السفينة الأسطورية
كان من الضروري أنْ نشرعَ فورًا في شراء قطعة من الأرض بسبب النمو غير المتوقع لأعمالنا التجارية والربح الوفير الذي حقَّقته. طلب مني شركائي التفاوض على شراء بضعة فدادين في محيط «نيو هافِن»، وهو ما شرعتُ فيه على الفور. لكنْ حدث في الأمر تأخيرٌ مزعجٌ نتيجة لتعذر قراءة أحد السجلات العتيقة، وهو ما جعل من المستحيل الحصول على سند ملكية سليم. كنت على وشك التخلي عن محاولة شراء الأرض حينما تذكرت رجلًا مهذَّبًا أعرفه جيدًا قد يتمكَّن من تقديم المعلومات التي يتعذَّر فكُّ شفرتها من السجل العتيق. إنه أستاذٌ في الجامعة، ورجل ذو صيتٍ ذائعٍ كعالم، ودارسٌ مُفعَم بالحماس للعهد الاستعماري للبلدة.
قابلته في مكتبتِه، وأعطاني دون ترَدُّدٍ المعلومات التي كنتُ أبحثُ عنها، وأخبرني أين يمكنني العثور على المستندات القانونية اللازمة لاستخراج سندِ ملكيةٍ واضح كما أرغب. أبهرتني دقةُ عِلمه وغزارته التي كانت تُلبِّي متطلباته كلما احتاج، وسمحت لنفسي بأنْ أتساءلَ عن الجهد العظيم الذي تكلَّفه لتجميع هذا الكم الهائل من الأسماء والتواريخ. ولدهشتي، أخبرني أنني مخطئ وأنه في الحقيقة قد أتقن التعامل مع مثل هذه الأحداث بسهولة، وأن ما تطلَّب جهدًا ذهنيًّا كبيرًا، وفقًا لكلامه، كان عمليات التحليل والمقارنة الضرورية للفصل بين الحقيقة والهُراء والغَثِّ والسمين من النقل والتسجيل، وعمليات التفكير المنطقي الدقيق اللازمة لتتبع الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتائج التي ما إن جُمِّعَت، حتى شكَّلت تأريخًا مسجلًا موثوقًا به.
قال البروفيسور: «على سبيل المثال، لديَّ وثيقة هنا من شأنها أن تُكلفني عناءً كبيرًا في الاجتهاد قبل أن أنتهي منها.»
لاحظتُ وجود لفافة من إحدى المخطوطات موضوعة على طاولة تتناثر عليها الكتيبات والوثائق والكتب القديمة التي أكلها الدود، ولكنني لا أعلم لماذا تَركَّز اهتمامي على نحوٍ خاصٍّ على هذه اللفافة الورقية، فلم تكن سوى مخطوطةٍ عتيقة. كان الورق ذا نسَق مضلَّع وغير مُسطَّرٍ، كهذا الذي كان يُستخدم قبل قرنٍ أو أكثر. وإذا كان لونه أبيض في يوم من الأيام، فقد حوَّلتْه السنون إلى درجة من درجات اللون البيج الفاتح الباهتة، في حين دلَّ الحرص الذي عامل به البروفيسور هذه المخطوطة فيما بعدُ على أن أليافها كانت غير متماسكةٍ وهشَّة. كنت أعلم أنه يتحدَّث عن هذه اللفافة العتيقة، وقد تناولها كما توقَّعت.
أردف قائلًا: «لديَّ هنا سرد تاريخي استثنائي وجدته وسط بعض النفايات في إحدى الغرف العلوية حيث قبعت لأكثر من مائة سنة. إنها قصة حادثة غريبة وغير طبيعية سمعتها بحكم النقل وقد ذُكرت عَرَضًا في «هوامش ماذر»، إلا أنني كنت دائمًا أعتبرها غير جديرة بالدراسة الجادة، متصورًا أنه لا يوجد أيُّ أساس لهذا النقل أو أنه نتاجُ هلوسات دماغ مضطرب. ولكنني الآن لديَّ قصة تتعلَّق بها لا يمكنني تجاهلها كتبها أحد أشد رجال الدين تقوى؛ رجل لا يمكن أنْ يقصَّ الأكاذيب حتى ولو من باب المزاح، وهو يؤكد أنه كان تقريبًا شاهدَ عيانٍ على ما يصفه؛ فكيف إذن يمكنني أن أرفض تصديق هذا السجل؟! إنه يزوِّد المؤرخ بكل ما يحتاجه ويُشبع رغبته في التأكد من صحة أيِّ حَدَثٍ مزعوم. إنها المخطوطة الأصلية لرجلٍ أعلم أنه كان حيًّا يُرزق، وهي لا تستند إلى شائعات. إذا كنا سنؤمن بصحة أيِّ سجل من السجلات القديمة، فلا بدَّ أن نقبل بهذا السجل أيضًا. لا أعتقد أنَّ أيَّ حقيقةٍ تاريخية مؤكدة لها أساس أفضل مما تُقَدِّمه هذه الوثيقة لإثبات صحة تلك الظاهرة الرائعة التي تسجلها.»
أكمل البروفيسور ببعض الحيوية قائلًا: «أعترف بأنني لم يُسند إليَّ مهمةُ حلِّ معضلة كالتي تطرحها هذه المخطوطة من قبل. كمؤرخ، أنا مُضطرٌّ للتسليم بأن ما أقرؤه هنا صحيح، ولكن كفيزيائي، لا بدَّ أن أعتبر الرواية التي يُقدِّمها هذا السجل جامحة وبعيدة الاحتمال للغاية. لو كانت مبنية على شهادة شخص واحد، كان يمكن أن تُرفَضَ بمنتهى السهولة، وأن تُعتبر مجرد حلم أو نتاج خلل عقلي كان المستعمرون الأوائل من المتطهرين (البيوريتانيين) عرضةً له إثر تزمتهم الشديد. إلا أنني أُقابَلُ بتأكيد هذا الكاتب، بالإضافة إلى الدليل الأصيل الذي يُثبت هذا التأكيد، بأنه كان واحدًا ضمن العديد من الشهود الآخرين. إنها بكل تأكيد معضلةٌ مثيرةٌ للاهتمام، وما يجعل المهمة مشوِّقة هو صعوبة التوفيق بين حتمية قبول الرواية كواقعة تاريخية حقيقية وبين وجوب إنكارها كاحتمالية مادية.»
لا شكَّ أن البروفيسور إم قد لاحظ مسرورًا أنه قد أيقظ اهتمامًا بداخلي، ومن جانبي لم أحاول أن أخفي هذا، وأخبرته أنني سأنصت بكلِّ سرور إلى تلك القصة التي حيَّرته بشدة، ومِن ثَمَّ فك المخطوطة المطوية على الفور.
تحدَّث قائلًا: «يبدو أن من كتب هذه هو القس الدكتور برينتِس عام ١٦٨٠. أظن أنه كان خطابًا أرسله لصديق، ولكن عوامل الزمن قد أتلفته فجعلت الجُمَل الأولى منه غير مقروءة. لديَّ مخطوطات أخرى له وبعض المواعظ، ومِن ثَمَّ تمكنت من عقد مقارنة، ووجدت أن خط اليد الذي كُتبت به كل هذه الوثائق متطابق. لن أقرأها بالكامل وسأُعيد صياغة بعض مقاطع النص؛ لأنه مكتوب بالأسلوب الرسمي الجاف الذي ميَّز تلك الفترة، العديد من الكلمات المذكورة فيه مهجورة ولم تَعُد تُستخدم الآن.»
استهل البروفيسور القراءة قائلًا: «حَلَّتْ على التُّجَّار ومَن عملوا بالتجارة فترةٌ عصيبة في عام ١٦٤٦، شِدَّة لم يمروا بها من قبل، حتى خلال الأيام الأولى لمستوطنات مستعمرة نيو هافِن. قبعت السفن في الميناء وضعفت حركة التجارة مع المستعمرات الأخرى، ونظرًا لأن معرفة مستعمري نيو هافِن بالتجارة تزيد عن معرفتهم بالزراعة، فقد كانوا لا يملكون حتى ما يكفي من المال لسدِّ احتياجاتهم من متطلبات الحياة الأساسية. ولكن لولا جهود وإصرار بعض الرجال الأقوياء ذوي العزيمة، لَتعرَّض وجود المستعمرة لخطر مُحدق؛ إذ عزم الكثير على مغادرتها، حتى إنَّ البعض قد اتخذ الترتيبات اللازمة للهجرة إلى أيرلندا. وربما كان عِرق أجبَن وأقل صلابة ليُذعن ويقبل بالأمر الواقع. عندئذٍ تقرَّر كحلٍّ أخير بناء سفينة ضخمة بما يكفي لعبور المحيط، وشحنها وإرسالها إلى إنجلترا على أمل أنْ يُصلِحَ نموُّ التبادل التجاري مع البلد الأم الخسائرَ الفادحة. وقد بنَوا السفينة في مستعمرة «رود آيلاند» بعد أن جابهوا عقبات كبيرة وتغلبوا عليها.
جَمَّدَ الصقيعُ الجداول الأصغر وكانت الأرض مبيضةً بالثلج حينما دخلت السفينة ميناء نيو هافِن. ابتهج الناس ابتهاجًا كبيرًا عند رؤيتها ورؤية ضخامتها؛ إذ كانت تزن مائة وخمسين طنًّا، وكانت مدعاة للتندُّر والتعجب؛ إذ لم يرَ الناس في ذلك الميناء وحشًا ضخمًا كهذا من قبل. أبحرت السفينة إلى مكان رسوها بسرعة وزهو فاردة أشرعتها وكانت تظهر ألوانها بوضوح، فسعد الناس الذين تجمَّعوا عند حافة المياه ليُحيُّوها. دبَّت فيهم الشجاعة حينما رأوها وقالوا: «الآن سيكون لدينا ما يكفينا ويفيض، وسنضاعف ممتلكاتنا بمشيئة الرب».»
توقَّف البروفيسور عن القراءة معلقًا: «كان السيد لامبيرتُن رُبَّان السفينة متشائمًا بعض الشيء، وقد سَجَّل الدكتور برينتِس أن لامبيرتُن أخبره بكلِّ ثقة أنه بالرغم من أن السفينة على أحدث طراز وتبحر سريعًا، فإنها كانت ضعيفةً للغاية — أي تشكك في قابليتها للإبحار بثبات في المياه المضطربة العنيفة — حتى إنه كان يخشى أنها ستسوق كلَّ من أبحر فيها إلى موتٍ محقق، إلا أنه لم يُفصح عن شكوكه إلى أي شخص آخر. كانت السفينة محملة وجاهزة للانطلاق في مطلع شهر يناير من عام ١٦٤٧.»
ثم استأنف القراءة: «سادت البرودة لمدة خمسة أيام ولياليها قبل أن يحين أوان الإبحار إلى لندن، وكانت برودة لم يعهدها الناس من قبل، فقد ظلت الحرارة تحت الصفر بدرجات عِدة وتجمدت المياه المالحة بعمق الميناء، وثبَّتت الثلوج السفينة بإحكام وكأنها مثبتة بمائة مرسًى. لكن أحدًا لم يتكاسل بين الناس، وبالمثابرة الإعجازية، نجح الرجال في شقِّ قناةٍ عبر الثلوج بعرض أربعين قدمًا وبطول خمسة أميالٍ وصولًا إلى مياه المضيق التي لا تتجمد أبدًا. كانت السفينة متجمدة في حين تُشير مقدمتها نحو الشاطئ، وكان من الضروري دفعُها بحيث تدخل المياه المفتوحة بمؤخرتها بدلًا من مقدمتها.
كانت هذه نبوءة مشئومة؛ إذ أكد لامبيرتُن أن البحر والقوى المتصارعة التي تسعى لسيادته تحكمهما مجموعة من الأهواء والنزوات سيُثيرها بكلِّ تأكيد إهانةٌ مثل أن تَدخل سفينةٌ الماءَ بمؤخرتها أولًا. كذلك أخبر بحارٌ عجوزٌ الجميع بأن السفينة التي تُبحر بمؤخرتها أولًا دائمًا ما تعود بمؤخرتها أولًا، وهو ما يعني أنها لا تعود أبدًا إلى الميناء الذي غادرت منه في الأصل.»
قال البروفيسور وهو يضع المخطوطة على الطاولة للحظة: «ستلاحظ أنه تكمن في هذه النُّذُر المشئومة آثار للمفهوم الأسطوري لغموض البحر الذي تأثَّر به جميع البحارة حتى يومنا هذا. ما يبهرني للغاية هو الطريقة التي تصرَّف بها هؤلاء المستعمرون؛ فقد كانوا يؤمنون فيما يخص الأمور الروحية بالقضاء والقدر، وكانت حياتهم وتصرفاتهم فيما يخص الأمور الدنيوية تمتثل لذلك بشكلٍ أو بآخر. ومِن ثمَّ، وبالرغم من هذه النُّذُر المشئومة، لم يفكروا في تأجيل الأمر، حدَّدوا ميعاد الإبحار وعقدوا النية على الشروع فيه. وقد عبَّرَ رجلٌ متدين مثل القس دافينبورت عن هذا الشعور في صلواته، كما يذكر هذا الكاتب. فقد نطق السيد دافينبورت بالكلمات الآتية حالما بدأت السفينة في الإبحار ببطء: «يا رب، إذا كنتَ ترغب في أن يُدفن أصدقاؤنا هؤلاء في أعماق البحر، فلتكن مشيئتك. احفظهم من كلِّ سوء.»
أما الرجال الذين لم تكن تُسيطر عليهم معتقداتهم الدينية بالكامل فلم يذهبوا إلى البحر قط دون ممارسة طقوس طردِ الأرواح الشريرة بطريقةٍ أو بأخرى؛ للتخلص من التأثيرات الشريرة التي كانت تُنبئُ نذُر الشؤم هذه على ما يبدو بانتصارها. تجمَّع على الجليد جميع سُكَّان المستعمرة فيما عدا المرضى والضعفاء، حوالي ثمانمائة أو ألف نفسٍ؛ إذ كان على السفينة أقاربهم وأصدقاؤهم. وقد وَدَّعوا المغادرين بتعبيراتٍ لا تنمُّ عن الحزن ولا الفرح؛ كان التحفُّظ والخنوع، بل وكبح جماح جميع العواطف وقهرها، هي قاعدة الحياة لدى هؤلاء الناس، وقد فهمت من تعبيرٍ أو اثنين ذُكرا في هذه القصة أنه لم يكن هناك من قبل أيُّ وداعٍ أكثر تحفظًا ورسميةً من هذا.
حين وصلت السفينة إلى المياه العميقة وبينما كان أحد أشرعتها ينتفخ بالهواء، خرَّ الناس راكعين في حركة واحدة على الجليد وصَلَّوْا. كانت السفينة على بُعد خمسة أميال، صفَّى البرد الأجواء وكان يمكن رؤية السفينة بشكلٍ واضح، وبينما كان الناس يُصلُّون وعيونهم مثبتة على السفينة البعيدة المتضائلة، اختفت فجأةً، اختفت بسرعة كما لو كان قاعها قد سقط فغرقت في الحال. يقول هذا الكاتب معلقًا: «بلى، اختفت فجأة؛ إذ حينما كانت أعيننا جميعًا مثبتة عليها، وفي اللحظة التالية اختفت في طرفة عين. نهضنا وحدَّقنا بثبات إلى الفضاء الخالي الذي رأيناها فيه آخر مرة، ثم التفتنا ناظرين بعضنا إلى بعضٍ بدهشة، إلا أنها تكشفت لنا في اللحظة التالية كما كانت من قبل وراقبناها حتى اختفت خلف لسانٍ من الأرض التي كانت تحد الميناء إلى الشرق، فتفرقنا ونحن نتعجب من هذا المشهد الغريب الذي رأيناه وكنا لا نعرف ما يعنيه. كان هناك البعضُ ممن كانوا مقتنعين بأنه كان يدل على أنها كما اختفت وعاودت الظهور مرةً ثانية، فبالمثل سنراها مرة أخرى بعد أن تُتمَّ رحلتها. ولكن كان هناك الكثير ممن طُبع في أنفسهم أنه على الرغم من أننا سنراها مرةً أخرى، فإن المشهد سيكون غير مكتملٍ. وعاد الناس إلى بيوتهم خاضعين ومستسلمين لإرادة الرب».»
وأردف البروفيسور وهو يضع المخطوطة على الطاولة مرة أخرى: «كما ترى، في خضم كل هذا المزيج الذي لا يمكن تفسيره من الأمل والإيمان بالقضاء والقدر والذي كان، كما أعتقد، واحدًا من الأُطُر الفكرية الحتمية لهؤلاء الناس المتزمتين المُفرطي التدين، ظلَّ من الممكن تفسير حقيقة اختفاء السفينة وظهورها المفاجئ بواسطة أسبابٍ طبيعيةٍ وبسيطة، لكن ذلك لم يكن ممكنًا مع الظاهرة التي وُصفت لاحقًا.
حسب الترتيب الطبيعي للأحداث، كانت ستصل المستعمرين بعض الأخبار عن سفينتهم بعد مرور ثلاثة أشهر على إبحارها، لكن لم تأتِهم أيُّ أخبار. ولم تأتِهم السفن التي أبحرت من إنجلترا في مارس وأبريل ومايو وحتى في يونيو بأيِّ أخبار عن وصول السفينة، ولم يكن من الممكن التخفيف من حدة قلقهم إلَّا بطريقة واحدة. كان يمكنني الجزم — حتى وإن لم أملك الدليل على ذلك — بأن المستعمرين لم يجدوا العزاء الذي كانوا ينشدونه دائمًا إلَّا في الصلاة. كما يمكنني أن أقطع بكلِّ جزم بأنهم لم يطلبوا ردَّ القضاء في صلواتهم، بل فقط أن يستقبلوا بخضوعٍ ما كتبه الله عليهم أيًّا ما كان، وكان الرجوع إلى ما ذُكِرَ في مخطوطتهم هو ما يُبرِّر ثقتي هذه؛ إنه مذكور في الرواية.» وهنا عاد البروفيسور يقرأ من المخطوطة مرة أخرى: «فشلهم في معرفة مصير سفينتهم دفع هؤلاء المتدينين إلى الإكثار من الصلوات الجماعية والفردية، ودعَوا الرب، إن شاء، أن يعرفوا أيَّ أخبارٍ عما كتبه على أصدقائهم الأعزاء وأن يُعينَهم على الخضوع لإرادته المقدسة.»
وأضاف معلقًا: «في كل الروايات التي نمتلكها عن الصلوات، لم أجد شيئًا يُضاهي ذلك، إن تلك المخطوطة تُلخِّص مجلدات من التاريخ. بنصٍّ بسيطٍ كهذا يمكن لعالم إثنولوجيا ومؤرخ أنْ يصوغا تاريخَ شعبٍ، وأن يرصدا طابعه الإنساني المتجسد في عبء القلق الثقيل وصبغته الدينية الإيمانية التي تتسم بالخضوع للقضاء، وبالثقة بأن دعواتهم ستُستجاب.
يبدو أن هؤلاء الناس قد اطمأن قلبُهم إلى الاعتقاد بأن هذا التضرع الاستثنائي سيكون فعَّالًا. وبعد نقل نص الدعاء وسرد ما حدث، يستكمل الدكتور برينتِس روايته كما لو كانت هي الإجابة المتوقعة. إنه يكتب أيضًا بدقةٍ ووضوحٍ التفاصيل المتوقعة من شاهد العيان كدليلٍ أصيلٍ على صحة روايته. استنتجتُ أنهم تلقوا العلامات بعد الدعاء بيوم أو اثنين، إذ هبَّت عاصفة رعدية شمالية غربية، من العواصف الضارية التي تتبع أحيانًا الاضطرابات الطبيعية التي تحدث في ذلك الجزء الشمالي الغربي. ويبدو أنها قُبِلَتْ على أنها نذير لما سيحدث لاحقًا. صَفَتِ الأجواء على نحوٍ غير عادي بعد مرور العاصفة، وقبل ساعة من غروب الشمس أتت مكافأة إيمانهم. اكتشف أحدُ الرجال بعيدًا، حيثما كانت شواطئ لونج آيلاند بالكاد تُرى، سفينةً وهُرع لإخبار المستعمرين بذلك، فتجمَّعوا على الشاطئ ورأوا سفينة أشرعتها مفرودة بالكامل ومنتفخة بفعل الرياح، وكان جسم السفينة مائلًا إلى أحد الجانبين بفعل الضغط الواقع على الصواري والسرعة التي كانت تحملها بها الرياح.
صاحوا مهللين: «إنها سفينتنا! نشكر الرب؛ لقد استجاب لصلواتنا.»
ورغم أنهم شاهدوا الرياح تدفعها وبدا لهم أنها تُبحر بسرعة ستجعلها تصل إليهم في غضون ساعة واحدة، فقد لاحظوا أيضًا أنها لم تكن تتقدم على الإطلاق، وظلَّت على هذا الحال مدة نصف ساعة. وبينما كانوا لا يزالون مشدوهين بهذا اللغز، وجدوا أنها قد اقتربت فجأة، وكانت تُبحر بما بدا أنها سرعة طائشة متهورة؛ إذ كانت تمر في قناة ضيقة وعميقة بما يكفي بالكاد للسماح بمرور سفينة بهذا الحجم بصعوبة شديدة. صاح الأطفال قائلين: «إنها سفينة شجاعة!» أما الكبار فقد غمرهم القلق خوفًا من أن تجنح السفينة إلى المياه الضحلة أو أن تتحطم على الشاطئ؛ فأشاروا بإيماءات تحذيرية، على الرغم من أنهم لم يتمكَّنوا من رؤية أي شخص على سطح السفينة.
ولكنهم على الأقل لاحظوا شيئًا لم يلتفتوا إليه في فورة حماسهم: يقع الميناء إلى الجنوب، والقناة نفسها تجري شمالًا وجنوبًا. كانت السفينة تشق طريقها نحوهم بسرعة كبيرة وأشرعتها منحنية بعنف بسبب قوة الرياح الثابتة التي كان يبدو أنها تأتي على هيئة عاصفة من الجنوب، إلا أن الرياح في الواقع كان اتجاهها شماليًّا. حينئذٍ، أدركوا أنهم كانوا يشهدون ظاهرة غامضة. اقتربت السفينة منهم بشدة حتى تصوَّر البعض أنهم يمكنهم أن يقذفوا بحجرٍ على سطحها بكلِّ سهولة، فقد تمكَّنوا من رؤية التفاصيل الصغيرة: المسامير، والمرساة وسلاسلها، وغطاء الحبال الصغيرة، والاهتزاز المتناغم للراية التي تشبه الشريط والتي كانت ترفرف في مقابلة الريح، إلا أنهم لم يروا أي شخص على متنها.
انتظر الناس بإصرارٍ وثباتٍ ظهور أي أمارات أخرى. وفجأة، حينما كانت السفينة تبدو أنها أمامهم مباشرة، طارت المنصة الرئيسية للصاري دون صوت وكأنها سحابة تنفصل عن الأخرى بكلِّ سلاسة، وظلت معلقة بأوقية حبل الصاري، ثم انخلع شراع الصاري الخلفي للسفينة وسقط مُحدثًا دمارًا كبيرًا، ثم سقطت الأشرعة من السفينة وتشابكت بفعل ليِّ الرياح القوية التي كانت تهب في هيئة دوامات كاسحة. تمزَّقت الأشرعة حتى صارت شرائط رفيعة تدور وتدور في الهواء، في حين نُزِعَت الحبال وتفكَّكت حتى صارت خِرَقًا بالية تضرب بقوة على سطح السفينة دون أن تُحدث صوتًا. وسريعًا بدأ هيكلها يميل، وأخيرًا رفعتها موجة هائلة ثم غاصت في الماء. بعد ذلك ظهرت سحابة من الدخان في هذا المكان المحدد وكأن حجابًا قد سقط من السماء، وحينما اختفت بدا البحر هادئًا في لمح البصر والمكان خاليًا تمامًا. اعْتَقَدَ الناس أن الرب قد أخبرهم بالفعل بالنهاية المأسوية لسفينتهم، وجدَّدوا شكرهم له على إجابة صلواتهم، وأعلن القس دافينبورت على الملأ قائلًا: «إن الله قد رأف بحالهم وهدأ أرواحهم الحزينة بأن جعلهم يرون هذه القصة الاستثنائية التي تُظهِرُ مشيئته التي نَفَذَت على مَن لم نتوقَّف عن الصلاة من أجلهم باستمرار».»
أردف البروفيسور وهو يضع بعناية المخطوطة بعيدًا قائلًا: «ترى إذن هذه المعضلة الاستثنائية التي تُقابلني هنا، فإذا قبلتُ بأيِّ دليل مُسجَّل، فلا بدَّ أن أقبل بهذا أيضًا، ولكن العلم يخبرنا بأنَّ قوانين الطبيعة لا تتغير أبدًا، فما هي الحقيقة إذن؟»