كلاسيكي، والفن الحديث والآرت ديكو، والروكوكو الخديوي، والباوهاوس، والأرابيسك، والطرز المتأثرة بعصر النهضة الإيطالي، والطراز الفرعوني الحديث، وكل هذا أنتج نخبة من المباني الراقية. أما المنشآت التي أنشئت بين الستينيات والتسعينيات «فجميعها تقريبًا سواء شرق النيل أو غربه ليست ذات قيمة جمالية على الإطلاق؛ لأنها تفتقر تمامًا إلى الجاذبية المعمارية.» وأصيب المستأجرون الجدد الذين سكنوا تلك المبان العظيمة سابقًا برهاب الأجانب، وتوقفوا عن أداء واجباتهم نحو المجتمع. لقد رُوج في عهد السادات في السبعينيات لسياسة انفتاح اقتصادي لكنها زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وأنتجت بين عشية وضحاها سيلًا من أصحاب الملايين الذين ساعدوا في تشكيل طبقة أغنياء جديدة «من الأطباء والمحامين والمصرفيين الذين يتقاضون أجورًا كبيرة، ويعملون في المقام الأول على الإبقاء على طبقة الأغنياء الجدد بصحة جيدة، وحمايتهم من الوقوع في الديون، والسجن». وكانوا — كالضباط الأحرار — رجالًا لا يتمتعون بحس فني أو رؤية أو شعور بالمسئولية إزاء الوطن، أخذوا في مغادرة القاهرة فرارًا إلى مبان سكنية حديثة الطراز في أحياء منعزلة لا حياة بها نشأت في ضواحي المدينة، وتعكس بصورة ملموسة فكرًا حضريًّا يشبه الفكر السعودي، أما أحياء منطقة وسط البلد العظيمة فتركت لتتهالك.
قال لي رأفت وهو يحتسي مشروب الكابتشينو في مقهى مصمم على طراز حديث في منطقة الزمالك، وهي عبارة عن جزيرة راقية تقع في قلب القاهرة كانت فيما مضى مركزًا ماليًّا قديمًا تركزت فيه الطبقة الأوروبية الرفيعة، لكن الجزء الأكبر من سكانها اليوم يشكله أبناء القطط السمان الجدد المدللين، أصحاب السيارات الفارهة الذين يتكلفون الأساليب الغربية ويتحدثون الإنجليزية بلكنة مريعة، ويقطنون في عمارات سكنية بلا طابع يميزها قامت على أنقاض فيلات أنيقة بديعة، قال: «لا أرى في قلب القاهرة إلا تدهورًا من سيئ إلى أسوأ.»
وأخبرني رأفت أيضًا أن أهم المشكلات التي أعقبت الانقلاب تولدت بمزيج من التشريعات الحكومية والتغييرات الاجتماعية، لا سيما في أوائل الستينيات عندما صدر قانون ضبط أسعار الإيجار الذي جاء ليكلل القوانين الاشتراكية. قال رأفت شارحًا: «كان من المفترض أن يتحسن حال الجميع وأن يجد الكل مسكنًا، لكن لم يتحسن حال الكثيرين ولا يزال السكن غير مكفول للجميع. كانت النتيجة الواضحة الوحيدة هي تدهور مظهر القاهرة المعماري تمامًا: بدءًا بالمعالم البارزة إلى المستوى المعيشي إلى أحوال المباني إلى قيمتها. هل ستود مثلًا الإنفاق لصيانة فيلا راقية إن كانت تدر مبلغًا أقل من ١٠٠ دولار شهريًّا (الحد الأقصى لقيمة الإيجار الذي أقر في الخمسينيات والستينيات ولا يزال قائمًا إلى اليوم)؟ تأمل على سبيل المثال مبنى صدقي هنا في الزمالك الذي يضم أربعين شقة. هذا المبنى يدر أقل من مائتي دولار شهريًّا، هل تتوقع جديًّا أن ينفق ملاكه عليه للعناية به؟»
أوضح رأفت أن المباني قبل الثورة شيدت في مناخ صحي من التنافس الاجتماعي؛ إذ أراد الملاك أن تتمتع مبانيهم بموقع متميز ومظهر فريد يجذب القادرين على تحمل تكاليف الإقامة فيه، ممن يتمتعون بحس جمالي رفيع ينم عن أنهم سيعتزون بهذا المكان الجديد، لكن العهد الاشتراكي أطاح بفكرة الاعتزاز. كل ما أراده الضباط الأحرار هو أن يئووا الناس كالجرذان؛ من ثم كان أي مسكن يفي بالغرض. انتقلنا بين عشية وضحاها من عهد ذي معمار منمق ذي طابع، إلى عهد لا يحمل فيه المعمار طابعًا يميزه، وزيادة هجرة الكفاءات زادت الوضع سوءًا. هاجر مهندسون معماريون وموسيقيون وملحنون وكتاب … أغلبهم تضرر تمامًا. إن كنت مثلًا مهندسًا معماريًّا واكتشفت فجأة أن الجهة الوحيدة والأكبر لتوظيفك هي القطاع الحكومي الذي لا يدفع إلا فتات الأجور، فستبحث عن العمل في مكان آخر. من ثم انتقل أفضل مهندسينا المعماريين ببساطة إلى دول الخليج ودول أخرى مثل ليبيا.
يرى رأفت أنه من الجدير بالذكر أن كل هذا تزامن مع ما أصبح آخر فيضانات النيل الذي نظمت دورته المحملة بالطمي حياة المصريين منذ الأزل، والذي كان لترويضه أثر هائل في نفوس المصريين.
يقول رأفت: «وكأننا نفكر في الأمور بطريقة قبل الفيضان وبعد الفيضان. كان الفيضان ينظم سلوك الجميع، ثم بنى عبد الناصر السد العالي وحاصرنا النيل، فانتهى عند أسوان وأصبح من عندها قناة ليس إلا. وفي الوقت نفسه صدرت قوانين تنظيمية جديدة أخذت تسيطر على حياتنا اليومية. فالتعليم الذي يدعى بالتعليم المجاني، قاد في نهاية الأمر إلى الجهل، والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي المجانيين قادا إلى انعدام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية، وفي غمرة كل هذا أصبح الإبداع شيئًا من الماضي. شهدت الحياة تدهورًا في كافة جوانبها التي كان بالإمكان أن تقود إلى تحسن أوضاع مدينة كالقاهرة أو الحفاظ عليها. وما الذي تبقى لنا اليوم؟ ما الذي طفا على السطح في النهاية؟ إنها القمامة.»
لم يحاول المفكرون كرأفت التصالح مع هذا التدهور علنًا إلا في الآونة الأخيرة؛ يعود هذا في جزء منه إلى تزايد شعور الحنين إلى عهد ما قبل الثورة.
«لم يعد هناك تخوف من الحديث عن عهد الملكية، وعن الإنجازات الكثيرة التي قدمها الخديوي إسماعيل لمصر مع أن الحديث عن ذلك ظل محرمًا وقتًا طويلًا. ظل التاريخ وقتًا طويلًا يبدأ وينتهي عام ١٩٥٢، لكننا اليوم نستطيع أن نتناوله بمزيد من الموضوعية وأفكارنا عنه تخضع للكثير من المراجعة. المؤرخون اليوم أكثر احترافًا من أي وقت مضى، أكثر احترافًا حتى مما كانوا عليه أوائل الثمانينيات، فقبل ذلك، كنا نكتب التاريخ من أجل الحكام دون سواهم، لكن مع الأسف فات أوان معالجة الوضع؛ فقد وقع الضرر، وكل ما بإمكاننا الآن فعله هو محاولة إنقاذ القليل الذي تبقى لدينا.»
كان والد سمير رأفت — الدكتور وحيد رأفت — محاميًا دستوريًّا درس بالفرنسية، ومن أعضاء حزب الوفد القومي البارزين؛ وهو الحزب الذي حكم مصر فترة وجيزة في العشرينيات، ثم حظره الضباط الأحرار مع الأحزاب الأخرى كافة بعد استيلائهم على السلطة. طُرق باب منزله في منتصف الليل واعتقله مجلس قيادة الثورة بتهمة الخيانة العظمى، لا لشيء إلا لأنه كتب سلسلة من المقالات تنتقد سياسة عبد الناصر الخارجية، فوضع تحت الإقامة الجبرية سنوات، وفيما بعد كانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي عارضت ترشيحه بالإجماع لمنصب في محكمة العدل الدولية، فضاعت فرصته في تولي المنصب. وإن كانت قصة وحيد رأفت بالدرجة الأولى قصة من جانب المجني عليه، فإنها مع ذلك تظل تستحق الإصغاء إليها، لأن عائلته أتاحت لنا رؤية الصورة الشاملة. إلا أنني سألت الابن: لكن إن كانت حقيقة الثورة وما حققته قد خضعا للتبسيط، ألا يكون هناك خطر من تمجيد حقبة ما قبل الثورة؟ ألم يكن هذا عهدًا تمتعت فيه قلة بالثروة كلها، وترك فيه نظام شبه إقطاعي أغلب المصريين في فقر مدقع.
لا شك أن الفساد والمحاباة تفشيا في عهد فاروق، إلا أن مصر كانت بصدد الانتقال من دولة محتلة — احتلها العثمانيون ومن بعدهم الإنجليز — إلى دولة مستقلة. لقد نشأت ونمت بالبلاد حركة وطنية عظيمة؛ وبعبارة أخرى، لو تركت الحركة الوطنية وشأنها، كانت ستثمر نتائج أفضل بكثير من الثورة التي اعترضت سبيل التطور (التي أطلق عليها بلا وجه حق اسم ثورة)، فمع أن نظام فاروق كانت له مفاسده، نما في عهده شعور بتحسن الأحوال؛ فأخذت حالة الاقتصاد في التحسن، وسار العمل في مؤسسات المجتمع المدني على الطريق الصحيح. ولو أخذنا في الاعتبار قانون العرض والطلب، لوجدنا أن الحركة الوطنية كانت ستعالج الوضع، ولو ببطء. لكن حركة التطور توقفت، لتحل محلها حركة هجرة كفاءات. كيف يكون حال الدولة وشعبها بدون النخبة المثقفة والمؤسسات التي تنتجها؟ صارت لدينا فجأة نخبة جديدة من الضباط الذين لم يستطيعوا أن يحيطوا بالصورة الكاملة، الذين لا يملكون إلا رؤى محدودة وبعض المسلمات، والذين حسبوا أن بإمكانهم معالجة الوضع بإجراءات متطرفة، لكن حينها لم تكن هناك مساءلة على الإطلاق، واستشرى الفساد أكثر. ولأن المحافظ وعضو البرلمان ورئيس الحي وصلوا إلى مناصبهم بالتعيين، لا تستطيع بعد أربعة أعوام أن تقول لهم: أنتم مسئولون أمامي، ولن أمنحكم صوتي ثانيةً. آراؤنا لم يكن لها قيمة؛ المواطن البسيط لم يكن لرأيه أدنى قيمة.
بلا تعليم يفقد المرء وجهته، وشعوره بجذوره والتراث الثقافي الذي يملكه، وتنقطع صلته بهذا التراث لأنه لا يتمتع بالعقلية التي تمكن من فهمه وتقديره حق قدره. الجهل يعني أن تصبح غريبًا عن تاريخك؛ فتكون النتيجة في نهاية الأمر هي القاهرة التي نراها اليوم. تبرز اليوم في الإعلام دعوات من حين لآخر تنادي بالحفاظ على الذي ما نزال نملكه من تراث على الرغم من عدم كفاية هذا وفوات الأوان على ذلك. الوقت في الواقع قد أزف، ونحن بحاجة إلى معجزة، لكن المصري ينهمك كل يوم في كسب ما يكفيه للبقاء على قيد الحياة حتى إن كل شيء آخر كتراثه، وجمال بيته، ونظافته ودوره في المجتمع؛ صار يحتل أهمية ثانوية لديه.
•••
بعد أن سمعت آراء رأفت المقبضة للصدر عن أحوال مصر، شعرت بالإحباط، فبدا لي أن الأنسب هو قبول عرض الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، ومدير مركز منظمة الصحة العالمية للتدريب والبحوث في مجال الصحة النفسية. وبعد بضعة أيام، قدت سيارتي قاصدًا لقاء هذا الرائد البارز في مجال علم النفس في العالم العربي. كان قد افتتح لتوه منتجع صحة نفسية يطل على طريق السويس، بدا من بعيد كالكثير من فنادق الخمس نجوم التي انتشرت على مقربة من الطريق الصحراوي، لكنه يأتي على رأس نمط جديد من أساليب معالجة الصحة النفسية التي تهدف إلى التخلص من وصمة اجتماعية لطخت الصحة النفسية في مصر. كان المنتجع يقع في حديقة شاسعة ويضم صالة رياضية وقاعة للأنشطة المختلفة ومنطقة استقبال ذات نوافذ طويلة تطل على الحديقة، أهم ما فيها هو أنها تسمح بدخول الضوء من جميع الاتجاهات لإدخال البهجة إلى النفس لدى الوصول إلى المنتجع.
الرجل الذي حياني كان عنوانًا مثاليًّا لما يهدف إليه منتجعه، كان حسن الملبس، ذا بشرة متوردة ووجه عريض متهلل تعلوه كتلة من الشعر الأبيض الكث المصفف على نحو جذاب، وتنضح مسام جسده الممتلئ بالعافية. وأثناء تجوالنا في المكان، مررنا بين الحين والآخر بواحدة من صوره الكثيرة المرسومة بالبرونز والحبر التي تناثرت في أرجاء المستشفى، فسألته إن كان يستطيع أن يسلط الضوء أيضًا على حال المصريين الأقل حظًّا بعد خمسة عقود من الحكم العسكري الديكتاتوري القاسي. ولم يمض وقت طويل قبل أن يتضح أنه مستعد تمامًا لذلك. بدأ بتوضيح أن هناك فارقًا هامًّا على حد قوله يفصل بين تمتع المرء بصحة نفسية جيدة وبين سلامته من الأمراض النفسية.
قال الدكتور أحمد عكاشة: «الصحة في تعريف منظمة الصحة العالمية هي سلامة المرء البدنية والنفسية والاجتماعية، وليس سلامته من الأمراض وحسب.» ثم استطرد: «ليتمتع المرء بصحة نفسية جيدة يجب أن يتمتع بأربع مواصفات: يجب أن يكون قادرًا على التكيف مع ضغوط الحياة، وعلى الموازنة بين قدراته وبين المتوقع منه، وأن يعطي ولا يأخذ وحسب وألا تتمحور حياته حول الآخرين، وأن يكون قادرًا على تقديم شيء لأسرته ومجتمعه.» وقال الدكتور أحمد عكاشة إن نفسية «المصري» — على حد تعبيره مرارًا على نحو طريف أثناء محادثتنا — قد طرأت عليها تغيرات كثيرة. «المصري معروف تاريخيًّا بحسه الفكاهي الساخر التهكمي، فهو إن لم يجد شخصًا يسخر منه، سخر من نفسه. وهو معروف باهتمامه الشديد بأسرته ومنطقته، لكنه يعارض بشدة التطرف والتعصب والعنف، ومرونته رائعة، وهو في الوقت نفسه غير أناني، تحركه أسرته ومجتمعه ودينه.»
لم نعد نرى الكثير من الابتسامات عندما نسير في الشارع، وثمة أسباب كثيرة لذلك، السبب الأول هو الفقر، فلا يزال أكثر من خمسين بالمائة من المصريين يعانون الفقر ويعيشون بدخل أقل من دولارين يوميًّا. ثم تأتي مشكلة الزحام، الذي يؤثر تأثيرًا كبيرًا على شخصية الفرد. القاهرة هي أكثر المدن ازدحامًا في العالم؛ ففي كل كيلومتر مربع يعيش اثنان وخمسون ألف فرد، لا يوجد شيء كهذا في أي منطقة أخرى. ثم هناك معدل البطالة المرتفع، وعدم قدرة الشباب على التعبير عن رأيه بحرية. حرية التعبير تشعر المرء بكرامته وتحقق الصحة النفسية؛ فالديمقراطية تسمح بصحة نفسية أفضل، لكن يجب أن تكون ديمقراطية حقيقية، مما يعني أنه يجب أن تتحقق فيها الشفافية ومحاسبة المسئولين، ويتاح فيها للشعب القدرة على تغيير السلطات الحاكمة … المصريون اليوم لا يجدون الشفافية في أي من نواحي حياتهم ولا يحاسب أي من لصوص الوزراء أو غيرهم من الساسة أمام الفقراء. الوضع هو نفسه منذ عام ١٩٥٢: الجيش يحكم البلاد.
وذكر الدكتور أحمد عكاشة أن مبارك أسير تلك الحالة النفسية.
ثم استطرد هازئًا: «إنه في الحكم منذ خمسة وعشرين عامًا، والآن يأتي ليقول: «سأبدأ في الإصلاح!» هذا مستحيل بالطبع لأن الإصلاح هو تصور نفسي وهو عاجز عنه. وبدلًا من ذلك يحاول أن يتخذ خطوات تخلق انطباعًا بحدوثه.» والأدهى من ذلك — كما أصر عكاشة — هو اللامبالاة المخيفة التي استحوذت على الشخصية المصرية؛ «فعندما يتعرض المرء لكل هذا القدر من العذاب النفسي، وإلى كل هذه الضغوط الحياتية، يبدأ في السقوط في حالة من العجز واليأس تشعره باللامبالاة؛ فلا يكترث لشيء على الإطلاق. أنا أعيش في مصر وهم يحكمونها، لكن لا علاقة لي بهم. دعني أعطيك مثالًا: بلغت نسبة من صوتوا في انتخابات عام ٢٠٠٥ الرئاسية ٢٢٪ فقط من مجموع السكان. حتى في موريتانيا يصل مجموع المشاركين في الانتخابات إلى ٧٠٪! كما أننا نعاني التزوير الانتخابي؛ فقد كشفت محكمة الاستئناف المصرية العليا أن تسعين بالمائة من المنتخبين لعضوية البرلمان في الانتخابات الأخيرة وصلوا إلى مقاعدهم بالغش، وهذا يفسر لمَ لمْ يعد المصريون يبالون من يحكمهم.»
لكن الإسلام دين سلام ورحمة. ما سبب ذلك إذن؟ عُرف المصري منذ القدم بأنه لا يبرح أرضه قط؛ فكرامته مرتهنة بها، لكن بعد ثورة عام ١٩٥٢ وبعد كل الأزمات الاقتصادية التي مرت بها البلاد، أُجبر على الرحيل، فسافر إلى المملكة العربية السعودية أو دول الخليج بحثًا عن عمل، وعندما تتنازل عن جزء من كرامتك، تتأثر أخلاقياتك. قبل عام ١٩٦٧ أشعر عبد الناصر المصريين بقدر من الكرامة، لكن تبين أن الحرب كانت نكسة مريعة، على الرغم من كل ما زعمه رجال النظام آنذاك، فقرر الشعب ألا يثق فيما يقوله هؤلاء وأن يلجأ إلى الله، وأن يفكر في الآخرة لأن الأمل انقطع في الدنيا، مع أن الإسلام يأمر بأن يعمل المرء لدنياه وكأنه يعيش أبدًا وأن يعمل لآخرته وكأنه يموت غدًا.
لم ينتقل إلى عكاشة الحنين إلى عهد ما قبل الثورة الذي استشرى على نطاق كبير؛ فهو يرى أن هذا الشعور هو وهم خطير. يقول: «من يلتفتون إلى عهد مضى كعهد الملك فاروق مثلًا لم يعاصروا تلك الآونة؛ هم يرون أنه كانت توجد حرية تعبير أكبر وديمقراطية أكبر، لكن دعنا لا ننسى أن طبقة معينة تشكل نسبة ٠٫٥ بالمائة من سكان مصر امتلكت كل شيء في مصر وتركت باقي الشعب فقيرًا معدمًا. كانت توجد حرية تعبير، ولم يفرض بالقطع قانون الطوارئ، وقد تدهور الحس الجمالي بالفعل لدى المصريين إلى حد بعيد منذ الثورة، لكنني أعارض بشدة من يكثرون الحديث عن الماضي، وأعتقد أن مقارنة الحاضر بالماضي البعيد خطأ بكل المقاييس.»
أفضل الاعتقاد أنه ستكون هناك فوضى بناءة بطريقة ما، لكن لا أعتقد أننا سنحرز تقدمًا إن ظل صانعو السياسات الحاليين يتبنون المنظور نفسه، وستتحول المسألة إلى فوضى عارمة. إلا أنني أرى في وسائل الإعلام والصحف والمفكرين الجدد أملًا يجبر صانعي السياسات على التغيير. أعتقد أنه ستكون هناك فوضى طالما أن محركي السياسة المصرية يفتقرون إلى الشفافية ولا يخضعون للمساءلة ولا يغيرون سلطاتهم. إما أن يقع انقلاب أو يحكمنا نظام إسلامي متطرف، لكن قد تقود الأحزاب السياسية إلى تغيير سلمي. علينا أن نفهم أن أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي مصريون، إن جلست معهم فسيحدثونك كما نتحدث الآن، لكنهم لا يستطيعون التصرف لأن القوات المسلحة هي في الواقع من يحكم البلاد، وإن تفوهت بشيء ضدها، تنتهي إلى السجن. لكن القيادة على أي حال هي انتخاب الأشخاص المناسبين للمساعدة على أداء المطلوب بطريقة سليمة. ومع الأسف فإن مصر يحكمها مثلث سلطة ومال ونفوذ. إن تمتعت بأحد تلك المقومات فسيتاح لك المقومان الآخران، ولن ترغب في التخلي عن أي منها.
قال هذا وقد بدا أن نبرة حزن تسللت إلى صوته.
•••
مثل محاولات النظام المستمرة لإنهاء ختان الإناث الممارس على نطاق شبه شامل، والقائمة على فتاوى رسمية أعلنت أن الختان ليس من تعاليم الإسلام، وكجهوده لمحو الأمية برعاية برنامج قومي متعال للقراءة قادته قرينة الرئيس التي تعشق وسائل الإعلام؛ حققت حملة طويلة لتنظيم الأسرة نتائج توصف على أحسن تقدير بأنها هزيلة. فقد أظهر الإحصاء الرسمي للسكان الذي أجري عام ٢٠٠٦ أن كل ثلاث وعشرين ثانية تشهد قدوم مولود مصري، مما يرفع إجمالي عدد السكان في مصر — باحتساب من يقيمون خارج البلاد — إلى ستة وسبعين مليون نسمة وهو معدل زيادة يفوق المعدل الذي سجله إحصاء عام ١٩٩٦ بنسبة سبعة وثلاثين بالمائة، ويعني هذا أن سكان مصر يمثلون ربع سكان العالم العربي. ويقدر عدد سكان القاهرة وحدهم بنحو عشرين مليون نسمة، فيما بلغ عددهم نصف مليون نسمة فقط مع بداية القرن العشرين؛ وتظهر آخر الإحصاءات أن العاصمة في الآونة الأخيرة شهدت أكبر معدل نمو سكاني بين سائر محافظات البلاد (بلغ ١١٪ تقريبًا). واليوم يتوقع النظام الحاكم أن يبلغ عدد سكان القاهرة في عام ٢٠٢٢ نحو ثمانية وعشرين مليون نسمة، مع أن المدينة يسكنها ٤٣٪ من إجمالي سكان المناطق الحضرية في البلاد، وتضم ٥٥٪ من جامعات الدولة، و٤٦٪ من إجمالي عدد الأسرة بالمستشفيات، و٤٣٪ من إجمالي عدد الوظائف، بالإضافة إلى جيش من العاطلين، ومليون ونصف مليون لاجئ سوداني وعراقي، ومليون مصري يضطرون إلى السفر يوميًّا لقضاء مصالحهم في الأجهزة الحكومية البيروقراطية المقبضة للصدر. ومن الواضح أن القاهرة ستستمر في النمو بسرعة صاروخية على نحو أشبه بكابوس مزعج لأي مخطط عمراني.
تعود حركة التمركز في القاهرة إلى نظام عبد الناصر الديكتاتوري الذي سيطر عليه جنون الارتياب. جعل عبد الناصر القاهرة مركز السلطة المطلقة، عملًا بفلسفة السيطرة على الرأس، ومنه السيطرة على سائر الجسد، وهو ما أضر بدرجة كبيرة بالمدن الأصغر ودلتا النيل (الواقعة شمال القاهرة) وصعيد مصر (جنوبها). على سبيل المثال: مدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على ساحل البحر المتوسط — ثاني أكبر مدن مصر والمنافس التاريخي الوحيد للقاهرة على الشهرة — لم تعد إلا أثرًا واهيًا للمدينة التي صورتها عشرات الأفلام المصرية الشهيرة التي تعود إلى الأربعينيات، حيث عثر الشباب والفتيات على الحب في الإجازات، وامتدحت أغاني هذه الحقبة الشهيرة نسيم بحر الإسكندرية البارد وجمال نسائها والبساطة التي ينبت بها الحب فيها، وقد رثى لورانس دوريل في روايته «رباعية الإسكندرية» مجتمعها الرائع متعدد الثقافات، وكذلك مكانتها كساحة رخيصة وساحرة إلى أبعد حد لمؤامرات القوى العظمى وغير العظمى. أغلقت أغلب ملاهي المدينة الليلية ومطاعمها الشهيرة التي يديرها الأجانب؛ إذ عاد ملاكها منذ زمن طويل إلى أوروبا للاستقرار بها إلى الأبد، ولم يتبق بالمدينة إلا بعض المسنين الواهنين من مجتمع الأجانب الذي تمتع فيما مضى بالثراء، وشمل اليونانيين والقبرصيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن.
بل أصبحت الإسكندرية التي أسهب فيها أبطال لورانس دوريل البروتستانتيين والأرثوذكس في وصف أسرار مذهب الكابالا ومدح جمال عشيقاتهم هي أكثر مدينة تنتخب مشرعين من جماعة الإخوان المسلمين الأصولية، وصار على سكان المدينة الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين شخص أن يقنعوا بالدرجة الأولى بحفظ القرآن. واليوم يطبق العائدون من دول الخليج عقيدتهم الوهابية الجديدة بتشدد؛ فيصرون على أن تستحم نساءهم في البحر مرتديات عباءات تغطي أجسادهن بالكامل، وعلى ألا يتحدث أطفالهم إلى المسيحيين لأن هذا محرم دينيًّا بما أنهم كفار. في ظل هذا المناخ الاجتماعي المخيف، فشلت مكتبة الإسكندرية الجديدة، التي تكلف بناؤها مبلغًا قدره ٢٣٠ مليون دولار وأنشئت بهدف إحياء ماضي المدينة الأسطوري (والتي هي أشبه بطبق لاقط عملاق لاستقبال إرسال الأقمار الصناعية) في تحفيز نهضة في الاطلاع على المعارف.
•••
أثناء زياراتي لعائلة إيهاب البالغ من العمر عشرين عامًا — الذي صادقته في قطار متجه من الصعيد إلى القاهرة في إحدى رحلاتي في شمال وجنوب البلاد — كثيرًا ما كنت أتذكر وصف سمير رأفت للقاهريين بأنهم «يئوون كالجرذان»، وتحليل دكتور عكاشة لخط تدهور الصحة النفسية لدى فقراء المصريين. كان إيهاب شابًّا طويلًا نحيفًا يبدو عليه الوهن، عكف على قراءة إحدى الصحف في عربة قطار سافرت فيها. إن رأيت شابًّا مصريًّا يقرأ أي شيء فهذا في حد ذاته أمر عجيب يلفت الانتباه فورًا؛ وتزايد فضولي تجاهه عندما لاحظت أنه يقرأ صفحة الرأي (وليس صفحة الرياضة أو الجرائم). تجاذبنا أطراف الحديث ونحن ندخن السجائر تحت لافتة كبيرة تحظر التدخين في عربة الحقائب التي تفصل بين عربات القطار، ولم نكن وحدنا من تجاهل هذا الحظر، بل تجاهله أيضًا الحارس الذي يفترض أن وظيفته هي وضعه موضع التنفيذ. تجاهُل المصريين لكل القوانين — بدءًا من تلك التي تحظر إلقاء القمامة، إلى رفضهم تركيب العدادات في سيارات الأجرة، إلى امتناعهم عن احترام قواعد المرور الأساسية — يدل على فشل النظام وازدراء المصريين للسلطات التي تحكمهم سواء على الصعيد المحلي أو القومي.
تبين أن إيهاب طالب بكلية بمدينة قنا الجنوبية التي تبعد عن مدينة الأقصر السياحية نحو ساعة. كان في طريقه إلى منزل أسرته في إجازة قصيرة فدعاني إلى زيارة عائلته في القاهرة عندما يسنح لي الوقت. كانت هذه الدعوات الصادقة تأتيني كل ساعة تقريبًا في التسعينيات، حتى من قبل عوام المصريين الذين لا يعملون في قطاع السياحة الضخم، لكنها بعدئذ شحت. عزوت هذا في البداية إلى أنني صرت أبدو أكثر جدية وأصبحت أتحدث العامية المصرية بطلاقة وأبدو أكبر سنًّا وأكثر خبرة بالحياة والناس؛ لذا صار التقرب مني أصعب. لكن في رحلة قطار أخرى أخبرني أحد أساتذة جامعة القاهرة بلطف بعد أن سمعني أُحدث رفيقي في السفر عن أسفي لتضاؤل عدد الدعوات التي صرت أتلقاها أن دعوتي ستكون مكلفة؛ لأن الناس سيخجلون إن لم يقدموا لي إلا أفضل الطعام، والمشكلة هذه الأيام أنهم لا يستطيعون أن يوفروا ما يكفي من الطعام لأطفالهم. كانت أسعار السلع الغذائية آنذاك؛ في منتصف عام ٢٠٠٧ قد ارتفعت بنسبة ٢٥٪ عن العام السابق، في الوقت الذي ظلت فيه الأجور ثابتة منذ عقود. هذا جزء من وتيرة معتادة على مر التاريخ؛ ففيما ارتفعت الأجور بين عامي ١٩٧٨ و١٩٨٨ بنسبة ٦٠٪ ارتفعت الأسعار في غضون العقد نفسه بنسبة ٣٠٠٪؛ إلى حد كانت له آثار مدمرة على أغلب السكان الذين لم تستطع أجورهم أن تواكب معدل التضخم الرسمي الذي يختلف عليه الكثيرون.
عاشت أسرة إيهاب في ضاحية على أطراف القاهرة تدعى مدينة السلام. تقع شقتهم المكونة من ثلاث غرف بالطابق الأرضي من بناء خرساني رمادي اللون بني وفقًا لخطة عمرانية محددة، وأحاطت به أبنية مشابهة. بنيت مدينة السلام في أواخر السبعينيات، جزءًا من سياسة الانفتاح التي تبناها السادات عندما أعلن النظام الحاكم خططًا لبناء أربع عشرة مدينة حيوية جديدة بهدف إعادة الانتقال بالنمو الحضري إلى الصحراء. صاحبت تلك الخطة ضجة هائلة وثناء رفيع على مزايا السكن الكريم وتحسن وجه الحياة عامة. لكن سرعان ما تجلت الحقيقة القاسية؛ إذ نبذ النظام كما هو متوقع مسئولية تمويل المدينة لتقع على عاتق مستثمري القطاع الخاص، فكانت النتيجة محاولات متخبطة. ازدهرت بعض المدن في نهاية الأمر كمدينة نصر ومدينة السادس من أكتوبر باعتبارها مراكز صناعية وسكنية ولو أن كلتا الغابتين الخرسانيتين المزدحمتين بالأبنية لا تتمتعان بأي طابع معماري مميز. النجاح الذي تحقق في حالة مدينة نصر يعود إلى حد بعيد إلى أن المدينة أصبحت النقطة التي يختارها المسئولون الحكوميون رفيعو المستوى لتأسيس منازلهم، فالنظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة الديكتاتورية يضع أولوية للعناية بأتباعه. يساوي عدد من يصوتون للحزب الوطني الحاكم إلى اليوم عدد الموظفين الحكوميين الذين تقلهم الحافلات عادة إلى مراكز اقتراع (قرابة سبعة ملايين شخص، وفقًا للأرقام الرسمية المعلنة وغير الموثوق بها)، فيما يصطف رجال الشرطة بالشوارع المحيطة لمنع مؤيدي جماعات المعارضة المتلهفون على الإدلاء بأصواتهم. أما مدينة السادس من أكتوبر فقد أصبحت قاعدة لنصف مليون عراقي، فروا إلى مصر في أعقاب الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على بلادهم عام ٢٠٠٣ والحرب الأهلية التي تلت الغزو.
ولا تزال باقي مدن الضواحي مدنًا مقفرة، وهو وصف يليق بمدينة السلام التي أغرت الحكومة المصرية سكانها ليرحلوا من فوق أسطح المباني التي زالت عنها عظمتها في منطقة وسط القاهرة، والتي احتلوها عقودًا بوضع اليد. لكن لم يضطلع القطاع الخاص أو الحكومي بأي استثمارات هامة في مدينة السلام على مدى ربع القرن الماضي، وما زالت المدينة تبدو معسكر لاجئين عالي المستوى، لا ينفك سكانه عن تمني الانتقال منه. وعلاوة على ذلك فإن موقع المدينة النائي يزيد الشعور بالكآبة والنفور منها: كنت أزور عائلة إيهاب صباح كل جمعة (وهو يوم الإجازة الأسبوعية لدى المسلمين) في الوقت الذي تخلو فيه شوارع القاهرة الشهيرة بزحامها المروري بعض الوقت، لكن حتى حينها كنت أستغرق ساعة تقريبًا في الوصول بسيارة الأجرة وأتكلف ستة دولارات؛ أي ما يعادل راتب ثلاثة أيام لموظف حكومي عادي.
وتلك كانت وظيفة والد إيهاب المتقاعد، وهو رب أسرة فخور، جلس يدخن بهدوء وهو يشاهد أبناءه التسعة — خمس فتيات وأربعة أولاد تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وثلاثين عامًا — وهم يتدافعون تنافسًا على الأماكن في غرفة الجلوس، حيث أصدر التلفاز جلبة وهو يعرض فيلمًا مصريًّا قديمًا، حاولت جدة إيهاب أثناءه أن تخبرني بأنها في حاجة إلى طاقم أسنان صناعي جديد. لم تحو الغرفة أرائك وإنما ضمت ثلاثة أسرة تتحول بها الغرفة ليلًا إلى غرفة نوم. وفي إحدى المرات، انفتح باب المنزل الأمامي بعنف — وكان يطل مباشرة على سلم عمومي قذر — واندفع عبره صف إضافي من الأطفال الصغار — لعلهم بعض الأقارب من هنا أو هناك — وطلبوا بضعة قروش من جدتهم لشراء بعض الحلوى، وسألت الأب: «هل اكتفيت من الإنجاب، أم أنك تحاول أن تشكل جيشًا؟» فقال أشرف الابن الأكبر مازحًا إنه نفسه له ثلاثة أطفال ويعتزم أن يعزز قوات الأسرة الآخذ عددها في التناقص. على كل صار الزواج والإنجاب ومن بعده محاولة كسب ما يكفي من المال لتوفير المأكل والملبس والتعليم للأبناء؛ الموضوع الذي يسيطر على أحاديثنا في الزيارات التي قمت بها للأسرة بين الفينة والفينة؛ فبصرف النظر عن التمتمة بمرارة بين الحين والآخر بأن رئيس البلاد «وغد بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، لم يبد أن هناك من يملك الوقت للتفكير في أي مسألة أخرى، ناهيك بالقطع عن الخوض في نقاش عنها.
هذا الواقع القاسي الذي وصفه لي الدكتور عكاشة بوجه عام مرده حسبة بسيطة: يتسلم والد إيهاب شهريًّا معاشه الحكومي وقدره خمسة وسبعون دولارًا، وتقضي قاعدة ذهبية لدى تلك الأسرة الكبيرة أن يأكل أفرادها اللحم معًا كل يوم جمعة. ويساوي ثمن كيلوين من اللحم أسبوعيًّا ١٥ دولارًا، بذا يتبقى من دخل الأسرة الأساسي الشهري ١٥ دولارًا، وهو مبلغ يقل قليلًا عما تدفعه شهريًّا نظير إيجار المنزل الشهري. أثث أشرف شقة مؤجرة بأثاث اشتراه بالتقسيط ليتزوج (تقضي التقاليد المصرية بأن يوفر الزوج الشقة وأثاثها، وأن توفر الزوجة أجهزة المنزل الكهربية)، ولم يتحمل والد أشرف عبء دفع مقدم الشقة وحسب، بل تحمل أيضًا دفع قسطها الشهري الذي يساوي أربعين دولارًا. وعمل أشرف في قطاع السياحة بأجر شهري قدره أربعون دولارًا، أي نظير مبلغ لا يكاد يكفي لدفع إيجار شقته والسفر يوميًّا ذهابًا إلى عمله وإيابًا منه في وسائل النقل العامة، أما بسام، ثاني أكبر أخوة إيهاب، فيعمل في مقهى محلي مع أنه تدرب على العمل محاميًا، وهذا لأنه لا يملك المال لدفع رشوة للعمل في شركة محاماة محلية، إلا أنه يحصل بالكاد على راتب محام متواضع (دولارين) نظير اثني عشرة ساعة عمل يوميًّا، وإن حالفه الحظ يحصل على دولار إضافي تقريبًا من الإكراميات. لكن صاحب العمل يدفع له راتبه على دفعات متقطعة زاعمًا أن المقهى لا يدر المال الكافي ليدفع لموظفيه بانتظام. علاوة على هذا — وكأن حال الرجل تحتمل المزيد — يتحمل بسام حساب الزبائن الذين يغادرون دون دفع الحساب. بسام هو فتى ورع رقيق الحاشية يحرص على أداء الصلوات الخمس، ويعيش حالة من القلق الدائم لأن الفتاة التي يرغب في الزواج منها — لكن لا يستطيع — يلاحقها غريم أكثر منه ثراءً. لكنه أخبرني أنه يواجه موقفًا أصعب يضطره إلى الاختيار بين الاستمرار في الصلاة بمسجد المنطقة والكف عن هذا لأن الكثير من زبائن المقهى ينتظرون موعد الصلاة للهرب أثناء توضئه. وقد مرت عليه أيام تعين عليه فيها أن يدفع نحو دولار لتغطية العجز لصرّافة النقود (فثمن كوب الشاي أو النارجيلة يساوي عشرين سنتًا تقريبًا)، من هنا كان في أحيان كثيرة يجد بعد شراء شطيرة لغدائه، والدفع مقابل وسائل المواصلات العامة ذهابًا إلى العمل وإيابًا منه؛ أنه أنفق أكثر مما جنى. لم يدفع إيهاب نفسه مالًا للالتحاق بالجامعة لأنه كان من أوائل صفه في الثانوية العامة، لكنه يظل مضطرًا مع ذلك إلى أن يدبر سبعين دولارًا سنويًّا نظير الكتب الدراسية واثني عشر دولارًا نظير الإيجار الشهري وأجرة تنقله بالقطار من وإلى الكلية بين الفينة والفينة، والطعام والفواتير الشهرية (ملابسه هي ملابس أخيه الأكبر القديمة). أخبرني أنه أخذ هذا المال من والده.
كل هذا يطرح سؤالًا واحدًا: كيف بأي حال استطاع والد إيهاب أن ينفق على أبنائه مبلغًا يساوي خمسة أضعاف معاشه الشهري؟ اتضح أنه كان أمامه وسيلتان لذلك: الوسيلة الأولى هي نظام تمويلي واسع الانتشار بين الجيران — لا سيما الزوجات اللائي لديهن أطفال صغار — يساهم فيه كل مشارك بقدر معين من المال شهريًّا في صندوق نقد مشترك، تذهب أمواله كلها شهريًّا إلى أحدهم وفق دورة معينة. أما الوسيلة الثانية فهي التسول من الأصدقاء والأقارب واحدًا بعد الآخر، لا سيما إن استطاع أحدهم أن يحصل على عمل في إحدى دول الخليج العربي (التي قد يصل راتب العمالة غير المدربة فيها إلى ألف دولار شهريًّا). ومن حسن حظ إيهاب أن أسرته وأقاربه يهتمون اهتمامًا بالغًا بالتعليم، ولما لاحظ والده منذ وقت مبكر ذكاءه أنفق ليتلقى الدروس الخصوصية، فكثيرًا ما يقال إن إرسال الأطفال إلى المدارس من دون أن يكون لهم معلمهم الخاص يشبه حرمانهم من الأحذية والكراسات. ويزعم أن المصريين ينفقون سنويًّا على الدروس الخصوصية نحو ٢٫٤ مليار دولار، وهو ما يساعد على الإبقاء على الحلقة المستمرة التي تجعل المعلمين أنفسهم متعبين إلى حد أنهم لا يستطيعون أن يدرسوا جيدًا في الفصول؛ لأنهم يلقون الدروس الخصوصية حتى الساعات المبكرة من الصباح؛ لرفع أجرهم الضعيف الذي يضاهي دولارين في اليوم.
ونصف الأسر المصرية على أقل تقدير يعاني نفس مشكلة أسرة إيهاب.
•••
احتلت النخبة الناصرية الفاسدة موقعًا مثاليًّا يتيح لها استغلال سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها السادات في السبعينيات. في ذلك كتب المؤرخ جيمس جونكوفيسكي في كتابه الصادر عام ٢٠٠٠ «مصر: لمحة تاريخية» أن «فئات جديدة برزت مع الطبقة البرجوازية الصاعدة السابقة ومن أوساطها. وانهمك «المروجون للانفتاح» في تجارة الاستيراد، والمضاربات المالية، وفي العمل وسطاء للمستثمرين الأجانب؛ فأخذ تجار متجولون في الترويج للعلامات التجارية الشهيرة في الموضة والإلكترونيات، وظهرت طبقة جديدة من أصحاب الملايين المصريين الذين يركبون سيارات المرسيدس ويسكنون الفيلات الفاخرة بجانب الأهرامات.» أما أغلب المصريين — كأسرة إيهاب — فقد أضحت أحوالهم أكثر سوءًا، وازداد إحباطهم مع علمهم أن من ازدهرت أحوالهم في السبعينيات لم يبلغوا الحال الميسورة التي يتمتعون بها بالنزاهة؛ فقد أصبحت العمولات والرّشا جزءًا طبيعيًّا من عقد الصفقات لدى الجميع؛ وحتى عندما كف كبار المسئولين عن الانشغال بالاختلاس من خزائن الدولة، تقاضوا الرشا، وجمع المسئولون الحكوميون الإكراميات لأداء واجباتهم الإدارية. ومن الصعب الاستخفاف بأثر إحلال تلك «الأموال القذرة» محل «المال النظيف» على الحالة الاجتماعية والتركيب الطبقي. فبالصورة نفسها التي حل بها بلطجية عصابة عبد الناصر الجهلة محل النخبة الأرستقراطية المثقفة الراقية القديمة، امتلأت صفوفهم بمحدثي النعمة الذين تملكوا فجأة الثروات بتقاضي الرشا أو السفر إلى دول الخليج عقب ازدهار قطاع البترول هناك في السبعينيات، أو بيع الأراضي التي امتلكتها أسرهم الفقيرة سنوات، لكن أصبحت بين عشية وضحاها تساوي ثروة صغيرة مع ازدهار سوق العقارات المسخر لخدمة النخبة الجديدة. هذا يعيد إلى الأذهان من جديد تلخيص رأفت الموجز للأحوال: القمامة تطفو على السطح.
عندما اتخذ تحرير الاقتصاد شكل الخصخصة، كانت له تبعات اجتماعية ثقيلة على من تخلى عنهم. انقطع الدعم المباشر للسلع الاستهلاكية الأساسية مع إصرار منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي على ذلك، وخضعت أربعمائة شركة تقريبًا من شركات القطاع العام للخصخصة منذ التسعينيات. اتُهم كبار المسئولين كثيرًا بتقاضي الكثير من الرشا في صفقات الخصخصة تلك، وأفلتت شركات القطاع الخاص إلى حد بعيد من القيود الحكومية الصارمة. من أمثلة ما يحدث عندما تتحد الحكومات التي ضربها الفساد اتحادًا وثيقًا مع مستثمري القطاع الخاص الذين لا يعرفون الرأفة: ظاهرة بناء أبراج الكهرباء والاتصالات بالقرب من بيوت الفقراء وفوقها بل وداخلها أحيانًا. ويقال للفقراء عند الشكوى إلى المسئولين إنه لا توجد قوانين تحظر تلك الممارسات، فيضطر أطفالهم الذين يعانون من الأصل سوء التغذية ونقص الرعاية الصحية إلى التعايش مع احتمال أن يكونوا معرضين على الدوام إلى نسب عالية من الإشعاعات المسببة للسرطان. وإلى جانب هذه الممارسات الأنانية والإهمال يستمر النظام في زيادة نفقاته على الجيش، في الوقت الذي يقلص فيه إنفاقه على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية. ويأتي كل هذا سيرًا مع الاتجاه العالمي الجديد الذي يفترض أن الثروة التي يخلقها السوق الحر تنتقل شيئًا فشيئًا من أيدي الأثرياء إلى الفقراء فيعم النفع على الجميع، مما لا يجعل هناك حاجة لوضع آليات دعم اجتماعي بديلة.
من السهل العثور في عشوائيات لندن أو نيويورك العديدة المشابهة على عائلة تعيش هذه المعاناة، وتشكو الشكوى ذاتها من انخفاض مستوى المعيشة، والتعليم، والرعاية الصحية، والفساد الحكومي، والإهمال، لكن ما يميز بريطانيا والولايات المتحدة عن مصر هو الحراك الذي يشهده السلم الاجتماعي فيهما، ووعي الفرد الأساسي بأنه قد يحظى في آخر الأمر بالتقدير ويترك دوامة الفقر واليأس إذا تمتع بتعليم جيد ورغبة في العمل الجاد، أيًّا كانت الخلفية التي يأتي منها. وباختصار، ثمة طبقة وسطى. ومع أن من يسكنون منازل محدودي الدخل المهملة في بريطانيا والولايات المتحدة قد يظلون نوعًا ما عالقين في دوامة الفقر طيلة حياتهم، فيما تتسع الفجوة بين الفقراء والأثرياء في هاتين الدولتين وغيرهما من الدول المتقدمة؛ فإن الطبقة الوسطى في هذه الدول — على العكس منها في مصر — تتمتع بالمزيد من الثقل الاقتصادي بما أنها تملك المزيد من المال، علاوة على أن هذه الدول على عكس مصر تتمتع إلى حد ما بنظام حكم ديمقراطي. من ثم تكون هناك آذان صاغية على الأقل لمشكلات المواطن العادي، هذا إن لم تتخذ على الدوام خطوات لمواجهتها. أما الطبقة التي تحمل اسم الطبقة الوسطى في مصر — التي كان من المفترض أن ينضم إليها أخو إيهاب بسام منذ وقت طويل بما أنه محام مدرب — فقد وقعت عليها تبعات سلسلة الإصلاحات التي أجريت في عهد النظامين الحاكمين التاليين لوفاة عبد الناصر في عام ١٩٧٠، وساعد الركود السياسي في تهميش دورها في تشكيل السياسات والمجتمع، وقاد إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأثرياء. ويميل النظام الحاكم في مصر إلى المباهاة بأن الاقتصاد المصري شهد أكبر معدلات نموه بعد الثورة، إلا أن سوق العمل يدخله سبعمائة ألف مواطن مصري كل عام، ولا يزال القطاع العام يوظف نحو سبعة ملايين مواطن لا تقبل وظائفهم الخصخصة، مهما أثقلت الأجهزة الحكومية بالأعباء. من هنا يطرح كثيرًا السؤال التالي: كم مصريًّا من السبعة والثمانين مليون مواطن سيفيد من سوق بورصة القاهرة والإسكندرية؟!
الفكرة العامة التي يجب أن نخلص إليها على الأرجح هي أن إفقار الطبقة الوسطى — ومن ثم استئصالها — يضر باستقرار أي دولة على المدى الطويل، ويصبح الوضع أدهى عندما يتخلى النظام الحاكم عن مسئولية إدارة الاقتصاد، والخدمات الاجتماعية تاركًا عشرات الملايين من أفراد الطبقة الدنيا بلا حيلة في ظل العواصف التي يقود إليها هذا التنصل. إحدى المخاطر التي قد تنجم أيضًا عن ذلك هي نمو بعض الكيانات كجماعة الإخوان المسلمين التي يتكون أعضاؤها من بقايا الطبقة المتوسطة المتعلمة؛ من الأطباء، والمهندسين والمحامين والطلاب والمعلمين. جعلت تلك الجماعة العمل الخيري العام، وتكلُف الاهتمام بمعاناة الفقراء المطحونين؛ الوسيلة الأساسية التي ترتكز عليها في حملتها لاستمالة البسطاء إلى الإسلام المتشدد.
وإن استحوذ الإخوان المسلمون على زمام السلطة، فقد يدفع حكمهم المصريين بعد عقود من الآن إلى تمني عودة الأيام الأخيرة للنظام العسكري الفاسد الحالي، كما يتمنون اليوم عودة الديمقراطية البرلمانية التي كانت قائمة قبل انقلاب عام ١٩٥٢.