الفصل التاسع عشر
قالت له فوزية في جلسة هادئة: ألم يأتِ الوقت؟
وفي سرعة خاطر قال: قد أتى.
– فماذا تنتظر؟
– أن تفاتحيني.
– لماذا لم تفاتحني أنت؟
– أردت أن أكون منفذًا لأوامرك.
– حتى في زواجك.
– وخاصة في زواجي.
– أفي ذهنك عروس؟
– هي التي في ذهنك.
وأشرق وجه فوزية وامَّحت عنه تجاعيد السنين.
– هل كنت تعرف؟
– ألا تعرفين أنني كنت أعرف؟
– كنت أرجو.
– ومتى نكصت عن رجاء نفسك؟!
– الحق أنت دائمًا تحقق أملي فيك.
– لقد صنعتني بعد الله على عينيك.
– ونِعم ما صنع الله وهيأني لأصنعه.
– أنا تحت أمرك، تستطيعين أن تخطبي دعاء حين تشائين.
وتهلل وجه فوزية مرة أخرى وأرادت أن تمتع من اللحظة كل ما فيها من سعادة وترتشف عصيرها جميعه حتى لا تُبقي منه شيئًا.
– كيف عرفت؟
– حرصك أن أصحبك إلى تنت عايدة كلما زرتها، وإصرارك على دعوتها هي ودعاء كلما عرفت أنني لن أخرج من البيت.
– ودعاء، هل تعلم؟
– لقد كنت أنت وأمها تحرصان على أن تتركانا منفردَين بأعذار واهية.
– وفيمَ كنتما تتحدثان؟
– في محاولتكما التقريب بيننا، واتفقنا أن نتغافل أنا وهي ولا نشعركما أننا لا نحتاج إلى هذا الجهد منكما.
– فأنتما متحابان؟
– إذا شئت أن تقولي هذا.
– كم أنتما خبيثان!
– بل قولي كم أنتما طيبتان أنتِ وأمها!
– إذن؟
– افعلي ما شئت، بالطريقة التي تعجبك، وفي الوقت الذي تحددينه.
ووضح على وجه فوزية أن فكرة وثبت إلى ذهنها.
– في أي يوم نحن من الأيام؟
– الخميس.
– ولماذا لم تذهب إلى الشركة؟
– أردت أن أقعد معك اليوم.
– أكنت تنوي أن تفاتحني في هذا الموضوع؟
– بل كنت أنتظر أن تفاتحيني.
– قم فالبس ملابسك.
– ماذا؟ أتريدين أن تصحبيني معك في الخطبة؟
– لا إنما أريدك في شيء آخر تمامًا، قم فالبس ملابسك.
•••
صحبت فوزية رستم نامق، راشد إلى البنك الذي فيه أموالها ومجوهراتها. وحوَّلت المال وصندوق المجوهرات جميعها باسم راشد.
وحين فتحت صندوق المجوهرات انتقت منه عقدًا نادر الوجود في العالم أجمع وقالت لراشد: بهذا العقد شبك أبي أمي، وبهذا العقد سيشبك راشد دعاء.
وفي انبهار راشد بروعة العقد لم يستطع أن ينطق حرفًا، ولم يتردد أن يقبِّل أمه في وجهها ويديها، على مشهد من موظف البنك الموكَّل بتنفيذ أوامر السيدة الفاحشة الثراء، فوزية رستم نامق.
•••
تم الزواج في حفل خيالي العظمة، وخلا العريس بعروسه.
– وأخيرًا.
وضحكت دعاء.
– آن لأمك وأمي أن تستريحا.
– وآن لنا أيضًا.
وفي الصباح قال راشد لدعاء: ما رأيك، أنا عندي عمل في ألمانيا ليس عاجلًا، وإنما قصدت أن أؤجله إلى ما بعد الزواج حتى يكون شهر عسل لنا في ألمانيا وفي أوروبا كلها.
وفرحت دعاء غاية الفرح.
– أتسألني رأيي؟
– كنت أستطيع أن أكذب عليك وأقول إنه شهر عسل فقط، ولكنني منذ تفاهمنا أخذت على نفسي عهدًا أن تكون نفسي كتابًا مفتوحًا أمامك لا يخفى منه عنك ما فيه.
وقبَّلته وهي تقول: ولك مني أن أكون كذلك معك.
•••
سافر العروسان، وبدأ راشد يذهب إلى رالف، وتعارفا مواجهة، واستطاع راشد أن يحصل من رالف على توكيل عام لجميع منتجات هوفمان بلا استثناء، فأصبح له حق استيراد الثلاجات والغسالات وكل الأدوات الكهربية الأخرى.
وأقام رالف وليمة للعروسين، ودعا إليها صديق العمر لأبيه؛ مارك، وابنه ستيفان، وابنته كريستين.
وقال مارك لراشد: عندي لك هدية زواج.
– يكفي أن أراك؛ فقد عرفت من أبي كيف علَّمته الإنجليزية والألمانية.
– شاركني هوفمان في تعليمه الألمانية.
– أعرف هذا.
– لم تسألني عن الهدية!
– أنا متأكد أنها هدية عظيمة من رجل عظيم.
– إليك هي.
وقدَّم إليه عقدًا من صورتين يفيد توكيله في استيراد جميع الأدوات المنزلية التي كان وعد أباه أن يوكله فيها حين بدأ إنتاجها. وشكر راشد الرجل العجوز وصافحه، ورفع صورة العقد بين تصفيق الحاضرين.
•••
وحين عاد راشد ودعاء إلى مصر بعد رحلة ممتعة في أوروبا جميعها لم يكن راشد وحده الذي يحمل التوكيلات التي حصل عليها، بل إن دعاء كانت تحمل ما هو أهم من ذلك بكثير …
كانت تحمل طفلهما الأول.
•••
وضعت دعاء ولدًا، ولم يتردد راشد أن يسمي الطفل رستم تقربًا لأمه. وحين أنجبا أخته بعد ثلاث سنوات أسمى ابنته فوزية.
وكان الجدان والجدتان جميعًا أعظم ما يكونون احتفاءً بالحفيدين، لا يُستثنى من ذلك عبد الشكور.
ومرت السنوات. وكبر الطفلان ودخلا المدرسة.
•••
وفي يوم بينما كان راشد في مكتبه دق جرس التليفون الداخلي وجاء صوت أبيه.
– ماذا تصنع؟
– لا شيء.
– تعالَ اقعد معي.
وحين ذهب قال راشد لأبيه: أصبحت لا تزور المكتب إلا فيما ندر!
– ماذا أعمل فيه؟! أنت مشغول، واتسعت أعمالك حتى أصبحتُ أنا غريبًا عنها، والبركة فيك.
– تتسلى.
– أنا هنا لا أتسلى إلا إذا كنت أنت غير مشغول، وهذا قليلًا ما يحدث.
وبينما الحديث يجري بين الوالد وابنه صاح عبد الشكور صيحة ألم عنيفة، وأصبح يغتصب أنفاسه من الهواء في جهد بالغ.
وسرعان ما جاء الطبيب، ونقلت سيارة الإسعاف عبد الشكور إلى المستشفى، وأُجريت الفحوص الدقيقة، وفي مواجهة الأب ووجود الابن قال كبير الأطباء: حالة قلبية حادة.
وقال عبد الشكور: ألها علاج؟
– في أمريكا، وإنما لا أُخفي عنكم، الأمل ضعيف.
•••
قال الأب لابنه بعد أن انتقل إلى منزله بأيام: هل جهزت للسفر؟
– إلى أين؟
– إلى أمريكا.
– لماذا؟
ووقعت الكلمة على الأب كأنها خنجر سفاك قاتل.
– ألا تدري لماذا؟
– لا، لا أدري.
– لإجراء عملية.
– أي عملية؟
– التي قال عنها الأطباء.
– إنهم قالوا إن الأمل ضعيف.
– ليكن واحدًا في المليون.
– أتنفق عشرات الألوف من أجل أمل واحد في المليون.
– إنها أموالي.
– إنها ليست أموالك ولا أموالي، إنها أموال رستم وفوزية، وأنا أمين عليها، أيرضيك أن أخون الأمانة؟
– إذن أموت؟
– كلنا سنموت.
كلنا سنموت. كلنا سنموت. كلنا سنموت. طنَّت الكلمة في رأسه وفي كيانه: كلنا سنموت. لقد سمعتها قبل اليوم، لا، بل قلتها، قلتها، نعم قلتها، وأذكر اللحظة والوقت والمناسبة: كلنا سنموت.
•••
ترك راشد والده وعاد إلى بيته.
ومرت الأيام، ولكن عبد الشكور منذ سمع كلمة ابنه دخل إلى غرفته لا يريد أن يرى أحدًا أو أن يراه أحد. يدخل إليه الطعام في موعده ويتلهى بالراديو حينًا أو التليفزيون، وقليلًا ما يتلهى، ثم يأمر فتُغلَق النوافذ إن كان في نهار، أو يطفئ المصابيح إن كان في ليل، ويخترق بعينيه الظلام فلا يرى إلا رسمًا واحدًا يلح عليه إلحاحًا لا يغلبه ويغمغم: نعم إنها حياتي. حياتي أنا. دائرة حيثما بدأت من نقطة منها فمن الحتم المؤكد أن تعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها.
فمتى، متى تطمس الأيام هذه الدائرة؟! كلمةٌ لم أقلها في حياتي، لا مهرب لي من أن أقولها اليوم، ولا أقول غيرها: الله يعلم. الله وحده يعلم. أعرفت الله اليوم؟ ليس أمامي إلا أن أعرفه. لم يبقَ في حياتي إلا آخرتي. فإن لم أعرف الله اليوم فماذا يبقى لي؟! والعجيب العجيب أنه في عزلته هذه كان يحافظ على مواقيت الصلاة، ولأول مرة في حياته يحس مع الألم العاصف والأسى المبيد في جوانحه أنه بالصلاة مطمئن النفس؛ فهو بذكر الله في سكينة وأمان لم يذق نعيمهما في كل ما تركه وراءه من أيام ومن أسرة ومن ثروة.
الساعة ١٢:٣٠ ظهرًا، يوم الإثنين ٢٥ سبتمبر، عام ١٩٩٥