الفصل الثاني
أوشك الجيش الألماني أن يدخل مصر حين وصل العلمين. وراحت الجيوش الإنجليزية تجمع أوراقها.
وفجأة انقلبت المعارك انقلابًا تامًّا لصالح الجيش البريطاني، وتشتَّت الجيش الألماني بددًا في الصحراء، وأصبح همُّ الجنود الألمان الباقين على وجه الحياة من الجيش الألماني أن يهربوا من الأسْر الإنجليزي.
وانتشر من الجنود الألمان في قرى الدلتا، وكان من نصيب شقلبان جنديان من الألمان؛ هما مارك وهوفمان، وكان مارك يجيد الإنجليزية، ولم يكن في شقلبان أحد يستطيع أن يُكمل جملةً إنجليزية إلا عبد الشكور، الذي كان قد وصل إلى السنة الثانية من التجارة المتوسطة، التي دخلها بعد جهد جهيد مع والده حيدر، الذي كان يصر أن يُخرجه من المدارس بعد الابتدائية ورفض كل الرفض أن ينتسب إلى الدراسة الثانوية.
– والله لا يمكن.
– يابا أنا لا أملَ لي في الحياة إلا أن أحصل على شهادة جامعية.
– كنت ابن من أنت حتى تنال شهادة جامعية؟!
– أقل مني حصلوا عليها.
– آباؤهم كانوا يطيقون.
– ادفع لي المصاريف وأنا سأعمل وأعيش.
– هذا كلام؛ حتى إذا دخلت الفاس في الراس أصبحت مضطرًّا أن أتكفل أنا بكل شيءٍ. وكان بيومي رمضان حاضرًا فإذا هو يصيح فجأة: تاهت ووجدناها.
ونظر حيدر إليه في لهفة، وأكمل بيومي: تدخل التجارة المتوسطة.
قال حيدر: ولو أنها ستكلفني إنما لا بأس، وأمري إلى الله.
وقال عبد الشكور: أمري أنا إلى الله.
وهكذا لم تجد القرية إلا عبد الشكور ليرطن مع الأجنبيَّين اللذين قدِما إليها وهما في ملابس رثَّة وذقنين متطاولين، واستطاع عبد الشكور أن يفهم عن مارك الذي يتقن الإنجليزية كل الاتقان إنهما هاربان من موقعة العلمين، وأنهما سارا على ساحل البحر مستعينَين بالزاد الذي صحباه من جيشهما، وحين بلغا الإسكندرية حرصا أن يختبئا في النهار ويسيرا في الليل، حتى وصلا إلى الطريق المؤدي إلى مديرية البحيرة، فراحا يتنقلان بين القرى موغلين في الدلتا، واتفقا على أن يبتعدا عن الإسكندرية ما أطاقا البعد؛ حتى لا تعثر عليهما القوات الإنجليزية. وفهم عبد الشكور عنهما أن القرى جميعها كانت ترحب بهما حين يعلم أهلوها أنهما من جيش هتلر، الذي كان يمثل عند الغالبية العظمى من المصريين الخلاص من الاحتلال البريطاني البغيض.
وطلب أعيان شقلبان إلى عبد الشكور أن يلحَّ عليهما أن يقيما عندهم عندما علموا أن مارك نجار وأن هوفمان ميكانيكي كهربائي. وقد تداول الأعيان فيما بينهم وانتهى رأيهم إلى هذا الطلب، الذين أرادوا من عبد الشكور أن يُبلغه للهاربَين. وقد ارتأى هؤلاء الأعيان أنهم أولًا سيكرمون جنديَّين من جنود هتلر، وثانيًا سينتفعون بخبيرَين في النجارة وإصلاح ماكينات الري والدراس. ورحب الجنديان بهذا العرض.
ولم يتصور أحد من القرية المدى البعيد الذي سيؤثر به بقاء هذين اللاجئَين في حياة عبد الشكور جميعها.
•••
كان عبد الشكور رغم تلقِّيه الدراسة بمدرسة التجارة المتوسطة يقيم في البلدة؛ فقد رأى أبوه أن هذا وإن يكن مجهدًا لولده إلا أنه أكثر وفرًا من أن يستأجر له حجرة في المدينة. وهكذا كان عبد الشكور يصحو قبل الفجر ليكون بالمدرسة في موعده.
وهكذا أيضًا كان فقر أبيه المدقع سببًا فيما صار إليه أمره بعد ذلك.
وفي لحظة من اللحظات التي تصيب الإنسان من أحلام اليقظة حلم عبد الشكور أن يعقد صداقة بينه وبين مارك ويتعلم منه الإنجليزية والألمانية. ولماذا لا؟ إنه يعلم أنه حتى بعد انتهائه من دراسته لن يجد الوظيفة في انتظاره، وقد كان يرى حملة الشهادات حيارى ضائعين بشهاداتهم لا يجدون وظيفة؛ فقد كانت أزمة الوظائف في تلك السنين طاحنة (شأنها دائمًا) فكيف به وهو لا يحمل إلا مؤهلًا متوسطًا.
أصبح عبد الشكور موقنًا كل اليقين ألَّا أمل له في الحياة إلا أن يتقن لغةً، ويزداد الأمل إن أصبحت اللغة لغتين.
أنا لا أملك مالًا، ولا بد أن مارك سيحتاج إلى مال. أبي بالكاد وبتجارته المتهافتة يقيم أوَد بيتنا؛ على الرغم من أنه لا ولد له غيري. وأنا لا أحصل على حلة إلا بطلوع الروح. ولكن انتظر يا ولد يا عبد الشكور؛ مارك لن يحتاج إلى مال فقط، وأغلب الأمر أن القرية بما تحتاجه من الأعمال فيها ستُمكِّن الهاربَين من الحياة؛ إنما مارك يحتاج إلى من يكلمه؛ فلا شك أنه وصديقه قد استنفدا بينهما كل حديث.
لأعقد بيني وبينه صداقة وطيدة، وأتفق معه أن أعلمه اللغة العربية ويعلمني هو الإنجليزية التي يتقنها ولا أدري لماذا؛ مع أن الألمانية هي لغته الأصلية.
•••
في خبثٍ لا نظير له أراده له الخلَّاق الفعَّال بدأ عبد الشكور يرمي شباكه على مارك ولا يحرم منها هوفمان. وما لبث أن عرف أن مارك من أمٍّ إنجليزية؛ وفهِم سر اتقانه الإنجليزية.
وبدأت خطة عبد الشكور تأخذ طريقها إلى الوجود.
وليس أثمن من سميرٍ أو أنيسٍ، مجرد أنيس في وحشة الغربة بين قوم لا يفهمون عنك ولا تفهم عنهم. وقد رحَّب الغريبان كل الترحيب بإقبال عبد الشكور عليهما.
وبدأ يعلمهما العربية، وراح مارك يعلمه الإنجليزية، وراح هوفمان يعلمه الألمانية؛ وهكذا لم يضطر أن ينتظر حتى يتقن الإنجليزية ليبدأ بعدها في الألمانية، بل درسهما في وقتٍ معًا.
وقد وجد فيما يدرس جميعه أمله الأكبر في الحياة، وبجهد المستميت راح يذاكر.
ولكن لا بد له من كتبٍ في اللغتين، ولم يجرؤ أن يفكر في أن يطلب إلى أبيه ثمنها وهو اليوم قد أتم دراسته ومكث بالقرية ينتظر فرج الله.
وراح أبوه يتوسل إلى كل ذي أكرومة أن يجد لابنه وظيفة، ولكن هيهات. وعبد الشكور يريد ثمن الكتب.
– آبا.
– مالك؟
– ماذا عليك إذا جعلتني أساعدك في البيع والشراء؟
– وهل ترى العمل متسعًا حتى أحتاج إلى من يساعدني؟!
– إذا عملت معك اتسع العمل.
– وماذا تريد مني؟
– ثمن الصفقة الأولى.
– أأدفع لك لتزاحمني في رزقي.
– وأين سأذهب بالمال؟ إني سأدفع لك نصف ما أكسب.
– وتنافسني في السوق.
– ما رأيك أن تستمر أنت في تجارة الحبوب وأتخصص أنا في تجارة القطن.
– ومن أين لك بثمنه؟
– أنا لا أريد منك إلا عربون العملية الأولى، وفي السمسرة متسع للجميع.
– لا بأس. على أن أشاركك في المكسب.
– طبعًا.
وكان عبد الشكور أذكى من أبيه؛ فكان يشتري القطن من الموزعين بثمنٍ، بخس ولا ينتظر حتى موعد المحصول، وإنما يبيع ما اشترى بأسرع ما يمكن إلى أثرياء القرية الذين كان يُطمعهم في رخص الثمن بزيادة الكمية التي سيبيعونها في الموسم، مدركين أنه كلما كبرت الكمية ارتفع السعر الذي سيُعرض عليهم.
ولم يكن عبد الشكور أمينًا في محاسبة أبيه؛ فاستطاع أن يشتري الكتب التي يحتاجها بجهد جهيد. ولكن الخطة نجحت على كل حال، على الأقل بالنسبة لعبد الشكور؛ فهو لم يكن يطمح إلى الغنى — لا قدَّر الله — في هذه المرحلة من حياته؛ وإنما كان أمله كله أن يتقن اللغتين حديثًا وكتابة.
وتم له ما أراد في سنوات لم يكن فيها يضيع لحظةً متاحة أو غير متاحة لدراسة اللغتين، وأتقن أيضًا معهما تجارة القطن والسمسرة فيه.
بل تعلَّم شيئًا لم يخطر له ببالٍ؛ فقد علَّمه الألمانيان المتحضران آداب المائدة وكيف يستعمل أدواتها بمهارة لا تتأتى إلا لمن كان في بيتهم مائدة وخدمٌ أيضًا.
وحين أحس أنه قادر أن يواجه الحياة وفي لسانه ويده هاتان اللغتان مع خبرة التجارة قال لأبيه: أنا يابا سأسافر إلى مصر.
– ماذا تعمل بها؟
– أبحث عن وظيفة.
– ومن أين لك وأنا لم أترك ثقب إبرة إلا حاولت فيه أن أجد لك عملًا، ولكن الطرق جميعها سُدَّت أمامي وأمامك.
– أنا أعرف طريقي.
– وطبعًا تريد مني مالًا.
– معي.
– من أين؟
– مما كسبته في هذه السنوات.
– إذن لن تكلِّفني شيئًا.
– على الإطلاق.
– مع السلامة.
– سلمك الله.
– ولكن اسمع!
– أمرك.
– حين تستقر أرسل إليَّ بعنوانك حتى أعرف طريقك؛ فأنا ليس لي غيرك، ويعلم الله يا بني أني ما بخلت عليك، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة.
– أعلم يا أبي. ولولا أنك ساعدتني ما استطعت أن أجمع القرشين اللذين سأذهب بهما إلى مصر.
– كان أبي بخيلًا، ولكني لم أكن معك بخيلًا، وإنما كنت عاجزًا.
– يابا أنا أعرف ذلك.
– أنا لا أريد منك شيئًا حتى يفتحها الله عليك. كل ما أريد منك ألَّا تحمل معك في سفرك وغربتك غضبًا عليَّ؛ فالله وحده يعلم كم أحبك؛ فأنت كل أملي في الحياة، ولا أعيش إلا لك.
– يابا أنت لا تحتاج إلى هذا الحديث. وسترى حين يكرمني الله كيف سأرد لك المعروف.
– أنا لم أمنعك من الدراسة الجامعية بخلًا وإنما عجزًا.
– أعلم يا أبي. وأنت لا تحتاج إلى هذا الكلام.
•••
وحين أخبر عبد الشكور مارك وهوفمان بانتوائه السفر قال مارك: متى؟
– في أقرب وقت.
والتفت مارك إلى هوفمان وقال له: هوفمان، إننا الآن معنا ثمن تذاكر الطائرة.
– نعم.
– فما بقاؤنا؟
– وماذا تريد أن تفعل؟
– نسافر مع عبد الشكور.
– وماذا نفعل؟
– نذهب إلى السفارة الألمانية وهي كفيلة بأن تعيدنا إلى ألمانيا.
– أيَّ ألمانيا، الشرقية أم الغربية؟
– الغربية.
– ألا تخشى أن يقبض علينا الإنجليز؟
– وماذا يصنعون بنا؟! الحرب انتهت، وتم تقسيم ألمانيا، واستقرت الأمور.
– فإن جرت الأمور بما لا نريد؟
– إذا كنا وجدنا رزقنا في شقلبان فمن المؤكد إننا لن يصعب علينا أن نجد رزقنا في محلات النجارة والميكانيكا والكهرباء في القاهرة.
وقال هوفمان لعبد الشكور: ما رأيك؟
– الفكرة جيدة.
– أترى ذلك؟
وقال عبد الشكور: نستأجر ثلاثتنا حجرة في القاهرة، ونعيش معًا حتى تجدا وسيلةً للسفر أو تجدا عملًا.
– وأنت ماذا ستفعل؟
– لا تخافا عليَّ أنا أعرف طريقي كل المعرفة.
– متى نسافر؟
– أليست النقود جاهزة.
– طبعًا.
– نسافر غدًا في الفجر.
– وهو كذلك.
– وهو كذلك.