الإخوان
بنى الإخوان المسلمون مؤخرًا بناءً من ثمانية طوابق في إحدى ضواحي القاهرة؛ ليكون مقرًّا لممثليهم الجدد في البرلمان، ومع أن الكثير من الأموال تتدفق عليهم من التبرعات الخيرية ومع أنهم قد عُصف بهم إلى مناخ سياسي مضطرب يملؤه الفساد والمحاباة، فإنهم نادرًا ما يبذرون المال، وفي حالة هذا المبنى، أمكنهم الدفع بحجة مقنعة بأنهم أنفقوا مالهم بحكمة. لقد استحوذوا في انتخابات عام ٢٠٠٠ على خمسة عشر مقعدًا فقط من مجموع أربعمائة وأربعة وأربعين مقعدًا برلمانيًّا، لكن بما أنهم في انتخابات ديسمبر/كانون الأول ٢٠٠٥ فازوا بثمانية وثمانين مقعدًا، فقد احتاجوا إلى المزيد من المكاتب. استطاع الإخوان بتعزيز حضورهم في البرلمان الذي تستمر فترة عمله خمس سنوات أن يدعموا سمعتهم داخل البلاد وخارجها بوصفهم كيان المعارضة الأكبر والأفضل والأكثر تنظيمًا في مصر، لكن مع أنهم الأبرز، ما زال الغرب والكثير من المصريين حائرين في معرفة مرادهم بالضبط. أسس حسن البنا عام ١٩٢٨ الجماعة بوصفها حركة تعارض النفوذ الثقافي الغربي وسيطرة بريطانيا على السياسة المصرية إبان الحكم الملكي الفاسد الخاضع لتأثيرها، ولا يزال الهدف الأساسي الذي تكرس له الجماعة جهودها هو أن يُحكِم الإسلام المتشدد سيطرته على المصريين، أما ثاني أهدافها فهو إعادة النظر في التحالف المصري السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة القائم على التبعية، لا سيما — ولكن ليس فقط — بالنظر إلى علاقته بالقضية الفلسطينية. كما يتطلعون في المستقبل البعيد إلى إعادة تأسيس نظام خلافة إسلامية قائم على نظرة حالمة إلى الحياة في عهد الخلفاء الراشدين الذي تبع وفاة النبي محمد.
كان هدف حسن البنا بالأساس على حد تعبير أحد المؤرخين هو «إصلاح القلوب والعقول»، وهداية المسلمين من جديد إلى الدين الإسلامي الخالص، وصرفهم عن التطلعات والممارسات اللاأخلاقية التي أنشأتها سيطرة الأوروبيين. أبرز جناح الجماعة شبه العسكري جسارته وتفانيه في حروبه ضد جنود الاحتلال البريطاني على قناة السويس في أوائل الخمسينيات، وضد إسرائيل بعد نشأة دولتها اليهودية عام ١٩٤٨ إلى حد أن الجناح حاز إعجاب القوميين المصريين الذين لم يكونوا لولا هذا ليلتفتوا إلى أجندة الجماعة الإسلامية المتشددة. لكن عبد الناصر حظر الجماعة عام ١٩٥٤ ثم قضى عليها تقريبًا، زاعمًا أن أعضاءها حاولوا اغتياله أثناء إلقاء خطاب بالإسكندرية في أكتوبر/تشرين الأول من ذاك العام. حينذاك سمعت طلقات الرصاص مباشرة على الراديو المصري، لكن الإخوان أنكروا ضلوعهم في أحداث ذلك اليوم. ومن الجدير بالذكر أن عبد الناصر لم يكن ليترفع عن اختلاق حادثة كتلك لرفع نسبة تأييده بالبلاد، بما أنه من المحتمل — على سبيل المثال — أن يكون قد دبر تفجير مقهى جروبي الشهير في مركز منطقة وسط القاهرة سعيًا لزعزعة الاستقرار في أوج صراعه على السلطة مع رئيس الجمهورية الأول الصوري.
وعلى أي حال، كان الإخوان المسلمون بحلول ذلك الوقت قد حشدوا مئات الآلاف من المؤيدين، الذين ظلوا على ولائهم لحلمهم بدولة إسلامية مهما شنق بلطجية عبد الناصر من شنقوا من زملائهم، أو أصدروا بحقهم أحكام الأشغال الشاقة أو التعذيب حتى الموت دون محاكمة. وكانت النتيجة أن دفعت أعمال التعذيب ومعسكرات السجناء وأحكام الإعدام جيلًا كاملًا من الإخوان إلى التطرف، لا سيما من تأثروا بسيد قطب، وهو عضو بالجماعة أُعدم في أغسطس/آب ١٩٦٦ (مع عدة قادة آخرين) بعد إلصاق تهمة التآمر بهم زورًا. زعم قطب في كتاباته أن الدولة الناصرية تنتمي إلى عهد الجاهلية مما يجعل النظام من وجهة نظره خارجًا عن الإسلام، ويبرر استخدام العنف للإطاحة به. من ثم واجه النظام العسكري من أوائل السبعينيات إلى أواخر التسعينيات موجة من الأعمال الإرهابية المتأثرة بالفكر الإسلامي، استُلهمت في شق منها من كتابات قطب ونفذتها جماعات جهادية انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين بعد اتهام قادة الجماعة بالإذعان الشديد للوضع الراهن والنظام العسكري الحاكم. ومن أمثلة أعمال العنف التي تخللت هذه العقود الثلاث: اغتيال الرئيس السادات عام ١٩٨١، وقتل بعض المفكرين العلمانيين، والهجمات المتكررة على الأقلية المسيحية، التي أفضت في نهاية الأمر إلى مذبحة قتل فيها عشرات السياح بالقرب من مدينة الأقصر في صعيد مصر عام ١٩٩٧.
لكن جماعة الإخوان المسلمين نبذت العنف في أوائل السبعينيات، وتبنت بحذر المنهج الديمقراطي وتنصلت علنًا من أجندة قطب الأكثر تطرفًا، وبرزت — بفضل تأثير مرشدها المعتدل عمر التلمساني — بوصفها شريكًا أساسيًّا في الجدل الذي نشأ حول هوية مصر في أعقاب هزيمة مصر المذلة عام ١٩٦٧ ووفاة عبد الناصر بعدها بثلاثة أعوام. ركز الجدل على المستقبل لكنه أساسًا دار حول الماضي: هل يجب تفسير التاريخ المصري في إطار قومي، أم عربي، أم إسلامي، أم عرقي، أم مؤيد للغرب؛ أم إطار يجمع كل هذا؟
•••
ظلت القاهرة منذ عهد محمد علي ممزقة بين مذهب المتعة الباريسي الغربي من ناحية وتشدد عالم مكة الشرقي من ناحية أخرى. وفيما احتضن القوميون والإسلاميون التقدميون والنخبة المثقفة التي حاربت الاحتلال الأجنبي — المسيحي أو الإسلامي — أفضل ما قدمه الغرب في سعيهم لتحقيق استقلال مصر، عدت جماعة الإخوان المسلمين محمد علي وورثته — لا سيما الخديوي إسماعيل — مبذرين منحلي الأخلاق أهدروا ثروة البلاد، وخرجوا عن سنن الإسلام وقيمه، وكانوا قدوة شجعت على إهمال تعاليم الإسلام. ورأى الإسلاميون الأكثر تطرفًا أن هذا هو أساس تدهور أحوال البلاد وأن عكس هذا التيار — وليس تبني الديمقراطية الغربية — هو مفتاح خلاص الأمة الذي يعيد مصر وشعبها إلى عالمها الإسلامي الطبيعي الذي تتأثر به وتستمد منه الإلهام.
سجل تريفور موستين في كتابه «زمن مصر الجميل» الجانب المظلم من القرن التاسع عشر، الذي تحجب عنه الضوء في أحيان كثيرة القصص الشهيرة عن المعارض العالمية والحفلات المبهرة والقصور الفاخرة التي شهدها هذا العهد، وولّدت على نطاق واسع استياءً استغله كل من الإسلاميين والقوميين، مع اختلاف أهدافهم. لم يعتبر الإخوان المسلمون عهد نابليون وجيشه المحتل بشارة لم تكن بالحسبان تنبئ باتجاه نحو التغيير والتحديث، وإنما عدوا نابليون وجيشه همجًا مخربين مصابين برهاب الإسلام، واستندوا في ذلك إلى حجج كثيرة؛ فإعلان نابليون عن احترامه للإسلام لم يعد ذا قيمة كبيرة بعد أن سوى جنوده بالأرض صفوف المصريين المعارضين للاحتلال الفرنسي، أثناء اقتحامهم على صهوة خيولهم الجامع الأزهر — أبرز صرح تعليمي إسلامي — حيث عقلوا خيولهم بمحاريب الصلاة، ووطئت أقدامهم المصاحف، وتبولوا على أرض الجامع وجردوا بعدما ثملوا العباد المسلمين من ثيابهم في غمرة هذه الفوضى وسرقوا ممتلكاتهم.
بالمثل قد يكون قرار إسماعيل تحديث مدينة القاهرة على النمط الباريسي استعدادًا لاحتفالات افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ قد أبهر ضيوفه الأوروبيين والدائرة المترفة التي أحاطت به، إلا أنه من جهة أخرى أفلس وزارة المالية المصرية، ليقود إلى خلعه عن عرش مصر واحتلال بريطانيا لمصر احتلالًا فعليًّا. في ذلك كتب موستين أن قنصلَي بريطانيا وفرنسا عندما أمرا إسماعيل بالتخلي عن العرش، لم يستطع الخديوي اللجوء إلى شعبه؛ لأن طغيانه والضرائب التي فرضها جعلاه مكروهًا، كما كثرت الشائعات عن علاقاته الجنسية المتعددة، ناهيك عن احتمال أن يكون قد قتل الكثير من العشيقات اللائي لم يخلصن له. وحتى الليبراليين الذين لم يعبئوا بحياته الشخصية أسخطتهم معاملته الخاصة لضيوفه البريطانيين والفرنسيين الذين رأوا أنهم يساوونهم منزلة؛ فقد شعروا بالمذلة لإقصائهم من أوساط الطبقة الأوروبية الرفيعة الجديدة التي نشأت بالقاهرة وحُرم من الانضمام إليها الجميع عدا من تجمعهم صلة بأرقى المعارف والمصريين الأكثر تأثرًا بالغرب.
هذا بالطبع لا يعني أن الطبقة الدنيا من جهة أخرى قد تمتعت بأي من أسباب السعادة. اقتبس موستين بعد عام من احتفالات افتتاح قناة السويس وصف لوسي داف جوردون لمعاناة هذه الطبقة في كتاب «رسائل من مصر»، تبدأ لوسي وصفها قائلة: «لا يسعني أن أصف المعاناة الكائنة هنا الآن.» ثم تضيف: «تفرض ضريبة جديدة كل يوم، على كل دابة سواء أكانت جملًا أم بقرة أم شاة أم حمارًا أم حصانًا، ولم يعد الفلاح يجد الخبز، وأصبح يعيش على الشعير المطحون الممزوج بالماء مع الخضراوات النيئة ونبات الفول وما إلى ذلك.» عبر الشاعر المعاصر صالح مجدي عن استياء المصريين كافة من حكم الأرستقراطيين — لا سيما من الخديوي إسماعيل نفسه — بأبيات من الشعر قال فيها:
وقد اتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء أكثر بحلول عهد الملك فاروق. كتب آرثر جولدشميدت في كتابه «مصر الحديثة: نشأة أمة» يقول: «لم يملك فقراء الفلاحين المال لدفع رسوم التعليم لإرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس؛ فلم يكن بمقدورهم حقًّا الاستغناء حتى عن الدخل الضئيل الذي يحصلون عليه من عمل أبنائهم في الحقول.» ثم أضاف جولدشميدت أن نسبة الوفيات، لا سيما بين الرضع والأطفال في المناطق الريفية، كانت من بين الأعلى على مستوى العالم. ولم يملك الفقراء الأشد فقرًا منازل، فنام المشردون على مداخل الأبواب وتحت الجسور وفي محطات السكك الحديدية.
إن بدا لك هذا الوضع مشابهًا لوضع مصر اليوم، فهذا لأنه تشبيه في محله على نحو مدهش، يُذكرُنا بأن مصر قد عادت إلى النقطة التي بدأت منها، وبأن الحنين إلى عهد الملك فاروق الذي تشعر به بعض القطاعات من نخبة العصر الحالي ينم في جزء منه عن نظرة وردية إلى الماضي، تغفل الواقع الذي واجهه المصريون يوميًّا في تلك الآونة. إلا أن هناك اختلافًا جوهريًّا يفصل هنا بين الماضي والحاضر؛ ففي مصر اليوم الآخذة أحوالها في التدهور، لم يثمر ترف الطبقة الحاكمة عن شيء ذي قيمة، أما الفساد في عهد فاروق فكان أرضًا خصبة متطورة لمجتمع متعدد الثقافات يحتضن الفنون والثقافة المصرية ويستوعب أيضًا الأفكار الغريبة عن البلاد الواردة من كل بقاع الأرض، مسبغًا عليها طابعًا مصريًّا مميزًا، شكلته بدقة طبيعة مصر التي تحتضن الاختلاف. نعم كان ذاك عالمًا مجحفًا قاسيًا عنيفًا يشبه بطريقة ما الحاضر، إلا أنه اتسم بالتنوع والاختلاط. كانت أرضه خصبة تتسع للكثير من الآمال، وحتى إن لم يرجح أن تتحقق تلك الآمال، لقد أتاح هذا العالم باختصار الأمل معه. أما في مصر ما بعد عبد الناصر، التي تجردت من الحس الثقافي وخضعت لتطهير عرقي، فلم يعد حتى للمال قيمة؛ فهو لا يُنتج للأثرياء إلا تقليدًا عقيمًا للحياة في بقعة أخرى، ولا يمول إلا حملات البلطجة لإزهاق أي تعبير حر عن الرأي.
•••
أحب الرئيس أنور السادات الترويج لنفسه على أنه رجل تقي من الشعب، حتى عندما باع هوية مصر إلى الغرب الذي أبهره وتاق لأن يحتضنه ويحظى باحترامه، من ثم سعى جاهدًا لتأسيس علاقات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين حتى قبل انقلاب عام ١٩٥٢. ولما تسلّم الرئاسة سارع بإعادة سيطرة أفكار الجماعة على الشارع السياسي، ساعيًا إلى إقصاء دائرة عبد الناصر لتحل دائرته محلها في أوائل السبعينيات، وسهل تشجيعه للحركات الشبابية الإسلامية بالدرجة الأولى نشأة الاتحادات الطلابية القوية بالجامعات المصرية. علل السادات لهذا قائلًا: «أود تنشئة شباب مسلم أتعهده بالإنفاق، فهؤلاء سيكونون عمادنا.» وقد تحمس الإخوان المسلمون لمبدأ الخصخصة، فهو مبدأ إسلامي لا يمت بصلة للشيوعية، من ثم اعتنقوا في البداية سياسات الانفتاح التي تبناها السادات والتي بدا أنها تفسح مجالًا في الاقتصاد للقطاع الخاص، وتفتح سبيلًا مجزيًا، وتعد بتغيير يختلف عن عهد عبد الناصر الذي لم يكافئ إلا المذعن لنظامه، ويعاقب المعارض. إلا أن نقد الإخوان الجريء المتزايد للفساد والنظام الطبقي الذي ساهمت الخصخصة في مفاقمته، علاوة على نقدهم لتوقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، أعاد الفجوة بين الجماعة والنظام العسكري الحاكم. ثم أعاد حسني مبارك تصوير أعضاء الجماعة من جديد كمجموعة طائشة خارجة على القانون، بعد بضعة محاولات للتصالح معهم في أعقاب اغتيال السادات عام ١٩٨١ على يد متطرفين إسلاميين أكثر تعصبًا بسبب زيارته لإسرائيل. عنى قانون الطوارئ الذي صدر مجددًا عقب اغتيال السادات أن أعضاء الجماعة قد يعتقلون في أي وقت، ولأي سبب، بناءً على هوى النظام. وكانت إحدى التبعات العديدة التي تولدت عن ذلك ولا تزال قائمة إلى اليوم هي مئات الإسلاميين المكبلين في غرف التعذيب المصرية. ومن الجدير بالذكر بالطبع أن أعضاء الجماعة، لا سيما بسطائها الذين انضموا إليها عن اقتناع شديد، قد عانوا معاناة هائلة تحت وطأة النظام، تحملوها في كثير من الأحيان بدرجة كبيرة من الصمود. أما قادتهم فقد منحتهم تلك الحقيقة فرصة مستحقة بقدر ما لتصوير أنفسهم على أنهم شهداء الحرية والعدالة.
•••
يضطر من يتقدمون للترشح للانتخابات من جماعة الإخوان المسلمين في ظل قانون الطوارئ أن يتقدموا رسميًّا إلى الانتخابات باعتبارهم «مرشحين مستقلين»، ويديرون حملاتهم الانتخابية علنًا تحت أبرز شعاراتهم المبسطة إلى حد مفرط: «الإسلام هو الحل»، ليتضح للجميع انتماؤهم الحقيقي. أول ما وقعت عليه عيناي في صالة الاستقبال بالدور الأرضي لمقرهم الجديد، عندما ذهبت للقاء رئيس ممثليهم في البرلمان كان ملصقًا كتب عليه: «القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.»
التقيت بعد بضعة أشهر من انتخابات ديسمبر/كانون الأول ٢٠٠٥ بممثل الجماعة البارز حمدي حسن في مقر الجماعة الجديد بالقاهرة. وحمدي حسن هو أيضًا ممثل كتلة المعارضة البرلمانية للجماعة وهو رجل طويل متوسط العمر بدأ الصلع يزحف على رأسه، ارتدى زيًّا أنيقًا من حلة ورباط عنق (كدأب جميع مسئولي الجماعة). صافحني بقوة ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة وأنا أخلع نعلي، ثم سرنا على بسط الصلاة ليستقر بنا المقام على أريكة. تساءلت ما الذي يدعونا إلى الالتقاء في قاعة صلاة، وثمة ثمانية طوابق في هذا المقر الجديد؟ واكتشفت فيما بعد أن حسن هو تجسيد لكل ما يجده نقاد جماعة الإخوان المسلمين مثيرًا للسخط؛ من ميلهم إلى الحديث عن أفكار مجردة بدلًا من الخوض في التفاصيل، واختزال القضايا في شعارات، والإدلاء للأجانب بما تود حكوماتهم سماعه. أثار غيظي في البداية لإصراره على الحديث إليَّ بالعربية الفصحى مع أنني احتججت على ذلك بأنني أتحدث العامية المصرية، ومن ثم سأجد فهم ما يقوله أصعب. يفضل الكثير من الإسلاميين التحدث بلسان العربية الفصحى التي تستقي ألفاظها من القرآن؛ إذ يرونها لغة خالصة تقريبًا من الشوائب التي أدخلتها تيارات العصر الحديث البذيئة، من ثم هي أقرب إلى اللغة التي تحدث بها النبي محمد. لكن من جهة أخرى لا يستطيع أي مصري آخر تقريبًا أن يتحدث بها بطلاقة، أو أن يستمتع بسماع الحديث بها، بل إن المصريين في الواقع يفتخرون بأن لهجتهم صارت اللهجة المشتركة في العالم العربي وهذا يرجع إلى حد بعيد إلى السيطرة التاريخية لقطاع صناعة التليفزيون والأفلام والموسيقى القاهري على المنطقة العربية منذ زمن بعيد. ومن العجيب أن جماعةً تزعم أنها تمثل مصالح الشعب المصري الحقيقية وتعظم برامجها الاجتماعية تبقي على فواصل بهذه الأهمية بينها وبين المواطن العادي. اعتمدنا في نهاية المطاف على مترجم يترجم من الفصحى الرفيعة التي استخدمها حسن إلى لغتي — الإنجليزية — أو إلى اللهجة العامية المصرية الدارجة، وهو ما بدا أمرًا شديد الغرابة. ولعل عناد حسن يبين كيف قد تنتصر المذهبية على العملية والعقلانية عندما يصعد هو وزملاؤه إلى السلطة.
أخبرني حسن أنه اعتقل مرتين منذ انتخابات ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠٠٥، وقال لي أيضًا إن «أُسر أعضاء الجماعة الآخرين وأصدقاءهم ومعارفهم يعتقلون أو يتعرضون للضغوط دائمًا؛ فالنظام يهدف إلى ترهيبنا لنقلع عن جهودنا لتحقيق أهدافنا السياسية والدينية.» لكن الأرجح أن أعضاء الجماعة لن يحيدوا عن أهدافهم بقدر ما سيُضطرون إلى تبني ردة فعل غير عقلانية تتخذ شكل تحدي النظام تحديًا مباشرًا أو اللجوء إلى العنف. وحرص حسن على أن يوضح لي أن التغيير الثوري المفاجئ هو عكس ما يؤيده هو وزملاؤه تمامًا، فقال: «إذا وقع التغيير فجأة في مصر، فستنشأ الفوضى وهذا يضر بمصر والعالم أجمع.»
هذه هي الفترة الثانية لي كممثل في البرلمان، وفلسفتي هي أن الإنسان جزء من مجتمعه. والإخوان المسلمون جزء من كل بقعة من بقاع المجتمع؛ في المنظمات غير الحكومية، والنقابات، والمجالس المحلية، وهذا يجعل برنامجنا مختلفًا عن الآخرين. نحن ننظر إلى الجوانب الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية لمشكلات البلاد، ونلبي احتياجات الناس في محافظات البلاد كافة على جميع المستويات، ونقصد المواطن العادي في الشوارع لنتعرف على احتياجاته ونحاول إشباعها. نحن لا نسعى إلى جمهورية إسلامية، وإنما إلى دولة حديثة متحضرة، لكن قائمة على أسس إسلامية، ولا نعارض الديمقراطية أو الدستور، ولا آليات الدولة الحديثة المتحضرة. نحن جبهة معارضة قوية في البرلمان، ونستطيع أن نجعل صوتنا مسموعًا.
بالطبع لم يتبين لي من إجابته ما فعله هو وغيره ليتعرضوا للضغط أو الاعتقال أو الحبس؛ فلم يكن أي مما قاله مثار اعتراض أو يشكل تهديدًا، لكن قد يتساءل الليبراليون إن كان الإيمان بأن الإنسان جزء من مجتمعه يعني إخضاع حقوق الفرد للمصلحة العامة، في ظل عدم وضوح المسئول عن تعريف ما يسمى بالمصلحة العامة. إلا أن النظام الحاكم ليس ليبراليًّا على الإطلاق؛ بل ما قد يجده النظام مقلقًا أكثر هو سعي الجماعة إلى تلبية احتياجات المجتمع على نحو يدين بطريق غير مباشر ضعف قدرة النظام. لكنني بدلًا من التنقيب في النواحي الفلسفية اتجهت إلى الناحية العملية؛ فسألت حسن: هل يمكن أن يضع الإسلاميون والعلمانيون أجندة مشتركة باسم الشعب المصري، عوضًا عن التحالف غير الرسمي الذي شكلته جماعة الإخوان المسلمين مع الاشتراكيين وغيرهم من ممثلي جبهة المعارضة بالبرلمان، والجماعات الشعبية الداعمة للديمقراطية كجماعة (كفاية) التي قادت المظاهرات ضد نظام مبارك في الشوارع؟
أجابني: «كثير من الأشياء تدفعنا إلى الاتحاد، لا سيما القضايا السياسية، كاحتمال أن يتسلم جمال مبارك الرئاسة. جميعنا يعارض ذلك، ونحن أيضًا نؤيد الإصلاح السياسي، وحرية الأحزاب السياسية، وإنهاء قانون الطوارئ، وتحرير الصحافة. المناخ السياسي هو ما يجمع بيننا.»
وماذا عن حرية التعبير؟ إن أصبح القرآن هو الدستور، ألن يفرض هذا قيودًا على المجتمع المصري سيرفضها العلمانيون؟
أجاب حسن بوجه خال من التعبير: «الدولة الإسلامية يتمتع فيها الجميع بحرية التعبير. يؤكد التاريخ الإسلامي هذا بوضوح شديد؛ تمتع كل المواطنين في الماضي بحق مخاطبة إمام المجتمع الإسلامي أو قائد الأمة متى شاءوا؛ رجالًا ونساءً، مواطنين وغرباء، مسلمين وغير مسلمين، الدولة الإسلامية لا تفرق بين كل هؤلاء، هذا أساس ديننا، وليس مسألة سياسية. سيكون هذا جزءًا من دستورنا لأن القرآن دستورنا. لماذا نستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»
سألته عن شكل علاقتهم بالولايات المتحدة إن تسلموا زمام الحكم.
فأجاب: «ليس على الولايات المتحدة أن تتخوف من الإخوان المسلمين. الولايات المتحدة تدعو إلى المزيد من الحرية والديمقراطية، وتزعم أنها غزت العراق وأطاحت بصدام حسين باسم الديمقراطية، لكن العكس هو الصحيح؛ فهي تدعم طغاة العرب الذين يقمعون شعوبهم بقبضة من حديد ويحرمونهم من الديمقراطية وحقوق الإنسان. التعذيب يمارس في سجوننا كما تدل على ذلك الكثير من الصور التي صدرت والكثير من الأدلة الأخرى.»
صحيح بالفعل، لكن إجابته حتى الآن لم تثر إلا القليل من التفاؤل بنشأة علاقات إيجابية بين الإخوان المسلمين والولايات المتحدة، فهو في الواقع وصف الولايات المتحدة بالنفاق، وبأنها سبب معاناة الشعوب العربية؛ فقلت له وماذا عن إجابة سؤالي: كيف ستكون علاقة الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة؟
تمتم قائلًا: «هذه بلادنا، وهي لنا؛ فلماذا تملي علينا الولايات المتحدة الأوامر عبر الطغاة الذين تستخدمهم؟ علينا أن نتمرس على أن نكون أفضل، وعلى أن نكون دولة ديمقراطية وإسلامية تحترم أيضًا التقاليد الغربية، لكن لماذا لا نتمتع بثروات بلادنا الشاسعة؟ لماذا لا يسنح لنا أن نحيا في أمن وبكرامة.»
بدا لي أن الحصول على إجابة مباشرة من حسن أصعب من استخراج الماء من قلب الصخر. لكن ربما كان الأمر يستحق سؤاله سؤالًا آخر. قلت له إن الكثيرين يرون أن جماعة الإخوان المسلمين تساعد مبارك لأنها تعطيه ورقة رابحة في تعاملاته مع واشنطن، فالأمريكيون شديدو التخوف من الحركات الإسلامية إلى حد أن مبارك يمكنه أن يتجاهل النقد الموجه إليه فيما يتصل بالجماعة، ويظل مستمرًا في اعتماده على المساعدات المالية الضخمة التي تُعد أساسًا لتأييد نظامه. سألت حسن: ألا تزعجه هذه الحقيقة؟
سارع بتأييد قولي قائلًا: «النظام الحاكم يستخدمنا لترهيب الولايات المتحدة.» ثم أطبق صامتًا، فألححت في سؤاله قائلًا: «ما شعورك حيال هذا التناقض؟» فسألني وقد انتقلت إليه حيرتي: «أي تناقض؟» فكررت له السؤال بمزيد من الوضوح، فأجاب: «سنوات حكم مبارك ليست إلا بضع قطرات في محيط عمر هذه الأمة. الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال سقط وعمره سبعون عامًا فقط. نحن موقنون من أن المستقبل لنا، وسنصادق أي دولة ترغب في مصادقتنا. نحن متحلون بالإيمان ونعلم أن لدينا مبرراتنا فيما ندعو إليه. أعتقد أن أي دولة غربية تفهمنا حقيقة ستؤيدنا، ولن تكون ضدنا مع الطرف الآخر. هذا لأن مبادئنا صالحة للتطبيق في كل مكان، ويقبلها الجميع، وهي تحقق السلام والأمن في كل أنحاء العالم وتجلب العدل والمساواة للجميع. إذا طبقت مبادئنا، فلن تكون هناك حروب أو مجاعات.»
خلص حسن في النهاية إلى أنه لا يهتم بما تدعيه الولايات المتحدة أو تفعله ضد الإخوان المسلمين، وقال بثقة: «نحن نعلم أن فلسفتنا وعقائد الشعوب الغربية ستتفقان. لا تنبع الإشكالية إلا من الحكام. يبدو أنهم في قرارة أنفسهم يضمرون الشر لنا ولشعبنا.»
•••
كتب مؤرخ الشرق الأوسط إيلي كيدوري في مقال كلاسيكي بعنوان: «الشرق الأوسط والقوى» يقول: «إحدى أبسط الوسائل التي عرفتها البشرية وأفضلها للإبقاء على اتصالها بالواقع هي مقارنة أقوال المرء بأفعاله، أو مقارنة معتقداته بأدائه.» تحدث كيدوري عن الكيفية التي يسيء بها الغرب كثيرًا تصوير العالم العربي لبعده عنه وقلة معرفته به، لكن هذه الوسيلة تكون مفيدة أيضًا من الناحية العملية عندما ندرس أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وأهداف حمدي حسن بوجه خاص.
في دورة ٢٠٠٠–٢٠٠٥ البرلمانية، صب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اهتمامهم الأكبر على تقييد حرية التعبير في ثلاثة مجالات هي الثقافة والإعلام والتعليم؛ وهذه السيطرة ضرورية لتحقيق أهداف أجندتهم الساعية إلى أسلمة المجتمع المصري من جذوره. لكن لا يسع المرء إلا الإعجاب باستراتيجيتهم رغمًا عنه. يستخدم الإخوان حيلة بارعة للفوز بقلوب وعقول العديد من الناخبين، تقوم على الجمع بين أجندة غامضة مفتوحة للتأويلات المختلفة تحظى بتأييد مختلف الجماعات، وتستند بوجه عام إلى المبادئ الإسلامية المتصلة بالأخلاقيات المتأصلة في المجتمع، وبين أجندة أخرى عملية تسلط الضوء على الثقافة. كان هجوم الإخوان الشرس على وزير الثقافة فاروق حسني — عندما زعم أن ارتداء الحجاب ينم عن رجعية — دليلًا آخر على تواصل حملاتهم تلك على الصعيد الثقافي. فعلى أي حال، إذا أرادت المرأة أن تصون كرامتها وأن تلتزم بتقاليد الإسلام، أفلا يكون من حقها أن تفعل هذا؟ إن وصف ارتداء الحجاب بأنه دلالة على الرجعية ينتقص من قدر التقاليد ومن يتبعها بدلًا من أن يحترمها. لكن حرية التعبير في منظور الإخوان المسلمين تتوقف عند هذا الحد. على سبيل المثال: ورد في صحيفة الأهرام أن كتاب «الإخوان في برلمان ٢٠٠٠–٢٠٠٥» — وهو كتاب يتناول بالتفصيل أداء ممثلي الجماعة الخمسة عشر في البرلمان في تلك الفترة — جاء فيه أن عضو البرلمان السابق من الجماعة جمال حشمت كان السبب في إجبار فاروق حسني على منع إصدار ثلاث روايات وصفتها الجماعة بأنها تروج للتجديف على الله وممارسات جنسية غير مقبولة. ووفقًا لصحيفة الأهرام ويكلي، كشف الكتاب أيضًا أن حمدي حسن تصدر بنفسه على الدوام حملات الإخوان المسلمين لإخماد حرية التعبير الثقافي سواء أعلى صعيد الأعمال الأدبية أم مسابقات ملكات الجمال، متخذًا من حجة التجديف على الله سلاحًا. وهو يتهم فاروق حسني شخصيًّا بتصدر «الحرب التي تقودها الولايات المتحدة حاليًّا ضد الثقافة والهوية الإسلامية». يظهر أيضًا الكتاب أن إجمالي عدد القضايا المتصلة بالثقافة والإعلام يساوي ٨٠٪ من مجموع القضايا التي طرحها أعضاء الجماعة في دورة ٢٠٠٠–٢٠٠٥ البرلمانية.
لكن لا يدعو أي من هذا بالطبع إلى الدهشة؛ فالثقافة محرك قوي لا سيما في مجتمع تسيطر عليه الدولة إلى حد بعيد. فبالتحكم في الثقافة، تضطلع الدولة بدور الأب، والأب جميع تصرفاته ينظر إليها على أنها دلالة على صلاحيته للاضطلاع بالسلطة. لا شك أن الإخوان المسلمين يدركون أن القيم والأخلاقيات ذات صدى في نفوس المصريين، وأنهم يستخدمون الضلالة والزيغ كأدوات للنقد. وهنا قد يكتسب منطق حمدي حسن القائل إن الإنسان جزء من مجتمعه دلالة مخيفة إن تتبعنا ما يفضي إليه؛ فبما أن المجتمع أكثر أهمية من الفرد، فعلى الفرد إما أن يساير المجتمع أو أن يقصى عنه خوفًا من أن ينتشر ضلاله. فكما يوضح باري روبين في كتابه «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» (٢٠٠٢)، استخدمت الجماعات الإسلامية المعتدلة كجماعة الإخوان المسلمين الترهيب للسيطرة على الحياة الاجتماعية والفكرية في مصر في محاولات جهيدة استغلت «الإجراءات القضائية، والتعليم، والمنظمات غير الحكومية لتلبية احتياجات المواطنين وممارسة الضغط.» وأحد الأمثلة الكثيرة والصراعات التي تندرج تحت ذلك القضية التي كانت الأكثر جذبًا للانتباه عالميًّا، وهي قضية الأستاذ نصر حامد أبو زيد، من جامعة القاهرة، الذي اتهمه زميل متدين له بالتجديف على الله لإصداره كتاب عام ١٩٩٢ يستخدم أسلوب دراسة نقدي لتحليل عبارات من القرآن. وحكمت إحدى محاكم القاهرة بعد سلسلة من القرارات المتضاربة في محاكم أدنى درجة بأن أبا زيد بالفعل مرتد عن الإسلام، وهو أسوأ صور الانحراف عن الشريعة، ويعاقب عليه بالموت. وقد دعا بعض رجال الدين بالفعل إلى إعدامه، إلا أن حكم المحكمة اقتصر على القضية التي كانت تنظرها في ذلك الوقت تحديدًا وهي: هل يجب تطليق زوجة أبي زيد منه — باعتبار أنها مسلمة صالحة تحتاج إلى الحماية — أي، هل يجب أن تتدخل الدولة لحماية سمعتها وشرفها، بصرف النظر عن رغبتها. وقررت المحكمة أن هذا هو الحكم الصحيح المنصف، وأمرت بتطليق الزوجة. وفر الزوجان إلى أوروبا حيث ظلا منفيين خارج البلاد. ومن الصعب أن نصدق أن جماعة الإخوان المسلمين ستدعوهما إلى العودة إلى مصر في حال دانت لها السيطرة على البرلمان. شعر المحامي الإسلامي الذي قاضى أبا زيد آنذاك — باعتباره شخصًا مستقلًا لا باعتباره عضوًا من جماعة الإخوان المسلمين — بسعادة بالغة. ويذكر روبين أنه قال: «هذه هي البداية وحسب. وسنفعل هذا بكل من يحسب أنه أكبر من الإسلام.»
•••
لا شك أن زعم الإسلاميين الدائم أن أجندتهم لا تتبنى الديمقراطية وحسب بل ترتقي بها أيضًا، هو محض هراء؛ فالديمقراطيات الغربية تكفل من الناحية النظرية مشاركة جميع المواطنين بصرف النظر عن أيديولوجياتهم وآرائهم وديانتهم، لكن جماعة الإخوان المسلمين ومثيلاتها تجعل المشاركة السياسية في المجتمع خاضعة لمبادئ الشريعة الإسلامية؛ فعلى أي حال ليس هناك من هو «أكبر من الإسلام»! على سبيل المثال: تراقب الهيئات القضائية والتشريعية الحكومية في الغرب أفعال الدولة لضمان التزامها بقواعد الديمقراطية، إذ تتحكم كل من السلطات الثلاث في الأخرى. أما في ظل نظام إسلامي، فالإخوان المسلمون أنفسهم سيضطلعون بمراقبة أفعال الدولة للتحقق من التزامها بقواعد الشريعة الإسلامية؛ بعبارة أخرى الإسلاميون سيراقبون أنفسهم! فوق ذلك لا يكفل الإخوان المسلمون حرية العقيدة إلا لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ إذ إن القرآن — بسبب ظروف النبي محمد — لا يذكر شيئًا عن الديانة البوذية مثلًا ولا يعادي إلا تعدد الآلهة (الذي كانت مكة مركزًا له آنذاك)، والذي ينتقده بطبيعة الحال بما أنه يسعى لأن يحل محله. أما حرية تكوين الجماعات التي تتمتع بها منظمات المجتمع المدني في النظام الديمقراطي فسترتهن في النظام الإسلامي بحدود الشريعة الإسلامية. والإخوان المسلمون يعارضون قيام الدولة على المنظومات الديمقراطية القائمة على النمط الغربي؛ فالحكومة الإسلامية تقوم على نظام الشورى (مجلس شورى)، وتبجيل القائد، ومبايعة الإمام. هذا ما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وهذا ما ينبغي أن يكون. المنطق هنا باختصار مغلوط يفترض أن الإنسان قد حصل على كامل حريته وحقوقه في ظل الديمقراطية الإسلامية، مما يغني عن أي شك أو نقاش أو رأي أو بحث أو أي شيء آخر يسهم في تطور الثقافة، باستثناء بعض الانتقادات التافهة التي قد يعيرها الحاكم المعظم أذنه من حين لآخر. هذا هو المبدأ الحاكم والموجه في المملكة العربية السعودية، والنتائج يراها الجميع في الإنجازات الرائعة التي حققتها المملكة المجدبة على مدار العقود السبعة الماضية في الموسيقى والفن والأدب والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا.
اتضحت حقيقة جماعة الإخوان المسلمين عندما وضعت الجماعة أول برنامج سياسي مفصل لها في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٧. يقرر البرنامج حرمان النساء والأقباط من تولي الرئاسة، ويزمع إنشاء هيئة من علماء الدين المسلمين لمراقبة أداء الحكومة، وهي خطوة رأى الكثير من مراقبي المشهد أنها تذكر إلى حد مخيف بالدولة الإسلامية في إيران. كما جاء في وثيقة البرنامج أن المرأة لا تستطيع أن تتولى الرئاسة لأن واجبات هذا المنصب الدينية والعسكرية «تتناقض مع طبيعتها ودورها الاجتماعي والإنساني». والمدهش أن مسودة البرنامج — كما قيل — تناولت قضايا تخص المرأة في فصل بعنوان «القضايا والمشكلات» مع مشكلات أخرى كالبطالة وعمل الأطفال. وفي الوقت الذي أكدت فيه مسودة البرنامج على «تساوي الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية»، حذرت من «إثقال المرأة بواجبات تنافي طبيعتها ودورها في الأسرة».
•••
اكتملت رحلة الإخوان المسلمين الطويلة التي تخللتها معارك مستمرة ضد القمع، والتعذيب، والإعدام الاستبدادي عندما انتخب الكثير من الإسلاميين لعضوية البرلمان عام ٢٠٠٥. ورأى الكثيرون من مراقبي المشهد أن هذا الحدث كان أيضًا نقطة بارزة في طور انصراف الجماعة عن العنف. ويراقب الغرب تحول الجماعة تدريجيًّا إلى تيار مسيطر في المشهد السياسي بقدر ما يراقب الأحزاب السياسية الإسلامية التي نتجت جميعها تقريبًا عن تجربة الإخوان المسلمين مع الانتخابات والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي بوجه عام. تتباين أنشطة الإخوان المسلمين من دولة إلى دولة، وفصائلهم مستقلة رسميًّا بعضها عن بعض، إلا أن قادة الجماعة اقتبس عنهم قولهم إن جميع فروع الإخوان المسلمين مشتركون في العقيدة، وإنهم يسترشدون بالفرع المصري الرئيسي. وقد أطلق ظهورهم القوي في الانتخابات المصرية سيلًا من الأطروحات في الصحف السياسية كتبها محللون للوضع في الشرق الأوسط، أغلبهم يدعو واشنطن إلى التفاعل مع الجماعة التي بدأ يُنظر إليها بدرجة متزايدة في الدوائر السياسية العملية الأجنبية على أنها الخيار الأقل ضررًا مقارنة بالنظام العسكري الحاكم على الصعيد السياسي المصري الداخلي.
لكن لعل ما بدا ظاهريًّا كنصر انتخابي للإخوان المسلمين كان أي شيء عدا ذلك. فاز الإخوان ﺑ ٢٠٪ من المقاعد الانتخابية، لكن ٢٥٪ من المصريين على أقصى تقدير أدلوا بأصواتهم آنذاك. وبما أن هذا الرقم الأخير هو ما أعلنه النظام الحاكم، فحتى هذا الرقم يجب أن يكون موضع شك إلى أقصى الحدود. فأي شخص جاب شوارع مصر يوم الانتخابات البرلمانية كان سيجد صعوبة في العثور على واحد من أبناء البلد يعلم حتى بإجراء الانتخابات، ناهيك عن أن تكون لديه أدنى فكرة عن مرشحي دائرته أو أن يكون متجهًا فعليًّا إلى مراكز الاقتراع. لكن حتى إن سلمنا بالإحصائيات الرسمية لعدد الناخبين، فإحدى التفسيرات المحتملة لنتيجة الانتخابات هي أن جماعة الإخوان المسلمين لم تنجح إلا في الحصول على تأييد نسبة صغيرة ممن تسمح أعمارهم بالتصويت، على الرغم من عدم رضا الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري عن أداء النظام الحاكم. إلا أن هذا المنطق في مضمونه يفترض أن من أدلوا بأصواتهم هم عينة تمثل الشعب المصري بأكمله، لكن ليس هناك دليل ملموس يدعو إلى تصديق هذا أيضًا. ثمة معنيان لنتيجة الانتخابات، أحدهما أن من أدلوا بأصواتهم امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، أو أن الإخوان المسلمين على وجه التحديد امتلكوا الحافز للإدلاء بأصواتهم، وبهذا تكون نسبة الـ ٢٠٪ نسبة مغالى فيها. وقد يكون العكس هو الصحيح؛ فثمة احتمال ألا يكون الكثيرون من مؤيدي الجماعة قد أدلوا بأصواتهم خوفًا، من ثم تكون تلك النسبة معبرة عن عدد أقل من الواقع. وبعبارة أخرى، لا سبيل إلى معرفة الحقيقة، حتى إن افترضنا أن الإحصائيات التي ذكرت حقيقية ولم تتلاعب بها الحكومة بتقليص النسبة التي حصل عليها الإخوان من الأصوات أو برفعها لبث الخوف في الغرب. وباختصار، من التهور القفز إلى اعتبار نتيجة الانتخابات نصرًا انتخابيًّا للإخوان المسلمين.
إلى جانب هذه التفاصيل المعقدة — التي يتجاهلها الغرب إلى حد بعيد — تروى أيضًا الكثير من التجارب التي تدل على أن أغلب من يصوتون للإسلاميين قد يفعلون ذلك اعتراضًا على فساد ووحشية النظام العسكري الحاكم الذي نجح في قمع كل البدائل العلمانية للإخوان، وليس لتقديرهم الشديد لما ترمز إليه الجماعة، على الرغم من انصرافها إلى الانغلاق على ذاتها واتجاهها إلى التدين اتجاهًا أقل علانية في أعقاب هزيمة عام ١٩٦٧. يذكرنا هذا بقصة حركة حماس في الأراضي المحتلة، وجميعنا يعلم ما آلت إليه هذه القصة. لكن في هذا السيناريو البديل، قصة الإخوان المسلمين ليست قصة انتصار في وجه المحن بقدر ما هي قصة فشل في حشد تأييد شعبي كبير، على الرغم من الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مصر، والتي أثبتت في دول أخرى أنها إلى حد بعيد أرض خصبة لانتشار الإسلامية؛ سواء الإسلامية الراديكالية أو غيرها.
يرى الكثيرون أن الحكومة المصرية أزعجها نجاح الإخوان المسلمين غير المتوقع في انتخابات عام ٢٠٠٥، وهو أمر يدل عليه الفساد المستشري على نطاق واسع، وهجمات شرطة مكافحة الشغب العنيفة على مؤيدي الجماعة في الشوارع، واعتداءاتها البدنية على المتواجدين في قواعد دعم الإخوان المسلمين؛ سعيًا لمنعهم من الإدلاء بأصواتهم، وهذه نظرية تستوجب الدراسة. تابعت قوات الأمن بالفعل اعتقالاتها العشوائية لأعضاء الجماعة بعد انتهاء الانتخابات. وهدف هذا في جزء منه إلى الإبقاء على ممثلي الجماعة الجدد في البرلمان تحت السيطرة، وبعدها قرر النظام تأجيل انتخابات المجالس المحلية وهو ما يبدو بوضوح تخوفًا من فوز الإخوان المسلمين بالمزيد من المكاسب. ويوحي هذا ظاهريًّا بنظام يخيفه ويزعجه سطوع نجم الإخوان فجأة، إن لم يكن يوحي أيضًا بالإصابة تمامًا بجنون الارتياب. لكن علينا دائمًا أن نتذكر أن من يحدد في النهاية الرابح والخاسر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفارق الفوز والخسارة هو النظام العسكري الحاكم ورئيسه الممثل له، وذلك على حد قول نقاد مبارك. السياق إذن هو سيد الموقف. فقد عقدت انتخابات عام ٢٠٠٥ في توقيت مثير جدًّا للفضول. تحمس الأمريكيون من جديد للديمقراطية — أو هذا على الأقل ما أعلنوه — وهذا تنافى تمامًا مع تأييدهم للأنظمة الديكتاتورية كنظام مبارك؛ ولا يمل الإخوان المسلمون من الإشارة إلى ذلك. من ثم تعرض مبارك في مستهل عام ٢٠٠٥ لضغط محدود من واشنطن فترة وجيزة للإسراع بتطبيق برنامج إصلاح داخلي تأخر كثيرًا. فإذا افترضنا أن نظام مبارك ارتأى أن وجود الإخوان المسلمين في البرلمان بنسبة أكبر أمر مناسب من شأنه أن يبعث برسالة ضمنية إلى الأمريكيين مفادها أن عليهم أن يحذروا أو يتخوفوا من أن تنحرف نواياهم الطيبة عن مسارها في حال ضغطوا بشدة من أجل الديمقراطية في البلاد؛ فهل سيكون هذا شطحًا بالخيال؟ تزامن هذا بالطبع مع فوز حركة حماس الراديكالية الإسلامية في انتخابات السلطة الوطنية الفلسطينية عقب ضغوط الولايات المتحدة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبعبارة أخرى، بمنح الإخوان المسلمين خُمس مقاعد البرلمان، كان مبارك يبعث برسالة خفية لشركائه الذين ثارت ثائرتهم فترة وجيزة في واشنطن، يقول لهم فيها: إن لم تريدوني، فرحبوا بصعود الإسلاميين، لكن أجندة هؤلاء (بعكس أجندتي) تناهض عسكريًّا إسرائيل والولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، كان النظام في واقع الأمر يخبر الأمريكيين أنهم لا يستطيعون أن يحصلوا دائمًا على مرادهم. واستطاع نظام مبارك أن يحقق المستحيل؛ إذ خفت حدة الضغوط الأمريكية عقب انتصار الإخوان المسلمين في الانتخابات، فيما ظلت قبضة نظام مبارك تسحق قاعدة الجماعة، بالطريقة نفسها التي تسحق بها أجهزة أمن الدولة التي لا تعرف إلا العنف والقمع جميع حركات المعارضة المنشقة. ولا عجب في أن الإخوان المسلمين في الانتخابات التي أجريت بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن حملتها لنشر الديمقراطية قد فشلوا في الفوز بمقعد واحد، مع أنهم خاضوا الانتخابات بتسعة عشر مرشحًا.
•••
من هنا يجب أن يراعى في أي نقاش عن نفوذ الإخوان المسلمين في مصر أن عدد المقاعد التي يحظون بها لا يعبر بالضرورة عن حجم التأييد الحقيقي الذي يتمتعون به. وفوق ذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الغالبية العظمى من المصريين لم يصوتوا لهم أو للحزب الوطني الديمقراطي التابع لمبارك، بل إنهم لعنوا كلا الفريقين بالإصرار على الامتناع عن التصويت.
لكن إن كان مبارك يستخدم الإخوان المسلمين في مواجهة واشنطن لتحقيق مصالحه، فهذا لا يعني أن تلك اللعبة ليست خطيرة، كما لا يعني أن واشنطن ليست في مأزق حقيقي بسبب مساعدة ديكتاتور يفتقر إلى الشعبية والكاريزما ولا يسمح إلا لجبهة معارضة إسلامية تحت سيطرته بتحديه تحديًا رمزيًّا. فعلى المدى الطويل قد يصبح الإخوان المسلمون الكيان الأبرز، وبما أنهم كيان المعارضة الوحيد المنظم المنسق، فسيصبحون في موقع مناسب للتحرك سريعًا لملء أي فراغ في مركز السلطة إن أطاحت ثورة شعبية بالنظام الحاكم، مع أنهم لن يكونوا المحرك لتلك الثورة.
وبما أن أعضاء الإخوان يتمتعون بالخبرة الإعلامية ويتابعون عن كثب نظرة الغرب لهم، فلا شك أن ثقتهم في جماعتهم قد تزايدت عندما قفز محللو الوضع السياسي المعتمدون في واشنطن على موجة «نهضة التيار الإسلامي» في مصر، التي أتت على صهوة كتب ناجحة ككتاب جينيف عبده «لا إله إلا الله: مصر وانتصار الإسلام»، وكتاب ماري آن ويفر «صورة لمصر: جولة في عالم الإسلام الجهادي» (الذي أعيد إصداره عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠١، مضافًا إليه فصل جديد عن أسامة بن لادن)، والذي يصور مصر على أنها ساحة معركة تتنازع عليها الديكتاتورية والتيار الإسلامي. لعل هذه الجلبة التي ثارت في واشنطن قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية مبارك السياسية، ولو بغير قصد. إنها استراتيجية تساعد على الإيحاء بنبوءة تحقق ذاتها، تُستخدم للتلاعب بالتأييد المحدود الذي يتمتع به الإخوان المسلمون داخل البلاد لخلق تهديد زائف يعظم من شأنه السياسيون بالخارج.
•••
المفارقة الفعلية هي أن الإخوان المسلمين أنفسهم يلعبون دورًا في ذلك، وأعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل حمدي حسن، المتحدث باسم الجماعة، لا يرى وجه التناقض الذي سألته عنه وهو أن الجماعة تُعد إلى حد بعيد جزءًا من مشكلة مصر العويصة الحالية لا حلًّا لها.
استغلال مبارك لمخاوف واشنطن من الحضور الذي تتمتع به الجماعة على المستوى الشعبي في بعض القطاعات الفقيرة يسمو بمنزلة الجماعة كثيرًا. وتتضح مصلحة الإخوان من بقاء مبارك في السلطة — على الأقل إلى أن يحين وقت انتزاعهم لها منه في ثورة شعبية — عندما ننظر بعين الاعتبار لحقيقة أن جماعتهم لا تتمتع بتأييد غالبية الشعب المصري وأن النظام رغم ذلك يسحق البدائل العلمانية لهم، محققًا مصلحتهم في الوقت الذي يشجع فيه ثقافتهم الفاشية. وقد أظهرت الجماعة في بعض الأحيان حماسًا شديدًا لمساعدة النظام على تحقيق هذا. فدائمًا ما شدد عمر التلمساني — المرشد الإصلاحي الذي تمتع بنفوذ كبير في السبعينيات وأوائل الثمانينيات — على حاجة الجماعة إلى اعتراف وقبول رسمي، حتى إنه امتدح مبارك كقائد يجلب المزيد من الحريات قائلًا إنه «رجل نزيه، شديد الذكاء، يعرف ما يريد». كما كانت جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٨٧ جبهة المعارضة الوحيدة في البرلمان التي صوتت لتولي مبارك — المفترض أنه عدو الجماعة اللدود — الرئاسة فترة ثانية.
تعود مفارقة مهاجمة الحاكم وخدمته في الوقت نفسه إلى وقت طويل مضى، على سبيل المثال: لطالما قيل إن الملك فاروق وحتى البريطانيين شجعوا جماعة الإخوان المسلمين في أيامها الأولى باعتبارها وسيلة لمناوءة تأثير حزب الوفد القومي، والأغرب أن بعض الوثائق الرسمية التي كشف عنها مؤخرًا بعض الباحثين الذين أخضعوا حقبة عبد الناصر للدراسة أظهرت أن الجماعة — التي يفترض أنها كرست نفسها لتخليص مصر من السيطرة الأجنبية — أجرت بالفعل مفاوضات مع المخابرات المركزية الأمريكية تدور حول احتمالات نجاح انقلاب تقوده الجماعة ضد عبد الناصر.
لا تزال جماعة الإخوان المسلمين إذن ركيزة أساسية في بناء النظام وليست عدوًا له، تضمن بقاءه في الوقت الذي تهاجم فيه ضعف كفاءته، وأعضاؤها جميعًا يؤمنون إيمانًا راسخًا بأنهم سينتصرون يومًا ما طالما أن الله معهم، وفي الوقت نفسه يتابعون السعي لأهم أهدافهم وهو أسلمة مصر من جذورها، وآخر قطعة في هذه الأحجية هي الشعب المصري. يعلم مبارك أن الشعب المصري رغم كراهيته الشديدة له يكره أغلبه أن يحكمه نظام إسلامي ينتهك حياته الخاصة (بالإضافة إلى حياته العامة)، مما يعطيه مبررًا آخر للتهويل من شأن الجماعة.
•••
يعود كثير من تبايُن التيارات الإسلامية في مصر منذ السبعينيات بين مؤيدي الثورة العنيفة وبين رافضي العنف الذين يؤثرون الإصلاح التدريجي إلى كتابات سيد قطب. ففي الوقت الذي اتخذ فيه الراديكاليون الإسلاميون العازمون على الإطاحة بالنظام العسكري من كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» (١٩٦٤) برنامجًا سياسيًّا لهم، أدارت جماعة الإخوان المسلمين ظهرها لقطب رفضًا للعنف، ورجعت إلى التقاليد العظيمة للفكر الإسلامي الليبرالي التي كانت في أفضل أحوالها في قاهرة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي كان أشهر من عبر عنها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا. لكن كما يظهر بوضوح من نجاح جهود إدانة أبي زيد وتطليق زوجته منه قسرًا، ونقد الإخوان الصاخب مؤخرًا لمجرد احتمال ألا ترتدي المرأة الحجاب؛ فإن فكر الجماعة يتسم بالسطحية وضيق الأفق في فهمه للإسلام والتقاليد الاجتماعية التي تعد جزءًا من تقاليد الفكر الإسلامي التي تؤكد على الحاجة إلى فهم القرآن فهمًا موضوعيًّا قائمًا على الدراسة وضرورة احترام آراء الآخرين. إلا أن مصر لا تزال تحتضن هذه التقاليد، وما زال يحييها شخص لا يتوقعه المرء: جمال البنا، أصغر أخوة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي اغتِيل.
أمضى جمال البنا البالغ من العمر خمسة وثمانين عامًا جزءًا كبيرًا من حياته في دراسة النصوص الإسلامية وبرز باعتباره مفكرًا ليبراليًّا على عكس جميع التوقعات؛ ظهر باعتباره رجلًا يحب أن يرى القيم والممارسات الإسلامية تفسر في إطار العصر الحديث. ولما كانت أخته قد تركت له الكثير من المال، استطاع أن يكرس نفسه للدراسة، وبذا وقى نفسه الانجراف وراء التيارات السياسية اليومية الشائعة. لقد وصف نفسه بأنه «رجل مستقل تمامًا»، يعي حظه الطيب (فهو لا يملك أسرة وليس لديه من يعيله)؛ وقال: «لست موظفًا، ولا أنتمي إلى أي حزب ولا أتبع أي جهة.» وهو لم يرتد بالفعل جامعة بعد أن فصل من المدرسة الثانوية لشجاره مع مدرس، وأكمل تعليمه بعدها في معهد فني. وعوضًا عن ذلك، رغب جمال البنا في أن يصبح كاتبًا، وكان هذا هو ما فعله. صدر كتابه الأول عام ١٩٤٦ بعنوان: «ديمقراطية جديدة»، وضم فصلًا بعنوان «نحو فهم جديد للإسلام»، وقد أتى هذا الفهم من رجل يقول إنه امتنع عن الصلاة بعض الوقت في مراهقته لأنه «لم يستشعر جمال» الصلاة، وهو يقر صراحة بأن بعض أحاديث النبي محمد التي تقرب في قوتها قوة التشريعات المفروضة هي أحاديث «موضوعة». لكنه وفقًا لميوله الفكرية المميزة يقول إن هذا لا يعني أنها يجب أن تسقط بلا تفكير من الاعتبار، إذ إنها ترسي مبادئ هامة. يقول جمال البنا: «يعني هذا أن الوقت قد حان لدراسة السنة على نحو مختلف.» يمكن لأي من هذه التعليقات أن تفضي بجمال البنا إلى الإعدام في الدولة الدينية، لكنه لا يعبأ بهذا ويقول بلا تفاخر، وإنما يقر بالحقيقة فحسب: «أنا أمثل المدنيين.»
التقيت جمال البنا في مكتب مليء بالكتب في مؤسسة «فوزية وجمال البنا» التي يديرها في قلب القاهرة الإسلامي، وهو بالفعل رجل فريد من نوعه، شامخ الرأس، ذو جبهة عريضة بارزة وأنف معقوف وذقن ينبئ عن حزم، انحسر شعره المجعد المصفف إلى الخلف عن جبهته، وكأنه موج يتبع سفينة تشق المحيط، في نموذج فريد للشعر المصري على رأس يكاد يبدو فرعونيًّا. والبنا من طراز المفكرين المستقلين هادئي الطباع، الذين يضحكون ضحكة خافتة، ويتمتعون بثقة تامة بالنفس، لا يملك خصومهم أمامها إلا البكاء حنقًا وغيظًا. وزاد من إحساسي بأنني في حضرة قديس تلك الحلة الداكنة المحاكة بعناية، ذات الياقة العالية التي يرتديها على الدوام، وكأنها تعبير واضح عن إخلاصه الأبدي لطائفة دينية معينة … فهو رجل متدين ولكنه عصري في الوقت نفسه — يرتدي حلة وليس قفطانًا — لكنه ليس كأي رجل عصري التقيته.
الفارق بيني وبين أخي هو الفارق بين الابن الأول والأخير، بمعنى أن حسن كان أول من ولد من إخوتي وأنا كنت الأصغر. كان بيننا فارق أربعة عشر عامًا. وكان مقدرًا أن يصبح حسن من أول أيامه إلى آخرها شيخًا إمامًا وأن يموت كداعية. أما معي فقد اختلفت القصة. ولد حسن البنا في قرية المحمودية وأمضى طفولة مثالية هناك حيث التحق بمدرسة القرية الدينية الابتدائية وهو في الرابعة أو الخامسة من العمر، ولوحظ أنه تلميذ يتمتع بذكاء فريد. عُين عام ١٩٢٧ مدرسًا في مدينة الإسماعيلية التي كانت مقرًا لشركة قناة السويس، فدرس المدينة، ولم يلبث أن اكتشف أنها منقسمة بين عالمين: عالم يضم العاملين بالشركة التي كانت أوروبية تمامًا، وعالم يضم العمالة العربية الفقيرة الجاهلة.
وطرأت لحسن البنا فكرة تغيير هذا الواقع، فقصد المقاهي — لا المساجد — وجلس فيها، واصطفى ممن التقاهم هناك ستة عاملين من شركة قناة السويس لتشكيل جماعة الإخوان المسلمين في عام ١٩٢٨. يرى جمال البنا أن شخصية حسن البنا كانت ستختلف تمامًا إن دخل الأزهر، وكان سيعجز عن تشكيل حركته.
كانت حركة الإخوان المسلمين منذ البداية حركة مجتمعية. كان هذا في عهد مصر الليبرالية، أبهى عصور تاريخ مصر. إلا أن جماعة الإخوان عندما تأسست، تمتعت بأيديولوجية بسيطة، وإحدى مواهب حسن البنا كانت قدرته على تبسيط الأفكار شديدة التعقيد تبسيطًا شديدًا وإفهامها للعامة. لقد امتلك قدرة مذهلة على تبسيط الموضوعات المعقدة التي تحتاج إلى معرفة متخصصة، فاتسعت قاعدة جماعة الإخوان المسلمين بعد بضع سنوات في الإسماعيلية وبورسعيد، وانتقل حسن البنا عام ١٩٣٢ إلى القاهرة حيث تأسست جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٤٨ باعتبارها مؤسسة عالمية تهدف إلى الترويج للإسلام بوصفه منهج حياة. لكن هذا كان عام حسن البنا الأخير؛ إذ اغتيل في فبراير/شباط عام ١٩٤٩، إلا أن نمو جماعته السريع بين عامي ١٩٢٨ و١٩٤٨ كان مؤشرًا على قدرتها؛ فبحلول الوقت الذي توفي فيه البنا، كان لدى الجماعة خمسمائة فرع في كافة أنحاء مصر، وضمت تحت لوائها نصف مليون عضو.
تأسست جمعية خيرية في كل فرع من فروع الجماعة منذ البداية، وكل فرع لتلك الجمعيات قُيد في وزارة الشئون الاجتماعية. كان هناك المئات من الجمعيات الإسلامية قبل الجمعيات التي أنشأها حسن البنا، لكنها كانت مستقلة بعضها عن بعض، أما حسن البنا فقد أسس النموذج الذي أنجب كافة الحركات الإسلامية الأخرى؛ وإن استقل بعض تلك الحركات فيما بعد. وقد قارنت في أحد كتبي بين حسن البنا ولينين، باعتبار أن لينين أسس الحزب البلشفي وجعل أتباع الحركة البلشفية يرتبطون بها ارتباطًا قويًّا.
عوضًا عن ذلك التحقت بمدرسة تدرس منهجًا علمانيًّا. وفيما تمتع حسن بصحة جيدة وقضى طفولة سعيدة بسيطة على ضفاف النيل تحت أشعة الشمس، كنت أنا ضعيفًا واهن الصحة، لا أملك هواية إلا القراءة. كنتُ نتاجًا لمدينة كبيرة وليس لقرية، وقد قرأت العديد والعديد من الكتب، كلها ذات موضوعات علمانية؛ فقرأت عن الاشتراكية والحركات الدستورية في أوروبا، وعن الحركة النسائية، وامتنعت عن الصلاة فترة قصيرة شأني شأن الكثير من الشباب. أذكر أن حسن آنذاك كان يخبرني بأن علي بالصلاة، فأقول له إنني لا أستشعر جمالها، فيرد علي بأن علي بها حتى لو كنت أؤديها بوصفها فرضًا فحسب. كان هذا اختلافًا جوهريًّا بيني وبينه، رغم أننا حتى عندما كنا نتشاجر، ظل كلانا يعتز بالآخر اعتزازًا شديدًا ويحبه حبًّا صادقًا. وعلى أي حال، منحتني قراءاتي منظورًا مختلفًا.
إذن يمثل جمال البنا التيار المدني، أما أخوه فيمثل التيار الديني.
كان حسن البنا يصغي إلي ويبتسم عندما أخبره بهذا، إلا أنه لم يكن يجيبني قط؛ فقد كان إمامًا، وكان القبول بتلك الأفكار مخاطرة، لأن العامة يريدون تصريحات بسيطة وشيخًا ذا رؤية واضحة. ولا يزال لدى الإخوان المسلمين هذه الأجندة التي تضم كل ما أعارضه: من تطبيق الشريعة تطبيقًا صارمًا، إلى تحريم الفوائد البنكية، إلى معارضة الفنون وما إلى ذلك. إلا أن طبيعة الجماعة إصلاحية وليست ثورية؛ فهم لا يرغبون في السلطة من أجل السلطة، ولكن يرغبون فيها فقط بوصفها وسيلة لتطبيق الشريعة، ولو طبق أي حاكم آخر الشريعة، لامتدحوه ودعموه. لقد سألني حسن البنا عن شعار «الإسلام هو الحل»، فأخبرته بأنه شعار جيد، لكنه لا يعدو كونه كذلك. فأنا أنظر إلى الشريعة على نحو مختلف تمامًا، أنظر إليها بنظرة أكثر رقة؛ فالشريعة كما أفهمها هي العدل؛ فإن دخلها ما يخالف العدل، يجب أن يُنبذ، وإن كان العدل في أمر لم يدخل الشريعة، فعلينا باعتناقه. هذا هو فهمي من قراءاتي لما كتبه عظماء العلماء المسلمين في الماضي. أما الإسلاميون الآخرون كافة فيفكرون فقط في تطبيق العقوبات كقطع يد السارق ورجم الزاني.
إلا أن الإخوان المسلمين لن يستطيعوا أبدًا تطبيق نموذجهم الصارم للشريعة الإسلامية في مصر إن وصلوا إلى السلطة، لأن الشعب المصري الذي ترفض أغلبيته هذا سيمنعهم من ذلك. وعندما تخوض الجماعة تحدي مواجهة الواقع المصري المعقد، ستعجز عن حل أي من المشكلات التي ترى أن الإسلام حل لها، ولا يمكن أن تزدهر الجماعة إلا باعتبارها جبهة معارضة. والمفارقة إذن هي أن نهاية الإخوان المسلمين ستحل عندما يتملكون بالفعل السلطة. فمن ذا الذي أعجبته الحكومة التي تحكمه؟ لذا سيتعين على الإخوان تقديم تنازلات هائلة للبقاء في السلطة؛ تنازلات ترتبط بأكثر ما يتشبثون به من مبادئ. والتاريخ لا يؤازرهم؛ فكل تجارب إقامة دول إسلامية في العصر الحديث فشلت، لأن الدولة الإسلامية ليست ظاهرة طبيعية، والسلطة دائمًا تفسد الدين، حتى الخلفاء الأوائل أفسدتهم السلطة. والفضائل الوحيدة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين خارج السلطة هي النزاهة والكرم؛ وهي فضائل لا ينكرها أحد.
•••
لا يزال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يعدون العمل الخيري هامًّا بقدر أهمية الخطب الدينية، فهو يساعدهم على جذب ناخبين بخلاف جمهور ناخبيهم الأساسي عبر نظام واسع النطاق من البرامج الإصلاحية. وتشمل المجالات التي تدعمها الجماعة التعليم والصحة والتدريب المهني، إذ يدير الإخوان المسلمون اثنين وعشرين مستشفى في أنحاء مصر المختلفة، ولهم مدارس في محافظات البلاد كافة ويديرون العديد من مراكز رعاية الأرامل والأيتام، ومع أنهم لا يملكون ترخيصًا رسميًّا بتشكيل حزب — وهو ما يمنع جماعتهم من الناحية القانونية البحتة من مزاولة الأنشطة السياسية — فإن عملهم على الصعيد الاجتماعي يعوض إلى حد بعيد هذا العائق. فالعديد من التقارير تشير إلى أن الجماعة تدير ما يقدر بنحو ٢٠٪ من خمسة آلاف جمعية ومنظمة غير حكومية مرخصة قانونيًّا في مصر.
عندما زرت في منتصف عام ٢٠٠٦ مستشفى العمرانية التي تديرها الجماعة في منطقة فقيرة بالقاهرة تبعد عن الأهرام بضعة كيلومترات، لم أجد بالمستشفى إلا غرفة واحدة غير مشغولة.
قال لي عبد الحميد إسماعيل المدير العام للمستشفى وهو يصحبني في جولة بالمكان: «نحن على صلة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، وأنا عضو بالجماعة.»
أوضح لي إسماعيل أن المستشفيات الاثنين والعشرين أدارتها لجنة طبية إسلامية، شكلها نائب مرشد سابق للجماعة ومولتها الصدقات.
قال لي إسماعيل: «نحن نتقاضى رسومًا أقل من المستشفيات الخاصة، لكن أكبر من المستشفيات الحكومية، لكن إن عجز شخص حقًّا عن دفع تكاليف العلاج، لا نتقاضى منه شيئًا.»
ويتلقى العلاج بتلك المستشفى المسلمون والمسيحيون على حد سواء، كما تقدم المستشفى خدماتها للنساء سواء أكن يرتدين الحجاب أم لا يرتدينه. وقال لي إسماعيل إن النسب الدقيقة لأعداد المرضى المسلمين والمسيحيين الذين يعالجون بالمستشفى غير متوفرة لأنه ما من أحد يُسئل مطلقًا عن ديانته قبل تلقي العلاج.
ومع أن تلك المستشفيات بلا شك تسهم في الخير، فهي مثال آخر على علاقة جماعة الإخوان المسلمين بالنظام. وثمة تناقض واضح هنا بين حظر الجناح السياسي للجماعة من جهة، والسماح لها بالنمو باعتبارها مؤسسة خيرية من جهة أخرى. ومرة أخرى نكرر أن الطرفين يستفيدان: فمن ناحية، يتسع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، ومن ناحية أخرى تنتفع الحكومة المصرية من السماح لجهات أخرى بالتخلص من الفوضى التي خلقها في المقام الأول فساد إدارتها لمنظومة الصحة.
•••
إن قررت واشنطن بالفعل الإصغاء للمحللين السياسيين في منظومتها السياسية والانقلاب على مبارك أو خليفته من أجل كسب ود الإخوان المسلمين، فلن يكون هذا دليلًا على «انتصار الإسلام» بقدر ما سيكون إعلانًا بانتهاء تقاليد الديمقراطية والتعددية العريقة الراسخة في مصر، ستترتب عليه تبعات مدمرة على المنطقة بأسرها، لكن من حسن الحظ أن أصواتًا أكثر عقلانية تنتظر من يسمعها. ففي كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» يفترض عالم الاجتماع جلال أمين — على سبيل المثال — أن مصر تبدو وكأنها قد أصبحت أكثر تشبثًا بالدين في العقود الأخيرة؛ لسببين يفسران إلى حد بعيد تيارات الأسلمة على صعيد الطبقات العليا والدنيا. كتب جلال أمين يقول: «عندما أخذ الاقتصاد يضعف في أوائل الثمانينيات، مصحوبًا بانخفاض أسعار النفط الذي أدى إلى نقص فرص العمل في دول الخليج، بدا فجأة أن الكثير من الطموحات التي بنيت في السبعينيات غير واقعية وتبع ذلك شعور قوي بالإحباط.» ويضيف جلال أمين قائلًا إن الميل الطبيعي نحو الالتزام المتشدد بتعاليم الدين في القطاعات المتزايدة التي تأتي من خلفيات شديدة التواضع «قد ينقلب بسهولة إلى تعصب ديني إن اقترن بخيبة الأمل في الترقي الاجتماعي.» إلا أن جلال أمين يوضح أن النجاح في الترقي قد يقود إلى النتيجة نفسها التي يقود إليها الفشل، لأن التعصب الديني يمكن أيضًا أن يصنع غطاءً ينتفع به من جمعوا ثروتهم أو دخولهم «بطرق غير قانونية أو غير أخلاقية»؛ فكلما زاد الفساد زاد الرياء الديني، على حد قول جلال أمين.
وإن كان جلال أمين محقًّا، وكان السبب الأساسي في عودة الحياة إلى التيار الإسلامي من جديد هو مزيج من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد الصارخ، فإن السبيل إلى مكافحته هو النظر في الأسباب. وبعبارة أخرى، فإن المسألة بالدرجة الأولى مسألة تمييز بين المرض ذاته وبين أعراضه. ولعل المرء يجد بصيصًا من الأمل في حقيقة أن الغالبية العظمى من جماهير الشعب المصري رفضت أجندة التيار الإسلامي أو على الأقل أحجمت عن اعتناقها حتى الآن. وإن وُجد بالفعل أساس لهذا الرجاء، فهو يكمن فيما تبقى من الخليط الحيوي البارز الذي شكل مصر في عهد الملكية، والذي لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين والنظام مجتمعين في القضاء عليه، على المستوى الشعبي، بالرغم من أقصى جهودهما.