كلمة
«مِن دَأب الفَهم البَشَري عِنْدما يتبنَّى رأيًا (سواء لأنه الرَّأي السَّائد، أو لأنه يروقه ويَسُرُّه)، أن يُقسِر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنَّه قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنَّه إمَّا أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها وينبذها، لكي يَخلُص، بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبِق، إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا، ذلك الذي بَدَرَ من رجلٍ أطلعوه على صورةٍ مُعلَّقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورهم ومن ثَمَّ نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنًا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»
وهكذا سبيلُ الخرافة، سواء في التَّنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث نجد النَّاس، وقد استهوتهم هذه الضَّلالات، يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أمَّا الأحداث التي لا تتفق، رغم أنَّها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.
على أنَّ هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقةً إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يُقاس، وفضلًا عن هذا، وبغض النَّظر عن ذلك الهوى والضَّلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تسِم الفكرَ الإنساني في كل زمان أنَّه مغرم ومولع بالشَّواهد الموجبة أكثر من الشَّواهد السَّالبة، حيث ينبغي عليه أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنَّه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السَّلبي هو أقوى المثالَين وأكثرهما وجاهةً وفعاليةً.»
الأورجانون الجديد: الكتاب الأول، شذرة ٤٦