الفصل الثامن عشر
تخرَّج راشد في الجامعة الأمريكية حاصلًا على شهادة في الاقتصاد، وفي اليوم التالي لتخرُّجه اصطحبه أبوه إلى مقر شركاته، وأدخله إلى غرفة فاخرة الأثاث.
– حجرتك.
وفي انبهار بفخامة الأثاث قال راشد: توقعت هذا.
– ألا تشكرني.
– كشأنك دائمًا يا أبي.
– وما هو شأني؟
– تنتظر مقابلًا لكل عمل تقوم به.
– أليس هذا أمرًا طبيعيًّا؟
– عندك أنت نعم.
– وعند غيري؟
– هناك أشياء يصنعها الإنسان ولا ينتظر عنها مقابلًا فوريًّا أو يحتسبها عند الله.
– إن لم تأخذ لأي جهد تبذله مقابلًا فلن تستطيع مواجهة الحياة.
– ألا أستطيع أن أقدِّم خيرًا لمجرد الصداقة أو الود أو الصلات الإنسانية مثل الأبوة والبنوة؟
– هذه لغة أمك.
– أحسب أنها لغة الحياة الإنسانية.
– إذا أردت أن تواجه الحياة فإياك، إياك أن تتكلم هذه اللغة الإنسانية التي تذكرها.
– أشكرك يا أبي على المكتب، وسترى أنني جدير به، وسأرد فضلك إليك أضعافًا مضاعفة من الأموال.
– شكرك الحقيقي يكون بتذكرك لهذا الذي أقول.
– أبي، إن هذه هي شريعتك في الحياة، وهي ليست شريعة الإنسانية كلها.
– وماذا يضيرك أن تكون لي شريعتي الخاصة، وتكون شريعتك أنت أيضًا، ألست ابني؟
– إننا نعيش مع الناس.
– ستُريك الأيام أنني على حق.
– وربما وجدت أنت أن الناس على حق.
– بعد سني هذه؟
– ليس للحقيقة موعد معين تظهر فيه للإنسان.
– المهم أن تكون في شركاتي هذه متبعًا لشريعتي.
وضحك راشد ضحكة هينة وقال لأبيه: أظنها شركاتي أنا.
– نسيت، نعم نسيت.
وضحك ملء فمه وقال: متى تبدأ العمل؟
– الآن إذا أردت.
– أحب هذا الحماس.
– أعرف هذا.
وقال عبد الشكور: وهو كذلك.
وقال راشد: على بركة الله.
ما هي إلا فترة وجيزة حتى كان راشد قد استوعب الشركة كلها وكان هو الذي يقوم بالاتصالات التليفونية أو غيرها من فاكس أو تلكس أو برقيات مع هوفمان.
وحين مات هوفمان بدأ راشد يوثق صلاته اللاسلكية مع ابنه رالف الذي تولى الشركات من بعده.
واستطاع راشد بنشاطه وذكائه أن يُقصي أباه تمامًا، حتى لم يعد أبوه يجد شيئًا يعمله فعاد إلى رفاق سلطانه يجتر وإياهم أيام سطوتهم وجبروتهم. وإن كان يجد في نفسه بعض الألم أن أصبح بلا عمل.
وماذا يضيرني من هذا؟! أليست هذه آمالي كلها تتحقق، وأصبح راشد واحدًا من أهم رجال الأعمال؟! وماذا عليَّ أن أستريح؟! طعم الراحة مُر في فمي. لا بأس لقد عملت حياتك كلها منذ أنت طفل صغير حتى بلغت هذه السن. وحياتك ممتدة في ابنك. أي أب يكون عنده ابن كراشد ولا يكون سعيدًا هانئًا؟! عجيب! سعادتي ليست خالصة، وهنائي يشوبه شيء لا أدري كيف أصفه، وإن كنت أحس به.
لقد عشت عمري أصنع أيامي فلا بأس عليَّ اليوم أن أترك ولدي يصنعها لي. فهو مهما يكن الأمر ابني، وابني الوحيد الذي لا ملجأ لي في الحياة إلا هو، جاءني من أمٍّ كرهتني منذ خطبتها، وبدلًا من أن تهوِّن العشرة من كراهيتها زادتها عنفًا ونفورًا وعمقًا.
ليكن ابني محبًّا لأمه أكثر من حبه لي. إلا أنه أولًا وأخيرًا ابن دمي؛ فمهما تكن كراهية أمه لي إلا أنها لم تخُني يومًا. وحين كنت في موقف أستطيع مراقبتها منه بثثت حولها العيون فما رأيت منها إلا الوفاء والإخلاص والشرف. فهو ابني لا شك في ذلك.
لأتركه يصنع لي أيامي المقبلة، فأنا الذي صنعت له أيامه الماضية والحاضرة التي يحياها الآن.