الفساد
لا بد أن نكن تقديرًا — من نوع معاكس — للحكومة المصرية وهي ترْقُب بانتباه شديد ما يجري حولها لكشف أي تهديد محتمل قد ينال من سمعة مصر والمصريين. كان هذا هو الحال عام ٢٠٠٧ عندما أعلنت مؤسسة تُدعى «العجائب السبع الجديدة» عن الجولة الأخيرة من التصويت الإلكتروني على قائمة ظلت تعلن عنها طوال خمسة أعوام كاملة على أنها «عجائب الدنيا السبع الجديدة». ما الذي أثار حفيظة الحكومة المصرية؟ وما الذي جعلها تستشيط غضبًا؟ الجواب هو أن أهرامات الجيزة لن تُدرَج تلقائيًّا كإحدى العجائب السبع الجديدة، وإنما مجرد واحدة من الترشيحات العديدة المطروحة للتصويت.
في أعقاب موجة الاحتجاجات التي تزعمتها وزارة الثقافة المصرية مدعومة بحملة تشنيع منَسَّقة (إن لم تكن مدَبَّرة كما هو الحال دائمًا) من جانب الصحف القومية، تراجع بيرنارد فيبر صاحب فكرة التصويت عن موقفه. أوضح فيبر في خطاب ذكرت صحيفة «الأهرام» أنه بعث به إلى وزير الثقافة فاروق حسني قائلًا: «بعد دراسة متأنية اختارت «مؤسسة العجائب السبع الجديدة» أهرامات الجيزة — العجيبة الأصلية الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا — عجيبةً شرفية ضمن عجائب الدنيا الجديدة. وفي بادرة تقدير فإن القرار — حسبما أضاف فيبر — قد وضع نصب عينيه وجهات نظر المجلس الأعلى للآثار ووزارة الثقافة المصرية اللذين أصرَّا على أن الأهرامات تستحق «مكانة خاصة» باعتبارها «موقعًا تراثيًّا وثقافيًّا عالميًّا مشتركًا».
تاه حسني عجبًا إزاء ما حدث من تغيير، ولم يتمالك نفسه من توجيه طعنة أخيرة إلى «مؤسسة العجائب السبع الجديدة»؛ فادَّعى أنها ما شنَّت حملتها إلا من أجل التربُّح من وراء المشاركين في التصويت الذين يرتادون موقعها الإلكتروني، وصرح قائلًا: «علينا أن نحمي تراثنا من الهواة والعابثين الذين لا ينفكون عن محاولة استغلاله.»
على الرغم مما انطوى عليه رد فعل وزارة الثقافة من حدة ومبالغة، فإن فهم الدافع وراءه ليس بالأمر العسير إذا تأملناه من منظور محدد؛ فالأهرامات تحتل مكانة فريدة بالفعل لكونها العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا، ولا شك أن السلطات المصرية قد رأت في احتمال الانتقاص من مكانتها تلك — وإن كان احتمالًا مستبعدًا — على أيدي مجموعة من الجهلاء المشاركين في تصويت إلكتروني إساءةً لها. لكن على صعيد آخر أكثر أهمية فقد فاحت من رد الفعل هذا رائحة الرياء. فلمَّا كان قطاع السياحة واحدًا من أهم مصادر الدخل للاقتصاد المصري، فإن الحكومة المصرية نفسها تُولي الأهرامات — إلى جانب المتحف المصري ونهر النيل — أهمية محورية ضمن سياسة التسويق السياحي على مستوى العالم؛ تلك السياسة المُوَجَّهة قطعًا لدعم خزانة الدولة. أضف إلى ذلك أنه في زمن يمكن للترويج فيه أن يكون ذا أثر فعال في تشكيل مفاهيم الأجانب عن دولة ما، فإن الحملات السياحية المتواصلة — المقرونة بوثائقيات تليفزيونية مموَّلة من الحكومة المصرية عن التاريخ الفرعوني — تلعب دورًا مستترًا في خداع العالم ليَنظر إلى مصر على أنها أرض الابتسامات، وحسن الضيافة، والبهجة، والآثار القديمة؛ لا على أنها دولة فوضوية غارقة عن آخرها في الاستبداد والقمع والفقر على شفا ثورة شعبية، وأنها ترزح تحت وطأة نظام قمعي كما هو الواقع. وبالمثل فإن محاولة الحفاظ على المظاهر الكاذبة لدعم الصورة الرمزية على حساب الواقع المعقد هي السبب وراء سلسلة المحاكمات الجنائية لمن يجرؤ من الصحفيين والإصلاحيين والنشطاء الحقوقيين المصريين على توجيه النقد لمبارك أو أسرته أو المؤسسة العسكرية، وكثيرًا ما يحدث ذلك بموجب القانون الذي يحظر ممارسة أي نشاط أو حتى الإدلاء بحديث يرى النظام أنه «أساء لصورة مصر في الخارج»، وهو ما ينطوي على غموض غاشم بغيض.
غير أن الرياء الواضح الذي شاب رد فعل وزير الثقافة يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. فأي شخص قام بزيارة إلى الأهرامات سيقرُّ بأن الفساد وانعدام الكفاءة بوجه عام قد أوقعا آخر عجائب الدنيا السبع في قبضة مجموعة من الهواة والعابثين يحاولون في استماتة استغلال تراث مصر. بادئ ذي بدء، لطالما اشتكى علماء المصريات من أن ما لحق بالأهرامات من أضرار أثناء الفترة القصيرة التي هي عمر السياحة الجماعية يفوق ما لحق بها من أضرار طوال الأربعة آلاف عام الماضية. ومع هذا يبدأ الهواة رحلة استغلالهم للسيَّاح الراغبين في رؤية ما تبقى من الأهرامات قبل نحو كيلومتر من وصولهم إليها؛ إذ ينقضُّ محترفو مطاردة السيَّاح على سيارات الأجرة في محاولة لإقناعهم بأخذ جولة معهم بعد إيهامهم أن مكتب بيع التذاكر الرسمي مغلق أو خداعهم بأي حيلة مشابهة. وتتزايد المضايقات مع اجتياز السيَّاح للبوابة الرئيسية حيث تتزايد أعداد المطارِدين الذين يتعقبونهم مثل أسراب الذباب حول النفايات. أما أفراد الأمن المنوط بهم حراسة المكان — والذين يتمثل عملهم رسميًّا في حماية السياح من مثل هذه المضايقات — فإنهم عادةً ما يغضون الطرف عما يحدث، ما لم تثرْ ثائرة أحد السياح أخيرًا، ويُحدث ضجة في المكان. حينها يصيح الشرطي فيمن يضايق السائح موبخًا إياه في فتور؛ ذلك أنهم اتفقوا معهم على أخذ نسبة من الأموال التي يجنونها من وراء السيَّاح الذين يرضخون لمطالبهم، ويوافقون في النهاية — بحنق شديد غالبًا — على أخذ جولة بالخيل أو التقاط صورة.
•••
قد يبدو ما سبق أمرًا تافهًا، غير أنه في عام ١٩٩٧ لعب هذا الفساد المستشري في قاعدة قطاع السياحة دورًا في السماح لجماعة من المقاتلين المدججين بالسلاح باجتياز عدة نقاط تفتيش تابعة للجيش والشرطة ومؤدية إلى معبد حتشبسوت بالقرب من الأقصر من دون جهد يُذكر. وهناك شرعوا في ذبح العشرات من السيَّاح والمصريين قبل فرارهم إلى الصحراء دون عائق يعترض طريقهم. قبل هذا الهجوم، كان الشغل الشاغل للعديد من الجنود وأفراد الشرطة المكلفين بحراسة المكان هو جمع الرِّشا من المواطنين الذين يعملون مع الأفواج السياحية، وتدخين السجائر، والاستغراق في النوم طوال ساعات الظهيرة الصيفية الحارة في مؤخرة شاحناتهم. وبعد الهجوم بدت الأولوية مجددًا لصورة الدولة، وليس سلامة ضحايا الهجوم العنيف. ولمَّا كانت الصورة أبلغ من ألف كلمة، فقد خصصت قوات الأمن — حسبما ذكر شهود عيان كثيرين آنذاك — جُلَّ جهودها للبحث عن كاميرات الفيديو وكاميرات التصوير مع أي شخص في المنطقة ومصادرتها خشية أن تتسرب صورة لأحداث المذبحة التي نفذها إرهابيون — أطلقوا النار على السيَّاح ثم قطَّعوهم إربًا — إلى وسائل الإعلام الغربية، ومن ثمَّ تُشوِّه صورة مصر البرَّاقة في الخارج إلى الأبد. كان هناك مئات من السيَّاح في الموقع وقت الهجوم، ومن المفترض أنهم جميعًا يحملون كاميرات تصوير، لكن لم تظهر صورة واحدة للمذبحة منذ وقوعها؛ ولو على شبكة الإنترنت.
غير أنه عندما يزور السيَّاح الأجانب — في أولى رحلات الكثيرين منهم إلى العالم العربي — المتحف المصري فإنهم يطئون عن غير قصد البؤرة المعتمة لنظام يجني فيه الهواة والعابثون أرباحًا طائلة من وراء الاستغلال الفج لتراث مصر الفريد. والمتحف الكائن بوسط القاهرة خير مثال على الخلل وسوء التنظيم المصري واسع النطاق، لأنه يفسح المجال أمام نهب تراث الدولة على نحو يكاد لا يتصوره عقل.
•••
يضم الطابق السفلي من المتحف المصري عددًا هائلًا من القاعات الفسيحة ذات الجدران العالية والممرات بحجم مقبرة كبيرة، ويحتوي على خمسة وستين ألف قطعة أثرية من بينها ألف تابوت بعضها داخل صناديق لم يُفتَح منذ سبعين عامًا. ويُعتقد أن معظم القطع الأثرية يرجع تاريخها إلى أكثر الأسر الحاكمة نفوذًا في مصر القديمة؛ وقد عُرِض بعضها من قبل، لكن اضطرت الحاجة إلى نقلها لإخلاء مكان في الطابق العلوي للتحف الأخرى؛ بينما لم يُعرض البعض الآخر أمام العامة قط. تقبع هذه القطع الأثرية أسفل أكوام من الغبار وقد تكدس بعضها فوق بعض، وتعرضت لتلف بالغ في معظم الأحيان بفعل العقود التي مرت عليها من الإهمال وسوء التهوية، فضلًا عن أنها أُغفِلت فعليًّا، وربما سقطت من الذاكرة تمامًا.
استمر الوضع هكذا إلى أن أنشأ المجلس الأعلى للآثار مخازن جديدة للآثار المكتشفة حديثًا في جميع محافظات مصر، وهو المكان الذي توضع فيه كل الآثار التي يُعثَر عليها أسفل الرمال. يتولى الإشراف على هذه الآثار الآن الدكتور زاهي حواس الحائز على جائزة «إيمي» وصاحب الحضور الدائم على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد بأنفه الضخم وقبعة إنديانا جونز التي تميزه. واعتمادًا على شهرته الكبيرة شنَّ حواس معركة شخصية جديرة بالثناء ضد الفساد داخل قطاع الآثار، فضلًا عن مطالبه التي شكَّلت مادة خصبة لوسائل الإعلام باستعادة الآثار المصرية الموجودة في متاحف بالخارج، وجرْد الآثار الموجودة في الداخل. ومع هذا عندما أعُلن عن فقدان نحو ثمانٍ وثلاثين قطعة أثرية من قبو المتحف نفسه عام ٢٠٠٤، أنكر المسئولون إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل. وذكر حواس نفسه أن عملية الجرد ستستغرق خمسة أشهر على الأقل، في حين سيستغرق ترميم الطابق الأرضي عامًا كاملًا، وتمنى ظهور القطع الثمانية والثلاثين بانقضاء تلك الفترة. غير أن المسئولين عن ترميم الطابق السفلي سرعان ما اكتشفوا أن ٧٠ بالمائة من القطع الأثرية المعرضة للتلف هناك لم يُسجَّل من قبل قط.
ليس أسهل إذن من اختفاء القطع الأثرية في ظل ظروف كهذه. وقد ذُكر أن عاملًا أُلقي القبض عليه متلبسًا بمحاولة بيع ثلاث قطع لا تقدر بثمن كان قد أخفاها في أكياس القمامة التي يحملها إلى خارج المبنى في إحدى عمليات التنظيف الثانوية. ألقى بعض المسئولين باللوم على قلة أعداد الحراس؛ إذ يكون الواحد فيهم مسئولًا عن حراسة ما يتراوح بين عشرة آلاف وأربعين ألف قطعة أثرية. ووفقًا لما ذكره حواس فإن المتحف المصري لم يخضع لعملية جرد منذ خمسين عامًا أو أكثر، بسبب خوف الجميع من المساءلة إذا ثبت وجود نقص في المخازن أو وجود قطع أثرية غير مسجلة. والواقع أنه حتى عام ١٩٨٣ كانت الآثار المصرية تباع رسميًّا في المزادات، وتُنقل علانية عبر المطارات؛ ومن المستبعد أن يكون هذا الأمر قد انتهى تمامًا بعد حظر الدولة تصدير الآثار بموجب قانون رسمي. وفي عام ١٩٩٤ تبنى واحد من أسلاف حواس في منصبه — وهو عبد الحليم نور الدين — مشروعًا طموحًا يهدف إلى جرد كافة المواقع والمخازن والمتاحف بموجب قرار وزاري، لكن المشروع توقف فور رحيله من منصبه. ذكر نور الدين أن جردًا أُجري على العديد من القطع الأثرية، وأنه وضع خطة لجرد المواقع والمتاحف الصغيرة مرة كل عام، وجرد المتاحف الكبرى مرة كل أربعة أعوام. ويعتقد حواس أن نسبة ١٠ إلى ١٥ بالمائة فقط من الآثار المصرية خضعت لعمليات جرد؛ بمعنى أن الجرد لم يشمل نحو ٨٥ بالمائة من هذه الآثار، وعليه يمكن اختفاء أي منها في أي وقت دون إمكانية تقفي أثرها.
•••
نأتي الآن على ذكر طارق محمد (المعروف باسم طارق السويسي). ثمة غموض هائل يكتنف صعود نجم السويسي من مجرد عامل بسيط في أحد البازارات في شارع الجمهورية بالقاهرة إلى شخص يمتلك ثروة تقدر بأكثر من ٥٠ مليون دولار أمريكي، وقصرًا على مساحة ثلاثين فدانًا بمنطقة أبو رواش بالهرم، ويشغل منصب أمين الحزب الوطني عن دائرة الهرم. لم تعثر السلطات داخل قصره على الآثار الفرعونية التي زيَّن القصر بها فحسب، وإنما على لوحات لا تقدر بثمن يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية (إضافة إلى مخبأ لأسلحة غير مرخصة). من المؤكد أن السويسي لم يكن يعمل بمفرده؛ إذ كان معه ما لا يقل عن واحد وثلاثين متهمًا في القضية التي رُفِعت ضده في النهاية من بينهم مفتشو آثار وضباط شرطة. وقطعًا لم تكن السلطات المصرية صاحبة الفضل في كشف النقاب عن عمليات التهريب، وإنما الشرطة السويسرية التي اشتبهت في شحنة وصلت أحد المطارات السويسرية دون أي بيانات أو تحديد لهوية المرسَل إليه على الطرد. كشفت التحقيقات السويسرية عن أن السويسي هرَّب ما جملته مائتان وثمانون قطعة أثرية نادرة عبر مصلحة الجمارك وقرية البضائع بالقاهرة بمساعدة إحدى شركات التصدير.
أين الحديث إذن عن تشويه سمعة مصر؛ فها هم الأجانب يلقون القبض على رجل أعمال شهير وعضو بارز في الحزب السياسي الحاكم أيضًا بتهمة تهريب الآثار والتراث القومي. لا يخفى على أحد أن حدثًا كهذا سُبَّة في جبين النظام، لكن توجيه التهم إلى رجل بارز كهذا لم يكن بالأمر الهيِّن. تحركت الجهات القانونية المصرية على قدم وساق؛ فتوجه وفد من نيابة أمن الدولة العليا والرقابة الإدارية والشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) ضم عددًا كبيرًا من خبراء الآثار إلى سويسرا للتحقيق في الواقعة. كشف الوفد عن أن المسروقات تضم قطعًا أثرية على درجة عالية من الأهمية التاريخية بما في ذلك محتويات مقبرة كاملة منها النصف العلوي لتمثال يجسد الإله «بتاح»، وبقايا رأس الإلهة «سخمت»، وتمثال نادر لإلهة الحب «أفروديت»، وتمثالان من الخشب الملون يمثلان الإله «حورس» على شكل صقر، ومومياوان سليمتان، وجميعها يرجع تاريخه إلى عصور قديمة مختلفة — مثل العصر الفرعوني والإغريقي والروماني — وأنها تخضع جميعًا لحماية القانون المصري التي لا جدوى لها. جرى التنقيب عن كل هذه الآثار خلسة في مواقع أثرية مهمة، وكانت جميعها بلا أرقام تسجيل لدى المجلس الأعلى للآثار، وتم التعامل مع العديد منها دون حذر. وعلى الرغم من أن بعض هذه الآثار— خصوصًا المومياوات — كان عرضة لخطر التحلل، فإن معظمها كان لا يزال بحالة جيدة؛ إذ جرى التنقيب عنها في مناطق صحراوية جافة، وكان من الممكن إنقاذها.
ووفقًا لتقرير مهم نشرته حركة «كفاية» عام ٢٠٠٥ حول الفساد في مصر فإن تقرير نيابة أمن الدولة العليا ضم نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة ورد فيها اعترافات المشتبه بهم في القضية، وتضمن — إلى جانب تهم التهريب — دعاوى غسيل أموال وحيازة مخدرات وأسلحة.
أصدرت المحكمة الجنائية بالقاهرة حكمها بحبس السويسي خمسة وثلاثين عامًا وغرامة ثلاثة أرباع مليون دولار بتهم السرقة، والتهريب، وإخفاء الآثار، والرشوة، واستخدام مستندات مزورة، وغسيل الأموال. وحُكِم على مدير علاقات عامة في الأقصر بالسجن خمسة عشر عامًا وغرامة ٩٠٠٠ دولار، وعلى محمد سيد حسن كبير مفتشي آثار الأقصر بالسجن عشرين عامًا وغرامة ٩٠٠٠ دولار. جدير بالذكر أن هذه الأحكام خُفِّفت في جلسات الاستئناف.
•••
لا يخلو مثل هذا الفساد من الطرافة في بعض الجوانب. فالقدرة المطلقة لبعض المتهمين على التفنن، والصفاقة، والادعاء أن ما يفعلونه لا يودي بحياة أحد، وإن كان ادعاءً قد يجانبه الصواب؛ كل ذلك يجعل الأمر يبدو وكأنه تجربة مثيرة يمكن لأي شخص أن يستمتع بها خلسة إذا ما أسعده الحظ وأتيحت له الفرصة لذلك. والواقع أن أي شخص قد ينتهز الفرصة في ظل الظروف المناسبة، إذا وضعنا في الاعتبار المشقة التي يتعرض لها عندما يأبى الجميع إلا اتباع القوانين الروتينية طوال الوقت. فالفساد يوفر طريقًا ملائمًا لتفادي الإجراءات الروتينية عندما يتعلق الأمر بتجاوزات بسيطة، وكثيرًا ما يكون طريقًا مختصرًا للهروب من اللوائح التي تخلو من المنطق والتي عفا عليها الزمن بكل تأكيد؛ ومن ثم قد يصبح من الصعب — حتى على من يحاولون التمسك بالأخلاق — الوقوف عند النقطة التي يتخذ فيها الفساد منحنى خطيرًا. إنه لمن المؤكد أنه يكاد يستحيل إنجاز عمل ما في العالم العربي دون تدخل الواسطة؛ فمفتاح السر هو معارف المرء وليس معرفته. وبدلًا من قضاء أسابيع في إنهاء مصلحة والتنقل من مكتب لآخر في ظل نظام بيروقراطي، لم لا تتصل بصهر أحد أقاربك في الوزارة لتسريع الإجراءات؟
بدأت أستسيغ طعم الواسطة وما تحققه من راحة تسبب الإدمان عليها عام ٢٠٠٦ عندما تعرفت مدة ستة أشهر قضيتها في القاهرة على شقيق لواء يتولى منصبًا مرموقًا في الجيش المصري أحاطني برعايته. وبدلًا من قضاء يوم أو أكثر داخل مجمع المصالح الحكومية بميدان التحرير لتجديد تأشيرتي، وإرسالي من نافذة إلى أخرى ومن طابق لآخر على يد مجموعة من الموظفين يفخرون بتعنتهم وفظاظتهم، كان شقيق صديقي اللواء يجري اتصالًا مسبقًا يقابلني على إثره عند باب الدخول عامل يصطحبني مباشرة إلى مكتب الموظف المسئول في ذلك اليوم. وهناك أجلس لأحتسي الشاي وأتناول البسكويت في الوقت الذي يعامَل فيه جواز سفري كما لو كان تابعًا لإحدى الشخصيات المهمة، ثم يعاد إلي بعد خمس عشرة دقيقة؛ ليس بتمديد ستة أشهر كما طلبتُ، وإنما بتأشيرة إقامة لمدة عام كامل وعلى الصفحة الأولى ختم دخول متعدد المرات. وفي طريقي إلى أحد الموالد في صعيد مصر، أصرَّ مجند في الجيش أمام إحدى نقاط التفتيش على أن أنتظر بضع ساعات حتى تستعد قوة عسكرية لاستقلال السيارة معي أنا والسائق مسافة الخمسة كيلومترات الباقية استنادًا إلى إجراء عجز عن تفسيره لي؛ غير أن اتصالًا هاتفيًّا سريعًا بشقيق اللواء جعله يهرع إلى رئيسه الذي جاء بشخصه على الفور، وألقى عليَّ التحية، وطلب مني إبلاغ صديقي اللواء بأطيب أمنياته، وودَّعني لأعاود التحرك على الفور برفقة واحد من حراسه المسلحين. والأكثر غرابة من هذا أنه عندما فقدْتُ حافظة نقودي داخل ميكروباص في الأقصر، واضطررت لتحرير محضر رسمي في قسم الشرطة من أجل أغراض التأمين، ولم أجد أي تعاون في شرطة السياحة، اتصلت بشقيق اللواء الذي لم يؤدِّ توبيخه للضابط المسئول إلى معاملته لي معاملة أفضل في الحال فحسب، وإنما أدى — بعد يوم واحد، ولفرط دهشتي — إلى استعادة حافظة نقودي التي تسلمتها شخصيًّا من رئيس شرطة السياحة الذي كان واضحًا أنه قطع الطريق إلى المكتب من أجل تلك المهمة فحسب. إن استجابة المسئولين على هذا النحو لا تكون نابعة من الخوف فحسب؛ فهم يعرفون أن تنفيذهم لهذه المطالب سيمَكِّنهم من انتزاع خدمة في وقت لاحق من اللواء الذي قدموا له المساعدة من قبل. ففي مصر، معارف المرء أهم بكثير من معرفته، وما تقدمه اليوم، حتمًا ستجده غدًا.
•••
لكن الأمر لا يحتاج إلا إلى خطوة أولى ليلقى الأفراد حتفهم — أو على الأقل يشتد عليهم المرض — بسبب الفساد، وهذا ما حدث عام ٢٠٠٦. كان الطفل فايز حمَّاد طالبًا في مدرسة «مكارم الأخلاق» الابتدائية عندما دخل مستشفى مرسى مطروح العام بعد تلقيه جرعة تطعيم إجبارية على يد مجموعة من الأشخاص كانوا يجوبون الشوارع في سيارة مجهولة الهوية، ويزعمون البحث عن الأطفال ممن تنطبق عليهم شروط التطعيم الذي كان جزءًا من حملة تحصينات (حسبما ورد في البلاغ الذي تقدم به والد الطفل.) وعلى الفور أعلن وكيل وزارة الصحة الدكتور عباس الشنواني أن الطفل وُضع تحت الملاحظة مدة أربع وعشرين ساعة، وأُجري له غسيل معدة فوري، وأُخذت عينات من دمه وقيئه لإرسالها للتحليل في المعامل المركزية في الوزارة كإجراء احترازي. وأصرت الوزارة على عدم وجود برنامج للتطعيم الإجباري في أي مكان في تلك الفترة، وأن أي شائعات تروج لذلك عارية تمامًا عن الصحة، وتهدف إلى نشر الذعر بين المواطنين. واعترضت صحيفة «الوفد» مستشهدة بروايات كثيرين ممن أكدوا وجود حملة تطعيمات إجبارية في تلك الفترة، وليس في مرسى مطروح فحسب، وإنما في القاهرة أيضًا. وأكد المواطنون أن أشخاصًا يمرون على المنازل ويعطون الأطفال جرعات الطعم التي يصابون على إثرها بارتفاع في درجة الحرارة وقيء وإسهال، وبعض الحالات تستدعي الانتقال إلى المستشفى. أيضًا أشارت صحيفة «العربي الناصري» إلى أن الأمصال الفاسدة هي السبب فيما حدث.
ووفقًا لتقرير «كفاية» فإن الجهاز المركزي للمحاسبات قد كشف عن استيراد إحدى شركات اللقاح أمصالًا منتهية الصلاحية بقيمة نحو ٤ ملايين دولار، في حين عُثر على ٣٧٠٠٠٠ زجاجة لقاح تقدر قيمتها بنحو ٥٠٠٠٠٠ دولار داخل مخازن الشركة بلا تاريخ إنتاج أو انتهاء صلاحية. كشف التقرير أيضًا عن تخزين مشتقات الدم والبلازما مدة ثلاث سنوات على الرغم من أن فترة حفظها لا تتعدى عامًا واحدًا، وعن استيرادها من المملكة المتحدة على الرغم من أن مصر تحظر هذا النوع من الواردات منها. إذا كانت تلك الروايات صحيحة فإنها بالقطع اتهامات خطيرة ذات تداعيات أشد خطورة.
لم تسفر هذه الفضيحة عن نتيجة ملموسة سوى أن حاتم الجبلي وزير الصحة والسكان وعد بمشروع للتخزين الجيد للأدوية تشارك في إعداده نقابة الصيادلة للقضاء على عشوائية التوزيع على الصيدليات وحماية المواطنين من الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية والمُهرَّبة.
•••
كرَّس صحفيو الصحف المعارضة والمستقلة المصرية بعض جهودهم الجهيدة في السنوات الأخيرة لكشف النقاب عن قضايا الفساد، ومن بينها ذلك الفساد المتغلغل في الصحف القومية الرئيسية، حيث جرت العادة على أن سياسات التعيين لا تهتم بالكفاءة قدر اهتمامها بالواسطة؛ فيقال إن الواسطة رفيعة المستوى توفر لك وظيفة في «الأهرام» وهي الصحيفة اليومية الرئيسية، وأن الواسطة المقبولة توفر لك وظيفة في «الأخبار»، بينما الواسطة المتواضعة ستجبرك على القبول بصحيفة «الجمهورية» الأدنى مرتبة. تسهم ثقافة المحاباة هذه في تفسير حالة التردي التي آلت إليها الصحف القومية، فضلًا عن أن تغاضيها عن كشف الفساد يفسر قدرًا كبيرًا من تنامي وسائل الإعلام المعارضة. لكن عام ٢٠٠٥ أُرغمَت وسائل الإعلام الحكومية على كشف فضائحها المستورة. بدأ مكتب النائب العام ونيابة الأموال العامة التحقيق في وقائع الفساد المتعلقة بمدينة الإنتاج الإعلامي، وبدأت لجنة مكافحة الفساد التابعة للبرلمان تحقيقها في دعاوى فساد داخل المؤسسات الصحفية الثلاثة الكبرى المملوكة للدولة. افتُضح أمر تلك الدعاوى في صحف المعارضة في أعقاب حركة تنقلات أقرتها الحكومة وأحالت بها رؤساء التحرير الذين قضوا سنوات طويلة في عملهم إلى التقاعد. حامت بعض الشبهات حول توقيت تلك الدعاوى، وربما لم تكن كل هذه الدعاوى سوى ذريعة سياسية. هل كان النظام نفسه وراء تسريب وقائع الفساد في محاولة للقضاء على مصداقية رؤساء التحرير الذين كانوا خاضعين للرقابة وهم في مواقعهم، لكن باتوا الآن يشكلون تهديدًا محتملًا بعد تركهم تلك المواقع؟
إنها صورة من صور التلاعب بالموقف حتى يتركوا انطباعًا دائمًا بتوفير حرية الرأي والتعبير. وهكذا فإنهم متى اتخذوا أي إجراء ضد رؤساء تحرير الصحف المعارضة تذرعوا بأنهم ما يفعلون ذلك إلا لأنهم تجاوزوا الحد المسموح به بموجب القانون. ولا شك أنه بمقدور الحكومة التلاعب بمنظومة العدالة بصورة ما، وتمديد المحاكمة سنوات وسنوات. لكن ما دمتُ لا أتخذ موقف عداء صريح ضد الحكومة، وما دمتُ لا أنتمي إلى الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي أو أي فصيل آخر يتبنى أجندة راديكالية فإنهم يسمحون لي بتوجيه نقد معقول، كأن أطالب بمزيد من التقدم على الطريق نحو الديمقراطية مثلًا. هذا أمر يزعمون أنهم يؤيدونه على أي حال؛ لذلك فإني أستخدم التعبير نفسه الذي يستخدمونه لأوضح أن أفعالهم تناقض ادعاءاتهم. وأظن أن هذه السياسة تتيح لي قدرًا كبيرًا من المناورة.
كيف يكون حال الكتابة في جريدة رئيس تحريرها مُعيَّن من قبل الرئيس، وغالبًا ما ينتهي به الحال إلى الاستماتة في الدفاع عن النظام بأكثر مما قد يفعل النظام نفسه؟
رؤساء التحرير شديدو الحذر، إلى حد الجبن، حتى إنهم لا يستفيدون من هامش الحرية المتاح لهم. وأيًّا كان ما يكتبونه فإنه لا يلقى تصديقًا من أحد. وغالبًا ما تتسم كتاباتهم بالضعف الشديد على أي حال؛ فهم يعيشون في خوف دائم من فقدان المنصب، وما سيترتب عليه من ضياع كافة المزايا المصاحبة له؛ ومنها على سبيل المثال المزايا المالية، والوجاهة الاجتماعية، وتلقي دعوات من الرئيس للسفر معه على طائرته الخاصة، وحضور اجتماعات مع قادة الدول الأجنبية (على الرغم من أنهم لا يطرحون سؤالًا لائقًا على الإطلاق في المؤتمرات الصحفية التي تُعقد على هامش تلك الاجتماعات لأنهم أصحاب قدرات متواضعة).
على سبيل المثال، ثمة العديد من الإعلانات عن وحدات سكنية فاخرة في صحيفة «الأهرام». وقد كتبتُ عمودًا عن أن قطاع البناء بأكمله حكر على الأثرياء. فهم يبنون فيلات وعمارات سكنية فاخرة في كل مكان في البلد من أجل أصحاب الملايين فقط. ذكرتُ أن هذا يدمر نسيج مجتمعنا؛ فمن أين لشاب في مقتبل العمر بشقة يتزوج فيها؟ من أين له بنصف مليون جنيه؟ في اليوم التالي عرَّفني أحدهم على شخصية مؤثرة في الحزب الوطني الديمقراطي ومليونير أو ملياردير أو أيًّا كانت صفته، حاول أن يقنعني بأن ما كتبتُ يفتقر إلى الصحة متعللًا بأنه في الوقت الذي يبنون فيه مساكن للأثرياء فإنهم يبنون مساكن أيضًا لشرائح أخرى في المجتمع. أخبرته أني لن أغير كلامي لأنه كان مؤيَّدًا بالحقائق والأرقام التي توضح أن أصغر شقة تُبنى هذه الأيام تصل تكلفتها إلى نحو ربع مليون جنيه، وهذا ينطبق على المباني التي تُبنى خارج المدن وسط الصحراء. وهكذا تحديدًا يتضخم الفساد. ألمح الرجل إلى أن بوسعه تسهيل حصولي على إحدى الشقق إذا وافقت على كتابة مقال أتراجع فيه عما ذكرت آنفًا، لكن حينها كنت سأضطر إلى أن أصمت بعدها إلى الأبد.
بالتأكيد! هذا ما يحدث هنا في «الأهرام» طوال الوقت. من الصعوبة بمكان أن تحافظ على نظافة يدك. هناك من الصحفيين في هذا المبنى من قام بذلك، وتلك معلومات مؤكدة. هؤلاء الصحفيون حصلوا على شقق، لكنها لم تُمنح لهم في صورة هدايا بالطبع. فالصحفي «يشتري» الشقة التي تساوي نصف مليون مقابل مائة ألف فقط، ثم يبيعها بسعر السوق، ويحقق من ورائها ربحًا طائلًا. إذا كانت شركات المقاولات تنتهج هذا الأسلوب مع الوزراء، فلم لا تنتهجه مع الصحفيين؟ بِيع أحد المجمعات السكنية المصممة على الطراز الغربي لوزراء فقط وبأسعار بخسة. تذكر أن الصحفيين يحصلون على رواتب متدنية، ومن ثم يضطرون إلى البحث عن وسيلة لزيادة دخلهم.
هذا صحيح بالقطع، لكن هناك أثر إيجابي لذلك؛ فهذا الوضع أتاح فرصة كبيرة أمام صحف المعارضة التي تتميز في هذا الجانب عن طريق سد الفجوة في تغطية قضايا الفساد. لكن لهذا السبب لا تحصل صحف المعارضة على إيرادات إعلانية، ولا يستطيعون أخذ تصريحات من مسئولي الحكومة. وهذا بدوره يخلق حلقة مفرغة أخرى؛ فنظرًا لأن مسئولي الحكومة يتملصون من صحفيي المعارضة الذين يسلطون الضوء على قضايا الفساد، ويتعاملون معهم بوصفهم أشخاصًا مشاكسين، نجدهم غير قادرين على الحصول على تصريحات من هؤلاء المسئولين، ولذا لا يجدون بُدًّا من استخدام المعلومات التي تتاح لهم أيًّا كان مصدرها. وعندما ترى مقالاتهم النور، يغير مسئولو الحكومة مواقفهم قائلين إن هذه المعلومات مغلوطة ويقاضون كاتبيها.
•••
احتلت مصر المرتبة السادسة والثلاثين من بين مائة وسبعة وسبعين دولة في قائمة الدول الفاشلة وفقًا لما نشره «صندوق السلام» — وهو مؤسسة حقوقية مستقلة تهتم بالتعليم والبحث وتتخذ من واشنطن مقرًّا لها — في يوليو/تموز ٢٠٠٧. وفشل الدولة إما يعني أن الحكومة فقدت السيطرة المادية على أراضي الدولة — كما هو الحال في الصومال وأفغانستان — أو أنها فقدت السلطة في تنفيذ القرارات، وتوفير الخدمات للمواطنين، والعمل ككيان متماسك يكون الممثل الوحيد للشعب على الساحة الدولية. يعتمد «صندوق السلام» على اثني عشر مؤشرًا لقياس فشل الدولة، وقد حصلت مصر على تسع درجات كاملة من إجمالي عشرة في معيار تجريم الدولة وافتقادها للشرعية، وهو ما يمكن فهمه على أنه «استشراء هائل ومتوطن للفساد، أو تربح النخب الحاكمة ومناهضتها للشفافية والمساءلة والتمثيل السياسي، والفقدان الهائل لثقة الشارع في مؤسسات الدولة وآلياتها، وانتشار العصابات الإجرامية ذات الصلة بالنخب الحاكمة.» وحصلت أيضًا على ٨٫٥ من عشرة في «تعليق العمل بالقوانين أو التطبيق التعسفي لها، وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع.» في حين حصلت على ٨٫٣ في «ظهور النخب المنقسمة على نفسها» أو «تشرذم النخب ومؤسسات الدولة» واستخدام «الشعارات السياسية القومية من قبل النخب الحاكمة.»
ورد في التقرير الصادر عن «صندوق السلام» عن مصر أن «الفساد في مصر مستشرٍ بدءًا من سائقي سيارات الأجرة الذين يحاولون زيادة الأجرة دون وجه حق، ووصولًا إلى توجيه أصابع الاتهام للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بتزوير الانتخابات عام ٢٠٠٥؛ تلك التي فاز فيها حسني مبارك — الحاكم للبلاد منذ عام ١٩٨١ — بفترة رئاسية رابعة عندما أعاد ترشيح نفسه عن طريق مجلس الشعب، ثم فاز في استفتاء شعبي دون أي معارضة تذكر.» ذكر مجدي الجلاد — رئيس تحرير الصحيفة اليومية المستقلة «المصري اليوم» — في ندوة بعنوان «نحو مزيد من الشفافية في الأسواق المحلية» عُقدت بالتزامن مع نشر التقرير أن: «هناك حالة فساد يتم تسجيلها كل دقيقتين في مصر، وعشرة بالمائة فقط من هذه التجاوزات يتم ضبطها.» وذكر صلاح دياب — مالك الصحيفة — أمام الندوة نفسها أن: «هناك فارق بين نوع من الفساد يلحق ضررًا طفيفًا بالمجتمع مثل دفع خمسة جنيهات لرجل شرطة لتلافي تحرير مخالفة مرورية، والفساد الضارّ الذي يؤدي إلى ضياع الفرص.» لكن في مصر، ليس هناك تمييز بين النوعين. وأضاف أمين هويدي، الصحفي المصري المعارض في صحيفة «الأهرام ويكلي»: «الفساد هو نتاج آلية فاسدة، وغض الطرف عنه أشبه بمحاولة علاج مرض من دون علاج أسبابه الرئيسية. الدولة القوية تحمي أمن مواطنيها، وليس أمن حكامها فقط. وتصد التهديدات الداخلية والخارجية بنفس الدرجة من الكفاءة في الوقت الذي تستحث فيه الحاكم والمحكوم على احترام قوانينها وثرواتها وممتلكاتها.» تلك الدولة — حسبما ذكر هويدي — تكافح الفساد والمفسدين. وهي بذلك «تزيح عن طريقها عقبات التقدم خصوصًا وأن الفساد يقف عائقًا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» ويستشهد هويدي بالقانون رقم ١٧٥ لسنة ٢٠٠٥. «ينص هذا القانون على أنه لا يجوز تعيين عضو مجلس الشعب في وظائف الحكومة أو القطاع العام أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته. وتشدد المادة ١٥٨ من الدستور على أنه «لا يجوز للوزير أن يشتري أو يستأجر شيئًا من أموال الدولة.» تلك هي الضمانات التي تحول دون استغلال السلطة، ولكن هل تطبَّق تلك الضمانات؟»
كان انعدام تطبيق هذه الضمانات الركيزة الأساسية التي استند عليها تقرير شامل أصدرته حركة الإصلاح «كفاية» عام ٢٠٠٦ وحث العديد من المنظمات الأخرى على تسليط الضوء على الفساد. وإذا كان التقرير الوارد في مائتي صفحة — الذي استُقيَت منه الأمثلة سالفة الذكر حول القطع الأثرية المسروقة وفضائح الأدوية — عبارة عن مزيج غير مترابط من الأفكار والتوثيقات غير المنظمة وفي بعض الأحيان استدلالات متناقضة ورثاء منظوم بأبيات شعرية — كما أوضح خبير شئون الشرق الأوسط باري روبين — فجزء من السبب في ذلك أن «كفاية» منظمة صغيرة متنوعة من مفكري القاهرة تعمل بميزانية ضئيلة وتتعرض للكثير من المضايقات المستمرة، والجزء الأكبر أن الفساد في مصر مهول ومتشعب، وأخيرًا، يتعذر إدراكه.
يغطي التقرير وقائع الفساد في قطاعات المال والتجارة والثقافة والإعلام. ويشير إلى عملية توزيع المبيدات المسرطنة على يد وزارة الزراعة في الفترة ما بين ١٩٨١ و٢٠٠٣؛ ويكشف عن قائمة بأسماء رجال الأعمال ونواب مجلس الشعب الهاربين الذين يقال إنهم متورطون في الاستيلاء على قروض بمليارات الدولارات دون ضمانات؛ ويحلل صفقة بيع البنك المصري الأمريكي التي حامت حولها شبهات الفساد؛ ويشير إلى ما وصفه بالتلاعب السافر في معدلات التضخم ونسب البطالة على مدار خمسة وعشرين عامًا من سوء الإدارة في قطاع الاقتصاد؛ ويلقي الضوء على تفشي الإهمال وانعدام كفاءة الأطباء الذين يحصلون على رواتب متدنية في القطاع الصحي العام؛ ويتحول إلى الحديث عن التعذيب وظاهرة أطفال الشوارع الذين يقدر عددهم بمليون طفل في القاهرة وحدها. لقد أصبح الفساد مرضًا عضالًا تفشي في الجسد المصري بأكمله شأنه في ذلك شأن التعذيب واستغلال السلطة اللذين يرتبطان بالفساد ارتباطًا وثيقًا. ولا تلوح في الأفق نهاية لهذا الفساد، فهو يبدأ من الشرطي الذي يتقاضى خمسة جنيهات للتغاضي عن مخالفة مرورية، ويصل إلى أعلى المستويات لتزداد فداحته كل مرة، إلى أن ينتهي على نحو قابل للجدل عند مبارك نفسه، وهو رأس الفساد في الدولة، نظرًا لكونه فوق المساءلة؛ وأقول «على نحو قابل للجدل» هنا كيلا يقول المتشككون إن أرباب نعمته في الولايات المتحدة هم أكثر فسادًا لأنهم يمولون نظامه في الوقت الذي يتشدقون فيه بالحديث عن دعم الديمقراطية في المناطق التي لا تبدي قياداتها الحالية تعاونًا كبيرًا في تحقيق أجندة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. ما يظهر من تقرير «كفاية» ويتضح وضوح الشمس لكل من يقضي فترة من الوقت في مصر هو أن داء الفساد قد تفشى بين قطاعات عدة من الشعب، وبين أصحاب المناصب الرسمية بلا شك؛ أولئك الذين يكون فسادهم على قدر ما يتيحه لهم المنصب والذين لن يتورعوا عن ممارسة المزيد من الفساد حال تمتعهم بمزيد من النفوذ.
•••
وفي الوقت الذي احتج فيه البعض بأن مصر ما حققت إصلاحات سريعة على مدار العام الماضي إلا لأنها بدأت من أقصى درجات التشدد في وضع اللوائح المنظمة — لأنه، بعبارة أخرى، الانتقال من صفر إلى ١ هو في الواقع قفزة هائلة يستحيل مقارنتها بمجرد تحسن من مستوى متوسط إلى جيد — فإن مايكل كلين نائب رئيس مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي لشئون شبكة تنمية القطاع المالي والخاص أكد أن: «المستثمرين يبحثون عن فرص استثمار مربحة ويجدونها في البلدان القائمة بتنفيذ الإصلاحات بصرف النظر عن نقطة بدايتها.» وليس بعد هذا ما يقال للرد على الرأي القاصر الذي أورده هويدي عندما قال إن «الفساد سيقف عائقًا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» وبالطبع يصعب انتقاد البنك الدولي لتنبيهه أغلبية حملة الأسهم في الغرب لوجود فرصة مواتية. وأضاف كلين أن «العوائد على أسهم الملكية أعلى في البلدان التي تجري الإصلاحات بأقصى سرعة»؛ خصوصًا في ظل الأرباح الزائفة الهائلة التي حققها المضاربون على الأسهم في الأيام التي أعقبت نشر التقرير.
ومع كل هذا، يظل صعبًا على البعض فهم السبب وراء منح مصر تلك المرتبة العالية واللافتة للانتباه (متقدمة بها على كل من الصين وبلغاريا) لأن أي شخص — عدا راغبي الاستيلاء على الشركات الذين يعتمدون على مبدأ إصابة الهدف ثم الفرار بسرعة — سيقع في مأزق كبير إذا سار وفق هذا التصنيف. أوضحت دراسة أكثر واقعية نشرتها مجلة «نيوزويك» — التي نادرًا ما تتَّهم بالتحامل الشديد على الاقتصاد الموجه — قبل عامين: «حتى بمعايير الشرق الأوسط، لم تكن مصر قط مكانًا سهلًا لإدارة مشروع تجاري. وأصيب الاقتصاد المصري المتمركز داخليًّا بحالة من الركود طوال الأعوام السبعة الماضية. فمعدلات التضخم مرتفعة، والتعريفات الجمركية والبطالة هي الأعلى بين دول العالم، والإجراءات البيروقراطية لا حد لها.» وعلى الرغم من أن المجلة علقت آمالها على نحو سخيف على جمال مبارك، فقد طرحت رؤية أكثر واقعية للوضع الاستثماري قائلة إن نتيجة الإصلاحات الجارية حينئذٍ كانت على أحسن تقدير «غرس أمل جديد حول مستقبل مصر وتأثيرها على المنطقة.» وأضافت تحذيرًا مهمًّا للغاية: «لا شك أن الإفراط في التفاؤل أمر وارد عند الحديث عن الإصلاح في مصر. لكن ماضي الدولة حافل بالوعود الزائفة وخلف الوعود منذ سبعينيات القرن العشرين.» وأشارت «نيوزويك» إلى أن وزير الاستثمار محمود محيي الدين أعلن عن برنامج خصخصة طموح من أجل العام المقبل يشمل على الأقل بنكًا حكوميًّا وربما الشركة المصرية للاتصالات. لكنها أضافت: «حتى إن استطاع الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعه، فثمة شك يراود الخبراء بشأن إجراء تغيير اقتصادي دون التطرق إلى مزيد من الإصلاح السياسي.»
غير أنه بعد مرور عامين، وفي الفقرة الإجبارية التي ترد في التقرير تحت عنوان «بحاجة إلى الإصلاح»، لم يجد البنك الدولي بدًا من أن يأسف على أنه في الوقت الذي يسهل فيه نسبيًّا توظيف العمال، يظل فصلهم صعبًا إلى حد ما في ضوء المعايير الإقليمية والدولية؛ «على نحو يقضي على أي حافز لخلق فرص العمل.» «أي حافز»: لا توجد كلية إدارة أعمال في العالم — مهما كانت متشددة — تعتبر نشوة انتزاع فرص العمل مرة أخرى الحافز الوحيد لتوفير تلك الفرص في المقام الأول. أبدى تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام ٢٠٠٨ أسفه أيضًا على أن الشركات متوسطة الحجم تستغرق ٧١١ ساعة في إجراءات تسديد الضرائب سنويًّا مقارنة بمتوسط ٢٣٦٫٨ ساعة و١٨٣٫٣ ساعة في المنطقة وفي الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على التوالي. وحتى في مسألة نزع الأصول، تتخلف مصر إلى حد كبير فيما يتعلق بسهولة وتكلفة تصفية أي نشاط تجاري بواقع ٤٫٢ أعوام في المتوسط في مقابل ٣٫٧ أعوام في المنطقة و١٫٣ عامًا في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. أما متوسط التكلفة فهو مرتفع في مصر بواقع ٢٠٫٠ بالمائة من إجمالي الدخل القومي لكل فرد في مقابل ١٣٫٩ بالمائة في المنطقة و٧٫٥ بالمائة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ لكن مع الأخذ في الاعتبار أن نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي ضئيل جدًّا مقارنة بهذه البلدان. لكن ما يزيد الأمر سوءًا أن معدلات الاسترداد على المشروعات المغلقة كانت منخفضة للغاية بواقع ١٦٫٦ سنتًا على الدولار في مقابل ٢٥٫٨ سنتًا و٧٤٫١ سنتًا في الجهات موضع المقارنة.
ثمة عدد من التفسيرات المحتملة لمضمون ولهجة التقرير الذي أعده البنك الدولي؛ أولها — وهو بلا شك تفسير سيكون التفكير فيه جديًا نوعًا من جنون الشك — أن رئيس البنك الدولي السابق أو أولئك الذين يدين لهم بالولاء رأوا في نشر هذا التقرير فرصة لمكافأة مصر على مساعدتها في «الحرب على الإرهاب» في وقت كان لا يزال يشغل فيه منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي. والتفسير الثاني أن البنك الدولي — الذي هو أبعد ما يكون عن كونه منبرًا للنزاهة المالية الدولية — هو في حقيقة الأمر طائفة إضافية من متطرفي السوق الحرة الذين يؤمنون بأن الشفافية والمساءلة ذواتي أهمية ثانوية في العمل التجاري الناجح؛ شيء أشبه بطائفة دينية متطرفة في عالم التمويل الدولي بكل ما تنطوي عليه من تناقضات وحماقة ظاهرة في التقرير. وأيًّا كانت حقيقة الأمر فإن تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام ٢٠٠٨ يطرح مثالًا نموذجيًّا لقدرة نظام مبارك على أن يستمر باستخفاف في إساءة استعمال أي مبدأ اتفق عليه المجتمع الدولي. قطعًا تبدو الإصلاحات جيدة من الناحية النظرية حتى إنها قد تخدع أصحاب النظرة السطحية. إن مشكلة الفساد أنه حالما توطَّن لا يلتفت أحد ولو بمثقال ذرة لما تقوله القوانين، والتكالب على تفادي البيروقراطية يزيد الفرص المتاحة أمام اللصوص الذين يحكمون البلاد لسرقة القليل الذي تبقى منها.
•••
«لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل؛ تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة الروحَ منا. الواقع مرعب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت. لا يستطيع أن يتخلى عن مسئوليته. لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدي؛ لن أطالبكم بشيء فأنتم أدرى مني بما يجب عمله. كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك — في نظري — مصداقية منحها.»