كارل بوبر: مائة عام من التنوير
«شدَّ ما تَستَهوِينا الأَمثِلةُ المُؤيِّدةُ وَيَجرُفُنا التَّفاؤلُ السَّاذَج. نَحنُ لا نَعرِفُ التَّساؤُلَ وَلا النَّقد، ونَحنُ نَرَى كلَّ شَيءٍ بعَينِ نَظريَّتِنا فَلا نَرَى غَيرَها! وغَايةُ الفِكرِ عِندَنا أنْ نَبْحثَ لقَضيَّتِنا عَن مِثالٍ مُؤيِّدٍ أو بِضْعةِ أَمْثِلةٍ نَظُنُّ فِيها انبِلَاجَ الحقِّ وفَصْلَ الخِطاب. ولا نَدرِي أنَّ التَّأييداتِ لا تُثبِتُ شَيئًا ولَا تَحسِمُ قَضِية، وأنَّ «المُكذبات» هِي المِعيارُ والفَيصَل.»
لا يَكادُ المَرءُ يَذكرُ فَلسَفةَ العِلمِ فِي القَرنِ العِشرِينَ إِلَّا ويَذكرُ مَعَها اسمَ «كارل بوبر»، ذَلكَ الفَيلَسُوفِ الذِي كَشفَ للعُلماءِ مَبدَأً لَطَالَما تَبنَّوهُ عَرَضًا بِحُدوسِهِم وتأمُّلاتِهِم دُونَ دِرَاية؛ ذَلِك هُو «مَبدَأُ التَّكذِيب»؛ فَمُنذُ بِدايةِ قِصةِ العِلمِ الحَديثِ فِي القَرنِ السَّادسَ عَشَرَ و«الاستِقراءُ» يَتربَّعُ عَلَى العَرشِ كَمَبدَأٍ لتَحقُّقِ فِكرةِ العِلم، إلَّا أنَّ «كارل بوبر» قوَّضَ هَذهِ المَكانةَ وزَعزعَ أَركانَها إلى حدٍّ كَبِير، حِينَ أكَّدَ أنَّ العِلمَ لا يَعملُ بهَذِه الطَّرِيقة؛ فالمُلاحَظاتُ التِي يَرصُدُها العالِم غَيرُ مُحايِدة، وتُضمِرُ بَينَ ثَنايَاها فُرُوضَ نَظَريةٍ مُسبَقةٍ وشَوَائبَ مِيتافِيزِيقِية؛ لِذَلِك فإِنَّ «مُشكِلة التَّميِيز» بينَ العِلمِ واللاعِلمِ تَعتمِدُ عَلى مَبدَأِ التَّكذِيب مِن حَيثُ هُوَ المبدأُ القَادِرُ عَلى تَفحُّصِ النَّظرِيةِ باستِمرَار، ودَحضِ جَوانبِ الضَّعفِ فِيها، ودَفعِ المَعرِفةِ باتِّجاهِ النُّمُو. وفِي هَذَا الكِتابِ الشَّائقِ والمَاتِعِ حَرَصَ الدُّكتُور عادل مصطفى عَلى استِعراضِ نِتاجِ هَذا الفَيلَسوفِ العِملاقِ مُركِّزًا عَلى الجَوانبِ التِي ظَلَّت مُعْتِمةً مِن فَلسَفتِهِ فِي المَكتَبةِ العَربِية.