الفصل الثالث
كان وجود أماكن للسُّكنى في القاهرة أيسر شيء جهدًا.
فما أسرع ما استأجروا شقة ذات غرفتين وحمام ومطبخ بجنيهين في الشهر. وفي اليوم التالي نزل ثلاثتهم؛ الأجنبيان إلى السفارة، أما عبد الشكور فقد كان يعرف وجهته كل المعرفة.
•••
ذهب إلى بنك الاقتصاد والتوفير وسأل أول ساعٍ واجهه: أريد أن ألقى المدير.
نظر الساعي بازدراء إلى ملابسه وهيئته ولم يملك إلا أن يقول له: المدير مرة واحدة!
– إن كان على مرتين لا مانع.
وضحك الساعي معجبًا بسرعة بديهته: فيمَ تريده؟
– لو كنت طلبت مقابلتك لكان من الطبيعي أن تسألني.
– واضح أنك فصيح.
– وهل يمنع هذا من مقابلة المدير؟
وأشار الساعي: آخر باب على اليمين تجد السكرتير، وأنت وحظك.
قال له السكرتير: وفيمَ تريده؟
– إنه مدير بنك، ومفروض أنه يقابل أيَّ طالب للمقابلة.
– واضح من مظهرك أنك لست صاحب حساب أو صلة بالبنوك.
– وهل يمنع هذا أن تعود مقابلتي للمدير بنفع على البنك؟
– لا فائدة من مناظرتك. ما اسمك؟
– عبد الشكور حيدر.
– وعبد الشكور أيضًا!
– اسم فيه الشكر مقدمًا قبل أن يقدِّم سامعه ما يحتاج الشكر.
– حسنًا، حسنًا، انتظر.
ودخل السكرتير إلى المدير: شخص غريب يريد مقابلتك.
– وما الغرابة فيه؟
– ملبس متهالك وذكاء واضح.
– ما اسمه؟
– عبد الشكور.
– فقط؟
– حيدر.
– لحسن حظي أنني ليس عندي ما يشغلني الآن، هاته نتسلى عليه.
ودخل عبد الشكور ليلقى صبحي حسان بك مدير البنك.
– أهلًا يا بني.
– أهلًا بسعادتك.
– اقعد.
– شكرًا، أطال الله عمرك.
– ماذا أستطيع أن أقدم لك؟
وفي سرعة حاسمة أجاب عبد الشكور: وظيفة.
– بحالها!
– بأي حال لها؟
– ولماذا أوظفك؟
– أؤكد لسعادتك أنك ستوظفني.
– واضح أنك تعرف ما تريده تمامًا.
– وأعرف أيضًا أنني جدير بأن أحققه.
– عجيبة!
– وأين العجب؟
– أنا لا أعرفك، وهيئتك لا تشجع على التفاؤل، وأنا لا أعرف مؤهلاتك التي يبدو عليك أنك مطمئن إليها كل الاطمئنان؛ ومع كل هذا الغرور منك أشعر بميلٍ نحوك.
– هذا أول الطريق إلى آمالي.
– بعض الناس يُنعم الله عليهم بملَكة الحضور.
– قرأت يا سعادة البك إنهم أجرَوا إحصاءً واسعًا في أمريكا ثبت منه أن الناس جميعًا متساوون في السعادة والشقاء، وأن كل إنسان ينال قسطًا من السعادة قدرَ ما ينال الآخر، ومن الشقاء مثل ما يصاب به الآخر. وأسباب الشقاء عندي واضحة؛ فليس غريبًا أن أملك قدرها من وسائل النعمة.
– اشرح أكثر.
– إذا نال إنسان السعادة الوافرة في جانبٍ واجهه القدْر نفسه من الشقاء في جانب آخر من حياته؛ بحيث تكون النتيجة النهائية أن يصبح الجميع متساوين فيما يحصلون عليه من الهناء والشقاء.
– فهمت ما تعني. هل تؤمن بالله؟
– الموقف الذي أنا فيه الآن يحتم على أن أقول: كل الإيمان.
– لماذا؟
– لأنني أسعى جاهدًا أن أبلغ رضاءك عليَّ.
– وكيف عرفت أنني أرضى بإيمانك؟
– منصبك وما أنت فيه من أبهة.
– وإذا كان يرضيني أن أعرف حقيقة إيمانك.
– لا أملك أمامك إلا أن أقول: نعم، إني مؤمن.
– أتقول الحق؟
– أقول ما يرضيك.
– لا فائدة أن أصل معك إلى حقيقة إيمانك.
– ولماذا لا تكتفي سعادتك مؤقتًا بظاهر الأمر مني؟
– ماذا رماك عليَّ؟
– ما يذكره الناس والصحف عنك.
– مثل ماذا؟
– مثل أنك تسلَّمت هذا البنك وهو في طريقه إلى الانهيار الكامل فجعلت منه مؤسسةً من أكبر المؤسسات الاقتصادية في الشرق أجمع.
– أهذا المديح من باب المحاولة المستميتة التي تبذلها لإرضائي.
– ربما كان هذا، ولكنني في الوقت نفسه أردِّد ما سمعت.
– أتتصور أنني بهذا الحوار سأعيِّنك؟
– لا بأس أن أحاول.
– أنت تعرف لا شك أن باب التوظيف مقفل تمامًا.
– ومع هذا قصدت إليك.
– هل كل ما في جعبتك هذا الحديث الواضح الإصرار.
– لو كان هذا كل ما أملك ما تركت قريتي وقصدت إليك دون كل الأشخاص الآخرين ذوي النفوذ.
– هل تملك شيئًا في قريتك هذه؟
– كنت فيها أحصل على لقمتي دون ملبس.
– فأنت إذن …
– أفقر من الفقر.
– واضح.
– إن ما أقوله لسعادتك غير خافٍ عليك بحكم مظهري، حتى إذا استطعت أن أتغلَّب على هذا المظهر فلن أذكر هذا الإنسان حتى آخر يوم في حياتي.
– ماذا كنت تعمل في القرية؟
– سمسار قطن.
– وأبوك هل هو على قيد الحياة؟
– سمسار حبوب يحصل لي ولأمي ولنفسه على ما يسدُّ الرمق بجهدٍ جهيد.
– أهذه مؤهلاتك؟
– سعادتك حتى الآن لم تسألني عن مؤهلاتي.
– وها أنا ذا أسأل.
– تجارة متوسطة.
– التجارة العليا لا يحصل صاحبها على وظيفة عندنا أو عند غيرنا إلا بواسطة لا تقاوم، فما بالك بالمتوسطة!
– لو كانت هذه الشهادة هي كل مؤهلاتي ما تجرأت أن أخطو عتبة هذا البنك.
– ماذا عندك.
– إجادة تامة للغة الإنجليزية لا يصل إليها خريج جامعة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب.
– فقط؟
– ونفس الإجادة للغة الألمانية مع خبرة ستلمسها إذا عيَّنتني بشئون القطن وبالسوق عامة.
– خبرة السوق وفهمناها، ولكن من أين لك باللُّغتين؟
– هذه من بين المقومات التي تكون حظي من السعادة.
– ألغزت فأفصح.
– مصادر تعلُّمي لا أظنها تهمُّ سعادتك، وإنما الذي أعتقد أنه يعنيك هو النتيجة.
– والمصدر أيضًا.
– مصيري أن أرويه لسعادتك في يوم من الأيام.
– ومن أين علمت أنني سأراك بعد اليوم؟
– طول حوارك معي على هوان مظهري، إلى جانب شيء آخر أخاف أن أذكره.
– بل اذكره.
– ثقتي بنفسي.
– أهو نوع من الغرور مرة ثانية؟
– بل هو اطمئنانٌ أن بنكًا كالذي تديره يحتاج إلى مؤهلاتي؛ وخاصة إذا أضفنا إلى ذلك ما عُرف عنك من حرصٍ على نجاح المؤسسة التي تعمل بها.
وفجأة قلب صبحي بك حسان النقاش من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية التي يتقنها، وأجرى لعبد الشكور امتحانًا عسيرًا في إجادة اللغة الإنجليزية انتهى منه بأن قال له بالعربية: إن كنت تجيد الألمانية إجادتك للإنجليزية فإنك عملة نادرة.
– أستطيع مؤقتًا أن أقول لسيادتك إنني تعلمتها عن ألمان، أما كيف كان ذلك فأرجو أن تتركه سعادتك للأيام.
– أظن أن من حقك الآن أن تتكلم عن الأيام الآتية.
– إذن …
– لقد عيَّنتك، وسأعرف خبرتك في القطن من الممارسة.
– أتسمح لي بشيء، على شرط ألا تتمنع.
– ماذا تريد أن تقول؟
– إنه ليس قولًا، بل إنه عمل.
وقفز عبد الشكور فجأة من كرسيه واختطف يد صبحي وقبَّلها؛ الأمر الذي تم في لحظات وامضة لم تعطِ أي فرصة لصبحي أن يتأبَّى أو يمنع موظفه الجديد عما صنعه.