الصوفيون والمسيحيون
تتسم مصر بطبيعة متناقضة: تؤكد التيارات السياسية والأيديولوجية البارزة على وحدة البلاد وترابطها، ويحسب أغلب الغرباء أن مصر إلى حد بعيد مجتمع متجانس (عربي، مسلم)، لكن الواقع أنها تتسم إلى حد بعيد بتعدد قد يخلق أفكارًا جديدة على الصعيد السياسي والاقتصادي إن سُمح له بالنمو. لأسباب كثيرة يؤكد النظام الحاكم وكتلة المعارضة الرئيسية — الإخوان المسلمون — على تجانس المجتمع المصري. فمن ناحية الإخوان المسلمين، يعود هذا — ظاهريًّا — إلى مفهوم «التوحيد» الذي يتسع ليصبح مفهومًا عامًّا عن الكيفية التي يجب أن تُنظم بها شئون المجتمع. وبالتوازي مع هذا، ينظر عهد ناصر وخليفتيه، السادات ومبارك، إلى الاختلاف والتعدد على أنه مصدر ضعف لا قوة. وظل المبرر لذلك وقتًا طويلًا هو الصراع مع إسرائيل؛ فالخصم المنقسم على ذاته ضعيف. ومع أن مصر وإسرائيل يجمع بينهما سلام، فهو سلام بارد، ولا تزال إسرائيل العصا المستخدمة في ترهيب وإسكات وجهات النظر التي تختلف عن وجهات النظر المسموح بها رسميًّا.
سيتناول هذا الفصل والفصل الذي يليه بتفصيل شديد آثار هذا الانجذاب إلى العقيدة ومقاومة التعددية، لكن لننظر إلى المسألة أولًا من منظور شخصي. سعد الدين إبراهيم هو رجل لطيف كبير السن يتسم بالتسامح ويتمتع بروح الدعابة، وهو أيضًا عالم اجتماع ذو بصيرة ثاقبة، وربما كان الناشط الحقوقي الأشهر في مصر، وتجمعه صلات بالعديد من الصحفيين والمسئولين، وهو أيضًا شوكة في حلق الحكومة المصرية. تعرض في التسعينيات للضغط بسبب تسليطه الضوء على التمييز الذي تواجهه الأقليات العرقية والدينية في مصر، وحُظر مؤتمر نظمه عن هذه القضية في اللحظة الأخيرة، بدعوى أنه «سيشوه صورة مصر بالخارج». لا بد من القول إن هذا اتهام غريب إلا أنه إلى حد بعيد كاشف أيضًا، يشير على ما يبدو إلى أن تعدد أطياف المصريين يضر بصورة مصر، أو على أقل تقدير بصورة الحكومة المصرية، مع أن المرء قد يحسب أن التعدد مصدر فخر ينظر له بعين الاحترام. لكن لا يبدو أنه كذلك، بالأخذ في الاعتبار أكذوبة النظام الحاكم عن وحدة البلاد. ولم يبد من جهة أخرى أن حبس سعد الدين إبراهيم وتعذيبه عام ٢٠٠٢ — عندما لفت الانتباه إلى بعض المخالفات وحالات التزوير في الانتخابات — يضر بصورة مصر بالخارج. من هنا يتساءل المرء إلى أي مدى يهتم النظام الحاكم فعليًّا بصورته، بما أن مصر انتُقدت على نطاق واسع في كلتا الحالتين لسعيها إلى إخراس ناقد بارز شهير. والأمر الواضح بالتأكيد هو أن النظام الحاكم لا يهتم كثيرًا بالحقيقة؛ أو لعله في الواقع يتخوف من أن تسبب له الحقيقة حرجًا وتلطخ سمعته خارج البلاد. فالسبب الحقيقي وراء الضغوط التي مارسها النظام على سعد الدين إبراهيم كان عزم هذا الأخير على تقصي الفجوة التي تفصل بين ما يدعيه النظام عن نفسه والواقع، وهي فجوة هائلة بالنظر إلى مزاعم النظام بأن مصر موحدة وبأنه يسمح لمختلف الأصوات بالتنافس في الانتخابات. وفي الواقع، زعم التوحد يناقض في جوهره أسس الديمقراطية التي لا تعتمد على وجود التعددية والاختلاف فحسب بل ترتكز أيضًا — وهذا هو الأهم — على شرعيتهما وأهميتهما.
المؤسف حقًّا في اتفاق النظام الحاكم والإخوان المسلمين على تجانس المجتمع المصري هو أن الاختلاف هو أحد مصادر قوة مصر. ناقشنا فيما سبق مزايا فترة التعدد والمجتمع الحضري التي سبقت ثورة ١٩٥٢، وأحد أسباب الحنين إلى تلك الفترة هو بلا شك ركود المشهد الثقافي المصري حاليًّا، إلا أن البلاد لا تزال عبارة عن خليط من الطوائف العرقية والدينية والمحلية المختلفة التي تعارض بقوة الحكم الديكتاتوري المركزي والتوافق الديني الزائف المداهن. تضم هذه الطوائف المسيحيين الأقباط الذين يشكلون ما بين ١٠٪ إلى ١٥٪ من تعداد السكان؛ وسكان صعيد مصر الذين يترابطون في عشائر ويتمتعون (في القرى) بنظام حكم ذاتي، حيث لا يوجد ضابط شرطة واحد (بل يتولى تسوية الخلافات بين الأهالي عمدة القرية)؛ والصوفيين الذين يروجون للهداية القلبية والاتصال بالله؛ والبدو الفقراء في منطقة سيناء الذين يقدر عددهم بمئات الآلاف وتمتد قبائلهم إلى ما بعد الحدود نحو داخل إسرائيل، ويشكلون على الدوام كابوسًا أمنيًّا للنظام الحاكم؛ وأخيرًا يوجد النوبيون غير العرب الذين لا يزالون — بالرغم من المزيج العجيب من التسامح والتعاطف معهم من ناحية، والتفرقة العنصرية ضدهم من ناحية أخرى من جانب المصريين العرب — يتحدثون بلغاتهم المختلفة المزدراة، ويبقون على ما تبقى من تراثهم الثقافي الفريد (الذي ضاع الجزء الأكبر منه إلى الأبد في أعماق البحيرة الضخمة التي نشأت مع افتتاح السد العالي).
يرتبط دور تلك الأطياف سواء أكان محوريًّا أم هامشيًّا في جميع الأوقات ارتباطًا مباشرًا بمدى دكتاتورية النظام المصري والمنظومة العسكرية الحاكمة، التي تبغض من يلفت الانتباه إلى مساوئها سواء من المصريين أم الأجانب. إلا أن هذه الأطياف تشكل معًا أغلب تعداد سكان مصر، وهي مع ما تبقى من طبقة الليبراليين المثقفين وحركة الناشطين العماليين الناشئة تشكل الأمل الوحيد في أن تقوم دولة مصرية في المستقبل على أسس من الاحتفاء بالتعددية والكرامة وحقوق الإنسان الشخصية. وسيكون لمقاومة الطوائف العرقية والدينية لجماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص، وكذلك مقاومة زحف تأثير الفكر الوهابي الأكثر تشددًا القادم مع المصريين الذين هاجروا إلى المملكة العربية السعودية، تأثيرات هامة على نطاق أوسع من العالم العربي الذي تسيطر عليه إلى حد بعيد حكومات إسلامية، أو تهدده حركات شعبية إسلامية، وتبلوه شقاقات متنامية بين الفرق السنية والشيعية. المصريون يشكلون ربع تعداد سكان الوطن العربي، وهذا سبب في أن مصر كانت تاريخيًّا موضع تحديد الاتجاهات والنزعات في المنطقة. من هنا فإن اختيار المصريين تبني الديكتاتورية ومهاجمة العقائد المختلفة — أي الإسلامية والوحدة — أو الديمقراطية والتعددية لن يحدد مصيرهم وحدهم. ولا تتبدى تبعات هذه الاختيارات في أي قضية أكثر مما تتبدى في القضية التي يواجهها الصوفيون والمسيحيون بوجه خاص.
•••
تكريمًا للقديسين والقديسات في الإسلام والمسيحية (واليهودية أيضًا حتى وقت قريب)، تقام في أنحاء مصر كافةً احتفالات ذات سمات متعددة تعرف بالموالد. وفي هذه الموالد يكون موضع التبجيل هو النبي وآل بيته، ومؤسسو الطرق الصوفية وعشرات الشيوخ الأقل شهرة الذين يُحتفى بهم على الأخص في المجتمعات الريفية النائية. وتجذب كبرى هذه الموالد — كالمولد الذي يقام في القاهرة تكريمًا للحسين (الابن الثاني لعلي بن أبي طالب رابع خلفاء المسلمين الذي ينعي الشيعة قتله في يوم عاشوراء) — عددًا يفوق المليون شخص. وهناك رسميًّا — وفقًا لوزارة الأوقاف المصرية — ما يزيد عن أربعين احتفالًا من تلك الاحتفاليات يعقد بصفة سنوية، فيما يحتفل المسيحيون أيضًا بقديسيهم في احتفاليات كبيرة قد تجذب بدورها مئات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء مصر والعالم العربي. ويُدرِج مجلس الصوفية ثمانين احتفالًا آخر تكريمًا لمؤسسي الطرق الصوفية الأقل شهرة. والمحصلة النهائية هي أن ما لا يقل عن ستة ملايين شخص في مصر — أي نحو ثلث عدد الذكور المسلمين البالغين في البلاد — أعضاء في جماعة صوفية أو أخرى؛ ويشارك رجال يبلغ عددهم ضِعف هذا العدد — بالإضافة إلى ملايين لا حصر لها من النساء والأطفال — في الاحتفالات الفعلية التي ينظمها الصوفيون. ويحتمل أن تدهش هذه الأرقام الغرباء عن مصر، وعليه هي دليل على ميل الإعلام الغربي إلى تناول التطورات التي تتصل فقط بالإخوان المسلمين بالتحليل، وهو مما يضر بالتيارات الإسلامية السائدة الأكثر اعتدالًا. تدين جماعة الإخوان المسلمين إقامة الموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، وهذا سبب من الأسباب التي تجعل عدد أعضاء الجماعة من عامة الشعب ضئيلًا؛ يساوي على أقصى تقدير نصف مليون عضو. يرى هؤلاء الأصوليون السنة أن التضرع إلى هؤلاء الأولياء الصالحين وحتى الاحتفال بمولد النبي أقرب إلى الشرك بالله، ويتفق معهم في هذا شيوخ الأزهر، إلا أن الجهود المشتركة للإخوان المسلمين والأزهر — كما ذكرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٦ — لم تنجح في جذب الكثير من العوام رغم أقصى محاولاتهما معًا لإضعاف مظاهر الإسلام الشعبي المصري. دارت عينا مسئول رفيع المستوى في جماعة الإخوان المسلمين استياءً عندما سألته صحيفة مونيتور عن الموالد، وقال: «نحن نعارضها، إنها من آثار الجاهلية.» وأضاف: «نود حقًّا أن تنتهي.» غير أن كفها سيكون صعبًا؛ فالطرق الصوفية تجسد الإسلام الذي يمارسه أغلب المسلمين في مصر. ومن ثم، فإنهم الحاجز الذي يحول دون التفسيرات الحرفية المتطرفة للدين التي تروج لها الجماعات المماثلة لجماعة الإخوان المسلمين. ونادرًا ما تتجشم جماعة الإخوان عناء اختيار مرشحين لها في الانتخابات في المحافظات الواقعة جنوب محافظة القاهرة، حيث يعيش أغلب سكان مصر ويترسخ فيها تقليد الموالد أكثر من أي منطقة أخرى.
يقام أكبر الموالد المصرية في مدينة طنطا، كبرى مدن دلتا النيل، وخامس أكبر المناطق الحضرية بالبلاد، حيث يجتمع عدد يصل إلى ثلاثة ملايين شخص من المصريين وغيرهم من العرب كل أكتوبر/تشرين الأول احتفاءً بذكرى السيد أحمد البدوي، وهو ولي صوفي من القرن الثالث عشر، وهذا عدد مذهل يجعل مولد طنطا حدثًا أكبر في التقويم الإسلامي من الحج نفسه — وهو أحد أركان الإسلام — الذي يجذب هذه الأيام نحو مليوني حاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي. ويبدو أن المشاركين في مولد طنطا، وغيره من الموالد، يهدفون لنيل بركات الولي الصالح الذي يحتفل باليوم المخصص له. المركز المادي في أي مولد هو مقام الولي الذي يُزين بالأضواء ويعبق بالبخور ويفتح طوال الليل للزوار. يتلو المشاركون في المولد آيات من القرآن ويعطي بعضهم بعضًا الحلوى ومقدارًا ضئيلًا من العطور، وتتحول المنطقة المحيطة بالمقام إلى نقطة احتفال قد تستوعب ساكني قرية بأسرها (أو حتى مدينة صغيرة). وتجتمع الجماعات المشاركة في المولد في خيام لعقد حلقات «ذكر» (وهي كلمة تعني التذكر أو إحياء الذكرى)، يتوسل فيها إلى الله ويُمتدح فيها الأولياء والصالحون بالترانيم والغناء والتمايل مع الإيقاع.
يقود مولد طنطا الذي يستمر ثمانية أيام — الذي كان أول الموالد التي انطلقت في مصر — زعيم صوفي يرتدي عمامة منسوجة من الكتان كانت يومًا ما ملكًا للسيد أحمد البدوي نفسه. ولد مؤسس الطريقة البدوية — أكبر الطرق الصوفية في مصر — في المغرب، وهاجر إلى شبه الجزيرة العربية قبل أن ينتقل إلى طنطا عام ١٢٣٤ ليؤسس طريقة صوفية جديدة. كان تأسيس الطريقة مبهرًا منذ البداية، وظل منذ تلك اللحظة ملمحًا هامًّا من ملامح الحياة في المنطقة وفي البلاد. ولما دمرت مقبرة البدوي في منتصف القرن التاسع عشر، تجمع أهل المنطقة سريعًا لبناء بديل لها. ويدل انعقاد مولد طنطا في نهاية موسم حصاد القطن على ارتباطه وارتباط الكثير من الموالد الأخرى بالطقوس الزراعية القديمة. ومع أن الموالد قد تحتفل بذكرى ميلاد أحد الأولياء، فمن الممكن جدًّا أيضًا أن تقام في يوم مخصص لمناسبة أخرى غير دينية. وفي صعيد مصر قد تحاكي الموالد الطقوس والتقاويم الفرعونية؛ ومن ثم تطورت الموالد إلى احتفاليات تتسع للجميع، والكثير من المصريين لا يبالون بأن مشاركتهم بها لا تكون لعقائدهم الدينية بقدر ما تكون للتسلية، من هنا يتسكع الكثير من المسيحيين مع أصدقائهم المسلمين في الموالد الصوفية، ويتسكع الكثير من المسلمين مع أصدقائهم المسيحيين في احتفالات المسيحيين. ظل هذا وقتًا طويلًا هو الإسلام الذي يتبعه الكثير من المصريين، إسلام يتسم بالتسامح مع الآخر والروحانية العميقة، ويشدد على أهمية التجارة (فالمولد فرصة كبيرة لكسب المال)، وربما قبل كل شيء، على أهمية التسلية أيضًا.
المولد المفضل لدي هو مولد ينعقد قبل أسبوعين من شهر رمضان احتفالًا بميلاد أبي الحجاج، كبير شيوخ الأقصر؛ وهو احتفال مذهل يشمل مسابقات خيول وجمال، ورقصات تقليدية ومبارزات صورية بالعصي، جميعها تصحبها موسيقى وأضواء نيون ساطعة وقرع طبول مستمر. وأهم جزء من الحفل هو موكب من القوارب الكبيرة وغيرها من المراكب يسير في الشوارع، وهو يشبه مواكب الشمس في عصور الفراعنة وكانت الأقصر مركزًا لها. ولد الولي الصالح يوسف أبو الحجاج في دمشق في القرن الثاني عشر وعاش في مكة قبل أن يستقر به المقام في الأقصر، حيث أسس معتكفًا روحيًّا، ولا يزال أحفاده يعيشون في المنطقة، حيث عادة تبجيل الشيوخ المحليين (كما هي الحال في باقي مناطق صعيد مصر) راسخة بشدة في أسلوب الحياة الريفية الدوري القائم على تغير الفصول ومن ثم تغير أوقات الحصاد. يحتل أحفاد أبي الحجاج موقعًا شرفيًّا في الموكب الذي يسير في الشوارع، ويسهل تمييزهم من الأردية البيضاء الطويلة المسترسلة وأغطية الرأس التي لا يرتديها سواهم، ويعقد صوفيو المنطقة في شهر رمضان نفسه حلقات ذكر في المساء خارج مسجد أبي الحجاج إلى جانب معبد الأقصر — أحد أهم المزارات الفرعونية التي تجذب السياح في المدينة — وتكثر الأساطير عن شخصية هذا الولي الصوفي وأثر روحه الخالدة. أخبرني صاحب متجر متوسط العمر في بازار البلدة السياحي في أحد الأعوام، عندما كنا نشاهد موكب أبي الحجاج ونلقي بعضًا من الحلوى على مراكبه المارة التي ازدحمت بفتية نصف عراة تملؤهم البهجة وتكتسي جذوعهم بلطخ طلاء زاهي اللون: «العام الماضي، قبل أن يبدأ المولد بوقت قصير، أتى لواء من الجيش إلى المسجد وقال إن المولد لن يقام ما لم يُنظف المكان تمامًا.» ثم استطرد حسين قائلًا: «لكن بينما كان يشير إلى إحدى المناطق القريبة من المسجد، خارت قوة ذراعه وسقطت إلى جانبه عاجزة عن الحركة. وعندها أقر بهزيمته، وهلل الحشد بقوة، وكما ترى المولد مستمر كالعادة.»
كيف أصبحت الموالد جزءًا هامًّا من حياة دولة تفتخر رسميًّا بأنها عربية سنية؟ رغم أن الأغلبية العظمى الكاسحة من سكان مصر هم في الواقع من السنة، فقد تخللت تاريخ البلاد فترة سيطر فيها المذهب الشيعي، بدأت في القرن العاشر عندما غزا القاهرة وحكمها الشيعة الإسماعيلية، مؤسسو الدولة الفاطمية. وقد بنى الفاطميون الجامع الأزهر — أهم مراكز تدريس المذهب السني في العالم الإسلامي — أصلًا للمساعدة في نشر المذهب الشيعي. ولا شك أن هذا كان في عهد بعيد جدًّا، لكنه خلف أثرًا عميقًا على معمار القاهرة وعلى الممارسات الإسلامية وعلى مفهوم الإسلام في مصر. إن إجلال المصريين لآل بيت النبي بوجه خاص — وللأولياء الصالحين بوجه عام — أكبر منه في أي بلد عربي سني آخر. فليس من الغريب مثلًا أن تلتقي ثلاثة أبناء في أسرة واحدة أسماؤهم علي وحسن وحسين؛ وهي أسماء لا يحملها إلا أطفال الشيعة في الدول السنية الأصولية كالمملكة العربية السعودية. بالمثل بعض التقاليد المصرية الأخرى كتناول الحلوى في العيدين احتفالًا بانتهاء شهر رمضان وبقدوم موسم الحج، وحمل الأعلام الاحتفالية التي ترمز إلى الصوفية في مواكب أثناء الموالد، هي جزء لا يتجزأ من التقاليد الشيعية. هذا التاريخ بالمناسبة يفسر إلى حد بعيد التأييد العام الذي تمتع به القائد الشيعي الشيخ حسن نصر الله في مصر إبان قصف إسرائيل للبنان عام ٢٠٠٦، رغم إدانة النظام المصري الأولية لـ«تهور» حزب الله، في محاولة لاستغلال ورقة الطائفية (ومن ثم تنفيذ تعليمات الولايات المتحدة بالسعي إلى قلب المصريين على حزب الله). ورغم الحملات المناهضة للشيعة التي نظمها بلهاء الإعلام المصري الذي تديره الحكومة المصرية، رفض أغلب المصريين تأييدها، بل إن صحيفة الدستور المعارضة وزعت في الواقع ملصقات مجانية إبان الحرب حملت صورة حسن نصر الله، ما لبثت أن أصبحت تتبدى للعيان في كل مكان تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الصحيفة «رمز المقاومة العربية»، وأظهرت استطلاعات الرأي التالية أن نصر الله هو القائد الذي يتمتع بأكبر شعبية بين المصريين في الشرق الأوسط. لذا، بعدما أدرك النظام أنه ارتكب خطأ سياسيًّا كبيرًا — حتى بمعاييره هو نفسه — عدل عن سياسته سريعًا وأخذ بدلًا من ذلك في مهاجمة «العدوان» الإسرائيلي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أيضًا أن ثاني زعماء المنطقة الذين يتمتعون بالشعبية هو محمود أحمدي نجاد رئيس دولة إيران ذات الأغلبية الشيعية. ويوحي هذا بأن أي محاولة يتبناها النظام الحاكم المصري لإخفاء دعمه للحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران في المستقبل تعتمد على اللجوء إلى ورقة الطائفية الشيعية السنية سترتد عليه، مما سيؤدي إلى زيادة الفجوة المتسعة حاليًّا بالفعل بين نظام مبارك والشعب المصري.
إن كانت الموالد وأصولها الصوفية الشيعية تشكل تحديًا للإسلام السني المحافظ، فمن الطبيعي أن تصبح الموالد نفسها يومًا ما مهددة بسبب نمو الإسلام السياسي في مصر منذ سبعينيات القرن العشرين، لا سيما في ضوء زحف جماعة الإخوان المسلمين إلى التيار الرئيسي والتهدئة من جانب الأزهر — أحد أذرع النظام — الذي يتجه أكثر فأكثر إلى التشدد. سيتحقق هذا بالدرجة الأولى إن وقع ما لا يخطر ببال واعتلت جماعة الإخوان المسلمين السلطة بالفعل. ومع سيطرة الفكر الأصولي على وسائل الإعلام الجماهيرية، فقد تسرب شيء من هذا الفكر حتمًا إلى بعض من عامة الشعب المصري. من هنا تزايد عدد من يتساءلون إن كانت الموالد حرام وبدعة بالفعل؛ فهذان انتهاكان خطيران وفقًا للشريعة الإسلامية الصارمة. وبوجه عام، تتعرض الموالد أيضًا للتهميش اجتماعيًّا ومكانيًّا، حتى إن محبيها بدءوا يشعرون بالحنين إلى ماضيها. يلوم الكثير من مرتادي هذه الموالد الدولة وانتشار الأصولية المتأثرة بالوهابية لأنهما كانا السبب في اختلاف وجه ليالي هذه الاحتفالات التقليدية. وتوضح آنا مادوف في مقالها عن الموالد في كتابها الرائع «القاهرة العالمية» (٢٠٠٦)، الذي راجعته ديان سينجر مان، إن السياسات الحكومية لعبت بلا شك دورًا في هذا، فأشارت إلى أن «المحاولات القمعية المتزايدة التي تبذلها شرطة القاهرة والحكومة لإغلاق الأماكن العامة في وجه الاحتفالات الصوفية الشعبية هي وسيلة للحد من التجمعات العامة الكبيرة لا سيما بعد أن اندلعت في القاهرة احتجاجات كبيرة إثر غزو الولايات المتحدة للعراق في عام ٢٠٠٣.» غير أن تزايد العداء تجاه الموالد يعود لأسباب أكثر تعقيدًا وأكثر غموضًا، تتعدى كراهية الحكومة للباعة المتجولين أو للارتباك الذي يخلقه تجمع الحشود الكبيرة. فهذا مثلًا لا يكاد يبرر الأعمال التخريبية التي ارتكبها بعض السنيين المتطرفين في بعض الموالد.
دارت شائعة قبل بضعة أعوام بين حشد أحد الموالد في صعيد مصر، أثناء إنشاد الأغاني الدينية على المنصة في ليلة ما بأن صبيًّا من أهل المنطقة اختطف. قال أحد حاضري المولد من قرية مجاورة لمجلة كايرو تايمز التي لم تعد تصدر الآن — والتي كشفت عن القصة كجزء من تغطيتها للتهديدات التي تواجهها الموالد في مصر اليوم — إن «المولد فسد تقريبًا»، ثم أردف قائلًا: «سادت الفوضى إلى حد ما، وعاد الكثيرون إلى منازلهم لمعرفة ما يجري، وأسرع المنشد بالغناء وانتهى منه مبكرًا. كان المولد من الأساس صغيرًا، فكان نبأ كهذا كافيًا لأن يفسد كل شيء.» لكن تبين فيما بعد أن الفتى المختطف كان ناشطًا في جماعة إسلامية وهو أحد سكان المنطقة المحافظين الذين يعارضون إقامة الموالد. وعاد الفتى للظهور بعد يومين وهو يتعافى من «المحنة» في الفراش، مع أن صحته بدت جيدة على نحو واضح. زعم الكثيرون من أهل القرية لاحقًا — وفقًا للمقال الذي أوردته مجلة كايرو تايمز — أن الاختطاف كان تمثيلية لإفساد احتفالية المولد. وقال ساكن آخر من أهل القرية: «كان الأمر كله مسرحية، مهزلة لم يدبر لها على نحو جيد. اختطف الفتى مساء المولد، ولم يذكر على الإطلاق ما الذي أراده المختطفون، أو سبب اختطافهم له، أو غرضهم من هذا.» قيل إن هؤلاء الناشطين أزعجهم إحياء تقليد القرية بعد أن تسبب سوء التنظيم في انقطاع إقامة المولد بضع سنوات، وقد حاولوا إقناع أهل القرية بأن الاحتفال بالموالد إثم، فلما أحبطهم فشلهم في إثناء أهل القرية عن المشاركة في المولد، لجئوا على ما يبدو إلى الاختطاف الزائف لإفساد الاحتفال. لا يزال أبناء قرية جزاية في دلتا النيل يذكرون تخريب الموالد بنفس الفكر؛ ففي منتصف التسعينيات، عثر في صباحين متتاليين على اللافتات والمصابيح والأعمدة ومكبرات الصوت التي زين بها ميدان القرية في يوم مولد النبي — الذي يحتفل فيه بميلاد النبي محمد — وقد انتزعت من مكانها، وضاعت راية كتبت عليها بعض العبارات الدينية. ولما لم يثنِ هذا منظمي المولد الصوفيين، أعادوا تركيب معدات الاحتفال وواصلوا احتفالاتهم، لكن في صباح اليوم الثالث، وجدوا أن عمودًا ولافتة قد نزعا من موقع الحفل وألقي بهما في بالوعة مفتوحة.
ويبدو أن أكثر ما يزعج الأصوليين هو اختلاط الرجال بالنساء أحيانًا أثناء الموالد، وهذا يدل على تنامي تأثير الفكر الوهابي السعودي على الحياة الثقافية في مصر منذ السبعينيات، التي شهدت بدء هجرة الملايين من المصريين إلى السعودية نتيجة لرواج تجارة النفط، وقد اصطحب هؤلاء كثيرًا زوجاتهم وأطفالهم معهم، حيث التحق الأطفال بمدارس محلية قلما اضطلعت بشيء غير الترويج للفكر الوهابي. ولما كانت هذه العمالة نفسها في أغلب الأحوال إما أمية أو تفتقر إلى التعليم الجيد، وشديدة العرضة للتأثر بأي أفكار، فقد تشربت الفكر الوهابي المتطرف المسيطر على مجتمع المملكة العربية السعودية ومساجدها، الذي يستنكر اختلاط الذكور بالإناث، وعادة الاحتفاء بالأولياء في الموالد (وكلا الأمرين محرم في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى كل شيء آخر تقريبًا). كانت مصر — على مر تاريخها — ليبرالية في سياساتها، وعالمية في منظورها الثقافي، ومعتدلة في تفسيرها للدين، أما المملكة العربية السعودية فقد ظلت دومًا متحفظة سياسيًّا، لا تتقبل على الإطلاق الثقافات الخارجية، وتتبنى مفهومًا متطرفًا للإسلام، وتكبت بقوة اختلاف الرأي.
لا يسع المرء إلا أن يتفكر في مدى النفع الذي كان سيعود على العالم العربي إن نقل المصريون إسلامهم الصوفي عندما توافدوا بالملايين على المملكة العربية السعودية بدلًا من أن يعود الكثيرون منهم بالفكر الوهابي إلى بلادهم، لا سيما إن أخذنا بالاعتبار الصراع الديني والثقافي المستمر بين مصر وأسرة آل سعود الملكية — الذي تعد الموالد إحدى ساحاته — والذي يعود إلى عهد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر؛ عندما تلقى الأخير أوامر من السلطان العثماني بطرد أسرة آل سعود وحلفائهم الوهابيين من مكة التي كانت آنذاك منطقة شبه مستقلة تحت الحكم العثماني لكن تمكنت أسرة آل سعود من احتلالها. ونجح محمد علي في مهمته نجاحًا تامًّا، حتى إنه طارد الوهابيين المتعصبين وأعادهم إلى معاقلهم في منطقة نجد المحورية، حيث قضى على أكثر من فروا في معركة الحجاز الأولى، ومن هنا أسدى إلى الإسلام خدمة كبيرة بتحرير مكة من الوهابيين المتطرفين. لكن للأسف، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، استعادت أسرة آل سعود سيطرتها على مدينتي مكة والمدينة المقدستين، وغيرهما من إمارات المملكة السعودية التي توحدت وسميت بالمملكة العربية السعودية في عام ١٩٣٢. ظل المصريون حتى عشرينيات القرن العشرين في بداية موسم الحج السنوي يحملون الكسوة السوداء للكعبة في المسجد الحرام في ظل الأغاني الدينية والرقصات الصوفية والاحتفاليات، لكن بعد أن عززت أسرة آل سعود سيطرتها على منطقة الحجاز في منتصف العشرينيات، رُجم المصريون بالحجارة واتهموا بالوثنية وانقطعت فجأة عادة حمل كسوة الكعبة. وانتشر الفكر الوهابي كالنار في الهشيم، في أرجاء العالم الإسلامي، وفي بعض قطاعات المجتمع المصري بعد أن مولته أسرة آل سعود التي تدفقت عليها الأموال فجأة بعد اكتشاف بحيرة النفط التي تقع فوقها المملكة العربية السعودية. ووجد هذا الفكر أرضًا شديدة الخصوبة له مع بروز التيار الإسلامي في عهد السادات، في ظل تشجيع الأخير لعودة الإخوان المسلمين من منفاهم بالمملكة العربية السعودية. كما أن أهمية الحوالات النقدية التي تأتي من المصريين العاملين بالسعودية للاقتصاد المصري شجعت النظام الحاكم أكثر على تبني موقف سلبي إزاء صعود المملكة العربية السعودية.
لكن هناك قصة أهم في هذا السياق هي قصة تخلي مصر تدريجيًّا عن دورها التاريخي بوصفها رائدة للعالم العربي منذ عام ١٩٦٧، لتحتل بدلًا من ذلك منزلة أقل من المملكة العربية السعودية فيما يتصل بالدور الديني والسياسي. وإن بدا لنا عند تأمل الماضي أن الوحدة العربية التي تبناها ناصر لم تصنع للعرب الكثير من الأمجاد، فمن المؤكد أن العالم العربي لن يحقق شيئًا ما دام وهابيو المملكة العربية السعودية المتطرفون يملكون زمام الأمور. وتتبدى نتائج انتشار الوهابية في مصر للعيان بالفعل، ومنها رفض القلة المتعصبة المتأثرة بالوهابية للموالد على اعتبار أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ومنها أيضًا التمييز والعنف ضد الأقلية المسيحية في مصر، التي يحكم عليها الفكر الوهابي بالكفر.
•••
من العجيب أنني أبصرت بنفسي أول لمحة عما يعانيه المسيحيون الأقباط في مصر، عندما قمت برحلة إلى قلب صعيد مصر لزيارة قرية صديق لي تقع على بعد ساعة من مدينة سوهاج الصناعية، بينما كان هناك احتفال بأحد الموالد، وأثناء التجوال بالقرية حرص والد صديقي — وهو ناظر مدرسة محلية — على أن يؤكد على الصداقة التي تجمع بين أصدقائه المسلمين وأقباط القرية، وأشار كثيرًا إلى الأقباط بعد أن تبادل التحية معهم في الشارع، لكن عندما قمنا بسلسلة من الزيارات لبيوت أصدقائه لما حل الظلام وبدأ الاستعداد للمولد، تبين أن أصدقاءه ليس بينهم أي أقباط. وفيما بعد عندما سألت صديقي إن كانت هناك أي اضطرابات قد وقعت بين مسلمي ومسيحيي القرية، باح لي عن غير قصد بأن العلاقة بين الطرفين شابها بالفعل الكثير من التوتر قبل بضع سنوات؛ لأن المسيحيين أصروا بعض الوقت على حقهم في بناء كنيسة (اليوم هم مضطرون إلى تدبر أمرهم بمنزل حُول إلى كنيسة).
فسألته: «هل كان لهذا أن يتسبب حقًّا في هذه المشاكل؟»
فأجاب: «نعم، فهذا بلد مسلم.»
فأردت أن أعرف ماذا كان سيحدث إن أصروا على بناء الكنيسة.
وكان جوابه قاسيًا إلى حد مخيف؛ قال: «كنا سنضربهم.»
من هنا اتضحت لي حدود علاقة «الصداقة» التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين: الأقباط يعاملون باحترام ما داموا يقبلون بمكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وقد نمّ هذا عن أنهم يحتلون أدنى مراتب السلم الاجتماعي؛ بما أن القيود على الأقباط وضعها المسلمون «المعتدلون»، وهؤلاء بدورهم يهدد الإسلام السني المتشدد تقاليدهم الاحتفالية ذات الشعبية (جذب المولد تقريبًا مسلمي القرية كافة من بيوتهم مساء ذاك اليوم). كما لاحظت أصول هذا التمييز العنصري الذي يمارس ضد الأقباط في الطريق لدى خروجي من القرية في اليوم التالي. كانت جميع المنازل التي مرت بها سيارة الأجرة التي استقللناها — شأنها شأن جميع منازل أهل القرية — حديثة ومبنية بالطوب الأحمر؛ ولا تكاد تمت بصلة لصورة الصعيد المصري شديد الفقر التي يثيرها كل من يشير إلى إهمال الحكومة المصرية لتلك المنطقة. أردت أن أعرف من أين أتى ساكني هذه المنطقة بهذا المال؟ فأجابني صديقي بأن الجميع عملوا تقريبًا في دول الخليج، وتمنى أن يسافر بدوره إلى المملكة العربية السعودية ما إن يفرغ من دراساته.
قالت لي جورجيت قليني — وهي عضوة قبطية في الحزب الوطني الحاكم، عينها مبارك لعضوية مجلس الشعب مرتين — عندما التقيتها فيما بعد في القاهرة وقصصت لها تجربتي في تلك القرية: «لم نشهد أي نزاعات طائفية في مصر حتى ثلاثين عامًا مضت.» إلا أن تجربتي بدت لها مألوفة إلى حد يبعث على الإحباط. أوضحت جورجيت بالإنجليزية التي تحدثتها بلكنة فرنسية ثقيلة أن «المسألة بدأت عندما سافر المسلمون المصريون إلى دول الخليج العربي للبحث عن عمل إبان فترة رواج تجارة النفط التي شهدتها السبعينيات.» ثم استطردت قائلة إن الكثيرين عادوا بفكر وهابي متطرف، تستغربه بيئة مصر الدينية والثقافية التي اتسمت على مر التاريخ بالتسامح، فكر يُحدث المسلمين بأنهم أسمى ممن سواهم. زعمت قليني أن هذا الفكر كان قابلًا للانتشار على الأخص في مجتمع صعيد مصر الذي اتسم بالفعل بالقبلية إلى حد بعيد، كما كان لنمو حركة الإسلام السياسي، التي نشأت في مصر في العقد نفسه وبشر بها الإخوان المسلمون الذين تودد إليهم السادات ليساعدوه في تهميش اليساريين، دور في ذلك أيضًا. قالت قليني وهي تكبت قشعريرة سرت في جسدها: «من ثم عندما سمع مسيحيو مصر فجأة شعار الإخوان المسلمين الذي يتكرر دائمًا وأبدًا — الإسلام هو الحل — تملكهم الخوف، وشعروا بإقصائهم أكثر عن التيار السائد.» وأردفت: «ينص دستورنا على أن جميع مواطني مصر متساوون، لكن الواقع يختلف عن ذلك، أستطيع أن أعطيك مثالًا، صاحب المؤسسة المسلم الذي لدية أربعة وظائف شاغرة، سيوظف أربعة مسلمين. إن كنا جميعًا متساوين، ألا يجب أن تذهب الوظيفة للأكفأ بصرف النظر عن ديانته؟»
العنف بين المسلمين والمسيحيين المصريين هذه الأيام يهدد باستمرار بأن يخرج عن السيطرة. وقد نقل عن رجائي عطية — عضو مجمع البحوث الإسلامية — في تقرير لوكالة أنباء إنتر بريس صدر عام ٢٠٠٧ قوله إن أكبر خطر تواجهه مصر الآن هو إذكاء العنف الطائفي. وفي الواقعة الأكثر تأثيرًا التي حدثت عام ٢٠٠٦، هاجم مسلمون مسلحون بالسكاكين في الإسكندرية مصلين في كنائس قبطية، وتوفي مسيحي في الثامنة والسبعين من العمر وأصيب الكثيرون. وفي الموكب الجنائزي للمتوفي، اندلعت مصادمات بين المسلمين والمسيحيين توفي على أثرها مسلم وأصيب ما يزيد عن أربعين شخصًا من كلتا الديانتين واعتقل عشرات آخرون. ووفقًا لتقرير موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين، اندلعت في اليوم التالي مشاحنات في الشوارع بعد أن سار المسيحيون في شوارع الإسكندرية الرئيسية حاملين صلبانًا، وصارخين بشعارات مسيحية. فلطالما كان الحي المسلم الذي وقعت فيه هجمات الكنيسة في الإسكندرية مرتعًا للإسلام على المنهج السعودي.
إلا أن الكثير من مراقبي منظمة حقوق الإنسان المسيحيين المصريين يلقون باللوم على حكومتهم، وإن كان يوجد ما قد دعم نظريتهم فهو ليس إلا المدونة التي أنشأتها هالة حلمي بطرس، وهي قبطية من صعيد مصر أنشأت المدونة للفت الانتباه إلى ما وصفته بالتحرش والعنف اللذين يستهدفان الأقباط، فلم تلبث أن وجدت نفسها نموذجًا له، بعد أن أُغلقت مدونتها، وتعقب البوليس السري تحركاتها وتجسسوا على مكالماتها ورسائل بريدها الإلكتروني وبعد أن قالت مجموعة من البلطجية — يعتقد أن الحكومة قد أجرتهم — لوالدها أثناء ضربه إن هذا الضرب: «هدية من ابنتك.» لكن ثمة آخرون يردون بأن صور عنف الدولة تلك لا علاقة لها بالدين في الأساس. يقول جورج إسحاق مؤسس حركة كفاية المعارضة والمنادية بالديمقراطية وبالإطاحة سلميًّا بنظام مبارك: «أنا قبطي وأحيا حياة سعيدة في حي يملؤه المسيحيون والمسلمون. الشرطة تتعامل بعنف مع أي اضطراب عام، وهذا ما يجعل الأمور تخرج عن نطاق السيطرة.»
لكن ثمة شكاوى أخرى رددها الأقباط منذ وقت طويل، من بينها قلة عدد ممثليهم في جهاز الشرطة والجهاز القضائي والقوات المسلحة والهيئات المدنية والحكومة والنظام التعليمي، كما أنه يوجد شبه حظر على التحاق المسيحيين بأجهزة الإذاعة والتليفزيون التي تديرها الدولة. ومن الأمثلة التي كثيرًا ما يستشهد بها على التمييز الذي تمارسه السلطات ضد الأقباط؛ قانون ظل قائمًا حتى وقت قريب يقضي باستصدار موافقة الرئيس شخصيًّا على القيام بأبسط الإصلاحات في الكنائس، كإصلاح دورات المياه، وهو قانون يتهم بأنه السبب في تأخر إصدار تصاريح بناء الكنائس لما يزيد عن عقد. جعل مبارك القانون أقل صرامة عام ٢٠٠٥، وفوض مسئولية إصدار تلك التصاريح للمحافظين، مما استثار ردود أفعال متباينة بين الناشطين، فدعت صحيفة الوطني الأسبوعية القبطية إلى وصف الأمر بالخدعة التي تهدف فقط إلى تهدئة النقاد الأجانب. لكن يرى الكثير من المفكرين المسلمين والمسيحيين أن على الأقباط أيضًا أن يقروا بتنامي تيار انفصالي وسط صفوفهم، وأكثر ما يزعج هؤلاء المفكرين برنامج يذاع على قناة الحياة الفضائية يقدمه قس يدعى الأب زكريا بطرس، وهو قس مصري اعتقله النظام مرارًا عندما عاش في مصر، لكنه يعيش اليوم في منفى في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي برنامجه الشهير الذي يذاع مدة ساعة كل يوم أحد، يسب الإسلام والقرآن والنبي محمد أقذع السباب، مما حث البابا شنودة نفسه — رأس الكنيسة القبطية في مصر — على استنكار هذا بقوة. ولا شك أن شخصيات بارزة مثل القس زكريا تذكي في الأذهان فكرة المؤامرة الخارجية التي تستهدف «الوحدة الوطنية»، والتي ذاعت في وسائل الإعلام المصرية منذ عقد منتدى حول شئون الأقباط في الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٥. هذا المؤتمر — وفقًا لمقال صدر عن موقع ميدل إيست ريبورت أونلاين — نظمته اتحادات مهاجرين أقباط، وكانت فكرته الرئيسية هي أن «الديمقراطية في مصر يجب أن تعود بالنفع على المسيحيين بقدر ما تعود على الإسلاميين.» وقد تناول تناولًا مباشرًا بروز الإسلاميين في السياسة المصرية بعد انتخابات مصر البرلمانية، إلا أنه كان كذلك شاهدًا على تسلط الضوء على نحو متزايد على الجماعات القبطية المقيمة في الولايات المتحدة. هذه الجماعات، وفقًا للمقال، وجدت دعمًا طوعيًّا من الدوائر المسيحية الإنجليكية المحافظة الجديدة، بل تولت شركة بيندور أسوسيتس — وهي شركة علاقات عامة — الترويج لهذا الحدث من أجل عملائها المحافظين الجدد.
أكثر من تدور حوله نظريات المؤامرة الخارجية المختلفة هو الأسقف ماكس ميشيل، الذي درس في أمريكا، ويعد اليوم الشخصية الأكثر إثارة للجدل في المجتمع القبطي. انتقل الأسقف ماكس ميشيل قبل بضعة أعوام إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال الدراسات العليا في مدرسة سانت إلياس الأرثوذكسية، وهو يذكر أنه حصل على الدكتوراه في علم اللاهوت عام ٢٠٠٤، ثم نصبه المجمع المقدس في يوليو/تموز عام ٢٠٠٥ أسقفًا لمجمع المسيحيين الأرثوذكس في المهجر الأمريكي، وهو مجمع معتمد في ولاية نبراسكا من تابعي التقويم القديم. وبعد ذلك رقاه المجمع نفسه إلى مرتبة رئيس الأساقفة في العام التالي وتسمى الأسقف باسم يليق بالملوك هو ماكسيموس الأول، وأعلن نفسه رئيس أساقفة المسيحيين الأرثوذكس في مصر والشرق الأوسط، متحديًا بذلك تحديًا سافرًا سلطة البابا شنودة، ولقبه الكامل هو بابا الإسكندرية الـ ١١٧ وبطريرك أبرشية سان مارك. ثم أعلن بعد ذلك أنه سيؤسس مجمعًا أرثوذكسيًّا مقدسًا جديدًا. أعقبت هذا — وفقًا لصحيفة إيجيبت توداي — دعوة رسمية له من السفارة الأمريكية في القاهرة لحضور احتفالات الرابع من يوليو/تموز (يوم الاستقلال)، على نحو أثار التساؤلات حول وضع الولايات المتحدة في القضية. لكن السفير الأمريكي في مصر فرانسيس ريكياردون أصدر فيما بعد تصريحًا ينفي فيه دعم الولايات المتحدة لميشيل.
يوجه ميشيل انتقادات حادة للبابا شنودة والنظام الإداري الذي تنتهجه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي يشبهها بكنائس معاقبة الهرطقة في العصور الوسطى في تعاملها مع من يخالفونها في الرأي. قال لي القس ماكس ميشيل في كنيسة سان أثناسيوس في القاهرة وهو يرتدي زيًّا بابويًّا: «الاتجاه والسلوك المتبع داخل الكنيسة القبطية هو نفسه المتبع في العصور الوسطى.» ثم أردف قائلًا: «البابا هو صاحب السلطة الوحيدة، ويجب أن يكون مطاعًا. علينا أن نعود إلى ما يقوله الآباء الأصليون المؤسسون للكنيسة الأرثوذكسية لا لما يقوله هذا البابا، فحتى رواد الكنائس يؤمرون بعدم شراء صحف معينة تنتقد البابا شنودة ويقال لهم إن الكنيسة ستنبذهم إن اشتروا هذه الصحف.» وقالت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية القبطية في بيان لها: «ماكس ميشيل عينه قوم تخلوا عن الكنيسة الأرثوذكسية … لذا لا تعترف الكنيسة الأرثوذكسية بسلطته.» وأخبر المتحدث باسم الكاتدرائية الأرثوذكسية القبطية في القاهرة سالب متى ساويرس الصحف أنه من المحتمل أن الولايات المتحدة تدعم بالفعل هذا الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية بهدف الإضرار بشعبية البابا شنودة. لكن ماكس ميشيل أنكر أي صلة بينه وبين الحكومة الأمريكية وأخبرني بأنه لا تجمعه صلات إلا بمن كون معهم صداقات أثناء دراسته، والمصريين الذين التقاهم أثناء إقامته في الولايات المتحدة.
ووفقًا لصحيفة إيجيبت توداي فإن ميشيل يحيد عن تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية في ثلاث نقاط هامة: أولًا، فيما تصر الكنيسة الأرثوذكسية على عدم إجازة الطلاق إلا في حال اعتناق الزوج أو الزوجة دينًا آخر أو في حالة الزنا الفاحش، يرى القس ميشيل أن هناك على الأقل ثمانية أسباب تجيز للمسيحي طلب الطلاق. كما أنه يحج إلى المواقع المقدسة في بيت المقدس والضفة الغربية وهذا طقس حظره البابا شنودة الذي صرح بأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد التوصل إلى تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفوق ذلك، لا يرى ميشيل أن هناك سببًا يمنع زواج الأساقفة وهو نفسه متزوج ولديه طفلان مع أن القانون الكنسي القبطي لا يؤهل إلا القساوسة غير المتزوجين للترقي إلى مرتبة الأساقفة.
ويثق ميشيل من أن الحكومة المصرية ستصادق رسميًّا على إنشاء كنيسته الجديدة. فوفقًا لقوله، بعد عام واحد من تأسيسها، صار لدى الكنيسة بالفعل عشرة أفرع في أنحاء البلاد وآلاف الأتباع، لكنه موقن أيضًا من أنه سيجابه معارضة لا من الكنيسة القبطية ومحاكم القانون المدني وحسب، ولكن من أغلب الأصوات القبطية أيضًا. وقد شن منير فخري عبد النور — رجل الأعمال القبطي البارز — حملة ضده لدى عودته إلى مصر وصفه فيها بأنه «دجال».