التعذيب
كان عباس — وهو رجل في الثلاثينيات التقيته في رحلة إلى أسوان، حيث دعاني لتناول العشاء في منزل أسرته — مقيمًا في شقتي بالقاهرة منذ أسبوعين، وقد أخذ ملابسي إلى المغسلة القريبة من المنزل قبل ساعتين. نشأت بيننا على الفور صداقة كالتي تنشأ كثيرًا بسهولة بين المصريين والأجانب أثناء تناول الشاي، والتي تُنسى بنفس السهولة التي نشأت بها ما إن يمضي كلا الطرفين إلى حال سبيله، لا سيما في مراكز مصر السياحية. أخبرني عباس عقب العشاء أنه يود القدوم إلى القاهرة للبحث عن عمل، ففهمت ما يرمي إليه، ووافقت على السماح له بالإقامة في غرفة إضافية بمنزلي إلى أن يقف على قدميه، بشرط أن يؤدي المهام المنزلية التي تتضمن أخذ الملابس إلى المغسلة. إلا أنني ما لبثت أن شعرت بأنه لا يجب الوثوق به تمامًا بما أنه يعمل في أسوان بائع تذاكر في السوق السوداء، يحصل على العمولات من السياح وعلى الوجبات المجانية هنا وهناك. غير أنه كان متعلمًا، وذكيًّا، ورفقته بوجه عام ممتعة، وأيضًا كل منا عاش في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية (التي أَحبها مثلما أحببتها أنا). وكانت رحلة العودة بالقطار من أسوان إلى القاهرة، التي تستغرق خمس عشرة ساعة، ستبدو أقل مللًا إن قمت بها مع رفيق أحدثه وأمضي معه الوقت. لكن بينما كنت أتطلع من نافذة منزلي إلى الشارع بالأسفل باحثًا مجددًا عن عباس، خطر لي احتمال مخيف: هذا الرجل استغل كرم ضيافتي، وسرق ملابسي وتركني.
أخذت أطمئن نفسي بأن هذا احتمال عجيب وغير وارد، فالمصريون — بالرغم من ظروفهم الاجتماعية الصعبة — يقيمون وزنًا كبيرًا للخصال الشخصية كالأمانة والجدارة بالثقة، وحتى غير الأسوياء سيحاولون إبعاد الشبهة عنهم عندما يخططون لاقتراف أمر ما للحفاظ على سمعتهم في المجتمع. لكن عباس أخبرني بأنه سيعود على الفور، وبما أن هاتفه الخلوي كان مغلقًا ما كان من مخاوفي إلا أن زادت. تفقدت شقتي، فوجدت أن ملابسه لا تزال مكومة تحت فراشه، لكن لم سيحتاج إلى ملابسه إن كان قد سرق ملابسي؟ لذا قررت أن أقصد مغسلة الملابس.
لدى محمد — وهو صبي يعمل بالمغسلة — أجوبة لكل شيء، أخبرني الصبي أن عباس أودع بالفعل الملابس لدى المغسلة، وستصبح الملابس جاهزة صباح اليوم التالي. بعدها استطرد الصبي قائلًا إن عباس بعد أن غادر ناداه ضابط شرطة وطلب منه أن يريه بطاقة هويته. وبعد أن ألقى الضابط نظرة سريعة عليها، طلب من عباس أن يصعد إلى ظهر شاحنة الشرطة، ولم يمض وقت طويل قبل أن تمضي به الشاحنة مع عدد من تعساء الحظ الآخرين إلى قسم الشرطة المحلي على الأرجح. حكى الصبي كل ذلك وهو يدخن سيجارة بلا مبالاة وكأن ما حدث أمر طبيعي إلى أقصى حد.
سألته: «لكن ما الذي اقترفه؟»
فسأل الصبي بدوره مستنكرًا: «ما الذي فعله؟» قال هذا وعيناه تدوران في دهشة وكأنه يقول: أنت لا تحتاج إلى (فعل) شيء في هذا البلد ليأخذك رجال الشرطة.
اتصلت بأحد معارفي يدعى موسى، كان أخوه ضابط شرطة متوسط المستوى، فشرحت له ما حدث. كان باستطاعتي أن أطلب منه أن يسديني معروفًا لقاء معروف كنت قد صنعته له؛ إذ منحته في حفل زفافه قبل بضعة أشهر مبلغًا كبيرًا من المال مهنئًا إياه، ظنًّا مني أن هذا استثمار جيد في بلد بإمكانك أن تتخلص فيه من المآزق كافة بالمحسوبية. طلب مني موسى أن أرتدي قميصًا وربطة عنق أنيقة وأن ألقاه بعد نصف ساعة عند أقرب قسم شرطة للمكان الذي اعتقل فيه عباس، وأضاف موسى أن بشرتي البيضاء وهيئتي الرسمية تفيان لربح نصف معركة إطلاق سراح عباس، أما النصف الآخر فيُربح بحمل بعض من النقود تحسبًا لتوزيع الكثير منها كبقشيش، ثم سألني قبل أن ينهي معي المكالمة الهاتفية عن اسم عباس بالكامل ورقم بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة به، فاعترفت بأن كل ما أعرفه عنه هو أن اسمه عباس وبأنه من مدينة أسوان من الأصل. فتمتم قائلًا إن هذه المعلومات تفي بالغرض؛ فمن المستبعد أن تلقي الشرطة القبض على أكثر من شخص بهذا الاسم من مدينة أسوان الجنوبية في نفس الحي القاهري.
كان موسى بانتظاري خارج قسم الشرطة، وكان قد حصل بالفعل على معلومات تفيد بأن شاحنة قد وصلت إلى القسم قبل نصف ساعة محملة ﺑ«مجرمين» يجري استجوابهم داخل القسم. قال لي بهدوء: «أعطني عشرين جنيهًا» — وهو ما يعادل مبلغًا يربو قليلًا عن الثلاث دولارات — ثم سار إلى حارس يرتدي زي الشرطة عند مدخل القسم، وصافح يده ليعطيه رشوة أخفاها في كفه خلسة ثم همس للشرطي بشيء في أذنه، ثم أشار إلي أن أتبعه إلى داخل القسم. قادتنا سلسلة من الدرجات يسارًا إلى طابق أعلى، وقفنا حيث ثلاثة رجال شرطة آخرين، فأخذ موسى مني حفنة أخرى من النقود ثم عرف نفسه لرجال الشرطة بأنه أخ لضابط، فسمح له من جديد بالمرور. وأعلى الدرج سمح لنا إعطاء المزيد من البقشيش بدخول مكتب قذر لضابط أعلى رتبة، خاض معه موسى محادثة أثناء انتظاري بالخارج. ولما عاد طلب مني أن أعطيه كل ما أحمله من مال (أربعون دولارًا)، ورأى أنه من الأفضل أن أعود إلى الشارع. وبعد عشر دقائق خرج عباس من قسم الشرطة، وكان موسى معه يحيط كتفه بذراعه. حياني عباس بالقبلات والأحضان، وطلبنا أول سيارة أجرة هرعت بنا إلى شقتي بعد أن أكدت لموسى أنني سوف ألقاه «فيما بعد» لأقدم له — كما يفترض أن يفهم — شكري على معروفه. كنت سأدفع له في التو واللحظة، لكن لم يتبق معي من المال الذي أحضرته سوى عشرة جنيهات ممزقة احتجتها من أجل دفع أجرة سيارة الأجرة.
سألت عباسًا عندما عدنا إلى شقتي: «لماذا ألقوا القبض عليك؟»
فأجابني: «هذا هو ما يفعلونه دائمًا، إنهم يعملون وفق نظام حصة، فيلقون القبض على عشرين أو ثلاثين رجلًا من الشارع كل يوم ثم يفتشونهم داخل القسم بحثًا عن مخدرات أو أي شيء غير قانوني، فإن لم يكن بحوزتك شيء من هذا القبيل، فستنتظرهم إلى أن يتحروا من ملفك على أجهزة الكمبيوتر، ليروا هل صدرت بحقك أي مذكرات اعتقال معلقة، وإن لم يجدوا، أطلقوا سراحك.»
فهل كانوا سيطلقون سراحه على أي حال إن تركته هناك وحسب؟
فشرح لي عباس الأمر قائلًا: «قد يستغرق الأمر يومًا أو اثنين، لا يسمح لك فيهما بالاتصال بأي شخص لإعلامه بمكانك أو ما يحدث لك، ويزج بك في غرفة صغيرة مع الكثيرين. ويسعد ضابط الشرطة إن حالفه الحظ باعتقال شخصين أو ثلاثة من العشرات الذين يحضرهم، وعندها يستطيع أن يخبر رئيسه في العمل أنه أوفى بحصة المجرمين المطلوب منه اعتقالهم.»
احتججت على ذلك قائلًا: «لكن هذا سخف، المفترض أن يبحث رجال الشرطة عن المجرمين الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم مبلغ عنها، لا أن يلقوا القبض على الجميع جملة أملًا في أن يكون واحد أو اثنان منهم قد اقترفوا جرمًا. لماذا لم ترفض الذهاب معهم فحسب؟ لا يحق لهم هذا.»
نظر إلي وكأنه يخاطب معتوهًا.
ثم قال: «بل يحق لهم فعل ما يشاءون، المفترض أنك بحلول هذا الوقت صرت تعرف أن شعب هذا البلد ليس له أي حقوق، إن اعترضت فسيأخذونك إلى أسفل الدرج ويوسعونك ضربًا وتعذيبًا.»
وصمت لحظة وكأنه يتذكر شيئًا تعرض له في وقت سابق من اليوم.
ثم قال: «تبًّا لهذا البلد، وتبًّا لهذه الحكومة، أريد أن أرحل، لا آبه إلى أين، فأي بلد آخر سيكون أفضل.»
•••
الواقع أن الحظ كان حليف عباس من عدة نواحٍ، أبرزها أنه كان على معرفة برجل غربي تمتع هو نفسه بمعارف بإمكانها التدخل لإطلاق سراحه؛ لكن الأهم من ذلك هو أن درايته بعمل جهاز الشرطة كانت جيدة بما يكفي لتجعله يتقبل مصيره بثبات ولا يعترض لعلمه أن هذا لن يفضي إلا إلى جزاء أسوأ من المشكلة التي أُقحم فيها تعسفًا وجورًا. لكن الكثيرين في مصر لم يكونوا محظوظين بالقدر نفسه إذ إن تعسف بلطجية النظام — وهم أنفسهم قد طفح بهم الكيل ويتقاضون أجرًا ضئيلًا ويخضعون للترهيب — كثيرًا ما يجعل العنف غاية في حد ذاته، وهذا جزء من نظام يرى أن الترهيب بطريقة منهجية روتينية أساسي للحكم.
على سبيل المثال: ولد محمد عبد الرحمن في أسرة فقيرة بقرية شها في دلتا النيل، وأصبح عدوًّا للدولة في الثالثة عشرة من العمر، لذا لم يعش ليشهد عيد مولده الرابع عشر، يقال إنه اعتقل في أغسطس/آب عام ٢٠٠٧ مع أخيه الأكبر المراهق إبراهيم، فما هي جريمته المزعومة؟ اشتبهت شرطة مدينة المنصورة المجاورة لقريته في قيامه هو وأخيه بسرقة عبوتين من الشاي. ولما زارته والدته بعدها بثلاثة أيام في قسم شرطة مدينة المنصورة بعد أن علمت أخيرًا بمكانه، ذكرت أن مشهده صعقها، لكنها لم تتفوه بكلمة في قسم الشرطة لتقي أخاه الأكبر التعرض للمزيد من التعذيب. هرعت من مخفر الشرطة إلى محام نجح في استصدار أمر بنقل الفتى محمد إلى مستشفى المنصورة الحكومي.
ومع الأسف فإن الانتقال من قسم شرطة إلى إحدى المستشفيات الحكومية التي تعاني على الدوام من نقص التمويل يعني لفقراء مصر الاستجارة من الرمضاء بالنار. لا بد أن هذا هو ما بدا لمحمد الذي قيل إنه أمضى أربعة أيام في المستشفى، هذا بفرض أنه كان قادرًا على التفكير في أي شيء آخر بخلاف ألمه المبرح. في اليوم الخامس عثر سكان مجاورون للمشفى على محمد فاقد الوعي في باحة انتظار سيارات قريبة من المشفى وأعادوه إلى الشرطة. اتهمت والدته المشفى بالتخلص منه — حرفيًّا — وعدم العناية به، مع أنه يستحيل معرفة الكيفية التي نقل بها إلى باحة الانتظار. وحسب ما قيل، قرر رجال الشرطة في آخر الأمر أنهم قد نالوا كفايتهم من الطفل محمد عندما عجزوا عن القسوة عليه أكثر بما أنه قد شارف بالفعل على الموت، فأعادوه إلى والدته؛ وهو بالطبع الإجراء الذي يفترض أن يُتخذ مع طفل في الثالثة عشرة من العمر في نفس يوم اعتقاله.
كان من الممكن أن تنتهي القصة هنا — بالنسبة للجميع على الأقل عدا أسرة الصبي — شأنها في ذلك شأن الكثير من الأمثلة على وحشية الشرطة المصرية، لكن القضية حظت باهتمام الإخوان المسلمين الذين زاروا بكاميراتهم بيت أسرة الفتى محمد المتهالك. تظهر والدة محمد في التسجيل الذي نتج عن تلك الزيارة وهي ترتدي منديل رأس قروي بسيط وتحكي قصتها، فيما يرقد محمد وهو شبه فاقد الوعي على مرتبة محشوة خلفها فاغر الفم، يلتقط أنفاسه بصعوبة. تزيل الوالدة عن طفلها الغطاء الذي يغطيه بناءً على طلب مجري اللقاء لتكشف عن جسده شديد النحول وعن محول سوائل متصل برئته، ثم تشير إلى عدة حروق على جسد الصبي من الأمام، ثم تقلب الطفل المتأوه لتكشف عن علامة سوداء كبيرة على ظهره وتقول إن هذا الجرح تلوث بعد علاجه، ثم تقترب الكاميرا من العلامة السوداء ثم تنتقل إلى فتحة الصبي الصغير الشرجية التي تبدو منتفخة ومتهدلة، وكأن الفتى تعرض مؤخرًا للاغتصاب، ثم تقلب الأم الصبي مجددًا وتشير إلى المزيد من الحروق على عضوه الذكري وخصيتيه.
لم يستعد محمد عبد الرحمن وعيه كاملًا قط منذ ذلك الحين، وبعد بضعة أيام من تسجيل هذا المقطع توفي.
•••
ذكرت ماجدة عدلي مديرة مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف فيما بعد أن عائلة محمد أخبرتها بأن جسده كانت به آثار حروق من الصعق الكهربي وحروق بدت أنها من أداة ساخنة. وذكر شقيق محمد أن محمدًا عُذب باستخدام ملف تسخين. وخلصت ماجدة عدلي إلى أن الصبي «تعرض للضرب والصعق الكهربي، وعندما صرخ وانتابته نوبات تشنج، ركله الضابط في صدره، وهو ما دمر رئته على ما يبدو.» وأضافت أن الغيبوبة التي سقط فيها قد يكون سببها تسمم في الدم أو إصابة بالرأس من أثر الضرب الشنيع الذي تعرض له.
يزعم أن الشرطة لما سئمت المفاوضات، نقلت ببساطة جثمان محمد سريعًا من المشرحة بدون إطلاع والدته ودفنته على ما يبدو في الوقت الذي ظل فيه الابن الآخر إبراهيم محتجزًا، يجلس في مؤخرة شاحنة شرطة وهو يشاهد أخاه يدفن، فهل كان هذا إنذارًا له بأن يخبر والدته بأن تصمت وإلا قُتل هو أيضًا؟
في تلك الأثناء، زعم إبراهيم أنه بدوره تعرض للتعذيب على أيدي رجال الشرطة الذين هددوه بتلفيق تهمة حيازة مخدرات له ما لم يشهد بأن الحروق التي حملها جسد أخيه كانت آثارًا نجمت عن سلك مكهرب سقط عليه — من قبيل الصدفة البحتة — قبل ستة أشهر من احتجازه. وافق إبراهيم على أن يشهد بهذا ظنًّا منه أن أخاه لا يزال على قيد الحياة، لكن بحلول موعد دفن محمد، كانت جماعة الإخوان المسلمين قد أذاعت تسجيلها على موقعها، وحظيت القضية باهتمام إعلامي كبير، ليس فقط في وسائل إعلام جبهة المعارضة التي كثيرًا ما تفضح بالتفصيل قضايا التعذيب، بل أيضًا في وسائل الإعلام الدولية — غير المهتمة عادة — فترة وجيزة. ومن ثم، سحب إبراهيم شهادته، وأعلن مكتب النائب العام على غير العادة أنه سيولي القضية المزيد من التحقيق، واستُخرج جثمان محمد من أجل المزيد من الفحوصات، وأخبر حمدي الباز محامي الأسرة صحيفة الأهرام الأسبوعية أن «ظروفًا واضحة استدعت إعادة فحص الجثمان»، واستشهد بتقرير أصدره مفتش الصحة ما إن أُودع محمد المستشفى جاء فيه أن التعذيب استخدم مع محمد، وأضاف الباز أن ليس على المرء سوى أن يتأمل السرعة التي نقل بها جثمان محمد لدفنه كي يدرك أن وزارة الداخلية أرادت إنهاء تلك القضية سريعًا. وقال الباز في مقال الأهرام نفسه: «هناك سلسلة من المؤامرات … جميعها يسعى إلى إخفاء الظروف التي أدت إلى وفاة محمد.» وأعد ملفًّا للقضية يشمل التسجيل الذي كان بحلول هذا الوقت قد شوهد عشرات الآلاف من المرات في جميع أنحاء العالم.
إن لم تكن العدالة المصرية سريعة، فلا قيمة لها.
في أوائل سبتمبر/أيلول برأت مجموعة من خبراء الطب الشرعي الذين عينتهم الحكومة المصرية ضباط قسم المنصورة من الاتهامات كافة، وتوصلت إلى أن محمد توفي بسبب «انخفاض حاد في ضغط الدم، وفي أداء الجهاز التنفسي.» وهي نتيجة تتفق تمامًا مع قصة الأسرة أيضًا!
•••
سمعة أقسام الشرطة بين عامة المصريين اليوم تجعلهم ينفرون من الإبلاغ عن الجرائم، حتى الخطيرة منها، خوفًا من إثارة غضب ضابط شرطة فظ حاد الطباع، أو من أن يتبين أنهم يشكون شخصًا ذا «صلات» هامة يمكنه أن يحيل حياة صاحب الدعوى إلى جحيم ببضعة اتصالات هاتفية ببعض ذوي النفوذ في السلطة. وقد ذكرت منظمات لحقوق المرأة أن ضحايا العنف الجنسي من النساء على الأخص لا يبلغن أبدًا تقريبًا عن الجرائم التي ترتكب في حقهن. وليس عليك أن تبحث كثيرًا لتعرف السبب؛ فبما أن ضباط الشرطة أنفسهم يستخدمون كثيرًا الاغتصاب وسيلة للاستجواب أو ربما وسيلة للتسلية (حتى مع صبي هزيل في الثالثة عشرة من العمر كمحمد، تهمته الوحيدة هي سرقة عبوة شاي)، فمن الطبيعي أن يتبين أنهم لا يبدون أي تعاطف لدى الاستماع إلى الضحايا؛ أضف إلى هذا الاعتقاد الراسخ في هذا المجتمع الذكوري بأن النساء اللائي يغتصبن قد استحققن هذا أو طلبنه بطريقة ما، ومن ثم تصبح صعوبة الإبلاغ عن الجرائم والتعامل مع رجال الشرطة صعوبة مطلقة. أما النساء اللائي يواجهن بشجاعة ترهيب أقسام الشرطة التي يسودها الرجال على نحو مطلق، فيذكرن أن تجاربهن لم تزد جراحهن إلا سوءًا، وأن ردة الفعل الأولى لأي بلطجي يجابهنه يدعو نفسه شرطيًّا هي أن يسأل بخسة إن كان من الممكن أن يتقابلا فيما بعد هذا المساء في مطعم للوجبات السريعة للتباحث أكثر في المسألة؛ فمن وجهة نظره، بما أن «عرض» المرأة قد مس، يصبح اللوم عليها، وتصبح لقمة سائغة.
يحتار المرء فيما عليه أن يقوله في سياق الاعتقالات التي قام بها مئات من رجال الأمن عام ٢٠٠١ لبضع عشرات من الرجال افتُرض أنهم «شواذ» يرقصون على ظهر قارب نزهة كان راسيًا بالنيل في القاهرة. تعرض الاثنان والخمسون معتقلًا (الذين اعتقل خمسة وثلاثين منهم على ظهر القارب وسبعة عشر في مناطق أخرى بالقاهرة) للتعذيب، وبعضهم ضرب بقسوة، وحتى أصغرهم — وهو في الخامسة عشرة فقط من العمر ولم يكن بقاعة الرقص ساعة إلقاء القبض عليه — أخبر الصحفيين أنه ضرب بعصا غليظة على ساقه وقدميه، وتلك أداة تعذيب تترك كثيرًا الضحية غير قادرة على المشي أيامًا. ولم تكن محاكمة هؤلاء السجناء إلا مظهرًا صاخبًا؛ إذ منعت أسرهم وأقاربهم من دخول قاعة المحكمة، وشعروا بالإحباط إزاء محاكمتهم بمحكمة أمن الدولة (التي نشأت من الأساس للبت في قضايا الإرهاب والتجسس)، مع حرمانهم من حق الاستئناف. غير أن اعتقال مجموعة من الرجال لا لشيء إلا لأنهم يرقصون معًا على يد البلطجية الممولين من قبل الدولة — الذين يزعم أنهم يعمدون كثيرًا إلى الاعتداء الجنسي كوسيلة لتعذيب ذكور المعتقلين — هو أمر يتجاوز بكثير المفارقة. إنه يشير في الواقع إلى النفاق المقيت والوحشية القاسية التي يقوم عليها نظام مبارك، ويدلل على دولة تعمل فيها خدمات الأمن لا على حماية الشعب من الجرائم بل على حماية قادة المجتمع ممن يمقتونهم.
•••
التسجيل الذي ظهر فيه محمد لعشرات الآلاف من متصفحي الإنترنت ومن قرءوا التقارير التي تصدر من حين لآخر عن هذا الموضوع في الإعلام الغربي أظهر ما يدركه جميع المصريين منذ سنوات: التعذيب يمارس على نطاق واسع في أجهزة الأمن المصرية. ولم تكن تلك في الواقع المرة الأولى التي تسجل فيها تلك الوقائع في مقطع مرئي ليشاهدها العالم أجمع، فقد أظهر مقطع مرئي سجلته كاميرا هاتف محمول نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني على مدونة مصرية مجموعة من الضباط يتحرشون بعصا مكنسة بمؤخرة سجين اعتُقل بعد أن تصدى لاعتقال أخيه، الأمر الذي يعد وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية عن التعذيب في مصر من الممارسات المعتادة. على سبيل المثال: أصدرت منظمة حقوق الإنسان المصرية تقريرًا في عام ٢٠٠٧ يتناول بالتفصيل حالات المئات من ضحايا وحشية الشرطة على مدار العقد الماضي. قال مدير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان طارق زغلول لوكالة أنباء بلومبيرج في عام ٢٠٠٧: «التعذيب في مصر يمارس على نحو منهجي ونظامي، بعكس ما تريد وزارة الداخلية أن نظنه.» وأضاف أن حالات التعذيب «ليست حالات منفردة». ويذكر تقرير المنظمة أن التعذيب في مصر ظاهرة تدعم وجودها القوانين المتساهلة التي تسمح بتزايدها، وقد وثقت المنظمة في الفترة من عام ١٩٩٣ إلى يوليو/تموز عام ٢٠٠٧ ما يزيد عن خمسمائة حالة تعذيب، إذ توفي من بين ٥٧٦ ضحية تعذيب ١٦٧ ضحية نتيجةً مباشرةً للتعذيب في أقسام الشرطة، ولا تمثل تلك الحالات على الأرجح إلا قمة جبل الجليد، إذ إن أغلب الحالات يجري التعتيم عليه قبل أن يظهر.
أساليب التعذيب الأكثر ذيوعًا كما هو معروف هي الضرب والصعق الكهربي، وتعليق الضحايا من معصمهم وكواحلهم في أوضاع ملتوية فترات طويلة، وتهديدهم بقتلهم أو اغتصابهم أو التعدي عليهم جنسيًّا أو فعل ذلك لأقاربهم. وقد أخبر بعض المعتقلين منظمة العفو الدولية أن زملاءهم في السجن كانوا يتعرضون للتعذيب عندما كانوا هم يستجوبون، وذلك إشارة إلى أن التعذيب كان يجري على مدار أربع وعشرين ساعة، وحكى البعض الآخر عن سماعه صراخ أشخاص يتعرضون للتعذيب، وعن رؤية مساجين مصابين بعد استجوابهم. وذكر الكثيرون ممن اعتقلوا على خلفية هجمات طابا في عام ٢٠٠٤ وهجمات شرم الشيخ في عام ٢٠٠٥ أن أيديهم كبلت وجردوا تمامًا من ثيابهم وعصبت أعينهم خلال جلسات الاستجواب، وذكر أحمد عبد الله — وهو مشتبه به في قضية إرهاب — أنه استجوب وعذب ثلاث أو أربع مرات يوميًّا، وضُرب وعلق من كاحليه ومعصميه في وضع ملتو، وصعق كهربيًّا في أجزاء حساسة من جسده من بينها شفتاه وعضوه الذكري ورأسه، وعصبت عيناه وأجبر على خلع ثيابه. وعلى عكس الحال مع محمد، كان طبيب يأتي كل يوم تقريبًا للتحقق من أحوال ضحايا التعذيب، وليحرص على استمرار معاناتهم. ويبدو أن محمد تعرض لهذا التعذيب لما يقرب من ثلاثة أشهر من احتجازه، إما لأنه كان أخًا لمشتبه به في عملية إرهابية، وإما — وهذه ليست مزحة — لتشابه أسماء!
المعتقلون الذين تلقي قوات الأمن المصرية القبض عليهم يحتجزون سرًّا أو في مناطق معزولة. بعبارة أخرى، «يُخفون» على الطريقة التي عمدت إليها الأنظمة العسكرية الدكتاتورية منذ القدم، ولا يطلع المعتقلون بوجه عام على سبب اعتقالهم إلا من يعتقل منهم لقرابته فقط لأحد المشبوهين. وفي بعض الحالات، يطلق سراح أقارب المشتبه بهم فيما بعد، لكن مع إخبارهم بأن عليهم العثور على المطلوبين وإقناعهم بتسليم أنفسهم للسلطات؛ للحيلولة دون تعرض أقارب آخرين معتقلين للتعذيب أو غير ذلك من صور الإساءة. ومن هنا كان خوف والدة محمد أن تبدي أي اعتراض في الوقت الذي ظل فيه ابن آخر لها محتجزًا. هذا الإجراء يشبه إلى حد مخيف إجراءً عرف في ألمانيا النازية بالعقاب الجماعي، وصفه هيملر نفسه عام ١٩٤٤ قائلًا إنه: «من العادات شديدة القدم التي مارسها أجدادنا.»
كان أحد ضحايا التعذيب طالب جامعي في الثانية والعشرين من العمر، يرمز للكثيرين؛ لم توجه إليه أي تهم، ولم يُحقق فيما زعمه عن تعرضه للتعذيب، ولم يتقاضَ تعويضًا على معاناته. أخبر منظمة العفو الدولية أنه اعتقل قرابة الساعة الثالثة صباحًا من بيته، وعصبت عيناه واصطحب إلى أحد مكاتب مباحث أمن الدولة بالعريش في شبه جزيرة سيناء، وطلب منه أن يعرف هوية بعض الأشخاص، لكن عندما قال إنه لا يملك أدنى فكرة عن هوية هؤلاء، سُب ولكم في وجهه مرارًا، ثم جرده مستجوبوه من ثيابه، وعقدوا يديه خلف ظهره، وقيدوا قدميه معًا، ثم علقوه من معصمه في عتبة باب مفتوح، واتصل سلك بأحد أصابع قدمه وآخر بعضوه الذكري وتعرض لصدمات كهربية، ثم غُمر وجهه بالماء وترك ليرقد على الأرض. كل هذا حدث له وهو مجرد من ثيابه، معصوب العينين، وتواصل هذا التعذيب أسبوعًا. كان يجبر أحيانًا على الحضور أثناء استجواب وتعذيب معتقلين آخرين، وفي أحيان أخرى تنامت إلى أسماعه صرخات زملائه المعتقلين، وقد أمضى أربعة عشر يومًا في مكتب مباحث أمن الدولة بالعريش قبل أن ينقل إلى مركز سجون تابع لقوات الأمن المركزي.
تشير جميع الشواهد المتاحة إلى أن محاولات النظام لمحاربة التعذيب الذي يمارس على نحو روتيني ليست إلا صورية. فعلى سبيل المثال: بعد بضعة أيام من الحكم على ضابطي شرطة بالسجن ثلاث سنوات في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٧ لتحرشهم برجل بعصا مكنسة في القضية السابق ذكرها، توفي رجل آخر متأثرًا بجراحه بعد أن عذبته الشرطة المصرية ثلاثة أيام، فصرح مسئول مصري لوكالات الأنباء الأجنبية بأن الرجل — أحمد صابر سعد — احتجز اشتباهًا في حيازته مخدرات، لكن على الرغم من استصدار وكلاء النيابة أمرًا بإطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة ضده، عذبته الشرطة ثلاثة أيام قبل أن تتركه في أحد الشوارع ليموت بعدها بيوم. أمر المدعي العام المصري عبد المجيد محمود بالتحقيق في تلك الأنباء، لكن قبل أن يبدأ التحقيق وُضع ضابطا شرطة «تحت التحقيق» بعد أن ادعى مراهقان أن الضابطين أمرا سجناء آخرين باغتصابهما في قسم شرطة آخر. يزعم أن الضابطين — وهما يحتلان رتبة ملازم وملازم أول في قسم شرطة كفر الشيخ — قد أمرا سجناء أكبر سنًّا باغتصاب المراهقين اللذين يبلغان من العمر ستة عشر وسبعة عشر عامًا بعد أن اعتقلا بتهمة حيازة مخدرات قبل أسبوع، وأُمر بحبسهما أربعة أيام، فقدمت أسرتاهما شكوى بعد إطلاق سراحيهما إلى وكيل النيابة المحلي، وأُجري فحص جنائي بعد أن غادر الصبيان قسم الشرطة زُعم أنه تبين منه أن الصبيين تعرضا للتحرش الشرجي، وأصدرت وزارة الداخلية بيانًا يصرح بأن مأمور قسم كفر الشيخ واثنين من كبار مساعديه قد أقيلوا من مناصبهم ونقلوا إلى «وظائف إدارية».
•••
إن بدا كل هذا — العري، وتعصيب العينين، وتعليق الأجساد — مألوفًا، فهذا لأنه افتضح في دولة أخرى وارتُكب في نقطة أخرى رائدة في التعذيب؛ في سجن أبو غريب ببغداد، في الأيام الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق. كان كولين باول وزير خارجية الولايات المتحدة في ٢٦ من سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠١ صريحًا — من قبل حتى أن تلوح في الأفق أي «حرب على الإرهاب» — في تقديره «لالتزام مصر بالعمل معنا ونحن نمضي قدمًا لمواجهة بلاء الإرهاب، فمصر — كما نعلم جميعًا — تسبقنا بالفعل في هذا المضمار، وعلينا أن نتعلم الكثير منها، وبوسعنا التعاون كثيرًا معًا»، على حد قوله، وكان استجواب السجناء من المجالات التي استطاع الحليفان التعاون فيها معًا بموجب نظام «التسليم الاستثنائي»، وهو مصطلح ابتكر إشارة إلى نقل المعتقلين سرًّا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى يبدو فيها أن القوانين وأجهزة فرض القانون لا تتورع بنفس القدر عن استخدام التعذيب لاستخراج المعلومات. وقد ثبت أيضًا أن المملكة العربية السعودية مرشح مثالي للدخول في مجالات تعاون كتلك.
•••
إن عدت السلطات المصرية قضية ما تمس الأمن القومي بأي طريقة، فبإمكانها استخدام مئات الوسائل القانونية لتتملص مما يضمن حصول المعتقلين على محاكمة عادلة، ومن حقهم في الحصول على الاستشارة القانونية، ومن حظر استخدام الأدلة المستخرجة تحت التعذيب، ومن التحري عن صحة الدعاوى عن استخدام التعذيب أو غيره من صور الإساءة؛ فعلى حد وصف المدافعين عن حقوق الإنسان، يجري التعامل مع قضايا الأمن القومي وفقًا لنظام قضائي موازٍ، قد يحرم المتهم من أن يعامل على قدم المساواة مع غيره من المتهمين، بداية من حقه في رفع الدعاوى إلى حقه في الحصول على محاكمة. فالقضايا التي تتصل بالأمن القومي يضطلع بالتحقيق فيها فرع محدد من النيابة العامة — هو نيابة أمن الدولة — أو يحيلها الرئيس إلى النيابة العسكرية العليا، بعدئذ يحاكم المتهمون لا في محاكم عادية بل أمام محاكم طوارئ، أو محاكم عسكرية تحكمها بعض الشروط المقيدة (منها حرمان المتهم من حق الاستئناف في محكمة أعلى)، وتوجه النيابة العامة الدعوى الجنائية في المقام الأول بالتحري عن الاتهامات الموجهة عبر ضباط الشرطة أو بتفويض تلك المهمة إلى قاضي تحقيقات، لكن هذا يتوقف تمامًا على ما يراه النائب العام. وبإمكان وكلاء النيابة في قضايا الأمن القومي أن يجروا ببساطة التحقيق بأنفسهم عبر نيابة أمن الدولة العليا التي تتخصص في تلك الاتهامات، والتي يديرها مباشرة النائب العام. لقد أخذت سلطات نيابة أمن الدولة العليا تتسع بالمزيد من القرارات بعد عام من انقلاب عام ١٩٥٢، حتى أصبح بمقدور أعضائها إجراء التحقيقات في أي جريمة أمنية في أي نقطة من مصر أو في أي جريمة يرى الرئيس أنها تستحق أن تحال إليها، وثمة الكثير من مثل هذه الجرائم بالطبع.
يمنح قانون الطوارئ الذي صدر عام ١٩٥٢ أيضًا النيابة العامة سلطات قاض التحقيق وسلطات محاكم الاستئناف السرية، ويمنح النائب العام سلطات هائلة تمكنه من احتجاز المشتبه في قيامهم بجرائم إرهابية. هذا في مجمله يعني أن النائب العام يستطيع أولًا أن يأمر بحجز المتهم قبل محاكمته خمسة عشر يومًا بموجب صلاحياته بوصفه نائبًا عامًّا، ثم تمديد فترة اعتقاله إلى خمسة وأربعين يومًا بناء على صلاحياته بوصفه قاضي تحقيقات، ثم الاستمرار في تجديد اعتقاله بصفته قاضي غرفة استئناف لفترات مداها خمسة عشر يومًا. وبعبارة أخرى، النائب العام يملك سلطة احتجاز المتهم مدة تصل إلى خمسة أشهر دون إشراف قضائي مستقل. وقد يحرم أي شخص خلال الخمسة عشر يومًا الأولى من اعتقاله من حقه في المثول فورًا أمام قاض أو أي مأمور ضبط قضائي أو حتى الاعتراض على أمر اعتقاله، مهما كانت فرصة نجاحه ضئيلة إن حظي بتلك الفرصة في نهاية الأمر. ولا داعي لأن نضيف أن مسئولية التحقيق في دعاوى تعذيب المعتقلين … من اختصاص النائب العام.
شبكة الولايات المتحدة لنظام «التسليم الاستثنائي» استغلت الثغرات التي يتيحها النظام المصري بانتقاء ضحايا أغلبهم مهاجرين مصريين أو مصريين مزدوجي الجنسية يمكن عندئذ التصديق بأنهم خاضعون لسلطة مصر القضائية، وبأنهم يمثلون خطرًا على أمنها (إن كانوا يمثلون خطرًا على أحد). وقد أصبحت رحلات ضباط جهاز المخابرات المركزية الأمريكي لتسليم المعتقلين إلى مصر عبر المطارات الأوروبية والباكستانية واقعًا تشهد عليه الوثائق. ولا يعلم أحد عدد من «سُلِّموا» إلى مصر على هذا النحو وكأنهم كم مهمل، لكن أغلب من أفصحوا فيما بعد عن تجاربهم، ذكروا أنهم قيدوا وعصبت أعينهم لدى وصولهم إلى مطار القاهرة، ثم نقلوا إلى معتقل سري تديره على ما يبدو المخابرات العامة المصرية.
من هؤلاء ممدوح حبيب، وهو مصري يحمل جواز سفر أسترالي. حظيت قضيته باهتمام إعلامي واسع وقامت الكثير من وقائعها على أدلة قوية. اعتقل ممدوح حبيب — وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية الصادر في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠١ الذي حمل عنوان: «مصر: انتهاكات منهجية باسم الأمن» — في باكستان التي يزعم أنه تعرض فيها للضرب وتلقى التهديدات قرابة شهر لدفعه إلى التوقيع على اعتراف، فلما لم يفلح هذا، سُلم على حد قوله مجردًا من ثيابه إلى خمسة عشر مسئولًا أمريكيًّا، وقد صُوِّر وأُعطي مهدئًا ونُقل جوًّا إلى مصر. وخلال الرحلة، منعه ضباط الأمن المصريون من النوم، ثم قيد لدى وصوله إلى مطار القاهرة وعصبت عيناه، ثم اقتيد إلى مبنى تحيطه جدران عالية حيث يذكر أن السيارة التي أقلته سارت مدة تتراوح بين عشر وخمس عشرة دقيقة قبل أن تصل إلى ما بدا موقعًا تحت الأرض من المبنى. جُرد فيه من ثيابه، وصُور ثم أُودع غرفة فحص فيها طبيب قلبه، ثم زاره ضابطا أمن مصريان وسألاه التعاون معهما والاعتراف بأنه كان يخطط لاختطاف طائرة للقيام بأعمال إرهابية. ولما رفض خُدر وأُودع زنزانة صغيرة ذات ضوء أصفر خافت، وفتحة بالسقف الذي علق فيه بخطاف وتعرض للضرب والصدمات الكهربية، وتلقى تهديدات بالاغتصاب والموت وقَتل أقاربه، وأُجبر على دخول غرف تعذيب إحداها امتلأت بالماء إلى مستوى مرتفع حتى إنه اضطر إلى الوقوف على أطراف أصابعه ساعات لكي لا يغرق، وأخرى كان سقفها شديد الانخفاض وامتلأت إلى ارتفاع قدمين بالماء، مما اضطره إلى الانحناء في وضع مؤلم، وأخرى ملأت إلى ارتفاع بضعة بوصات بالماء وحوت مولدًا كهربائيًّا قيل له إنه سيستخدم في صعقه كهربيًّا. اضطر ممدوح حبيب في ظل هذه الظروف التي زعمها إلى الاعتراف بأنه ساعد في تدريب منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الفنون العسكرية، لكنه سحب فيما بعد اعترافه. وأخبر كل من استمع إلى قصته أن استخدام العقاقير والصدمات الكهربية بانتظام أدى إلى إصابة جانبه الأيسر بالشلل مؤقتًا. كان آنذاك ينزف من عينيه وأذنيه ويتبول أحيانًا دمًا، فلما تدهورت حالته الصحية، اقتيد إلى غرفة بطابق أعلى من المبنى تفقد فيها طبيب حالته بانتظام — على ما يبدو — لعلاجه قبل إطلاق سراحه، وأخبره ضباط الأمن أنه لم تعد هناك حاجة له في مصر. من ثم قيد وعصبت عيناه باكورة صباح يوم ما وأُغلق فمه بشريط لاصق وأودع شاحنة أقلته إلى المطار، ثم صور ضابط أمن شريطًا تسجيليًّا له — على غرار ما يحدث في سجن أبو غريب — أثناء تجريده من ثيابه، ونزع الشريط اللاصق من على فمه ووجهه، والتقطت له الصور قبل أن تعصب عيناه ويكمم من جديد ويوضع على متن طائرة متجهة إلى أفغانستان. ومن هناك نُقل إلى معتقل خليج جوانتانامو الذي يقع على أرض ليست تابعة لدولة معينة، وتبعد عن نطاق سلطة القانون أكثر من مصر، لكن يلاحقها الاهتمام الإعلامي من حين لآخر، واحتجز هناك قرابة ثلاثة أعوام ثم أُطلق سراحه في آخر الأمر دون توجيه اتهام.
يدرك النظام المصري شأنه شأن جميع الأنظمة القمعية في العالم العربي أن المساهمة في «الحرب على الإرهاب» التي تشنها الولايات المتحدة من شأنها أن تحد من انتقادات واشنطن لانتهاكات النظام لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تبرر فيه تبني الإجراءات القمعية ضد عامة الشعب. لذا، لما اتهمت منظمة حقوق إنسان معتمدة بالولايات المتحدة الحكومة المصرية في ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠٠٧ باستخدام التعذيب والاعترافات المزيفة في قضية مكافحة إرهاب شهيرة اتُهم فيها اثنان وعشرون عضوًا من جماعة إسلامية مغمورة — هي جماعة «الطائفة المنصورة» — بالتخطيط لهجمات على مواقع سياحية وخطوط غاز؛ لم يستدع هذا الكثير من الدهشة. ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن أبحاثها تفيد أن أجهزة الأمن لفقت اسم الجماعة، وأن ما زعمته كان بالدرجة الأولى يهدف إلى تبرير تمديد قانون الطوارئ، ومع أن النائب العام نفسه أسقط التهمة الموجهة إلى المشتبه بهم، يُعتقد أن عشرة منهم لا يزالون معتقلين.
•••
وسط ذلك تبرز نقطة مثيرة للاهتمام هي الاحترام العجيب ذو الطبيعة المنحرفة الذي يكنه ممارسو التعذيب للإجراءات القانونية. فالقانون المصري يعرف التعذيب تعريفًا محدودًا فقط في سياق إجبار المتهم على الاعتراف، من هنا لا يحظر إلا بعض الممارسات فقط من الممارسات المحظورة دوليًّا، بل إنه في الواقع لا يجرم التهديد بالقتل أو التعذيب البدني إلا بعد اعتقال غير قانوني يقوم به شخص يزعم أنه ضابط حكومي، علاوة على أن القانون لا يتناول بأي حال التعذيب لأسباب أخرى؛ لاستخراج المعلومات، والترهيب والعقاب والإذلال أو للحالات التي لا تحمل فيها الضحية أي تهمة. ويبدو بالفعل أن ممارسي التعذيب لدرايتهم بالقانون نادرًا ما يستخدمون العنف لاستخراج الاعترافات إلا مع مشتبهي نظام التسليم الاستثنائي، عندما يصبح تشجيع الولايات المتحدة بمنزلة رخصة إلهية، إلا أنهم يستخدمونه على نحو مفرط لحمل الضحايا على تجريم غيرهم أو الإدلاء بالمعلومات، كما فعلوا مع شقيق محمد الصغير، أو يلجئون إليه بلا أي سبب على الإطلاق.
وسائل التعذيب التي يستخدمها ضباط الأمن تتسم بالطبع بأنها مبتكرة كعهدها منذ الأزل. والاقتصاد العالمي بيئة مناسبة لها، يمكنها فيها أن تتزايد لتتيح لضباط الأمن الوسائل كافة التي يحتاجونها وأكثر. كتب كاتب الرأي الإسرائيلي المولع بالمعارضة سام فاكنين يقول: «تصنع وسائل التعذيب في الأغلب في الغرب، وتباع كثيرًا علنًا في الدول النامية إلى أنظمة الحكم البغيضة وعبر الإنترنت. ووسائل التعذيب التكنولوجية المتقدمة كثيرة منها: المسدسات الصاعقة بالكهرباء المسببة للتشنجات، والأغلال المؤلمة، ومصل الحقيقة، والمواد الكيميائية كرذاذ الفلفل. وتصاريح تصدير تلك المعدات بسيطة ومباحة على مستوى العالم، وهي تتجاهل تمامًا الخصائص التقنية لتلك المعدات (مثلًا: هل من الممكن أن تقتل أم أنها تستخدم للإيلام وحسب).» وقد كشفت مؤسسة أوميجا بإنجلترا ومنظمة العفو الدولية عن وجود ما يزيد عن مائة وخمسين شركة مُصنعة للمسدسات الكهربية الصاعقة في الولايات المتحدة، وهؤلاء المصنعون يواجهون منافسة شرسة من ألمانيا (التي يوجد بها ثلاثون شركة)، وتايوان (تسع عشرة شركة) وفرنسا (أربع عشرة شركة) وكوريا الجنوبية (ثلاث عشرة شركة) والصين (اثنتا عشرة شركة) وجنوب أفريقيا (تسع شركات) وإسرائيل (ثماني شركات) والمكسيك (ست شركات) وبولندا (أربع شركات) وروسيا (أربع شركات) والبرازيل (ثلاث شركات) وإسبانيا (ثلاث شركات) وجمهورية التشيك (شركتان). وقد ظهرت الدروع الأمريكية الصاعقة بالصدمات الكهربية عالية الفولطية في تركيا، ووصلت المسدسات الكهربية الصاعقة إندونيسيا، وظهرت العصي والدروع الصاعقة بالكهرباء ومسدسات الصعق بالنبال في المملكة العربية السعودية. وتسيطر أيضًا الشركات الأمريكية على صناعة الأحزمة الصاعقة، وتقتبس منظمة العفو الدولية عن دينيس كوفمان مدير شركة ستان تيك إنك الأمريكية قوله: «الكهرباء تتحدث جميع اللغات المعروفة لدى الإنسان، ولا تحتاج إلى ترجمة. الكل يخاف من الكهرباء، وهذا لسبب وجيه.» ويصر كوفمان على أن منتجات شركته ليست مصممة للتعذيب وإنما لاستخدامها في الإصابة بشلل مؤقت دون إلحاق أذى، وقد مَنَحَ الاتحاد الأوروبي وفقًا لمنظمة العفو الدولية جائزة الجودة لشركة تايوانية تصنع العصي الكهربية الصاعقة في وقت ما، لكن عندما وُوجه الاتحاد لم يستطع الاستناد إلى دليل على إجراء اختبارات أمان مستقلة لهذه العصي أو إلى دليل يثبت أن دول الاتحاد قد استشيرت حتى في هذا الصدد.
إلا أن أهم ما أدخله عصرنا الجديد إلى التعذيب — كما يتضح من سجن أبو غريب — هو التأكيد على أهمية استخدام الإذلال المتعمد، لا سيما الإذلال الجنسي مع الرجال (فلطالما استخدم الإذلال الجنسي مع النساء). نقلت منظمة العفو الدولية عن طالب في الثانية والعشرين من العمر قوله: «أسوأ ما حدث لي هو تجريدي من ثيابي، فهذا أثر بالسلب علي نفسيًّا.» فيما قال أبو عمر الذي تعرض للتعذيب: «تعرضت للاعتداء الجنسي والشرجي مرتين، وكان هذا أسوأ ما مررت به، فآثار التعذيب البدني تختفي في آخر الأمر ويذهب الألم، فيما تبقى التداعيات النفسية والمرارة وفضيحة التعرض للاعتداء الجنسي. تعرضت للاعتداء الجنسي مرتين، قيدت فيهما قدماي وعقدت يداي خلف ظهري وجلس شخص فوقي وبدأ يحاول اغتصابي، فصرخت عاليًا بقوة حتى إنه أغشي علي، ولا أعلم إن كان قد اغتصبني أم كان يحاول ترهيبي وتهديدي فقط.» فإن بدت لك الجملة الأخيرة توحي بالتراجع — لاحظ أن قائلها انتقل من قوله: «تعرضت للاعتداء الجنسي» إلى قول: «لا أعلم إن كان قد اغتصبني» — فإن هذا لا يؤكد إلا أن الإذلال الجنسي هو أقوى وسيلة لتحطيم الضحية عبر إلحاق العار بها، سواء أكانت من العرب أم من غيرهم. من هنا سلط احتجاج العالم العربي العنيف على صور التعذيب في سجن أبو غريب الضوء على الاعتداءات الجنسية إلى حد بلغ درجة الهوس، أو ركز بالأحرى على إجبار السجناء قهرًا على ممارسة الجنس. وتلك وسيلة شديدة الإيلام، ومن ثم شديدة الفعالية كأداة للتعذيب، لأن الشذوذ محرم في العالم العربي والعالم الإسلامي بوجه عام. إلا أنه ليس فقط متنفسًا طبيعيًّا في الثقافات التي تشدد بدرجات مختلفة على منع الاختلاط بين الذكور والإناث، بل إنه أيضًا عادة منتشرة في الشرق الأوسط، لكنه لا يُعترف به علانية في المعتاد بسبب هوس مضاد ومساوي في القوة بالذكورة والشرف الرجولي.
•••
سألت نفسي فيما كنت أقف في ميدان لاظوغلي المزدحم بالمرور بجنوب القاهرة، وأنا أتطلع إلى القوس الرخامي الأسود الذي يبدو رمزًا رائعًا لسطوة النظام الوحشية فوق مدخل المقر الرئيسي لوزارة الداخلية، أو المقر الرئيسي لقوات الأمن المصرية: ما الهدف من كل هذا التعذيب؟ أقصد: ما جدواه؟ فأبو عمر أُطلق سراحه مع كل هذا دون أن توجه إليه أي تهمة في آخر الأمر، شأنه شأن الكثيرين؛ تُرك وحسب في الشارع بعد أربعة أعوام تقريبًا من اليوم الذي يقال إن عملاء المخابرات المركزية الأمريكية زجوا به لأول مرة في شاحنتهم.
كان حاضرًا في ذهني مشهد آخر نشر على موقع يوتيوب وقتما زرت ميدان لاظوغلي في منتصف عام ٢٠٠٧، يظهر في صورة المشهد المزغبة المشوشة، التي التقطتها كاميرا هاتف محمول؛ شرطي قوي البنية في قسم شرطة، يرتدي زيه الأبيض الشبيه بزي مضيفي السفن، يضرب مجموعة من المدنيين الذين يبدو أنهم قد أُلقي القبض عليهم حديثًا. أول ضحيتين له لا يصل طولهما على أقصى تقدير إلى رأسه، ويرتديان غطاء رأس يميز أهل القرى، ويقفان بمواجهة حائط يرتعدان، ويحاولان حماية رأسيهما بيديهما ويتوسلان طلبًا للرحمة. لكن الشرطي ظل يأمرهما بأن يواجها الحائط ويعدل من وقفتهما مرارًا جاذبًا إياهما من مؤخرة عنقهما وضاربًا جبهتيهما بالحائط، دافعًا كليهما إلى النقطة التي يجب أن يقفا فيها وهو يصرخ فيهما. كان يتحرك بسرعة وخفة لكن بحركات حادة مفاجئة وغريبة، وكأنه طائر غابات عجيب في موسم تزاوج. ظلت يده اليمنى مرفوعة في زاوية قائمة وهو يدور حول ضحيتيه هابطًا بكف غليظة مرة بعد الأخرى على مؤخرتي عنقهما، وكأنه يوجه ضربة كاراتيه خاطفة غير بارعة. وهو يبدو غير مبالٍ، شاعرًا بالضجر أو مصابًا بوسواس قهري، وكأنه لا يدري ما الذي عساه أن يفعله بكل تلك السلطة التي عليه أن يمارسها. تتراجع الكاميرا في لحظة ما لتظهر عدة سجناء آخرين ينتظرون بالصف، يدفعهم شخص ما خارج إطار الصورة لينالوا النصيب نفسه من المعاملة، فيصدمهم الضابط بالحائط، ويضربهم ضربة خاطفة على مؤخرة أعناقهم بضع مرات، ولا يلبث أن يجلب عصا مطاطية لا تظهر ضرباتها العنيفة المتقطعة بالصورة، ويتبع صوتها صوت أنات ضحايا آخرين ندرك حينها أننا كنا نسمع أناتهم طيلة المشهد. يعيد هذا إلى الضابط شعوره بالإثارة لوقت قصير وهو يهبط بقوة بالعصا على فخذي السجينين الأولين، لكنه بعدئذ يشعر بالسأم ولا يهديه تفكيره إلى شيء آخر يمكنه فعله، من ثم يلتفت إلى الكاميرا بابتسامة عريضة على وجهه الوسيم ثم يبسط يديه وكأنه يقول: «وهكذا نتعامل مع أعداء الدولة»، وينتهي المشهد.
تقود دقيقتان وثلاث وثلاثون ثانية فقط هي مدة هذا المشهد إلى شعور المشاهد بالملل، حتى إنني راودتني رغبة في إنهاء عرضه. لم يكن هذا لأنني لم أستطع احتمال العنف الذي ينطوي عليه بقدر ما كان — مع الأسف — لتوقعي سلوكًا أكثر فضحًا من هذا العبث المتكرر الذي لا يجدي. ومن هنا أدركت أن مشاعري تلك قد تكون مفتاحًا لفهم كنه مشكلة التعذيب في مصر التي تتبدى على سبيل المثال في قضية الفتى الصغير محمد، الذي سببت لي مشاهدة التسجيل الخاص به كوابيس بعد أن قرأت أنه توفي. ظللت أتساءل لمَ لمْ يودعه الإخوان المسلمون أفضل مستشفياتهم حيث كانت ستسنح له على الأقل فرصة للنجاة؟ ولكي يصعق رجال الشرطة — مهما بلغت وحشيتهم — طفلًا في الثالثة عشرة من العمر ويصيبونه بحروق ويغتصبونه لسرقة عبوة شاي، فلا بد أنهم قد أصابهم الملل الشديد من الاعتداء الروتيني والعنف الذي يكيلونه لضحاياهم الناضجين الذين ارتكبوا مخالفات قانونية أكبر. وهذا يدل بلا شك على أن التعذيب مستوطن في مصر منذ زمن طويل، وسط ثقافة لا تعاقب عليه يدعمها قانون الطوارئ، وهو راسخ بقوة إلى حد أنه أصبح منفصلًا تمامًا عن غاية تنفيذ القانون، التي ربما كانت غايته الأصلية في وقت من الأوقات، ليصبح هو في حد ذاته غاية. وفي هذا المناخ الخطير، إلقاء اللوم على النظام ليس شائعًا، فالسبب الرئيسي للتعذيب في مصر بالطبع هو ترهيب عامة الشعب المقهورين أكثر. غير أن الدراسات التي تتناول القتل الجماعي على سبيل المثال تظهر مرة بعد أخرى أن الشرفاء تمامًا قد يتحولون إلى قتلة إن أتاح لهم النظام بيئة بلا عقاب وأنهم يصبحون أجرأ فأجرأ في القتل كلما طال تمكينهم من ذلك. وهذا بالضبط ما فعله النظام المصري في مسألة التعذيب.
بلغت ميزانية مصر للحفاظ على الأمن الداخلي في عام ٢٠٠٦ مليارًا ونصف المليار دولار، وهو مبلغ يفوق حجمه حجم ميزانيتها القومية للرعاية الصحية، ويقدر أن هناك نحو ١٫٤ مليون فرد أمن تقريبًا يشكلون طاقمًا يبلغ حجمه تقريبًا أربعة أضعاف حجم الجيش المصري. وقد أنفقت مصر — وفقًا لصفحة رأي كتبها سعد الدين إبراهيم في صحيفة واشنطن بوست بعنوان «القمع غير المحدود في مصر» — ١٫٥ مليار دولار على الأمن الداخلي في عام ٢٠٠٦ وهو مبلغ يفوق ما أنفقته على الرعاية الصحية. كتب سعد الدين إبراهيم أيضًا أن الجيش المصري لا يمثل حجمه إلا ربع حجم قوات الأمن الداخلي التي تضم ١٫٤ مليون فرد، وأن منظمة حقوق الإنسان المصرية كشفت أنه «في الوقت الذي تضاعف فيه تعداد سكان مصر في الأعوام الخمسة والعشرين الأولى من عهد نظام مبارك، تزايد عدد السجون ليصل إلى أكثر من أربعة أضعافه، ووصل عدد المحتجزين أكثر من عام بلا تهمة إلى أكثر من عشرين ألف سجين.» لقد أصبحت مصر، كما قال الثوري إبراهيم عيسى مدير تحرير جريدة الدستور المعارضة: «دولة بوليسية بامتياز.» وفي الفترة التي انخرطت فيها الصحافة المصرية في تحليل الأوضاع المصرية في أعقاب وفاة الصغير محمد، أشار آخرون إلى أن النظام المصري في جوهره معتل. قال أحمد حجازي من منظمة حقوق الإنسان العربية بالقاهرة لصحيفة الأهرام الأسبوعية إن المشكلة تبدأ من تدريب صغار الطلاب الملتحقين بجهاز الشرطة؛ وأردف: «يتسم جزء كبير من التدريب بأنه ذو طابع عسكري، ويكون التركيز على بناء القوة البدنية.» وأضاف أيضًا أن عمل الشرطة الحقيقي لا يُدرس تقريبًا، والأساليب التي تُدرس تكون في العادة عتيقة، من ثم لا يلبث ضباط الشرطة أن يتعلموا أن الضغط البدني على السجين قد يحقق نتائج أسرع من الاستجواب السليم، ويفطنون من مجموعة من القضايا واسعة الشهرة أنه من المستبعد أن تؤدي وفاة السجين في فترة اعتقاله إلى أي تداعيات. وبما أن قبضة مبارك على السلطة تضعف، فقد يبرر هذا إضافة أي أسباب ربما لم تكن موجودة من قبل لتبني إجراءات أكثر صرامة تجاه التهديدات التي يواجهها النظام، أو — وهو الأرجح — محاولة ترهيب الشعب المصري بنماذج لا تنفك تزداد وحشية. لكن كما هي الحال مع التقارير الصحفية التي تزعم أن عدد الوفيات من التدخين «يتزايد»، يصعب تبين ما إن كان تزايد وحشية الشرطة مرده ببساطة إلى نمو الوعي بوحشيتها أم اتساع تغطية نماذجها. يقع اللوم بالأساس على الرئيس عبد الناصر بقدر ما يقع عليه في كثير من السوء الذي أصاب مصر، بما أنه أسس مراكز تعذيب تعرف رسميًّا بالسجون تتسم بطابع شديد الوحشية إلى حد أن سجناءها الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف كانوا يشيرون إليها باسم «معسكرات الاعتقال».
•••
إن وقفنا على تحقيقات مذبحة بني مزار الشهيرة التي وقعت في ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠٠٥، فسنجد أن العمل الشرطي السليم قد اندثر تمامًا منذ زمن بعيد، فلا تزال مهزلة جمع وضرب العدد المعتاد من المشتبه بهم خيارًا متاحًا سهلًا. وفي قضية بني مزار التي احتلت الصفحات الأولى للجرائد شهورًا، ذُبح ذبحًا شعائريًّا أربعة رجال وامرأتان وأربعة أطفال في ٢٩ من ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠٠٥ في بلدة بني مزار التي تقع على بعد ٢٢٥ كيلومترًا جنوب القاهرة. ووفقًا لوصف صحيفة ديلي نيوز إيجيبت، عندما اكتشفت جثث الضحايا كانت قد أصبحت متيبسة. تشير بقع الدم الذي سال منها إلى أنها نزفت حتى الموت، وبها إصابات على الرءوس والرقاب، وكانت بطونها مبقورة. الذكور من الرجال والأطفال بترت أعضاؤهم التناسلية، أما النساء فشقت بطونهن وصولًا إلى أعلى المستقيم. بعض الضحايا كانت بأيديهم جروح من أثر الدفاع عن أنفسهم، لكن الشرطة ارتأت أن من تغلب على الضحايا العشر كان جارًا مختلًّا عقليًّا وحيدًا عملاق الجسم ذكاؤه أقل من المتوسط، يدعى محمد علي، يبدو أنه سبب إزعاجًا على سقف بيت تلك الأسرة ذات مرة، لكن لم يبد عليه أي علامة على الإطلاق تشير إلى أنه مريض نفسي. وكانت المرة الوحيدة التي اهتاج فيها تحت ملاحظة نفسية مستقلة هي عندما أُخبر بأن الشرطة ستسأله المزيد من الأسئلة. غير أن الأمور لم تسر حسب ما خططت النيابة هذه المرة؛ بل سلطت محاكمة محمد علي في يوليو/تموز عام ٢٠٠٦ الضوء على افتقار الشرطة تمامًا للكفاءة في تلفيقها التهمة لمحمد علي، على نحو بدا أقرب إلى نسخة للكبار فقط من سلسلة أفلام كيستون كوبز الكوميدية الساخرة منه إلى مؤامرة تستحق أن يطلق عليها هذا الاسم.
على سبيل المثال: بالرغم من أهمية القضية لم تستدع الشرطة خبير رفع بصمات إلى مسرح الجريمة، زاعمة في المحكمة أن الطوب اللبن بالمبنى الذي قتلت فيه الضحايا لم تكن لتظهر عليه أي بصمات بأي حال، ثم زعمت الشرطة أن محمد علي قادها إلى الموقع الذي خبأ فيه الأجزاء المبتورة من جثث ضحاياه الذي قصده قبل أن يذهب إلى بيته؛ ناسيًا أن يغسل الجلباب الذي ارتداه أثناء قتل الضحايا، والذي لم تظهر عليه الكثير من الدماء على حد قول الخبراء الذين استدعاهم الدفاع، وهو ما يتناقض مع ذبح دستة تقريبًا من الأشخاص. وكانت أعضاء الضحايا التناسلية في الموضع الذي ذكر محمد علي أنها ستكون فيه، وهو ما يشير إلى أنه دسها هناك متبعًا تعليمات الشرطة. وأضاف محاميو الدفاع أن الجريمة وفقًا لتقرير وكيل النيابة لم يُعد محمد تمثيلها — وهو الإجراء المعتاد — بل مثلها شخص آخر لأن محمد كان «متعبًا». كما طُلب أيضًا من محمد علي في المحكمة تجريب مقاس حذاء أُودع بين الأدلة وزُعم أنه عُثر عليه في منزله ورُبط بينه وبين الجريمة فيما بعد، فلما فعل ذلك لم يناسبه الحذاء. وبعد ثلاث محاولات لارتداء الحذاء، فُحص الحذاء الذي ارتداه بالمحكمة؛ فكان مقاس الحذاء الذي ارتداه خمسة وأربعين، غير أن مقاس الحذاء الذي عُرض دليلًا كان اثنين وأربعين. لكن في اليوم التالي، وعندما استُدعيَّ خبير، أصبح الحذاء بأعجوبة يناسب مقاس قدم محمد علي. غير أن القضية اشتملت على ثغرات أخرى من بينها التقارير الجنائية وشهادات الشهود المتناقضة، التي أبرزها فريق الدفاع عن محمد علي بقيادة عضو البرلمان عن إحدى دوائر محافظة المنوفية طلعت السادات، الذي لعب دورًا محوريًّا في إعادة النظر في القضية بواسطة أكاديميين مستقلين. ذكر السادات أن الشرطة» اهتمت فقط بسد الخانات بدلًا من إجراء تحقيق حقيقي». وكانت كل هذه الأدلة أكثر من أن يحتملها القضاء، وإن كان كالقضاء المصري، فبرأت المحكمة محمد علي من الاتهامات كافة.
بالطبع تعرض محمد علي (كما قيل) للتعذيب للإدلاء باعتراف مبكر، وكذلك عائلته. ذكر والد محمد علي أنه كان يسمع محمد يصرخ من ألم الصعقات الكهربية التي تلقاها أثناء الاستجواب. وذكرت سوزان فياض، وهي عالمة نفس بمركز نيشن — الذي لعب دورًا حاسمًا في نقض الأدلة المستخدمة في قضية محمد علي — في مقال صدر عام ٢٠٠٦ بعنوان «شكوك منطقية كثيرة» أن الشرطة بعد صدور الحكم «جمعت غيظًا ثلاثين فردًا من أسرة محمد علي، وجعلتهم يجلسون على الأرض ساعات في أحد أقسام الشرطة.» وكان هذا في ظاهره لحماية الأسرة من هجوم بعض الغوغاء بعد أن حرضت وزارة الداخلية أسر بني مزار ضد محمد علي. وأضافت سوزان فياض أن ذلك الإجراء كان عبارة عن «حماية بسيطة ممتزجة بعقاب طفيف». وفيما بعد احتجزت الأسرة تحت الإقامة الجبرية «لحمايتها» وصودرت الهواتف المحمولة المملوكة لأفرادها. وفي ذلك قالت سوزان، التي احتكت في عملها بالكثير من ضحايا العنف، إن هذه القضية توضح مدى روتينية ومنهجية التعذيب.
قد نميل إلى الاعتقاد أن براءة محمد علي تظهر أن النظام لم يفسد تمامًا؛ لكن العجيب أن هذا الاعتقاد لن يستهوينا كثيرًا، إذ إن طلعت السادات نفسه محامي الدفاع عن محمد علي قد حُكم عليه بالسجن عامًا في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٦ في قضية مختلفة، بتهمة ارتكاب أخطر الجرائم، ألا وهي «سب الجيش». ومن الصعب ألا نتصور أن حبسه كان بطريقة ما عقابًا على كشفه مدى إجرام ووحشية الشرطة، ناهيك عن افتقارها التام إلى أدنى قدر من المصداقية، من خلال مساعدة محمد علي لنيل البراءة.
•••
يأتي من الكويت النائية تفسير أعمق وأكثر إيلامًا لظاهرة تقبُل التعذيب، تفسير سوغه نبأ انتشر في أغسطس/آب عام ٢٠٠٧ عن تعذيب شرطة الهجرة الكويتية لاثنين من المصريين بعد وقت قصير من وفاة الفتى الصغير محمد. كتبت رانيا الجمل — وهي مصرية وكاتبة دائمة في صحيفة الكويت تايمز — ردًّا بقوة على تلك الأنباء قائلة: «التعذيب اليوم في الشرق الأوسط هو منهج حياة، إنه يستخدم في كل مكان، ففي بيوتنا يضرب الآباء أبناءهم، ويقتلونهم أحيانًا إن أساءوا السلوك أو أساءوا إلى اسم العائلة. وفي أماكن العمل تكثر القصص عن أرباب العمل الذين يسيئون إلى الخادمات والسائقين ويعذبونهم. ويدخل في بعض المدارس بالعالم العربي ضمن واجبات المعلم ضرب الطفل بمباركة والديه. ولا ننسى أقسام الشرطة والسجون حيث أصبحت الكرامة الإنسانية منذ زمن أمرًا منسيًّا، وحيث تعد حقوق الإنسان دعابة.» تقول رانيا الجمل إن رد فعل أغلب العالم العربي على تلك الأنباء لن يتجاوز — على أفضل تقدير — هز الكتفين بلا مبالاة أو التهكم بعبارة: «أهلًا بك في الشرق الأوسط.» ثم تستطرد رانيا قائلة: «نحن نتعلم من لحظة ميلادنا أن علينا أن نومئ بالإيجاب وأن نطيع ولا نناقش أو نخالف. نتعلم أن نتفق مع آبائنا وكبارنا ومعلمينا وحكومتنا ورؤسائنا في العمل؛ قل نعم فحسب لتحيا حياة سهلة، واتبع نهج الآخرين وما يقولونه وما يفعلونه؛ اتبع الآخرين فحسب إن كان هذا سينأى بك عن المشاكل. نحن نتعلم أن المخالفة تأتي بعواقب مؤسفة وأحيانًا عواقب كارثية، ولا نتعلم أبدًا أن نكون أبطالًا، نتعلم فقط أن نكون قطيعًا نتبع الراعي وكلابه.» إلا أن رانيا الجمل تضيق ذرعًا بمن يزعمون أن فضح هذا التعذيب والتحقيق فيه بالكويت يعني أنها تتمتع بديمقراطية أفضل من مصر، فتقول: «هل هذه هي أفضل استجابة؟ لا يهم إن كانت لدينا ديمقراطية حقيقية أم لا: علينا أن ندين الجريمة لا أن نجد ذريعة لها. علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية للوقوف ضد الخطأ، لا أن ننجرف وراء الآخرين طالما أنه لا يوجد من يراقب وطالما أن الجميع يفعل المثل. علينا أن نتوقف عن لعب دور القطيع لأننا إن لم نفعل فسنذبح يومًا ما.»
توضح رانيا الجمل في هذا التحليل القاسي نقطتين متصلتين شديدتي الأهمية: الاعتداء أصبح جزءًا لا يتجزأ من نسيج ثقافة الشرق الأوسط ولم يعد مقصورًا على أنظمته الهرمة المشوهة؛ وهذا جعل من يعيشون في ظل تلك الأنظمة مشاركين في الاعتداءات التي تمارسها؛ بل جعلهم في الواقع السبب في استمرارها فيها دون عقاب. على سبيل المثال: قارن من ناحية بين لا مبالاة مصر والشرق الأوسط بوجه عام بضحايا صدام حسين — أسوأ جزاري العالم العربي — الذين يقدرون بمئات الآلاف، وبين التعاطف الجارف العجيب الذي سرى فيهم يوم إعدامه من ناحية أخرى.
مع الأسف خلا التلاسن الهزلي الذي اندلع بين مصر والكويت حول تعذيب المصريَين من مثل هذه الأفكار. فوفقًا لما نشرته صحيفة الكويت تايمز في سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠٧ نقلًا عن إيمان جمعة: «هاجم الكُتاب المصريون بشراسة الكويت وكأنهم اكتشفوا فجأة أن «المواطن المصري له كرامة».» وذلك على حد قول الصحفي الكويتي فؤاد الهاشم في صحيفة الوطن، إشارة إلى ملف مصر البائس في هذا المجال. لكن الكاتب المصري نصرت صادق رد هجوم فؤاد الهاشم على الفور في صحيفة المصري اليوم المستقلة جاعلًا عنوان مقاله: «علمهم المصريون ليكون جزاؤهم التعذيب»، وهو لم يقصد أن المصريين قد علموا الكويتيين التعذيب، بل عنى فقط أن ٤٠٠٠٠٠ عامل مصري مغترب يعيشون بدولة الكويت الصغيرة قد «ساهموا في تحقيق نهضتها». بل تقدم أيضًا رئيس تحرير صحيفة الأسبوع وعضو البرلمان المصري مصطفى بكري باستجواب لوزير الخارجية أحمد أبو الغيط في البرلمان عن العمود الذي كتبه فؤاد الهاشم قائلًا إنه: «انتهك حرية الصحافة» ﺑ«إهانة مصر ومواطنيها». لكن في الشهر نفسه أغلق محافظ القاهرة جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان — وهي منظمة تعتني بضحايا التعذيب — بعد ظهور ادعاءات كاذبة تتهمها بارتكاب مخالفات مالية. والخلاصة باختصار هي أن رسل الإصلاح يهاجمون من اليمين ومن اليسار ومن كل اتجاه في الوقت الذي يضاعف فيه النظام مفاسده بعزم جنوني.