الفصل الرابع
تمكَّن الهاربان الألمانيان من الحصول على أوراق تسمح لهما بالعودة إلى ألمانيا، وطلب إليهما عبد الشكور أن يكتبا له عن عنوانيهما بمجرد وصولهما إليها.
ولم يكن أحدٌ منهما يعرف أين سيستقر به المقام، كما كانا يجهلان ما بقي من أسرتيهما على قيد الحياة، فقال مارك لعبد الشكور: سأكتب إليك بمجرد وصولي إلى الأرض الألمانية.
ثم التفت إلى هوفمان قائلًا: وأنت يا هوفمان ألا تنوي أن تفعل ذلك.
– بالطبع، ولكن هل تنوي يا عبد الشكور البقاء في هذا البيت بعد أن أصبحت صاحب وظيفة.
– المؤكد أنني سأنتظر أخباركما هنا حتى أعرف العناوين التي أراسلكما عليها.
وقال هوفمان: إننا سنطلعك الآن على سرنا الذي أخفيناه عليك طوال هذه السنوات.
– ألكما سر؟
– كلانا مهندس متخرج في أعظم كلية في ألمانيا كلها، فلا تعجب إذا جاءك منا أخبار تفيد أننا نعمل في وظائف غاية في الأهمية.
وأكمل مارك: بالطبع ألمانيا اليوم تحتاج أكثر ما تحتاج إلى المهندسين بعد أن سحقت الحرب مدنها.
– هل تعلمان إن كانت أسرتَيكما في ألمانيا الشرقية أم الغربية؟
وقال مارك: الأمر الذي لا شك فيه أن أسرتَينا في ألمانيا الغربية، وسنزداد وثوقًا من هذا حين نصل إلى هناك.
– هل أنتما متزوجان؟
– كان لكل منا فتاة لا شك أنها تزوجت الآن.
وأكمل مارك: أنت تعلم طبعًا أن أخبار أهلنا في ألمانيا الآن خافية عنا تمامًا، وسنكتب لك بالتفصيل عند عودتنا.
– لم يخبرني أحدكما عمن ترك من أقارب هناك.
قال هوفمان: أنا ومارك كلانا تركنا أبوَينا وأمَّينا على قيد الحياة، وأنا تركت مع أبويَّ أختين تصغراني، ومارك ترك أختًا تصغره وأخًا طفلًا.
وقال مارك: انتظر أخبارنا كلها في أول خطاب نكتبه إليك.
– إني منتظر.
وما هي إلا أيام قلائل حتى تمكَّن مارك وهوفمان من مغادرة مصر.
•••
كان عبد الشكور يعرف تمامًا ما هو صانعه بالبنك.
لقد حرص أولَّ ما حرص على أن يوثِّق صلته بصبحي حتى يجعله يحس أنه لا يستطيع أن يستغني عنه.
وكانت أولى خطواته في هذا السبيل أن يجعل من نفسه شبه خادم لسكرتيره نبيل معوض.
وقد كان شابًّا في ربق العمر حاصلًا على ليسانس الحقوق، وكان من قرية صبحي بك نفسها، بل إن أباه كان يعمل ناظر زراعة لمائة الفدان التي يملكها صبحي عن أبيه، وقد امتنعت مساحة الأرض على قانون الإصلاح الزراعي فلم تنتزع الحكومة شيئًا من أرضه؛ مما جعل الثورة لا تعتبره من أعدائها. وقد أتاح له ذلك أن يرقى في البنك إلى منصبه هذا الذي يشغله؛ وخاصة أنه لم يكن من عائلة ذات مكانة ولا خطر؛ مما يسَّر له أن ينضم إلى منظمات الثورة، ويُظهر غُلَواء في تأييدها والهتاف لقائدها الأول ثم لقائدها الثاني؛ مما جعله من أهل الولاء والكفاءة في وقتٍ معًا؛ الأمر الذي لم يتيسر إلا لقلة نادرة في هذه الأيام. أما نبيل فلم يكن أبوه يملك إلا خمسة أفدنة، استطاع بها وبعونٍ من صبحي وأبيه أن يكمل تعليم نبيل في كلية الحقوق، عاجزًا بضآلتها في الوقت نفسه أن يعلِّم ابنَيه الآخرين مرسي وعيسى، اللذين لم يكن أمامهما إلا أن يعملا فلاحَين في أرض صبحي بك، وقد تمكَّن كلاهما من أن يحصل على خمسة الأفدنة مما وزعتها الثورة من الأرض التي استولت عليها. وقد نالا ما نالا من أرض الغني الكبير في قريتهم متولي باشا خطاب، الذي نال الباشاوية حين تبرَّع للمشاريع الخيرية بخمسة آلاف جنيه في عهد الباشاوات.
عرف عبد الشكور كلَّ شيء عن نبيل معوض من ساعي مكتب المدير حسنين عبد المولى.
وقد عرف منه أيضًا في دعوة الغداء التي دعاه إليها من أول مرتب يحصل عليه من البنك أن صبحي بك متزوج من ابنة عمه صافيناز هانم عبد الموجود، ذات الأم التركية التي لا يعرف حسنين اسمها الذي لم يسع إلى معرفته؛ فالأم قد تركت الحياة قبل أن يتزوج صبحي ابن الفلاحين من ابنتها.
وانتظر عبد الشكور أن يصل إلى الخوافي من أخبار صبحي حين يوثِّق صلته بنبيل؛ الأمر الذي أعدَّ له كلَّ الإعداد؛ وخاصة حين أبلغه حسنين أن نبيل يحب الفتيات الجميلات، أو غير الجميلات إن لم يتيسر له غيرهن.
وقد وجد عبد الشكور منفذه إلى نبيل، وترك للأيام أن تلج به إلى هذا المنفذ.
•••
كانت وظيفة عبد الشكور في قسم الأقطان، وقد أراد صبحي أن يرى مقدار كفاءته.
وانقضت بضعة أسابيع، وبدأ موسم شراء الأقطان، وتحرَّى عبد الشكور أن يبتعد في مشتريات البنك عن شقلبان؛ حتى لا يرى سبيلًا إلى أبيه، بل تحرى أن يبتعد عن المركز جميعًا الذي يعرف أغلب أهله ويعرفونه؛ فقد كان حريصًا أن يقطع ما بينه وبين هذه الأيام بكل ما وسعه من جهد.
بدأ عبد الشكور جهاده الوظيفي في الصعيد، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ فقد كان موسم القطن يبدأ في الصعيد قبل الوجه البحري بفترة طويلة. وقد استطاع بسابق خبرته في الصفقات ضئيلة الشأن أن يكون ماهرًا غاية المهارة في عقد الصفقات الكبيرة، واضعًا في الحسبان أن أكبر مالك لا تزيد أرضه عن مائتي فدان بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
وقد استطاع عبد الشكور أن يُثبت لصبحي نجاحه الفائق في عقد الصفقات، فكان أكثر زملائه نشاطًا.
وكان يراعي في أول الأمر أن يكون صادقًا مع البنك، متلمسًا سرقة المشترى في السمسرة التي حرص ألَّا يعلم عنها البنك شيئًا؛ حتى إذا انتهى من الصعيد انتقل إلى الدلتا في نشاط منقطع النظير؛ مما عاد على البنك بمكاسب لم يحققها البنك في هذا المضمار من قبل؛ الأمر الذي وفَّر لعبد الشكور قدرًا من المال اعتبره هو في البداية جديرًا بكل احترام وإجلال؛ فإن كمية النقود التي أتيحت له لم يسبق له أن رآها بَلْهَ أن يملكها.
كانت أنباء صديقيه قد وصلت إليه، وأصبح قادرًا أن يستأجر شقة صغيرة كل الصغر في حي الزمالك، بإيجار لو سمع به أبوه لأصابته سكتة قلبية؛ فقد كان يدفع عشرة جنيهات إيجارًا للشقة التي كانت تتكون من غرفة نوم واحدة وغرفة للطعام وصالة صغيرة، وحمام لولا صاحب البيت ما عرف عبد الشكور كيف يتعامل معه.
وكانت الشقة خالية فنقل إليها سريره المتهالك وكرسيين أثارا مع السرير سخرية البواب في العمارة الجديدة.
كان لا بد أن يؤثث الشقة الجديدة بما يليق بأناقتها وفخامة العمارة التي تحتويها. وفي هذا التأثيث عرف طريقه إلى نبيل.
– أجَّرت شقة بالزمالك.
– الزمالك مرة واحدة.
– إن لم يكن السكن جميلًا فما قيمة حياة الإنسان.
– كم إيجارها؟
– ولا يهمك. المهم أريد أن أؤثثها، وليس لي إلا أنت لتشتري لها أثاثًا يبدو لائقًا بالحي ويكون في الوقت نفسه ملائمًا لعبد الشكور.
– أيَّ عبد الشكور تقصد؛ الذي رأيته قبل أن يعيَّن أم الذي أجَّر شقة في الزمالك؟
– كل ما أرجوه منك أن تنسى عبد الشكور الذي كنتَ من القلة النادرة الذين رأوه بمصر قبل التعيين.
– طبعًا أنت تقصد بمصر القاهرة.
– الذين عرفوني من بلدتنا وما حول بلدتنا لن يروني أبدًا على كل حال.
– وأبوك وأمك.
– يكفيهما أنني وفرت عليهما اللقمة التي كنت أقتطعها من قوتهما.
– كنت أظن نفسي عاقًّا لأنني لا أزور أهلي وأكتفي برؤية أبي حين يأتي لمحاسبة صبحي بك!
– كن وفيًّا لنفسك أولًا، أما الآخرون فعليهم أن يدبِّروا أمر أنفسهم.
– ألم يعرف أبوك أنك عيِّنت وأنك استأجرت شقة في الزمالك؟
– ولماذا يعرف؟
– ألم يعرف على الأقل إن كنت على قيد الحياة أم لحقت بالرفيق الأعلى؟
– المؤكد أنه يعلم أنني لم أمُت وإلا حُملت إليه ليتولى دفني.
– واضح أنك أرحت نفسك تمامًا.
– لا. اطمئن. المهم قل لي ماذا ستفعل معي في مسألة الأثاث؟
– الأثاث أمره هين.
– كيف؟
– عندنا في البنك قسم خاص بشراء احتياجات البنك في هذا المضمار، ورئيس هذا القسم حمدي خميس، وهو الذي يشتري ما يحتاجه صبحي من أثاث.
– يا نهار أسود! وما لي أنا لصبحي بك وما يشتريه من أثاث. لو اشترى حمدي مثلما يشتري لصبحي بك لما أكمل ما معي ثمن كرسي واحد للشقة.
– على مهلك، على مهلك، إن كل العاملين في البنك يلجئون إليه، وخبرته بالأثاث الرخيص أعظم من خبرته في الأثاث الغالي.
– وصبحي بك.
– إنه يشتري له ما يحتاجه المطبخ والخدم، أما أثاث صبحي بك فتشتريه صافيناز هانم التي تختار دائمًا أغلى الأثاث مما لا نعرفه ولا نعرف أسماء الماركات التي ينتسب إليها.
– هل صافيناز هانم مسرفة؟
– مصيرك ترى حساب صبحي بك بالبنك لتعلم أن دخله لا يكفي طلبات زوجته وحدها.
– والأولاد؟
– المهم عند صافيناز هانم نفسها أولًا ولبسها وأثاث بينها والولائم التي تقيمها.
– والأولاد؟
– كلاهما أيضًا مسرف وإنما في حدود مطاقة بالنسبة لأبيهما.
– عرفت أن عنده ولدًا وبنتًا.
– الولد في السادسة عشرة، والبنت في الرابعة عشرة.
– اسم الولد رأفت، أظن.
– على اسم خال صافيناز هانم التركي.
– الاسم مشترك، لا تعرف إن كان اسم أنثى أو اسم رجل.
– لا يهم، المهم أنه اسم تركي.
– اسم البنت سمعته ولكني لم أستطع أن أحفظه.
– هان زاده، على اسم ستها من أمها طبعًا.
سرح عبد الشكور لحظات. واضح أن صافيناز هانم هي العنصر الأساسي في بيت صبحي بك، وواضح أيضًا أنها خاربة بيت زوجها. وهذه ماذا أصنع لها؟ لا بد أنني واجدٌ لها سكة، وحين أجدها تكون أهم طريق لصبحي. ولو أنني من الآن أكاد أكون قد عرفت أحسن وسيلة لصبحي وصافيناز معًا. لأطويه وأطويها تحت جناحي ما عليَّ إلا أن … وارتاع من صمته وسرحته المليئين بالضجيج على صوت نبيل يصيح به: هيه، أين ذهبت؟
– معك.
– بجسمك.
– وبعقلي. هل سترسلني إلى حمدي خميس؟
– بل يأتي هو إليك. إنك في مكتب المدير، وأنا أريد أن تكون شقتك عظيمة؛ فأنا أعتبرها كشقتي تمامًا.
وفهم عبد الشكور الإشارة، وفرح بها كل الفرح، وأكمل نبيل: فرق بين أن تذهب إلى حمدي كأي موظف في البنك وبين أن يأتي هو إليك ويتسلمك من مكتب المدير العام.
ورفع نبيل سماعة التليفون وأدار رقمين وقال: حمدي، تعالَ.
ولما أقفل التليفون، قال عبد الشكور: ألا تقول صباح الخير.
– مكتب المدير لا يقول صباح الخير.
– ألم يقل هو لك صباح الخير.
– طبعًا قالها بكل حماس.
– لم تردَّها عليه.
– مكتب المدير لا يرد التحية.
– لا تؤاخذني على جهلي.
– ما زال أمامك الطريق طويلًا.
– واضح.
•••
اشترِ الأثاث بمعونة حمدي الذي وفَّر علينا مبلغًا ضخمًا من المال. استطاع عبد الشكور أن يكسب احترام البواب الذي كان قبل مجيء الأثاث الجديد يحتقره احتقارًا لا خفاء فيه.