الفصل الثاني
بوبر والتحليل النفسي١
مع بزوغ العقل، وبزوغ النظريات، تغير أسلوب الانتخاب الطبيعي، وتبدلت عُدَّة الصراع
من أجل البقاء. وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابةً عنا، وتموت بدلًا
مِنَّا.
[بوبر: النفس ودماغها، الفصل ٦، موجز]
للعلم مطلبٌ صارمٌ، هو تشييد نظريات علمية. ولا يمكن لنظريةٍ أن تُعد نظريةً علميةً
مقبولةً ما لم تضطلع بتفسير قطاعٍ ما من الظواهر، وما لم تكن قابلةً للاختبار. فالنظريات
تتيح لنا أن نتخطى الارتباط الغُفْل بين الملاحظات، إذ تُمكِّنُنا من تفسير ملاحظاتنا
وارتباطاتها بلغة الضرورة القانونية. ولا يكتفي العلم بمجرد وصف الظواهر وارتباطاتها
معًا،
بل يحاول تفسير الظواهر وتفسير ارتباطها. قد يلاحظ المرء مثلًا أن الدببة القطبية بيضاء،
فبياض الدببة القطبية هو «ظاهرة» Phenomenon. ثُمَّ إن
خاصية كونها دببة قطبية وخاصية كونها بيضاء هما خاصيتان «مرتبطتان إمبريقيًّا» Empirically Correlated. كل ذلك حسن وجميل،
ولكنه ليس تفسيرًا. إنه مجرد وصف (هكذا حال العالم). أمَّا التفسير فتأتي به نظرية الانتخاب
الطبيعي التي فسرت سِرَّ بياض الدببة بين كثير مما فسرته: فللدببة البيضاء من بياضها
مَزِيَّةٌ ترشحها للبقاء وأفضليةٌ على مُنازعيها في عالمها الجليدي الأبيض.
ومن المزايا الكبرى للنظريات، فضلًا عن التفسير،
أنها تتيح لنا وضع تنبؤات. وقد كان بوسع البشر، حتى قبل عصر العلم أن يقيموا بعض التنبؤات:
فاطراد الليل والنهار، وأطوار القمر، وتعاقب المواسم، كل أولئك كان يسمح لهم بدرجة من
التنبؤ منذ زمنٍ موغلٍ في القدم، إلا أن العلم بطبيعة الحال قد وَسَّع كثيرًا من مجال
قدراتهم التنبؤية.
وللتنبؤ الذكي أهميةٌ كبرى تُيسِّر للإنسان سُبُلَ العيش وتمنح بني الإنسان أفضليةَ
بقاءٍ
على غيرهم من فصائل الكائنات. إلا أن للتنبؤات أهمية حتى في العلم البحت، فالتنبؤات التي
تنتجها نظريةٌ من النظريات هي ما يجعل اختبارها ممكنًا. فإذا تعذَّر اختبارُ نظريةٍ ما
بسبب
عُقمِها من التنبؤات القابلة للاختبار بَقِيَت عديمة القيمة. وقد ركزت بعضُ المذاهب العلمية
كالوضعية المنطقية على فكرة «التحقيق» Verification
كمعيارٍ للعلم ومحك لصدق النظرية وإثباتها بالملاحظة والتجربة. إلا أن كارل بوبر يَبدَهنا
بغير ذلك فيقول إن مجرد التحقيق ليس شيئًا، وإن التحقيق لا يؤدي إلى تقدم العلم ولا يحفز
الكشف العلمي الأصيل.
(١) التحقيق والتكذيب
يمكننا أن نفسر العلاقة المنطقية بين التحقيق والتكذيب كما يلي (وسوف نستخدم ارتباطًا
تجريبيًّا بدلًا من نظرية حقيقية توخيًّا للتبسيط): تتنبأ النظرية القائلة بأن الدببة
القطبية يجب أن تكون بيضاء بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة سيكون أبيض، فإذا حدث
أن كان الدب القادم أبيض حقًّا فقد يُغريني ذلك بأن أقول إن مشاهدتي هذه تحقق النظرية،
ولكن الحقيقة أن هذه المشاهدة لا يمكن أن تُعَدُّ برهانًا نهائيًّا على صدق النظرية،
ذلك لأن هناك احتمالًا سيظل قائمًا أبدًا بأن يأتي دبُّ قادمٌ في رتل الملاحظة غير
أبيض، وإذا حدث هذا تكون هذه الملاحظة بمفردها كافية لتكذيب النظرية بصفة نهائية. «هكذا
يتبين لنا أن التحقيق لا يحسم أمر النظرية، بينما التكذيب يمكن أن يكيل للنظرية ضربة
واحدة قاضية.»
(٢) مفارقة التأييد (التحقيق)
Paradox of Confirmation
توضح لنا هذه المفارقة (وتُسمى أيضًا مفارقة
الغربان
Ravens Paradox) مدى التعقد الكامن في منطق التحقيق: إن التعميم «جميع
الغربان سود» مكافئ منطقيًّا ﻟ «جميع الأشياء غير السوداء ليست غربانًا». وبما أن
الدليل المؤيد لعبارةٍ هو مؤيد أيضًا لمكافئاتها المنطقية، فإن وجود دب قطبي أبيض ما
(وهو ليس أسود وليس غرابًا) يجب إذن أن يدعم التعميم بأن كل الغربان سود! وهي مفارقة
واضحة تتجنبها الآراءُ المنادية بالتكذيب كمعيار أساسي للعلم، فوجود دب قطبي أبيض لا
يمكن أن يكذِّب التعميم المذكور، بعكس وجود غراب أبيض.
٢
بدأ بوبر حياته الفكرية ماركسيًّا نَشِطًا ومساعدًا لألفرد أدلر السيكولوجي الشهير،
ولكنه سرعان ما خاب أملُه في الماركسية والأدلرية وتتبدَّد وهمُه. وفي المقابل كانت
اكتشافات أينشتين إلهامًا عظيمًا له، وبخاصة في موقفها العلمي نفسه، ذلك الموقف الجسور
المخاطر المفتوح للنقد: النقد الذاتي والنقد الخارجي. لقد كانت نظرياته جريئةً بعيدةَ
الاحتمال تُخبِر عن العالم خبرًا محددًا لا لبس فيه، وتعرِّض نفسَها لأقسى الاختبارات،
وتكشف صدرَها لنصلِ الحقيقة، بل تُحدِّد نقاطًا بعينها وتقول: ها هنا مقتلي إن شئتَ
قتلي!
أمَّا التحليل النفسي والأدلرية فلم يجد فيهما بوبر هذه الأمارات العلمية. لقد كانا
يُشيران إلى كل بينة متسقة مع النظرية (أن بعض الناس لديهم أعصبة ناجمة عن دفعات جنسية
أو صراعات مكبوتة، أو أن الناس مدفوعون في سلوكهم بعقدة النقص أو عقدة التفوق … إلخ).
هكذا كانت هذه النظريات «محقَّقة» Verified بالمعنى
الوضعي المنطقي. غير أن بوبر كان قد أدرك أن التحقيق لا يؤسس نظرية ولا يبرهن على شيء
برهانًا نهائيًّا. كذلك استرعت انتباهَه تلك القدرة التي تتمتع بها هذه النظريات على
تفسير كل كبيرة وصغيرة في مجريات الأحداث ومسارات السلوك أيًّا كانت وكيفما أتت، حتى
تلك الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى غير متسقة مع النظرية.
كان بوبر يسأل نفسه: ما هو الشيء الغائب عن هذه النظريات (أو أشباه النظريات) والذي
تتحلى به النظريات العلمية الحقيقية من مثل نظرية أينشتين في الجاذبية التي أيَّدتها
ملاحظات إدنجتون أثناء كسوف الشمس؟ وكان الجواب قاطعًا: «النظرية العلمية الأصيلة إنما
هي النظرية التي لديها القدرة على تقديم تنبؤات يمكن من حيث المبدأ أن يتبين كذبها.
قابلية التكذيب Falsifiability إذن، وليس
قابلية التحقيق Verifiability، هي معيار العلم
الأصيل وأمارته وسمته المميزة.»
أمَّا عن التحقيق فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأدلة التي تتسق معها
وتحققها. وتزعم معظم هذه النظريات أنها مشيدة أصلًا على أساس من التفكير الاستقرائي؛
أي
استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعًا. وماذا يكون التحقيق هنا سوى
مجرد الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عُقمٌ لم
يأت بجديد. أمَّا المنهج المُجدِي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيًّا Deductively، ونفتش بهِمة عن حالاتٍ مفنِّدة للنظرية؛ لأن العثور على
مثال مضاد واحد سيكون كافيًا للإجهاز عليه. أمَّا إذا صمدت النظرية للتفنيد، فإنها
ستُعَد قويةً وأهلًا لاستمرار الدعم.
ويوجز بوبر تعريف النظرية التجريبية الأصيلة في كتابه «منطق الكشف العلمي» بقوله:
يُقال للنظرية إنها «إمبيريقية» أو قابلة للتكذيب إذا قَسَّمَت فئةَ كل
القضايا الأساسية الممكنة بغير غموض إلى الفئتين الفرعيتين غير الفارغتين
الآتيتين:
- الأولى: فئة كل القضايا الأساسية التي لا تتسق معها (أي التي تمنعها
النظرية من الحدوث)، ونحن نطلق عليها فئة «المكذِّبات
بالقوة» Potential Falsifiers.
- الثانية: فئة كل القضايا الأساسية التي لا تناقضها (أو التي تسمح
بها)، ويمكننا أن نضع هذه بصورة أكثر إيجازًا بالقول: تكون
النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذِّباتها بالقوة غير
فارغة. (بوبر: «منطق الكشف العلمي – الفحص المنطقي لقابلية
التكذيب»)
وقد كشف بوبر النقاب عن مشكلة أخرى بشأن النظرة الوضعية المنطقية، وهي أن بإمكان
النظرية أن تقدم تنبؤات شديدة الحذر والتحوُّط (وهو ما يمكن أن تفعله أيضًا العديد من
النظريات الأخرى حول نفس الموضوع)، والتي لا يكون تحقيقها مستغربًا أو مثيرًا، ولا تسهم
بشيء في تقدم العلم. أمَّا التنبؤات التي تسهم حقًّا في تقدم العلم فهي التنبؤات
الجديدة المخاطِرة غير المتوقعة والتي يسميها بوبر «الحدوس الافتراضية الجريئة» Bold Conjectures.
«ذلك أن كل نظرية علمية أصيلة هي نوع من «المنع» أو «الحظر»: إنها تمنع أشياء معينة
من
أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية. أمَّا النظرية
التي تسمح بكل شيء و«تمرر» كل شيء وتفسر كل شيء، فهي لا تقول شيئًا، ولن تكون نهايتها
المنطقية سوى أن تُلحق بتحصيلات الحاصل.»
وكذلك الشأن بالنسبة لدرجة «احتمالية» الفرضية،
باصطلاح بوبر: يذهب بوبر، وهو ما يبدو مفارقة للنظرة الأولى، إلى أن النظرية الأكثر
احتمالًا هي الأقل في المحتوى المعلوماتي، والعكس بالعكس، ومن هنا كانت الفرضيات غير
المحتملة هي الأفضل من الوجهة العلمية والأكثر إثارةً لاهتمام العلماء الحقيقيين، فمثل
هذه الفرضيات الجريئة البعيدة الاحتمال تملك قوة تنبؤية عالية، وهي بالتالي أكثر قابلية
للدحض. وبالطبع يُشغَف العلماءُ بالفرضيات البعيدة الاحتمال القريبة رغم ذلك من
الحقيقة؛ أي التي صمدت لأعتى اختبارات التكذيب، مثل نظرية أينشتين عن «التواء المكان»
بفعل الكتل الكبيرة.
(٣) تحصين النظريات
من دأب بعض أصحاب النظريات التي يتبين كذبها بالاختبار أن يظلُّوا متمسكين بها ولا
يتخلُّوا عنها، وأن يقوموا بعملية أشبه بالترقيع النظري لإنقاذ النظرية من الدحض. ومن
الوسائل المعهودة في ذلك إدخال «فرض
مساعد» Auxiliary Hypothesis، أو «فرض عيني
تحايلي» ad hoc Hypothesis على مقاس الشواهد المضادة بغرض استيعابها داخل النطاق
التفسيري للنظرية. مثل هذا الإجراء ممكن دائمًا وميسور لأية فرضية مهما بلغت عبثيتها
وهشاشتها، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض بقدر ما ينال من مكانتها العلمية ومحتواها
المعلوماتي.
وثمة تحايل آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تخرج المثال المضاد Counterexample من التعريف نفسه. فإذا كُنَّا مثلًا بصدد العبارة
الكلية «كل الغربان سود» وجابهَنا شاهدٌ مضادٌ لغراب أبيض لأمكننا القول: «إن غرابًا
أبيض هو ليس غرابًا على الإطلاق.»
مثل هذه الفروض التحايلية المقحمة، والمناورات التعريفية، هي نوع من الغش والمماحكة،
وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالم الحق أن يتجنبها قدر المستطاع. ورغم أن الفروض
العينية تُستخدم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل بوبر
جهده لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعة علميًّا، وغير
معطلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق
لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابًا من الحقيقة.
٣
تُعَدُّ هذه الطرق (الفروض العينية، المناورة الاصطلاحية … إلخ) وسائلَ أو خُدعًا
ﻟ «تحصين» النظرية من الدحض Immunization Stratagem.
ويميز بوبر بين التحصين الصادق والتحصين الزائف، فالتحصين الصادق يدافع عن النظرية
بواسطة توقعات هي ذاتها قابلة للتكذيب. ومن أمثلة التحصين الصادق ما زعمه علماء
الفيزياء النيوتونية من أنه لا بد أن يكون هناك كوكب آخر بعد أورانوس، وذلك عندما
أعجزهم تفسيرُ انحراف المسار — وفقًا للحسابات — بأي طريقة أخرى. بذلك حصَّنوا فرضيتهم،
غير أن هذا التحصين هو في الحقيقة قابلٌ للتكذيب من حيث المبدأ. وعندما تحسنت طرق
الملاحظة فيما بعد تبين أنهم كانوا على حق. لقد أسهم تحصينهم في البحث عن الكوكب
«نبتون» واكتشافه في النهاية. هذا مثال للتحصين الصادق، أمَّا التحصين الزائف فمن شأنه
أن يجعل تكذيب الفرضية أمرًا مُحالًا من حيث المبدأ. يقول بوبر: «حين تذهب لمحلل نفسي
فإنه يُعالجك، فإذا شعرت بتحسن بعد ذلك فهو يقول لك: ها أنت ترى الآن فعالية التحليل
النفسي، فأنت تشعر بتحسن. أمَّا إذا لم تتحسن حالتك بعد ذلك أو حتى إذا ساءت بحيث
أبديتَ رغبتك في ألا تُكمل العلاج فسوف يقول لك: الآن تجد نفسك في طور «المقاومة» Resistance وهو طور متوقَّع ويُثبت أن كل شيء يمضي
كما يجب.»
(٤) مُجْمَل فكرة التكذيب
توجز باتريشيا تشرشلند فكرة التكذيب عند بوبر بصياغة محكمة إذ تقول: «كان بوبر
مناوئًا لفكرة أن المعرفة العلمية تتراكم عن طريق تأييد الفرضيات أو تحقيقها. وفي تصور
شديد الاختلاف والجِدة لدينامية العلم ذهب بوبر إلى أن الفرضيات لا تكون جديرة بالقبول
ما لم تكن قابلةً للتكذيب. كانت فكرته مدمِّرة وبسيطة: من السهل أن تجد أمثلةً مؤيِّدة
للفرضيات، سهولة تجعل من المستبعد أن يكون هذا هو طريق العلم الصحيح. تأمَّل مثلًا
فرضية بسيطة مثل: «جميع النباتات تتكاثر جنسيًّا». فإذا كان كل ما يلزمني هو الشواهد
المؤيدة لذلك، فإن بميسوري أن أُهرَع إلى الحديقة واكتشف أن جميع الزنابق الستمائة
وأربع وستين تتكاثر جنسيًّا، وجميع البنفسجات التسعمائة وثلاث وخمسين تتكاثر جنسيًّا،
وهلم جرًّا. وسرعان ما يجتمع لديَّ عددٌ هائلٌ من الأمثلة الموجبة. ومع ذلك فلو اطَّلع
أيُّ عالِم نبات على عملي فلن يأبه له؛ لأنني لم أحاول أن أجد مثالًا مفنِّدًا؛ لم أنظر
إلى حالات يمكن أن تكون أمثلة مضادة، فقبل تبني أي فرضية ينبغي عليَّ أن أفحص كثيرًا
من
الأنواع المختلفة من النباتات المزهرة، وأن أفحص الأعشاب والسراخس، وبعامة يجب عليَّ
أن
أحاول جهدَ ما أستطيع أن أُكَذِّب فرضيتي.»
تأمَّل فرضيةً أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج
الكلام. فلكي يبرهن المرءُ على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين
حالات تلَفِ منطقة بروكا وبين فقدان الكلام. فلا بدَّ للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك
مرضى
بتلفٍ في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كان هناك حالات فقدان نطق مع
تلف في مناطق أخرى. عندئذٍ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات
المؤيِّدة. تفيد دعوى بوبر أن العالِم إذا قَبِل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيدة
فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يحصى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من
الطرق المسدودة. أمَّا إذا ظفر بفرضيةٍ صمدت لمحاولات عنيفة لتكذيبها، فعندئذٍ يمكنه
قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيَّدة، بل باعتبارها أفضلَ
فرضيةٍ متاحة حتى الآن. لقد أتى بوبر بتصور للتبرير مختلف عمن قبله، وخلص من ثَمَّ إلى
آراء مختلفة تمامًا حول ديناميات العالم وبنيته وديناميات المعرفة وبنيتها على وجه
العموم.
وفضلًا عن ذلك رفض بوبر الافتراض القائل بأن على العلم أن يحاول صياغة فروضٍ شارحةٍ
عاليةِ الاحتمال. وقال على العكس بأن الفروض لا تكون مثيرة للاهتمام ما لم تكن جريئة،
أي غير محتملة، أي الأرجح لها أن تُكَذَّب، ذلك أنها إذا صمدت عندئذٍ للتكذيب باختبار
عنيف يكون ذلك نصرًا وتكون هذه الفرضية ذات دلالة كبيرة. إن الفروض الآمنة (أي
المحتملة) رخيصة لا تساوي شيئًا (العشرة بقرش) وأأمنُ الفروض هي الحقائق المنطقية. وإذا
كان مرامُ العلمِ الأولُ هو مجموعة من الحقائق اليقينية فإن عليه بغزل المبرهنات
المنطقية لا يبرحها. غير أن عيب هذا الأمان هو أنه لا يوصلنا لشيء. لقد كانت فرضية
أينشتين بأن هندسة المكان «تنحني» بفعل الكتل الكبيرة فرضيةً بعيدةَ الاحتمال جِدًّا
باعتبار النظرية السائدة في ذلك الوقت. فإذا أصاب أينشتين لوجب أن يُرَى نجمٌ معين
أثناء كسوف الشمس في موضع معين، وإذا أخطأ لوجب أن يُرَى في موضع آخر. فلما صمدت
الفرضية لاختبار التكذيب (مشاهدات إدنجتون) كان هذا أمرًا بالغ الدلالة.
٤
(٥) بوبر والتحليل النفسي
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر رحلةَ عقلِه مع الأفكار العلمية.
يقول بوبر: «في صيف عام ١٩١٩ بدأ يداخلني شعورٌ بعدم الارتياح لهذه النظريات، وبدأ
يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية. ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلًا بسيطًا:
«ما بال هذه النظريات؟ ولماذا تبدو مختلفة عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن،
وبصفة خاصة عن نظرية النسبية؟» ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أُفضي بأن أغلبنا في
ذلك الوقت ما كان يمكن أن يقول إنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية. من هذا
يتبين أن ما كان يؤرِّقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات، بل هو شيء آخر. ولا كان
ما
يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي
من
النظريات. لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة
والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات، وإن اتشحت بوشاح العلم، تُشبه
الأساطير البدائية أكثر مما تُشبه العلم، تُشبه التنجيم أكثر مما تُشبه علم الفلك.»
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد
من
الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيَّما ما تتمتع به من قوة تفسيرية واضحة. لقد
بدت هذه النظريات قادرة فعلًا على تفسير كل شيءٍ يحدث ضمن نطاقها الخاص. وبدا أن دراسة
أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحةً عينيك على
حقيقةٍ جديدةٍ محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد. وما إن تنفتح عيناك هكذا حتى يتسنى
لك أن ترى شواهدَ مؤيِّدة لها حيثما نظرت. كان العالم يعج ﺑ «تحقيقات» Verifications للنظرية. وما من شيء يحدث إلا هو
تأييد لها. بذلك بدا صدقها أمرًا ظاهرًا وبدا أي منكر لها مكابرًا مبيِّنًا لا يريد أن
يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان
«الكبت» التي لم تحلَّل بعد والتي تصرخ طلبًا للعلاج.
هكذا بدأت الشرارة الأولى في ثورة بوبر المنطقية على العلم الزائف. لقد استوقفه
التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة، ونظرية أينشتين من جهة أخرى. كان
الماركسيون والفرويديون يرون أينما نظروا تأييدات لنظرياتهم، بينما جهد أينشتين غاية
الجهد لكي يصوغ تنبؤًا بالغَ الدقة والتحديد وقابلًا للملاحظة، ومن شأنه إذا كذَّبته
الملاحظة أن يدحض النظرية ويأتي عليها. لم يكن الفارق الذي استرعى انتباه بوبر في هذا
الأمر فارقًا سيكولوجيًّا يتعلق بالنزاهة العلمية في مقابل العناد والمكابرة وعدم
الرغبة في الاعتراف بوجود حالات لا تؤيد النظرية. وإنما الفارق منطقي محض يتعلق بطبيعة
البنية المنطقية للنظرية الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها «محصَّنة» من
التكذيب. يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي
ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا، فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدًا أو
لا تمطر» لن تُعتبر عبارة تجريبية، لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من
عبارة «ستمطر السماء هنا غدًا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية.» أمَّا العلم الزائف
فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه، فقضايا التحليل النفسي
مثلًا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء
الملاحَظة، ومن ثُمَّ لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله
نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيءَ ونقيضَه، ولا يُقدِّم لنا
ما
عسى أن تكون عليه الأشياءُ الملاحَظة لو أن قضاياه كانت كاذبة. إن الفارق يجب أن يُحدث
فارقًا، ولو كانت قضايا التحليل النفسي تقول شيئًا محدَّدًا عن عالم الواقع لتسنَّى لها
أن
تحدد مشاهدات ممكنة كانت حَرِية أن تقع لو أنها كانت كاذبة؛ أي أن تحدد لنا أي فارق كان
يحيق بعالم الشهادة لو أن ما تُنبئنا به النظرية كان مجانبًا للحق وكانت الأمور تسير
في
حقيقة الأمر على وتيرةٍ أخرى.
ثمة وجه شبه لا تخطئه العين بين تأويلات المحللين النفسيين وبين أقوال المنجمين،
وقد
أشار بوبر في قصته إلى أن المنجمين أيضًا كانوا مبهورين ومضلَّلين بما كانوا يظنونه
أدلة مؤيِّدة بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أيِّ دليلٍ عكسي. وفضلًا عن ذلك فقد كان بوسعهم
بما يُضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموض أن يتملَّصوا من أيِّ شيءٍ كان حقيقًا أن
يفند النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقةً وتحديدًا. فهم لكي يتفادوا تكذيب
النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار، ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا
تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصية على الإخفاق-تجعلها غير قابلة للدحض.
٥
(٦) بين مآخذ بوبر على التحليل النفسي ومآخذ السلوكية
يأخذ البعض على فرويد أنه كان يتجنَّب أية معالجة كمية لمواده التجريبية، وأنه لم
يصل
إلى نتائجه بواسطة استدلال منطقي واضح، وأن ما نجده في كتاباته هو النتيجة النهائية
لتفكيره بدون المادة الأصلية التي يعتمد عليها، ومِنْ ثَمَّ يستحيل تكرار أي من بحوثه
بدقة علمية. كما أنه لم يستخدم الأساليب التجريبية والتقييمات الموضوعية، وإنما كل
نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة، والتي كان
يسجلها بعد ساعات من سماعها، مما يجعلها هي ذاتها موضع شك، وهو لم يحاول التحقق من
أقوال المرضى بمضاهاتها بأقوال أي من معارفه أو بأي طريقة أخرى اعتمادًا على ثقته في
التداعي الطليق.
غير أن هذه المآخذ ليست من التكذيبية البوبرية في شيء، والحق أن أغلب هذه المآخذ
يعكس
التعاليم المنهجية للعلوم الطبيعية والمذهب السلوكي، والتي قد لا تلائم دراسة الإنسان
وقد لا تلائم العلوم الإنسانية بعامة. ففي مجال دراسة النفس البشرية يتعذَّر في كثير
من
الأحيان التحقق من الفروض أو نفيها بالطريقة العلمية المعيارية من خلال تكرار المواقف
وضبط التفاعلات بين الأحداث واستجابات الأشخاص موضوع الدراسة. وفي العلوم الإنسانية
بعامة فإن تكرار موقف تاريخي فردي أو جماعي هو أمر مستحيل في الأساس. ورغم ظهور ما يبدو
أنه تكرار، فإنه في كلِّ حال نتاجُ جهدٍ خادع وهمي لتجريد الذات من التاريخ، وهي طريقة
أساسية تُستخدَم لاختزال المسئولية الفردية وما يصاحبها من قلق، وفي محاولة ضبط
المتغيرات، فإن النموذج العلمي المعاصر يُضفي دورًا سلبيًّا ضمنيًّا للأشخاص. ففي مثل
هذه التجارب يعرَّض الشخص لمنبه، ويخضع لظروف مضبوطة معينة، والفرد لا يُنظَر إليه فقط
بوصفه «موضوعًا»
Object بل إنه يُعامَل على أنه كذلك.
وتُدرَس الاستجابة المجزأة المضبوطة بعناية، وليس الفعل الإنساني، ومِنْ ثَمَّ فإن
السلوك يُخطَّط له بصورة يصعب فيها التعرف عليه. ومن الواضح أن ذلك نوع من «النبوءة
المحقِّقة لذاتها»، يتعرض فيه الناس لقواعد تتحكم في التجربة، وتحرمهم من المبادأة
والابتكارية أو حرية الفعل، وفي محاولة التحكم في تلك العوامل المشوشة للعلاقات بين
الأشخاص، فإن القائم بالتجربة يتجنب الأحداث الإنسانية الفريدة بوصفها الأحداث المركزية
الجديرة بالدراسة. وبالتالي فإن الأشخاص الذين يعاملون بهذه الطريقة يغلب أن يستجيبوا
طبقًا لذلك،
٦ وطبقًا لنفس القواعد الوظيفية للسلوك كما تفعل الحمائم أو الفئران أو
الأسماك. ويقرر زيمباردو أنه «في الظروف المعيارية، يستطيع القائم بالتجربة أن يفترض
وجود استمرارية في السلوك، وقد خلقها بصورة مصطنعة.»
كان هذا استطرادًا واجبًا حتى لا تشتبه الأمور على القارئ، وحتى نضع تمييزًا صارمًا
بين مآخذ النزعة الطبيعية والسلوكية وبين مآخذ بوبر على كل قول تجريبي زائف يرفض
التكذيب من حيث المبدأ، ويرفض الدحض من صميم بنيته المنطقية. وحتى لا يختلط موقف بوبر
من التحليل النفسي بمواقف أخرى شهيرة مثل موقف كل من فيلسوف العلم الشهير أدولف
جرونباوم، وعالم النفس الكبير هانز أيزنك. أمَّا جرونباوم فذهب إلى أن التحليل النفسي
قابل للتكذيب، وأنه في حقيقة الأمر قد تم تكذيبه مِرارًا، إنه «علم» ولكنه «علم خاطئ».
وأما أيزنك فهو يؤيد جرونباوم في أن التحليل النفسي علم، ولكنه علم فاشل أثبتت التجارب
البحثية الجيدة التصميم عدم جدواه في علاج ما يَدَّعي علاجَه. وقد أبدى أيزنك فضلًا عن
ذلك بعض الاعتراضات والتحفظات على مبدأ التكذيب نفسه كمعيار للعلم، إذ أن جميع النظريات
لها ما يخالفها من الظواهر المشاهَدة ويبدو مكذِّبًا لها ورغم ذلك تَبقَى النظريةُ
وتستمر وتنتعش، ومن الواضح أن أيزنك لم يضع يده على فكرة بوبر، ويبدو أنه كان يخلط بين
«التكذيب» و«قابلية التكذيب» ولم يقدِّر أهمية «منهج التكذيب» كمُتمِّمٍ ضروري لمنطق
التكذيب، إذ نراه يقرر أن علومَ التنجيم والفراسة قابلةٌ للتكذيب بشكل واضح، إذ يمكن
استنباط وقائع تجريبية كاذبة من عباراتها!
وصفوة القول إن نقد بوبر للتحليل النفسي هو نقد منطقي بالأساس، وينصب على «الصورة»
أو
«الصغية» المنطقية للنظرية باعتبارها «غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ». وأمَّا مصدر
النظرية العلمية فهو في رأي بوبر شيء لا صلة له البتة بوضعها العلمي، أي بتحديد ما إذا
كانت النظرية علمية أم غير علمية. ويبدو أن الإلحاح على مصدر النظرية هو من آثار وهم
«الاستقراء» وبقايا مبدأ «التحقيق». إن النظرية عند بوبر لا تكون علمية ما لم تكن قابلة
للتكذيب، يستوي في ذلك أن تكون النظرية قد جاءت من المختبر أم من نفحة إلهام. فالمعوَّل
الأكبر هو على عملية النقد التكذيبي والمحك النهائي هو الاختبارات التكذيبية القاسية.
صحيح أن بعض الطرق الكشفية قد تكون أجدى من بعض كوسيلة لإنتاج نظريات أصيلة، غير أن هذا
الأمر لا صلة له بالسؤال عما إذا كانت عبارة ما هي علمية أم غير علمية، ولا علاقة له
بالسؤال عن مدى أصالتها العلمية إن كانت عبارة علمية. «ليست هناك طريقة آلية يمكن بها
للعلم أن يحقِّق تقدُّمًا.»
هكذا يتبيَّن أن بوبر لم يأخذ على فرويد طريقته في الكشف ولم يعرض لهذا الأمر قط.
فهو
لا يعنيه مصدر النظرية بل يعنيه منطق الاختبار. وهو لا يسأل العالِم من أين جاء بنظريته
بل يسأله عما أعد لها من اختبارات قاسية، وقد لاحظ أينشتين من قبل أنه بينما يمكن
للنظرية أن تختبر بالبينة
Evidence، فليس هناك طريق من
البينة إلى النظرية! ومن الحق أن العلماء قد «يحلمون نظرياتهم حلمًا»! ومن الأمثلة
المأثورة للحلم العلمي ما حدَّث به كيليكولي عام ١٨٦٥. فقد وصل هذا العالم إلى بنية
حلقة البنزين ذات الذرات الكربونية الست من خلال حلم شهد فيه ثعابين تشكل من نفسها حلقة
بأن يعضُّ كلُّ ثعبان ذيلَ الآخر.
٧
لا لم يكن مصدر النظرية مما يعني بوبر من قريب أو بعيد، فلتأتِ النظرية من حيث تأتي،
المهم أن تكون علمًا، أي قولًا يحمل نبأً عن العالم المحدد الذي وُجِدنا فيه، ويحمل في
تضاعيفه تنبؤاتٍ محددةً قابلة للاختبار أي الدحض. وليس التحليل النفسي من ذلك في شيء.
إنه نظرية لا تؤدي إلى أي توقعات أو تنبؤات محددة، ولو صح ذلك لكانت لها «مكذِّبات بالقوة» Potential Falsifiers (كل ما هو خارج
التنبؤ). ولكن أين هي هذه المكذِّبات؟ أين المشاهدات المحدَّدة التي «تمنعها» النظريةُ
من الحدوث. إنها تسمح بكلِّ شيء وتمرر كلَّ شيء، ثُمَّ تُرخي عليه تصوراتها الفضفاضة
الغامضة التي تشمل كلَّ شيءٍ وتُفسر كلَّ شيءٍ وتقبل الشيءَ ونقيضَه.
(٧) وهم الملاحظات الإكلينيكية
ولكن ماذا عن المشاهدات الإكلينيكية؟ أليست اختبارًا مشروعًا للنظرية؟ إن المحللين
النفسيين هم ممارسون إكلينيكيون يناظرون المرضى ويتابعونهم ويعالجونهم بنظريات التحليل
النفسي، بل «يشفونهم» في أحيان كثيرة إن جاز هذا التعبير. أليست المشاهداتُ الإكلينيكية
وقائعَ تجريبية تربط النظرية بالعالم الإخباري ربطًا اختباريًّا، فتمنحها الصفة
العلمية؟
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر قصته مع الملاحظات الإكلينيكية،
ولا ننسَ أنه كان مساعدًا لأدلر في عيادته وأنه مُلِمٌّ إلمامًا حقيقيًّا بهذه
النظريات. يقول بوبر: كان المحللون الفرويديون يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقًا
دائمًا في «ملاحظاتهم الإكلينيكية». أمَّا عن أدلر فقد كان لي معه موقفٌ شخصي لا أنساه،
فقد حدث ذات يوم في عام ١٩١٩م أن أدليتُ له عن حالةٍ لم تَبدُ لي أدلريةَ الطابع. غير
أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية
Inferiority Feelings، رغم أنه حتى لم يَرَ
الطفل. فسألته وقد نالني دَهشٌ: «فيم كلُّ هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن
لي بذلك الأمر ألف تجربة». هنالك لم أتمالك نفسي قائلًا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن
تجاربك صارت ألفًا وواحدة!»
٨
كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوَمَ من هذه الملاحظة الجديدة.
لعله
كان يفسر كل ملاحظة في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يَعُدُّها إثباتًا جديدًا. كنت
أسأل نفسي «ماذا أثبَتَت؟ … أثبتت أن حالةً قد أمكن تفسيرُها في ضوء النظرية لا أكثر.»
غير أن هذا لا يعني شيئًا ما دامت كل حالة يتصورها المرءُ يمكن أن تفسَّر في ضوء نظرية
أدلر. وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد. ولتوضيح ذلك أودُّ أن ننظر في هذين المثالين
المختلفين تمامًا من السلوك البشري: الأول سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه،
والثاني سلوك رجل يُضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل. بمقدور كل من نظرية فرويد ونظرية
أدلر أن تُفسِّر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة. فبحسب نظرية فرويد يُعاني الرجل الأول
من «الكبت» Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب
مثلًا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربًا من «التسامي» أو «التصعيد» Sublimation. وبحسب نظرية أدلر كان الرجل الأول
يعاني من مشاعر «الدونية» Inferiority (التي ربما
ألجأته إلى محاولة إثبات أن لديه الجرأة على ارتكاب جريمة ما)، وكذلك الحال بالنسبة
للرجل الثاني (الذي أراد أن يُثبت أن لديه الجرأة على إنقاذ الطفل). لم يكن بوسعي أن
أتصور أيَّ سلوكٍ إنساني يَستعصِي على التفسير في ضوء كل من النظريتين. إنهما دائمًا
منسجمتان على قوام المشاهدات، على قدها، دائمًا «مؤيدتان» Confirmed. كانت هذه الحقيقة بالتحديد هي الدليل الدامغ على صحتهما
في نظر المعجبين بهما. أمَّا بالنسبة لي فقد بدأ يتضح لعيني أن ما يبدو مظهرَ قوةٍ في
النظريتين هو بالضبط مكمنُ الضعف فيهما.
إن تلك «الملاحظات الإكلينيكية» التي كان المحللون النفسيون يرون بسذاجة أنها تؤيد
نظريتهم لا تفترق في شيء عما يجده المنجمون في ممارستهم من الشواهد اليومية المؤيدة
لأقوالهم (بوبر، الحدوس الافتراضية والتفنيدات).
ذلك أن الملاحظات الإكلينيكية، شأنها شأن كل الملاحظات الأخرى، هي «تأوُّلات» في
ضوء
النظرية. ولهذا السبب وحده تكتسب مظهرَ المدعِّم لتلك النظريات التي تم في ضوئها تفسير
هذه الملاحظات. غير أن التدعيم الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا من خلال الملاحظات التي تجري
بوصفها اختبارات (بواسطة محاولات التفنيد). ولهذا الغرض لا بد من وضع «معايير التفنيد»
بشكلٍ مسبق، لا بد أن نتفق منذ البداية أي المواقف القابلة للملاحظة إذا ما لوحظت بالفعل
تعني أن النظرية مرفوضة. «ولكن ليقَرَّ المحلِّلون عينًا: فأي صنف من الاستجابات
الإكلينيكية ذاك الذي يمكنه أن يفنِّد، لا مجرد تشخيص تحليلي معين، بل التحليل النفسي
ذاته؟! وهل تم حتى مناقشة مثل هذه المعايير أو الاتفاق عليها من جانب المحللين؟ أليس
هناك على العكس فصيلة بأكملها من التصورات التحليلية، من مثل «التناقض الوجداني»
Ambivalence (وأنا لا أقصد أنه لا يوجد شيء
من قبيل التناقض الوجداني) تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الاتفاق على هذه المعايير؟»
٩
التحميل النظري Theory-Ladenness: لعل الملاحظات
الإكلينيكية النفسية هي أخصبُ حقلٍ وأحفلُه بظاهرةِ «التحميل النظري». والتحميل النظري
حقيقة شاملة ومشكلة عامة تواجه التصور التقليدي للعلم كله وليس التحليل النفسي وحده.
فما قصة هذا التحميل النظري؟
تذهب النظرةُ الساذجة للعلم إلى أن العلماء «يلاحظون» الطبيعة ويجمعون ملاحظاتهم
ليكوِّنوا بها صورةً صادقةً للأشياء: مركبًا من كل الحقائق وليس من شيء غير الحقائق.
وبعبارة أخرى تذهب النظرة التقليدية للمنهج الاستقرائي إلى أننا نبدأ بجمع ملاحظات
خالصة، دون فروض مسبقة، تقدم لنا الوقائعَ بطريقةٍ محايدة نزيهة. ومن تكرار هذه
الملاحظات تبدأ أنماطٌ معينة في الظهور وتؤدي إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر
الملاحظة. عندئذٍ نجري الاختبارات التجريبية التي تثبت صدق الفروض فتَرقَى إلى منزلة
النظريات.
ورغم ذلك فقد كان على العلماء أنفسهم أن ينفقوا زمنًا حتى يدركوا بوضوح أن الملاحظة
لكي تكون ذاتَ معنى يجب أن تسترشد بنظرية، وقد ظلَّ كثيرٌ من الناس يُصِرُّون على أن
الملاحظات يجب أن تأتي أوَّلًا، وبعدها وبناءً عليها يمكن للنظريات أن تنشأ. ولكن ما
يحدث في عامة الأحوال هو أن نظريةً ما هي التي تخبرَ العالِمَ على وجه التحديد أي
الملاحظات هي الجديرة بأن يقوم بها. أضف إلى ذلك أن النظرية تمد العالِمَ بالمفردات
اللغوية التي يصف بها ملاحظاته. فللأشياء والأحداث والمواقف التجريبية ما لا ينتهي من
الخواص القابلة للملاحظة والوصف. إن النظريات هي التي تحدد للعالم أي هذه الخواص هي
التي تعنيه وتتصل بموضوعه خلال وحدة محددة من العمل العلمي. واللغة التي تُستعمل لكي
تجسد الملاحظات وتصف النتائج التجريبية هي ذاتها شيءٌ تحدده نظريةٌ معينةٌ وتقدِّر له
شكله وصفته مقدِّمًا. فتوصف اللغة التي يستخدمها عالِمٌ ملتزم بنظرية معينة بأنها لغة
«محملة بالنظرية» أو «مشحونة بالنظرية»
Theory-Laden.
١٠
يذهب ن. ر. هانسون
N. R. Hanson إلى أن هناك معنى
بموجبه لا يشاهد العلماء نفسَ الشيء حين ينظرون إلى شيء واحد. ذلك أنهم يُفرِغون
تأويلاتهم الداخلية والخاصة على الأشياء. إن الملاحظة العلمية «محملة بالنظرية»، أي أن
العلماء المختلفين يرون أشياءَ مختلفة لأنهم يعتنقون نظرياتٍ مختلفة. بهذا المعنى لم
يكن كبلر وتيكوبراهي مثلًا يَريان نفس الشيء حينما كانا يراقبان الفجرَ عند بزوغه. ذلك
أن الأول كان ينظر وهو يعتقد بمركزية
الشمس
Heliocentrism بينما كان الثاني ينظر وهو ممتلئٌ بمركزية الأرض
Geocentrism.
١١
وبصرف النظر عما تنطوي عليه صياغةُ هانسون لفكرة التحميل النظري من مصاعب، فإن
التحميل النظري نفسه حقيقة لم يَعُد يختلف عليها اثنان من فلاسفة العلم. فليس هناك شيء
من
قبيل الملاحظة الخام المحايدة، بلا فروض مسبقة وبلا محتوى نظري. فجميع الملاحظات تتضمن
فكرة معينة عن طبيعة الشيء الملاحظ تحدد لنا هذا الصنف من الأشياء وتفترضه مسبقًا. وهي
إذن فكرة محملة بالنظرية وسابقة على أيِّ استنتاج نستمده من الملاحظة، ومتضمنة فروضًا
نظرية حول سلوك ذلك الشيء وأحواله، وهي فروض تنطوي في الأغلب على ما يتجاوز مادة
الملاحظة الراهنة وتأخذنا وراء المحتوى الخالص لهذه الملاحظة.
لقد أخطأت الوضعية المنطقية حين ظنت أن العلم يشيد النظريات عن طريق التركيب الموضوعي
لجميع «الوقائع» التي ثبت صدقها (تم تحقيقها). فلا توجد هناك وقائع ولا يوجد بحث عن
وقائع دون أن يكون جزءًا من نظرية أو من فحص للعالم مدفوع بغرض معين. وما إن تُستمَد
الفروض من النظريات حتى لا تعود الملاحظات التي تختبر هذه الفروض ملاحظات محايدة. إنها
موثوقة بالمصطلحات النظرية التي أنتجتها: الملاحظات ليست بريئة. إنها متلبسةٌ بالنظرية،
وليست محايدة، بل متحيزة للنظرية، فهي سليلةُ النظرية قبل كل شيء، وهي جديرةٌ أن تبدو
(في المجال النفسي الإكلينيكي بخاصة) مدعِّمةً للنظرية ما لم نفطن لذلك ونعتصم
بالملاحظات التفنيدية القاسية المناوئة، وبغير ذلك من عناصر منطق التكذيب ومنهجه كما
فصَّله بوبر.
وصفوة القول إن بوبر لا يرى فائدةً تُرجى من مقارنة أي نتائج مستنبطة من النظرية
بالوقائع الملاحظة، وذلك ببساطة لأنه ليست هناك «وقائع محضة»، فجميع عبارات الملاحظة
«محملة بالنظرية». وهي مشربة بالعوامل الذاتية الصرف (الاهتمامات، التوقعات، الرغبات،
إلخ) بقدر ما هي مشربة بالواقع الموضوعي، ولتفادي هذه الصعوبة يرى بوبر أن على العلم
أن
يتقدم في مراحل أربع:
١٢
- (١)
الأولى مرحلة «صورية» Formal يتم فيها
التثبُّت من الاتساق
الداخلي Internal Consistency للنظرية، أي اتساق النظرية مع نفسها، وذلك
بالتأكد من أن كل الفروض الأساسية تأخذ مكانها الصحيح في المنظومة النظرية،
وأنه لا يوجد بينها تناقض منطقي.
- (٢)
المرحلة الثانية «شبه
صورية» Semiformal: وفيها يتم التمييز بين العناصر الإمبيريقية والعناصر
المنطقية؛ أي فصل القضايا التي لها نتائج أو مترتبات إمبيريقية عن القضايا
التي ليس لها. ذلك أن معظم النظريات تشتمل على عناصر «تحليلية» Analytic قبلية a Priori وأخرى «تركيبية» Synthetic. وبهذه الخطوة التمييزية يُبرِز العالِم
الصورةَ المنطقية للنظرية ويجعلها صريحةً معلَنة. ومن شأن التهرب من هذه
الخطوة أن يؤدي إلى أخطاء
مقولية Category Mistakes تؤدي بالعالم إلى أن يسأل السؤال الخطأ، ويُفتش عن
معطيات إمبيريقية حيث لا توجد معطيات (فلعل النظرية كلها من قبيل تحصيل
الحاصل).
- (٣)
مقارنة النظرية الجديدة بالنظريات الموجودة التي تُغطي نفس القطاع من
الظواهر، لنرى إن كانت تمثل تقدُّمًا علميًّا عليها.
وتُعَد النظرية ن٢ أفضل من النظرية ن١ إذا كانت أكبر منها من حيث المحتوى
الإمبيريقي، وبالتالي أكبر منها من حيث القوة التنبؤية (شريطة ألا تكون
مفنَّدة بالطبع).
- (٤)
اختبار النظرية تجريبيًّا، أي عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج
المستنبطة منها. ولكن أية نتائج تلك التي ننتقيها للاختبار؟ يقول بوبر إن
هناك قضايا مفردة معينة يتم استنباطها من النظرية، هذه القضايا تمثل
تنبؤات. وأكثر ما يعنينا من بين هذه التنبؤات تلك التي تتسم بالمخاطرة
والجسارة وبُعد الاحتمال (بمعنى أنها غير معقولة حدسيًّا أو جديدة بصورة
مذهلة)، وقابلية الاختبار التجريبي. ومن بين هذه التنبؤات الجريئة ننتقي
تلك التي لا يمكن اشتقاقها من النظرية الموجودة، ويفضل بشكل خاص تلك
المناقضة للنظرية الموجودة، فإذا جاء الاختبار في صالح التنبؤات الجديدة
نقول إن النظرية الجديدة قد تم تعزيزها Corroboration (ومن ثُمَّ يتم تبنيها كفرضٍ عامل) وإن النظرية
الموجودة قد تم تكذيبها. هكذا يكون معنى الاحتكام إلى التجربة في رأي بوبر.
فالتجربة لا تُثبت نظرية بل تنفيها. والتجربة لا تخبرنا أي النظريات هي
الصادقة، بل أي النظريات هي الكاذبة. والملاحظات الإمبيريقية بحد ذاتها غير
معصومة من الخطأ ولا يمكن أن تكون معصومة. ذلك أن الملاحظات هي ذاتها
«محملة
بالنظرية» Theory-Laden.
هكذا يكشف بوبر وهم الملاحظات الإكلينيكية التي يستند إليها التحليليون وأشباهُهم.
فهي بهذا التصور أشبه بثوب خُلِع من النظرية ثُمَّ خُلِع عليها … فهالَهم أنه انطبق على
النظرية وأيَّدَها تأييدًا. وهو كما تبيَّن منطقٌ معكوس يقع فيه كلُّ مَن يقرأ فكرتَه
ويتأوَّلها في كلِّ شيءٍ ويراها في كلِّ شيءٍ لأنه لا يرى إلا بها! وهو منطق معكوس تجد
له
أمثلة لا تُحصى في النظريات الميتافيزيقية التي «تبدو الوقائع مؤيدة لها، ولو دققنا
النظر في هذه الوقائع لتبين لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينها التي نريد اختبارها
بها» (بوبر: عقم المذهب التاريخي، القوانين والاتجاهات).
(٨) الإيحاء الإكلينيكي والأثر الأوديبي
ويزيد الأمر صعوبة في حالة التحليل النفسي وجود احتمال كبير لتأثير التأويلات
التحليلية ذاتها على ذهن المريض. فهل بحث التحليليون مدى تأثير توقعاتهم (الشعورية
واللاشعورية) ونظرياتهم التي يعتنقونها على الاستجابة الإكلينيكية للمريض؟ دعكَ مِن
المحاولات الواعية للتأثير على المريض باقتراح تأويلات معينة عليه.
١٣
«إن الخداع الذاتي الذي يقع فيه المحلَّل نفسه دون دراية منه قد يؤدي إلى صياغات
مغلوطة يراها هو متسقة ومعقولة، ومن أصعب الدروس التي يتعلَّمها المحلِّلون هو أن يتفطنوا
إلى استجاباتهم الذاتية الخاصة تجاه أقوال مرضاهم وتأثيراتهم الخاصة على هذه الأقوال
مثل هذه الملاحظة الذاتية العسيرة هي ما يُضفي على التحليل النفسي طابعه الإبستمولوجي
الخاص، ويومئ إلى فائدته، وإلى حدوده أيضًا، في دراسة عقول الآخرين.»
١٤
الأثر الأوديبي: سبق لبوبر في كتابه «عقم المذهب التاريخي» أن دفع بمصطلح «الأثر
الأوديبي»
Oedipal Effect ليصف تلك الظاهرة الخاصة
بتأثير النظرية أو التوقع أو النبوءة على الحدث الذي تتنبأ به أو تصفه. وسبق أن أشار
إلى أن السلسلة السببية التي أدت إلى قتل أوديب لوالده قد بدأت بنبوءة «الوحي» بهذا الحدث.
١٥ إن هذه هي الثيمة المميزة والمتكررة في مثل هذه الأساطير، غير أنها فيما
يبدو لم تلفت انتباه التحليليين، ولعل هذه الغفلة لم تكن من قبيل الصدفة. لقد عرض فرويد
لمسألة الأحلام المؤيدة والتي يُوحي بها المحلل إلى عقل المريض، إذ يقول: «إذا قال لنا
شخص إن معظم الأحلام التي يمكن الإفادة منها في عملية التحليل تعود في مصدرها إلى إيحاء
المحلل النفسي، فلن يسع نظرية التحليل عندئذٍ أن تعترض على ذلك.» ثُمَّ يُردِف دون أن
يطرف له جفن: «غير أن هذه الحقيقة لا تنتقص البتة من قيمة النظرية وثبات
نتائجها.»
«… والفكرة القائلة بأن التنبؤ قد يكون له أثر في الحادث المُتنبَّأ به ترجع إلى عهد
قديم جِدًّا. فقد جاء في الأقاصيص القديمة أن أوديب قتل أباه ولم يكن قد رآه من قبل،
وكان ذلك نتيجة مباشرة للنبوءة التي دفعت أباه إلى نبذه. ولهذا أودُّ أن أطلق اسم
«الأثر الأوديبي» على تأثير النبوءة في الحادث المُتَنَبَّأ به (أو على تأثير المعرفة
عامةً
في الموقف المتصل بها)، سواء كان من شأن هذا التأثير أن يساعد على وقوع الحادث أو على
منعه … ومن أمثلة التأثير المنعي أن التنبؤ بأن سعر الأسهم سوف يأخذ في الارتفاع على
مدى ثلاثة أيام ثُمَّ يهبط بعدها سوف يدفع الناس إلى أن تبيع أسهمها في اليوم الثالث،
وبذلك يهبط السعر ويكذب التنبؤ.»
نحن إذن في العلوم الاجتماعية بإزاء تفاعل شامل معقد بين المشاهِد والمشاهَد، بين
الذات والموضوع. ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبب في المستقبل
حادثًا معيَّنًا، ولإدراكنا أيضًا أن التنبؤ قد يؤثر هو نفسه في الحوادث المتنبأ بها،
من المحتمل أن تكون لكل ذلك آثاره في مضمون التنبؤ، وقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخل
بموضوعية التنبؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعية.
إن التنبؤ حادث اجتماعي قد يتأثر بغيره من الحوادث الاجتماعية ويؤثر فيها، ومن بين
هذه الحوادث الحادث المتنبأ به. وقد يساعد التنبؤ كما رأينا على الإسراع بوقوع هذا
الحادث، ولكن من السهل أن نرى أنه قد يؤثر فيه على أنحاء أخرى، فقد يتطرف التنبؤ إلى
حد
خلق الحادث الذي تنبأ به، بمعنى أن الحادث ما كان ليقع أصلًا لو لم يحدث التنبؤ، وقد
يتطرف في الجهة المضادة فيتسبب في منع وقوع الحادث الذي يقول بأنه آتٍ لا محالة (بحيث
يمكن القول إن العالِم الاجتماعي في استطاعته أن يسبب وقوع الحادث بالامتناع عن التنبؤ
إمَّا عامدًا أو غافلًا). وواضح أن هناك حالات كثيرة متوسطة بين هذين الطرفين. أي أن
فعل التنبؤ بأمرٍ ما، أو الامتناع عن التنبؤ، قد يكون لهما كليهما نتائج من أي نوع.
١٦
(٩) التحصين الذاتي لنظرية التحليل النفسي١٧
سبق أن قلنا إن البنية المنطقية ذاتها للتحليل النفسي تجعله غير قابل للتكذيب،
وبالتالي تجعله شبه علم. إن الصياغة ذاتها للنظرية، وطبيعة المفاهيم الأساسية لها
تجعلها مائعة رواغة يصعب الإمساك بها واستخلاص «مكذِّبات» لها «بالقوة» Potential
Falsifiers. كما أن ترسانة الفروض المساعدة
Auxiliary والعينية (التحايلية)
ad hoc، والمناورات التعريفية والاصطلاحية، وأرتال الشروط
والمحاذير والتحفظات، كل أولئك من شأنه أن يجعلها مسيجة ممنَّعة «مصمتةً استنباطيًّا»
إن صح التعبير؛ أعني أنك لا تستطيع أن تستنبط منها عبارات إمبيريقية مضادة تعوِّل عليها
في عملية الاختبار. وكثيرًا ما تنال هذه المداورات الكثيرة من الاتساق الداخلي للنظرية
وتحوِّل القضايا الكلية إلى قضايا جزئية يستحيل دحضها. فمهما تأت نتيجة الاختبار فإن
جزءًا من النظرية سيظل صائبًا وبمنجاةٍ من التفنيد.
ومن أمثلة هذه التحصينات المضادة للتكذيب:
-
التناقض الوجداني Ambivalence: أي وجود
شعورين متناقضين يعتملان في نفس المرء تجاه الشيء الواحد في الوقت الواحد.
وهو حق ولسنا بصدد إنكاره (وقد نوَّه بوبر نفسه بذلك وذكر أنه لا ينكر وجود
التناقض الوجداني بحد ذاته). غير أن هذا المفهوم يضع على كاهل النظرية
عبئًا منطقيًّا عليها أن تحمله ولا تتملص منه، وعليها ألا تترك مثل هذا
المفهوم الرواغ يتداخل مع كلِّ شيء دون ضابط ودون معيار. وإلا فهو يتحول في
النهاية، كما نلمس جَيِّدًا في تأويلات المحللين، إلى فرض عيني تحايلي ad hoc يَرتُقون به كل فتقٍ ويصادرون
به دون دليل.
-
غريزة الموت Thanatos: وهو افتراض آخر
يمكن أن يكون شديد المداورة والروغان في التطبيق. ويُشكل مع غريزة تملُّصًا
تامًّا من التكذيب، وتناقضًا وجدانيًّا على مستوًى آخر. ويسري عليه ما يسري
على التناقض الوجداني، فهو مفهوم غامض ويستحيل اشتقاق أية فروض تجريبية
منه، وهو مهرب يسير وتسمية سهلة لكل ما نعجز عن تفسيره من ميول تدميرية نحو
الذات أو الغير.
-
تكوين رد الفعل Reaction Formation: وهو
بالمثل تناقض يجب ألا يُترك ألعوبةً رخيصةً نؤوِّل بها سلوك الناس ونكمل
بها ما لا يكتمل من صور الشخصية كيفما اتفق.
وشبيه بذلك أن مَنْ تعرَّض لصدمة نفسية مرتبطة بالكلاب مثلًا سوف يَدرُج على الخوف
من
الكلاب، فإذا ما داهمتنا المشاهدات بأشخاص تعرضوا لنفس الصدمة ثُمَّ درجوا على حب
الكلاب، فما أسهل أن نلجأ إلى الفرض
المساعد Auxiliary Hypothesis القائل بأن: بعض الناس ممن يُضمِر مخاوف لا شعورية يستجيب تجاه
هذه المخاوف ﺑ «الإنكار» Denial و«احتضان» Embracing الموضوعات المخيفة، وبذلك ننقذ النظرية. قد
يكون ذلك حقًّا، ولسنا بصدد إنكاره، غير أن مثل هذا الفرض المساعد يدرِّع النظرية
الرئيسية ويحصِّنها من الدحض، ويعمل دائمًا كمصد Buffer يحميها من التكذيب ويجعلها غير قابلة للاختبار العلمي. إننا
نسأل هنا ماذا قدمت النظرية من «محتوى معلوماتي» ومن تنبؤات محددة؟ وماذا عسى أن يكون
عليه الحال لو أنها كانت كاذبة؟ أكان يكون شيئًا آخر غير أن بعض الناس يخاف من الكلاب
وبعضهم لا يخاف؟ وماذا يكون التنبؤ؟ أيكون شيئًا آخر غير أن «س سوف يخاف من الكلاب أو
لا يخاف»؟ وهل تبقَّى شطرٌ ثالث في «عالم
المقال» Universe of Discourse؟!
ومن الإنصاف لفرويد أن نذكر له أنه حذر من اللعب بالتحليل النفسي واستعمال تقنياته
كيفما اتفق، وقال قولته البليغة المأثورة: «أحيانًا ما يكون السيجارُ سيجارًا ولا شيء
غير سيجار!» مشيرًا إلى أن الديناميات النفسية والدفاعية التي كشف عنها ينبغي ألا
تُلصق بالناس جُزافًا دون «دليل». ويعني بمثاله أنه ليس كل من يدخِّن السيجار
«مثبِّتًا» Fixated بالضرورة عند المرحلة الفمية من
النمو النفسجنسي، غير أنه لم يذكر لنا ما يكون ذلك «الدليل» الذي أشار إليه. ولعله كان
ينفي عن نفسه تهمة «التثبيت» إذ كان فرويد مدخِّنًا للسيجار! تُراه إذن يستعمل
الميكانزمات؛ لأنه يُدخِّن أم يدخن لأنه يستعمل الميكانزمات؟ وهل ترانا وقعنا معه في
«نكوص لا نهائي» Infinite Regress كما ألمح فيكتور
فرانكل مداعبًا؟
وليس بدْعًا أن نجد الأمر يُسفر في كثيرٍ من الأحيان عن تحصيلات حاصل، فكثير من هذه
النظريات «السائبة» هي من قبيل «تفسيرات
تحصيل الحاصل» Tautological Explanation، وهي صفة العلم الأجوف الخالي من المحتوى المعلوماتي
الحقيقي، ويُعرَّف «تفسير تحصيل الحاصل» بأنه ذلك التفسير الذي يكون فيه «المفسِّر» Explanans (القضية التي تضطلع بالتفسير) لا يقول
شيئًا أكثر من «المفسَّر» Explanandum (القضية المطلوب
تفسيرها). مثال ذلك سخرية موليير المأثورة من تفسير مهنة الطب (في زمنه) لظاهرة نوم
الناس على أثر تعاطي الأفيون بأن الأفيون يجعل الناس تنام «لأن له تأثيرًا منوِّمًا»
(أي أن الأفيون «ينوِّم لأنه ينوم»).
لا تعدو تفسيرات التحليل النفسي في بعض الأحيان أن تكون من هذا الصنف، فتفسر الشيء
بنفسه، ولا تسعفنا بسلاح تنبؤي حقيقي، فالناس على سبيل المثال تنزع في بعض الأحيان إلى
تدمير ذاتها أو تدمير الآخرين لأن فيهم «غريزة الموت»، وهو اسم آخر لنزعة التدمير
(تدمير المستوى الحيوي الأعقد والعودة إلى الحالة الجمادية … إلخ). وبذلك لا تقول
النظرية شيئًا أكثر من: «إن الناس تنزع إلى التدمير لأن لديها نزعة للتدمير.» والسؤال
هنا أيضًا: ماذا أضافت لي هذه القضية من محتوًى معلوماتي حقيقي؟ وهل عرفت بها شيئًا لم
أكن أعرفه سابقًا قبل أن أسمع بهذا المصطلح الجديد؟ أم هي رطانة
توهمني بالعلم وليس وراءها أي محتوى حقيقي؟
ولعل كارل بوبر كان أرفق بالتحليل النفسي من أدولف
جرونباوم
A. Grunbaum وهو فيلسوف علم آخر اختلف مع بوبر في فكرته عن عدم قابلية
التحليل النفسي للتكذيب، وذهب إلى أن التحليل النفسي قابل للتكذيب وأنه في حقيقة الأمر
قد تم تكذيبه. أشار جرونباوم إلى أن من اليسير أن نختبر نظرية فرويد القائلة بأن
البارانويا تنشأ عن نزعة مكبوتة للجنسية
المثلية
Repressed Homosexuality ولا يلزمنا أكثر من العثور على بارانوي مِثليٍّ واحد لكي
نكذِّب النظرية!
١٨ غير أن بوبر كان أرفق من ذلك إذ ذهب إلى أن التحليل النفسي يتحلى
بالمعنى والدلالة، وأنه نظرية «قبل-علمية»
Pre-Scientific يمكن أن تُطوَّر ذات يوم إلى علمٍ حقيقيٍّ قابل
للاختبار. غير أنه في صيغته الحاضرة علمٌ زائفٌ لأنه محصَّن بطبيعته من التكذيب.
غير أن السؤال الأجدى عن أيِّ حال هو ما إذا كان التحليل النفسي قابلًا للاختبار
في
الممارسة الفعلية. فالحق أن التحليل النفسي قلمًا يخضع للاختبار في الممارسة الحقيقية.
وحتى حين يعرض للاختبار فإن الاستدلال كثيرًا ما يكون دائريًّا، بمعنى أن تفسير
المعطيات نفسها يتطلب افتراض صدق النظرية. مثال ذلك ما ورد عن نتائج دراسة حول
«عقدة أوديب»
Oedipus Complex حيث كانت «نسبة
الفتيات أكبر من نسبة الأولاد بدرجة عالية الدلالة فيما يتصل بتخيل الصورة الذكرية
ترتقي الدرَج وتدخل الغرفة. وهو بالطبع أقوى «دليل» على صدق نظرية فرويد، حيث إن ارتقاء
السُّلم في نظرية فرويد هو رمز للجماع ودخول القضيب في المهبل.»
١٩
مثل هذا «الدليل» مشكوك فيه إلى حدٍّ كبير لأن هذا الفرق المذكور بين الذكور والإناث
لا
ينهض دليلًا على صدق نظرية فرويد إلا إذا تبنَّى «التفسير الرمزي» الذي يتضمن أن الفتيات
يفكرن في الاتصال الجنسي بأبيهن، أي ﺑ «مصادرة
على المطلوب»
Begging the Question، فالتفسير الرمزي هنا هو فرضية «شيطانية» مختلقة تمنع
النظرية من أن تُختبَر، وما من نتيجة إلا ويمكن أن تكون مؤيِّدة إذا نحن أفرغنا عليها
التفسيرَ المطلوب تأييده.
٢٠
من المتيقن إذن أن التحليل النفسي محصن ذاتيًّا، وأنه يعج بفروض شيطانية متأصلة فيه
من شأنها أن تتملص من أي بيانات مضادة. و«الكبت» Repression هو فرض شيطاني آخر: فإذا سلَّم المريض بأحد التأويلات
التحليلية فهذا يُثبت أن التأويل صحيح، فإذا لم يسلم فهو ببساطة «يكبت» الحقيقة. هكذا
نرى أن وجود آلية الكبت قد مكَّن للنظرية أن تنقذ نفسها بكل بساطة. وعلى الرغم من أن
استخدام الفروض «العينية» ad hoc لإنقاذ النظريات ليس
في صميمه غير علمي، فإن النظرية التي تحصن نفسها بهذه السهولة سوف توقف نموها العلمي،
وسيكون من المحال في الممارسة أن يتم تطويرها علميًّا.
ومن أقتل المآخذ التي تؤخذ على التحليل النفسي خلو جعبته من التنبؤات الحقيقية، فهو
متضلع في تأويل ما وقع ولكنه عاجز عن التنبؤ بما سيكون. وتتسم تصورات التحليل النفسي
بقدرٍ غير مسبوق من «التسيب النظري» الذي يمنحها قدرة من داخلها على التلون بلون أي
مشاهدة، والتساوق مع أيِّ ملاحظة كانت. مثال ذلك أن الصراع اللاشعوري المتعلق بالتعبير
عن
العدوان يمكن أن يؤدي من وجهة نظر التحليل النفسي إلى أيٍّ مما يأتي:
-
الغضب تجاه الذات.
-
الغضب تجاه شخص آخر.
-
الخلو تمامًا من الغضب.
-
نشاط آخر غير الغضب.
-
الاكتئاب … إلخ.
تنص مبرهنة بايس
Bayes’ Theorem على أنه «لا تعلو
الثقة في النظرية إذا ما كان احتمال وقوع التنبؤات في حالة صدقها مساويًا لاحتمال
وقوعها في حالة كذبها.» ولكن إذا كانت النظرية الفرويدية تتنبأ بكل شيء فهي، وفقًا لهذه
المبرهنة، لا تؤيَّد إذا تمت ملاحظة أيِّ شيء.
٢١
(١٠) متضمنات فكر بوبر حول البحث السيكولوجي
معظم الدراسات البحثية في علم النفس تقوم فعلًا بتشييد فرضيات يمكن من حيث المبدأ
أن
يتبين كذبها، فإذا كان هناك تنبؤ مثلًا بأن التدريب يرفع الأداء على اختبارات الذكاء،
وإذا كانت التجربة تقدم تدريبًا لمجموعة من المشاركين ولا تقدمه لمجموعة ثانية، وإذا
كانت هاتان المجموعتان متكافئتين في السمات والقدرات الأخرى ذات الصلة، فالتجربة إذن
يمكن من حيث المبدأ أن تمضي في أيِّ من الاتجاهين: فقد تؤدي المجموعة المتدربة أداءً
أفضل
على الاختبار، وقد لا تؤدي أداء أفضل. من الممكن للفرضية من ثَمَّ أن تُدحَض. وتبرز
الصعوبة في علم النفس عندما نكون بصدد النظريات لا بصدد الفروض، أي عندما نتناول
النموذج العام الذي يُلهم بفرضيات معينة. فمن شأن النظريات التي تُنْسَج بوضوح وتتمتع
ببنية محددة المعالم ومترابطة الأجزاء أن تولِّد فرضيات محددة بدقة وقابلة للاختبار.
أمَّا النظريات غير المتسقة داخليًّا فهي لا يمكن اختبارها ولا دحضها، لأنه أيًّا ما
تكون نتيجة أي تجربة فإن جزءًا من النظرية سوف يتماشى معها. ولن تجد كالتحليل النفسي
مثالًا نموذجيًّا لهذه النظريات التي ترفض من حيث المبدأ أن يتم دحضها، وهي لا ترفض ذلك
لدواعٍ سيكولوجية كالتي تتحدث عنها، بل لدواعٍ منطقية كامنة في صميم بنيتها.
استدراك واجب
التحليل النفسي نظرية جليلة، أثرها باقٍ في بنية الثقافة المعاصرة وفي صميم بنية
اللغة
البشرية الجديدة، ودورُها من ثمَّ بالغ الأثر في تشكيل العقل الحديث وبنائه. وفرويد
رائد كبير، وواحد من أعظم المبدعين في التاريخ كله. ولم ينكر بوبر على التحليل النفسي
ورائده أي شيء من ذلك. ولم يتهم النظرية بالهراء وانعدام المعنى على طريقة الوضعية
المنطقية. وحقيقة الأمر أنه اعتبر التحليل النفسي نظرية «قبل-علمية» أكثر مما هي علم
زائف. يقول بوبر في الحدوس الافتراضية والتفنيدات بالحرف الواحد:
وهذا لا يعني أن فرويد وأدلر غير مُصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيًّا لا أشك في أن
كثيرًا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يُسهم ذاتَ يومٍ إسهامًا كبيرًا
في
تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلًا للاختبار … وقد كنت على إدراك بأن مثل هذه الأساطير
يمكن تطويرها فتُصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جُلها، من الوجهة
التاريخية، قد نشأت من أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة
لنظريات علمية، ومن أمثلة ذلك نظرية أمبدوقليس في التطور بواسطة المحاولة والخطأ، أو
أسطورة بارمنيدس التي تقول بأن العالم «لبنة» واحدة ثابتة لا تتغير ولا يجري فيها أي
شيء على الإطلاق، فهي إذا أضفنا إليها بُعدًا جديدًا فإنها تُفضي إلى تصور أينشتين عن
العالم — الكتلة (وهو أيضًا لا يستجد فيه شيء على الإطلاق، إذ إن كل شيء فيه، بلغة
الأبعاد الأربعة، محدد ومرسوم منذ البداية). هكذا كنت أشعر أننا إذا كُنَّا بإزاء نظرية
ما ووجدنا أنها غير علمية أو أنها «ميتافيزيقية» إن شئنا القول فإن هذا لا يعني أنها
غير ذات أهمية أو دلالة، أو يعني بأنها لا معنى أو بأنها هراء.
وفي تصديره للطبعة الإنجليزية من «منطق الكشف العلمي» يقول بوبر: «إنه من الحقائق
المُسلَّم بها أن الأفكار الميتافيزيقية البحتة، ومِنْ ثَمَّ الأفكار الفلسفية، ذات أهمية
قصوى للكوزمولوجيا، فمن طاليس إلى أينشتين، ومن الذرية القديمة إلى تأملات ديكارت عن
المادة، ومن تأملات جلبرت ونيوتن وليبنتز وبسكوفيك عن القوى إلى تأملات فاراداي
وأينشتين عن مجالات القوى، أضاءت الأفكار الميتافيزيقية معالم الطريق.»
٢٢ فكأن الآراء والأفكار الميتافيزيقية تسهم أحيانًا في انطلاق الأفكار
العلمية، وبلورة الخيال العلمي بصورة تؤدي إلى صدور نظرية علمية أصيلة.
٢٣
إن أفكار فرويد هي «تأويلات» شديدة الخصب. والتأويلات كما بيَّن بوبر في أكثر من
مناسبة لا توصف «بالصدق أو الكذب» كما توصف «النظريات»، بل توصف «بالخصب أو العقم».
وإذا تناولنا التحليل النفسي من هذا المنظور لتكشفت لنا أهميته البالغة في «فهم» الكائن
الإنساني بما أمدَّنا به من مقولات ذكية مسعِفة لنا حيث لا تسعفنا أيُّ قوانين علمية
محددة. وإذا تناولنا فكر فرويد بهذا المفهوم لتكشفت لنا أهميته البالغة في مجال العلم
ذاته؛ إن ما يَعِد به أهمُّ بكثير مما يقدمه. إنه علمٌ خام إن صح التعبير، ومخزون هائل
من التصورات الخِصبة والفرضيات الملهمة، تدعو إلى العمل المنطقي والتنقيح المراجِع،
أكثر مما تدعو إلى التقديس والتصلب، من أجل استخلاص قضايا علمية متسقة ذاتيًّا وقابلةً
للاختبار. هنالك يكون إسهام فرويد العلمي إسهامًا أصيلًا، ويكون فضله على العلم فضلًا
مضاعفًا.