تاريخ تدمر
دولة تدمر «بلميرا – بالمرينا»
تطلق كلمة بلميرا في اليونانية واللاتينية على بلد شهير، يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة دمشق، في منتصف الصحراء الشامية، واسمها عند العرب والشاميين «تدمر»، وهي واحة خصيبة كانت تقع بين الإمبراطوريتين المتنافستين بارثيا وروما، وتعتمد في سلامتها على حفظ التوازن بين هاتين الدولتين، ووقوفها موقف الحياد منهما، وعندما فتح العرب هذه المدينة لم يكن الرواة يذكرون من أخبارها شيئًا، فنسبوا بناءها إلى الجن الذين بنوها — كما اعتقد أولئك القصاص العرب — للملك سليمان.
قال النابغة الذبياني في معلقته يمدح النعمان بن المنذر:
وفي سفر الأيام الثاني ٨ : ٤ تقرأ أن سليمان بنى مدينة تدمر في البرية، وهو غلط؛ لأن أقدم ذكر لهذه المدينة تقرؤه في نقش يرجع إلى أيام تجلات بلسر الأول (حوالي ١١٠٠ق.م).
والظاهر أنه في حوالي القرن السادس قبل الميلاد — بعد سقوط الإمبراطورية البابلية — أخذت بعض القبائل العربية تسكن في شرق إقليم كنعان، وبدأت تتعلم الكلام والكتابة باللغة الآرامية، التي كانت شائعة في المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات.
وأول ذكر للمدينة في المراجع الرومانية كان عندما حاول مارك أنطوني في سنة ٤٢-٤١ق.م محاولة فاشلة الاستيلاء على مغانمها، وأقدم نقش في المدينة يرجع إلى سنة ٩ق.م، وهو مكتوب بالخط الآرامي، وكان ذلك في الوقت الذي أصبحت فيه مدينة تدمر مركزًا هامًّا للتجارة بين الدولتين الرومانية والبارثية.
وسرعان ما ارتقت الواحة من محطة للقوافل إلى مدينة من الطبقة الأولى ومركز للعبادة أكبر آلهته الشمس مع عدد من الآلهة الصغرى.
ولقد كانت أشهر سلع العالم القديمة الفاخرة هي الحريريات والمجوهرات واللآلئ والعطور والبخور وما شابه ذلك، كلها تأتي من الهند والصين وبلاد العرب الجنوبية، وكانت المتاجر تسير في طريقين أحدهما عبر البحر الأحمر ومصر والإسكندرية، والآخر من الخليج الفارسي عبر الصحراء الشامية، وهذا الطريق الثاني كان في مبدأ الأمر في أيدي الأنباط سكان بطرة، ولكن عندما سقطت بطرة سنة ١٠٥ ميلادية انتقل ما كان بأيديهم إلى التجار من أهل تدمر، فكانت قوافلهم التجارية تعبر الصحراء الشامية إلى بعض المراكز التجارية على ضفات نهر الفرات، ولقد كانت هذه التجارة ذات نفع عظيم لا للتجار فحسب بل للمدينة نفسها التي كانت تفرض الضرائب على كل ما يمر بها من صادرات أو واردات.
ولما كانت المتاجر تتعرض أثناء الطريق لعدة أخطار، منها انتهاب قبائل الصحراء أو اعتداءات البارثيين، لذلك كان أمر تأمين التجارة والوصول بها سالمة من المسائل التي تهم الدولة، ولذلك نجد أن النقوش القديمة يكثر فيها ذكر رئيس القوافل ورئيس السوق، على اعتبار أنهما من زعماء المواطنين، ولم تكن الصناعات المحلية بذات أهمية كبيرة؛ ذلك لأن شغل سكان المدينة الأكبر كان في قيادة قوافل التجارة والإشراف على آبار الماء في الطريق، والقيام بأعمال «السكرتارية» وما شابه ذلك من الشئون المتعلقة بالتجارة.
ولعبت تدمر في التاريخ القديم لبلاد العرب دورًا سياسيًّا، إلى جوار أهميتها التجارية؛ إذ كانت كل من دولتي روما وبارثيا يرقبان بعناية تامة موقفها بينهما، ويخشيان أن ترجح كفة إحداهما عن الأخرى، أما أزهر عصور تدمر فكان في الفترة بين سنتي ١٣٠، ٢٧٠ ميلادية، وإلى هذه الفترة ترجع معظم الآثار التي تحمل نقوشًا، ولقد أزاح سقوط بطرة سنة ١٠٥م من أمام تدمر كل منافسة في التجارة الشرقية، وكان الإمبراطور هدريان يعاملها برعاية خاصة، وعلى أثر زيارته للمدينة سنة ١٣٠م. أطلق عليها اسم هدريانا بلميرا، ثم أعلنت في عهد هذا الملك نفسه تعريفة جمركية جديدة، حلت محل نظام الضرائب القديم الذي كان شائعًا، وقد أخذ النفوذ الروماني منذ ذلك الوقت يتغلغل في تدمر، فلم يكد ينتهي القرن الثاني، حتى كانت تدمر تنحدر إلى مستوى المستعمرة، ولكنها كانت تتمتع باستقلال إداري مع الاعتراف الاسمي فقط بالسيادة الرومانية، وبعد ذلك الوقت بدأ التدامرة يضيفون إلى أسمائهم ألقابًا رومانية.
وبرزت تدمر إلى الأمام إبان الحروب البارثية في القرن الثالث، وأصبحت سيدة الصحراء لفترة قصيرة، فلقد كان الشرق إذ ذاك يضطرب بالصراع بين الإمبراطوريتين البارثية في ثوبها الجديد الساساني والرومانية، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى الدولتين، فآثروا أن ينضموا إلى روما؛ ذلك لأن الإمبراطور الروماني كان — بسبب بعد روما — أقل خطرًا عليهم من الإمبراطور الساني القريب منهم.
واغتنم أهل تدمر فرصة هزيمة الرومان، ونجاح شابور الأول ملك فارس، في التوغل في سوريا، والقبض على الإمبراطور فالريان الروماني، فظهر زعيم أذينة «واسمه عند الرومان أوديناتوس» فحارب شابور وتعقبه إلى أسوار عاصمته طيشفون «المدائن» سنة ٢٦٥م، وبعد موت فالريان منح الإمبراطور جالينوس أذينة لقب الإمبراطور واعترف به سيدًا على كل الكتائب الرومانية في الشرق، ولكن حدث — بعد ذلك بعام واحد «سنة ٢٦٧» — أن قتل أذينة غدرًا هو وابنه الأكبر في مدينة حمص، فانتقلت بعد ذلك مصائر تدمر إلى أيدي زوجته زينوبيا «اسمها بالآرامية باث زباي وبالعربية الزباء وأيضًا زينب» التي كانت تشارك زوجها في نشاطه وتؤيده في سياسته التي ترمي إلى اغتنام الفرصة وتكوين إمبراطورية عربية، لقد أثبتت زينوبيا أنها خير خلف لزوجها، وتولت الحكم بالنيابة عن ابنها الصغير وهب اللات «أي عطية اللات واسمه باليونانية أثينودورس»، ثم نادت بنفسها ملكة على الشرق، مستخفة — إلى حين — بالإمبراطورية الرومانية، لقد كانت تدمر تضم في أيام بلاد الشام وبلاد العرب، ولكن جنود زينوبيا التي قيل إن عددهم كان ٧٠٠٠٠ قد تقدمت الآن لاحتلال مصر، كما احتلت أيضًا جزءًا كبير من آسيا الصغرى، التي دفعت الحاميات الرومانية فيها إلى ما وراء أنقرة سنة ٢٧٠، بل وحاولت أن تبسط نفوذها عند خلقدونة على ضفاف البسفور قبالة بيزنطة، وقد احتلت جنودها في نفس العام — مدينة الإسكندرية ثاني مدائن الإمبراطورية، ونودي بابنها الأصغر ملكًا على مصر، فأصدر عملة أسقط منها رأس أورليان، وأطلق على نفسه لقب الإمبراطور، وكذلك فعلت أمه زينوبيا، وفي سنة ٢٧١ ميلادية أقام القائدان التدمريان العظيمان زبدا وزباي تمثالًا للملك المقتول أذينة، ولقباه — في نقش على قاعدة التمثال — بملك الملوك، وإلى زباي وزبدا هذين يُعزى الفضل — إلى حد كبير — في نجاح زينوبيا في ساحة الوغى.
ولم يكن من الطبيعي أن تصبر روما على هذه الاستهانة بأمرها طويلًا، فتشجع أورليان في آخر الأمر وأعد حملة لغزو تدمر مصدر الخطر كله، فجاء عن طريق آسيا الصغرى، وهبط إلى بلاد الشام، فلاقته جيوش تدمر، تحت قيادة زبدا عند مدينة أنطاكية، ولكنها هزمت، وعند مدينة حمص لاقت جيوش تدمر هزيمة أخرى، وأصبح الطريق الآن مفتوحًا إلى تدمر، فاستولى عليها أورليان في ربيع سنة ٢٧٢، وأصدر عفوًا عن كل سكانها، ولم يعاقب بالقتل إلا كبار الموظفين والمستشارين، وفرت الملكة المتكبرة — وقد تملكها اليأس — على ظهر هجين سريع إلى الصحراء، ولكنها أُسرت هي وولدها في آخر الأمر، وقيدت في سلاسل ذهبية أمام عربة المنتصر الذي أراد أن يفخر بها أثناء دخوله روما مظفرًا.
وعرف أورليان ولم يكد يعبر الدردنيل في طريقه إلى روما أن أهل تدمر ثاروا وقتلوا الحامية الرومانية التي أقامها في المدينة، ونادوا بأحد زعمائهم رئيسًا عليهم، فعاد أدراجه بمنتهى السرعة، دون أن يتوقع عودته أحد، وفاجأ المدينة فأكمل دمارها وأسلم أهليها إلى السيف، ثم نقل تحف معبد الشمس الرائعة وحلية الغالية، إلى المعبد الذي أقامه في روما لإله الشمس في الشرق، تخليدًا لذكرى هذا الانتصار، ولم تنهض المدينة من كبوتها من ذلك اليوم، ولا استردت مجدها وأهميتها، وتركت المدينة أنقاضًا هي نفس الأنقاض التي نراها في الوقت الحاضر، وهكذا غربت شمس المجد التدمري، وكانت كشهاب أضاء لحظة ثم انطفأ.
الحضارة التدمرية
كانت الحضارة التدمرية مزيجًا لطيفًا من عناصر مختلفة، بين يونانية وسورية وإيرانية، ولا جدال في أن أهل تدمر كانوا من الأرومة العربية؛ يدل على ذلك أسماء أعلامهم العربية، وكثرة ترداد الكلمات العربية في نقوشهم الآرامية، وكانت اللغة التي يتكلمونها لهجة من اللهجات الآرامية الغربية، وهي تنتمي إلى الأصل الذي استمدت منه النبطية أو الآرامية المصرية، وهي تضم كثيرًا من المصطلحات الحكومية اليونانية التي صبغها أهل تدمر بصبغتهم، كما أن فيها بضع كلمات لاتينية صبغت بالصبغة الآرامية أيضًا، وأما الخط الذي كانوا يكتبون به فهو تطور للخط الآرامي القديم، وأسماء الشهور عندهم هي نفس الأسماء البابلية التي كان يستعملها الأنباط والسوريون واليهود المتأخرون، وكانوا يحسبون تواريخهم من العصر السلوقي، الذي يبدأ بأكتوبر سنة ٣١٢ق.م.
أما ديانة أهل تدمر فلا تختلف كثيرًا في أصولها عن ديانة أهل شمال سوريا والقبائل العربية الضاربة في الصحراء الشرقية، وكان أشهر آلهتهم إله الشمس ويُسمى عندهم سمس أو شمش ومعناها شمس، وبقايا معبد الشمس الكبير لا تزال قائمة في أنقاض تدمر الآن، وكانوا يعبدون القمر أيضًا، ويسمونه عجلى بل، وكانت أشهر الإلهات الأنثيات الإلهة اللات المشهورة عند العرب القدامى، ومن بين الآلهة بعل شمين «أو سيد السموات» ومن بين الآلهة إله يحمل هذا الاسم العربي الواضح، وهو «شيعا القوم»، وكانوا يصفونه بأنه إله الخير الطيب الذي لا يشرب الخمر، ومعنى شيعا القوم أي حامي أو مرافق القوم، وهو الذي يُرعي القوافل في سيرها، هذا وقد كشفت النقوش عن أسماء نحو اثنين وعشرين إله في تدمر.
وبسقوط مملكة تدمر انتقل الطريق التجاري مرة أخرى إلى الجنوب فحلت بصرى وغيرها من المدائن الغسانية محل تدمر وورثتها كما ورثت تدمر بطرة من قبل.
ولكن تدمر انتعشت قليلًا في أواخر القرن الثالث الميلادي عندما اتخذها دقلديانوس محطة حربية، وقبيل ذلك الوقت سلكت المسيحية سبيلها إليها، بدليل أننا نجد ذكرًا لبعض التدامرة بين الآباء الدينيين الذين حضروا مجمع نيقية سنة ٣٢٥م، وفي سنة ٥٢٧م أمدها جاستنيان بقناطر لجلب الماء، وأقام فيها حائطًا لا تزال آثاره باقية.
وعند الفتح الإسلامي للشام سلمت تدمر لخالد بن الوليد، ولكن أهلها لم يعتنقوا الإسلام، ثم تحولت المدينة إلى معقل إسلامي يأوي إليه الكثيرون من المستعمرين العرب.