المجتمع المفتوح وأعداؤه
هذا عملٌ على أعلى درجةٍ من الأهمية، وينبغي أن يُقرأ على نطاقٍ واسعٍ لما يتضمنه من نقدٍ بارعٍ لأعداء الديمقراطية، قديمِهِم وحديثِهم. فهجومه على أفلاطون غير تقليدي على أنه في رأيي مصيبٌ تمامًا. أمَّا تحليله لهيجل فهو مميت. وأما ماركس فقد تم تمحيصه بنفس الدرجة من الحذق، وحُمِّلَ قسطه المستحق من المسئولية عما أصاب الإنسانية الحديثة من محن وكروب. إنه دفاع قوي وعميق عن الديمقراطية، جاء في أوانه، غاية في الإثارة وغاية في الإتقان.
لعِبَ مذهب بوبر التكذيبي دورًا بارزًا ومحرِّرًا في المرحلة المبكرة من الانفتاح الصيني. ولعل الوقت قد أذن لتطبيق مجتمعه المفتوح.
لو أن هناك شيئًا من قبيل الاشتراكية المقترنة بالحرية الفردية، لوددت أن أكون اشتراكيًّا؛ إذ ليس أجمل من أن يعيش المرء حياة متواضعة بسيطة في مجتمع مساواة. غير أني أنفقت زمنًا قبل أن أدرك أن هذا لا يعدو أن يكون حلمًا جميلًا، وأن الحرية أهم من المساواة، وأن محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وأن الحرية إذا فُقِدَت فلن يتمتع فاقدوها حتى بالمساواة.
(١) ضرورة التقنية السياسية
كان بوبر داعيةً مخلصًا للديمقراطية الليبرالية. يعبر بعمقٍ عن مشاعره الأخلاقية تجاه المسائل السياسية، غير أن المشاعر الحارة كانت قاسمًا مشتركًا بين كثرة المفكرين الليبراليين. أمَّا ما يميز بوبر بحق عن غيره من فلاسفة الديمقراطية فهو ثراؤه الفكري والغزارة المنقطعة النظير لأدلته وبراهينه العقلية. لقد كان الاعتقاد السائد في نطاق عريض من الأمم والشعوب، في القرن العشرين بخاصة، هو أن منطق العقل والعلم لا بد أن ينادي بمجتمع منظم تنظيمًا مركزيًّا ومخطط بوصفه كلًّا واحدًا لا انقسام فيه ولا تعدد. فجاء بوبر ليثبت أن هذا التصور، عدا أنه استبدادي تسلطي، يرتكز على تصورٍ للعلم مغلوط وبائد. فكل من منطق العقل ومنهج العلم يُشير إلى مجتمع «مفتوح» وتعددي، يسمح بالتعبير عن وجهات النظر المتعارضة وتبنِّي الأهداف المتضادة … مجتمع يتمتع فيه كل فرد بحرية البحث في المواقف الإشكالية، وحرية اقتراح الحلول، وحرية انتقاد الحلول التي يقترحها الآخرون وبخاصة أعضاء الحكومة، سواء في مرحلة الشروع النظري أو التطبيق العملي. مجتمع تتغير فيه سياسات الحكومة في ضوء المراجعة والفحص النقدي.
ولما كانت السياسات عادةً هي خطط يُنادي بها ويُشرف على تنفيذها أناس ملتزمون بها بطريقة أو بأخرى، فإن التغيير المطلوب حين يتجاوز حجمًا معيَّنًا يقتضي تغيير الأشخاص. يترتب على ذلك أن تحقيق المجتمع المفتوح على أرض الواقع يستلزم أوَّلًا وقبل كل شيء أن يكون هناك مجال وإمكانية لإقصاء من هم في السلطة على فترات معقولة وبدون عنف واستبدال آخرين ذوي سياسات مختلفة. ولكي يكون هذا خيارًا حقيقيًّا، فإن ذوي السياسات المخالفة لسياسات الحكومة يجب أن يتمتعوا بحرية تشكيل أنفسهم كحكومة بديلة جاهزة لتولي السلطة. يعني هذا أن بإمكانهم أن ينظموا أنفسهم ويتحدَّثوا ويكتبوا ويطبعوا ويذيعوا ويعلِّموا برامجهم المنتقدة للسلطة القائمة، وأن يكفل لهم الدستور منفذًا إلى خلافة الحكومة. يتم ذلك على سبيل المثال عن طريق الاقتراع الدوري الحر.
مثل هذا المجتمع هو الذي يدعوه بوبر «الديمقراطية»، وإن كان كعادته لا تستعبده «الألفاظ» ولا يحب الجدل اللفظي. إنه يعني بالديمقراطية التمسك بالنظم (المؤسسات) الحرة القادرة على نقد الحُكَّام وتغييرهم دون إراقة دماء، وهو غير مسئول عما لحق تعبير «المؤسسات الحرة» من سوء سمعة من جرَّاء الصراع الدعاوي الأمريكي أثناء الحرب الباردة.
(٢) مفارقة الديمقراطية Paradox of Democracy
لم تكن الديمقراطية التي تصورها بوبر مجرد حكومة تنتخبها الأغلبية من المحكومين، إذ أن هذه النظرة القاصرة من شأنها أن تُفضي إلى ما يُسَمَّى «مفارقة الديمقراطية»:
«هَبْ أن الديمقراطية هي مجرد تصويت الأغلبية، فماذا لو صوَّتت الأغلبية لصالح حزب، كالحزب النازي أو الشيوعي أو ما شئت، لا يؤمن بالنظم الحرة، وجدير إذا قبض على زمام الأمور أن يطيح بها؟ إننا هنا أمام معضلة حقيقية، فإذا منعنا مثل هذا الحزب من نيل السلطة نكون قد نبذنا الديمقراطية، وإذا تركناه فإنه سيتكفل بالقضاء على الديمقراطية. وفي الحالتين تكون الديمقراطية إذا ما اقتصرت على تصويت الأغلبية قد حملت في داخلها جرثومة فنائها، تكون مفهومًا انتحاريًّا.»
(٣) مفارقة التسامح Paradox of Tolerance
(٤) مفارقة الحرية The Paradox of Freedom
في جميع هذه الأحوال نجد أن غاية التسامح (أو الحرية) الممكنة هي دائمًا قَدْرٌ محسوبٌ وليس مطلقًا، إذ لا بد للتسامح والحرية أن يكونا محدودين إن شئنا لهما أن يوجَدا على الإطلاق. ومن البَيِّن أن التدخل الحكومي، وهو الضمان الوحيد لوجودهما، هو سلاح ذو حدين: فبدونه تموت الحرية، وبزيادته عن الحد تموت الحرية أيضًا. وهكذا نجد أنفسنا نعود أدراجنا إلى ضرورة الضبط، والذي يعني إمكانية تغيير الحكومة بواسطة المحكومين كشرط أساسي للديمقراطية. غير أن هذا التغيير، وإن يكن شرطًا ضروريًّا، ليس شرطًا كافيًا. فهو لا يضمن بقاء الحرية، إذ لا شيء يضمن بقاءها، فثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. إن النظم أو المؤسسات، كما أشار بوبر، هي كالحصون … ليس يكفي أن تكون شديدة البنيان بل يجب أن تكون مزودة أيضًا برجال أشداء.
(٥) مفارقة الحكم (السيادة) Paradox of Sovereignty
دأب الفلاسفة السياسيون بعامة أن يَعُدوا السؤال الأهم في مجالهم هو «من الذي ينبغي أن يحكم؟» ثُمَّ يبرروا جوابهم عنه كلُّ حسب توجهه الخاص: شخص واحد، الشخص الحسيب، الغني، الحكيم، القوي، الخيِّر، الأغلبية، البروليتاريا، إلخ. ولم يَجُل بخاطر أحد أن السؤال نفسه مغلوط! وذلك لأسباب عديدة، فهو أوَّلًا يُفضي مباشرة إلى ما أسماه بوبر «مفارقة الحكم»:
«هَبْ أننا أسلمنا مقاليد السلطة ليد أكثر الناس حكمة. إنه قد تقتضيه حكمته العميقة أن يقول: «ليس أنا، بل الأحسن خلقًا هو من ينبغي أن يحكم». فإذا تولى هذا زمام السلطة فقد يقتضيه ورعُه أن يقول: «لا يليق بي أن أفرض إرادتي على الآخرين، ليس أنا ولكن الأغلبية هي التي يجب أن تحكم». وبعد تنصيب الأغلبية فإنها قد تقول: «نريد رجلًا قويًّا يفرض النظام ويخبرنا ماذا نفعل».»
وثمة اعتراضٌ ثانٍ مُفاده أن السؤال: «أين يجب أن يكون الحكم؟» يفترض مسبقًا ضرورة وجود السلطة النهائية في مكان ما، وهو غير صحيح. ففي معظم المجتمعات هناك مراكز قوى مختلفة ومصطرعة إلى حد ما وليس مركز واحد يمكنه أن يدير الأمور كما شاء. وفي بعض المجتمعات نجد النفوذ موزعًا منتشرًا على نطاقٍ واسع. فإذا سأل سائل: «نعم، ولكن أين تقع السلطة في النهاية؟»، فإن سؤاله يستبعد قبل أن يُطرَح إمكانية وجود ضبط على الحكام، حين يكون هذا الضبط هو أولى الأشياء جميعًا بترسيخه. ومِنْ ثَمَّ فهو سؤال يحمل في داخله متضمنات شمولية. إن السؤال الحيوي ليس «من يجب أن يحكم؟» بل «كيف نَحُول دون إساءة الحكم؟ كيف نتجنب حدوثها، وإذا حدثت كيف نتجنب عواقبها؟»
نخلص مما سبق إلى أن أفضل مجتمع يمكننا تحقيقه هو ذلك الذي يكفل لأعضائه أكبر قدر ممكن من الحرية، وأن هذا الحد الأقصى هو قَدْرٌ منضبطٌ تخلقه وتحفظه نظمٌ مصممة لهذا الغرض ومدعمة بقوة الدولة، وهذا يستلزم تدخُّلًا واسع النطاق للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأن الإفراط في التدخل أو التفريط فيه كلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة وهي ضياع الحرية. وأن تجنب كلا الخطرين هو في التمسك بنظم معينة، أولها وأهمها جميعًا الاحتفاظ بوسائل دستورية يتسنَّى بها للمحكومين تغييرُ مَن بيدهم مقاليد سلطة الدولة، واستبدال غيرهم ممن لهم سياسات مختلفة. وأن أي محاولة لإضعاف هذه النظم وإبطال دورها هي محاولة لتنصيب حكم شمولي ولا بد أن تُمنع (بالقوة إذا لزم الأمر). إن استخدام القوة ضد الطغيان هو أمر له ما يبرره حتى لو كان الطغيان يتمتع بتأييد الأغلبية، والاستخدام الوحيد المبرَّر للقوة هو للمحافظة على النظم الحرة حيثما وُجِدَت وتأسيسها حيثما غابت.
(٦) مذهب المنفعة السلبي Negative Utilitarianism
يُقدم بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» مبدأً شاملًا مرشدًا للسياسة العامة هو «أقل قدر ممكن من المعاناة»، كمقابل لمبدأ جون ستيوارت مِل «أكبر قَدرٍ من السعادة». يتميز مبدأ بوبر عن مبدأ مل بأنه يلفت الانتباه مباشرةً إلى المشكلات. إذا تصورنا مثلًا إدارة تعليمية نَذَرَت نفسَها لتقديم أفضل حظ تعليمي لأطفالها، فقد تجد نفسَها في حيرةٍ من أمرها، فماذا عساه يكون أفضل شيء؟ وماذا تفعل بالضبط لكي تحققه؟ ولعلها تشرع في التفكير في إنفاق مالها على بناء مدارس نموذجية. ولكن إذا نذرت هذه الإدارة التعليمية نفسَها بدلًا من ذلك لتقليل المساوئ والعيوب فإنها عندئذٍ ستلتفت مباشرةً إلى أكثر المدارس احتياجًا: تلك التي يعاني مشرفوها أسوأ المشكلات، والتي تجد فصولها أشد ازدحامًا ومبانيها أشدُّ تهالُكًا وتجهيزاتها التعليمية أقل من سواها، فتجعل لها الصدارة في مجال اهتمامها. يقتضي منهج بوبر هذه النتيجة دون مواربة: فبدلًا من أن تحفز المرء على التفكير في تشييد يوتوبيات، فإنها تحفزه على أن يفتش عن الشرور الاجتماعية المحددة التي يرزح تحتها البشر، وأن يحاول جهده أن يزيلها. إنه منهج عملي قبل كل شيء، غير أنه منهج يكرس نفسه للتغيير. إنه ينطلق من الحرص على مصلحة البشر ويشتمل على رغبة نشطة ودائمة في إعادة تشكيل المؤسسات.
من شأن هذه المقاربة أن تحفِز دائمًا على الفعل العاجل لإصلاح ما يتكشف من العيوب، وأن تؤدي إلى التحسين المستمر. ذلك أن بوبر حريص على أن يجنبنا الوقوع في قبضة التصورات اليوتوبية التي ترتبط في التطبيق العملي بالنزعة الشمولية وتفتقر إلى التسامح. وقد عرض بوبر هذا المدخل الإصلاحي بنبرة خفيضة سمحة. ولعله لم يقصد منه أن يكون أكثر من قاعدة منهجية تهيب بنا أن نبدأ بدفع الضرر لا أن نقف عنده، ثُمَّ نتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر ارتقاءً وطموحًا، لكي نصل إلى الصيغة الثانية «أكبر قدر من الحرية للأفراد لأن يعيشوا وفق ما يرغبون»، وهو أمر يقتضي سد احتياجات الجميع من التعليم والإسكان والصحة والفنون، إلخ. على أن يكون الهدف دائمًا هو توسيع نطاق الاختيارات المتاحة للأفراد، وبالتالي توسيع نطاق حريتهم.
كان بوبر يكتب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» في وقت كان فيه هتلر يحرز نجاحًا تلو الآخر، وقد قهر معظمَ دول أوروبا دولةً بعد أخرى، وتقدم في عمق روسيا. كانت الحضارة الغربية تواجه تهديدًا مباشرًا بقدومٍ عهدٍ مظلم جديد. في هذه الظروف كان بوبر مهمومًا بأن يفسر جاذبية الأفكار الشمولية، ويحاول أن يكشف تهافتها ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وأن يُعلي قيمةَ الحرية بأوسع معانيها. كان هذا برنامجًا رحبًا متراميًا يضع فلسفة الديمقراطية الاجتماعية في أوسع سياقاتها، أوسعها زمانيًّا ومكانيًّا أيضًا. يقول بوبر في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب: «… لعل ذلك أن يفسر لماذا جاءت نبرةُ الكتاب انفعالية وقاسية بدرجةٍ ما كنت أحبذها، غير أن الوقت لم يكن وقت تأنُّقٍ لفظي. لم يَرِد في الكتاب ذكرٌ صريحٌ للحرب ولا لأي أحداث أخرى كانت تدور رحاها، بل كان الكتاب محاولةً لفهم تلك الأحداث وخلفيتها، وفهم عدد من المسائل التي كانت جديرةً أن تُطرَح بعد كسب الحرب. وكان التوقع الخاص بتعاظم خطر الماركسية سببًا في معالجة هذه النظرية بشيء من التفصيل … إن الماركسية هي مجرد حلقة، فصل، مرحلة، واحدة من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبناها في نضالنا الدائم والخطر من أجل بناء مجتمع أفضل وأكثر حرية.
(٧) توتر الحضارة The Strain of Civilization
تفي كل من الرجعية واليوتوبية بحاجات متماثلة في النفس البشرية، وهما مِنْ ثَمَّ شبيهان تربطهما أواصر قربَى وثيقة وعميقة وجوهرية، فكلاهما يرفض المجتمع القائم ويدَّعي أن هناك مجتمعًا أمثل يوجد في موضع آخر من الزمان. وكلاهما من ثَمَّ يميل إلى أن يكون عنيفًا ورومانسيًّا في الوقت نفسه. فأنت إذًا رأيت أن الأمور تسير من سيِّئ إلى أسوأ، فسوف تود أن توقف عمليات التغير، وإذا رأيت أنك تؤسس لمجتمع كامل في المستقبل فسوف تودُّ أن يدوم هذا المجتمع عندما تجده، وهذا يعني بالمثل أن توقف عمليات التغير الحالية. هكذا يهدف كل من الرجعي والمستقبلي إلى مجتمع مُقيَّد. ولما كان التغير أمرًا لا يمكن منعه إلا بأقسى وسائل الضبط الاجتماعي، بمنع الناس من المبادرة بأيِّ فعل قد تكون له عواقب اجتماعية خطيرة، فإن كلا التوجهين الماضوي والمستقبلي ينتهي إلى نزعة شمولية. هذا المآل قابع في كلا التصورين منذ البداية، وإن كان وقوعه يُخيِّل للناس أن النظرية قد حُرِّفَت. لقد اعتدنا أن نسمع عن هذه النظرية الرجعية أو تلك (القول مثلًا بأن أفضل حكم هو حكم المُستبد العادل) أو عن نظرية المستقبل السعيد (الشيوعية مثلًا) أنها نظرية جد ممتازة كنظرية وإن كانت لسوء الحظ لا تعمل كما يجب عندما توضع على صعيد التطبيق العملي. وهذه مغالطة كبيرة، فإذا كانت النظرية فاشلة على الصعيد العملي، فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري (وهذا بغض النظر عن أيِّ شيءٍ هو مغزى إجراء التجربة العلمية).
ورغم أن المحصلة العملية للنظريات الرجعية واليوتوبية هي مجتمعات من مثل مجتمعات هتلر وستالين، فإن التَّوق إلى مجتمع كامل ليس شيئًا نابعًا من الخبث البشري، بل العكس هو الصحيح. إن معظم أمثلة التطرف المروِّع قد أتت بها قناعةٌ أخلاقيةٌ صادقةٌ لأناسٍ مثاليين كانت نياتُهم حسنة، مثلما كانت نيات محاكم التفتيش الإسبانية. وإن الأوتوقراطيات والحروب الأيديولوجية والدينية التي تشكل شطرًا كبيرًا من التاريخ الغربي لهي تجسيد ساخر للمثل القائل: «إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة.»
(٨) طريقة جديدة في مهاجمة الخصوم
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» نجد بوبر يتناول أفلاطون بوصفه أعلى مثال لفيلسوف عبقري تجسد نظريتُه السياسية رغبةً في العودة إلى الماضي، ويقدم نقدًا مفصَّلًا لهذه النظرية. وفي الجزء الثاني يتناول ماركس من بين غيره بوصفه الفيلسوف الأكبر الذي تُقدم نظريتُه إسقاطًا لمستقبل كامل يتصوره في ذهنه. وقد استنَّ بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأً جديدًا يُعَد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته. لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير. غير أن لهذه الطريقة عيوبًا كبيرة، ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف. ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تُحرِج دعاتِها ولكنها لن تقوِّض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر. لعل هذا هو السر في أننا قلما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلًا. فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم، إذ أنها تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.
أمَّا بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظريةَ الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظرية خصمِه أكثر فأكثر وسد ثغرتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شنِّ هجومه. إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصمًا جديرًا بمهاجمته»، وأن ينقضَّ على نظريته وهي في أوْج قوتها وجاذبيتها. إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجُها — إذا هي نجحت — قاصمةٌ مدمرة. ومن الصعب أن تقوم لنظرية قائمةٌ بعد أن يكون كل ما لديها من ذُخر ومصادر إمداد قد تم تدميره. هكذا فعل بوبر حين تناول ماركس بالنقد المفصل، الأمر الذي دفع أشعيا برلين إلى أن يقول في كتابه عن سيرة كارل ماركس إن نقد بوبر في «المجتمع المفتوح» هو أقوى نقد للمذاهب الفلسفية والتاريخية للماركسية يوجهه إليها أي كاتب من الأحياء. ولم يتردد بريان ماجي في أن يعلن أنه يرى نفس الرأي، وأنه لا يعرف كيف يمكن لأيِّ عاقلٍ من البشر أن يفرغ من قراءة نقد بوبر لماركس ويبقى بعد ذلك ماركسيًّا.
(٩) أفلاطون
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» يحاول بوبر أن يضع يده على السبب الذي دفع أفلاطون إلى الدعوة لأفكار شمولية. يقدم لنا هذا الجزء صورةً قلميةً للفتى أفلاطون، وهو يتأمل بانزعاج مجتمع أثينا القبلي يلفظ أنفاسه ويتحول شيئًا فشيئًا إلى مجتمع أكثر تحررًا وانفتاحًا، وتلتقي فيه الفوضى بفقدان الامتيازات الاجتماعية. ويؤكد بوبر روعة تحليل أفلاطون الاجتماعي لأسباب التغير الذي اعترى أثينا واقتراحاته لكبح التغير ووقف الانحدار الذي أتى به.
- (١)
الفصل الصارم بين الطبقات: أي أن الطبقة الحاكمة المُكوَّنة من رعاة المجتمع وحراسه يجب أن تُفْصَل تمامًا عن القطيع البشري.
- (٢)
مصير الدولة هو مصير الطبقة الحاكمة: الاهتمام الاستثنائي بهذه الطبقة وبوحدتها، القواعد الصارمة لتربيتها وتعليمها، الإشراف اللصيق عليها، شيوعية مصالح أعضائها.
- (٣)
الطبقة الحاكمة تحتكر أشياء مثل التدريب العسكري وحق حمل السلاح والتعليم والتدريب، وتُعفَى من المشاركة في الأنشطة الاقتصادية وبخاصة التماس الرزق.
- (٤)
ضرورة الرقابة على الأنشطة الفكرية للطبقة الحاكمة، والدعاية المستمرة الهادفة إلى تشكيل عقولهم وتوحيدها، ومنع كل تجديد في التعليم والتشريع والدين.
- (٥)
يجب أن تكون الدولة مكتفية بذاتها، يجب أن تسعى للاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وإلا لَجَأَ الحكام إما إلى الاعتماد على التجار وإما إلى أن يصبحوا هم أنفسُهم تجارًا. أمَّا الخيار الأول فسوف يُضعف قدرتهم، وأمَّا الثاني فسوف يهدد وحدتهم وثبات دولتِهم.
الديمقراطية هي ذلك النظام السياسي الذي يُتيح للمواطنين أن يُخَلِّصوا أنفسَهم من حكومةٍ لا يرغبونها، دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف.
(١٠) هيجل
الحق أن الفصل الذي عقده بوبر لفلسفة هيجل السياسية هو أفقرُ الفصول بالنقد الموضوعي والرأي السديد، وأحفلُها بالقدح الشخصي والسب المُقذِع. فهو لا يرى في هذا المارد الفكري الهائل أكثرَ من دجَّالٍ مُبِين يتعمد استخدام أسلوبٍ طنان ملغَز لكي يواري الخواء الحقيقي لِفكرِه، وهدفه الوحيد هو أن يخدم سيدَه الملك البروسي الرجعي الذي رَدَّ بدَورِه الجميل فيما أسبَغَه على هيجل من مكانةٍ ونفوذ. لقد تمتع هيجل بنفوذٍ استثنائي في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة، وعلى جميع الأجنحة السياسية: اليسار الماركسي المتطرف، والوسط المحافظ، واليمين الفاشي المتطرف. فاليسار قد أبدل بفكرة هيجل عن حرب الأمم فكرةَ حرب الطبقات، واليمين المتطرف أبدل بها الحربَ العنصرية. غير أن كليهما قد اقتفى أثر هيجل عن وعي إلى حدٍّ كبير. أمَّا الوسط المحافظ فهو أقل وعيًا بدَينه لهيجل.
-
يستشهد بوبر برأي شوبنهاور حول سر نفوذ هيجل، فيقول إن فلسفة هيجل كانت تلهمها دوافعُ خفية، هي مصلحته الخاصة في عودة الحكومة البروسية لفردريك وليم الثالث، وهي بالتالي يجب ألا تؤخذ مأخذَ الجد. لقد كانت الحكومات تستخدم الفلسفة كأداة لخدمة مصالحها، والفلاسفة قد جعلوا منها تجارة. ومَن ذا الذي ينتظر من الحقيقة أن تظهر بهذه الطريقة إلى النور كمجرد نتاجٍ ثانوي؟١٦لسببٍ ما، دأب الفلاسفة على أن يحيطوا أنفسهم بشيءٍ من مناخ السحرة. ودأب الناس على أن يَعُدوا الفلسفة شيئًا عجيبًا وعويصًا يتعامل مع تلك الأسرار التي يتعامل معها الدين، ولكن ليس بالطريقة التي يمكن أن يفهمها عامةُ الناس. إنها تُعَد أعمق من أن يفهمها هؤلاء، وتُعَد لاهوت المفكرين والمثقفين والحكماء. والهيجلية تطابق هذه المواصفات أروعَ مطابقة. إنها تطابق ما تفترضه هذه الخزعبلات الشعبية في الفلسفة. فهي تعرف كل شيءٍ عن كلِّ شيء، ولديها إجابة جاهزة عن كلِّ سؤال (وحقًّا، من ذا الذي يمكنه أن يُقسِم أن الجواب غير صحيح؟) لقد كان هيجل، وهو مصدر كل التاريخانية المعاصرة، تابعًا مباشرًا لهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو. وقد حقق أعجبَ العجائب، فهو ساحرٌ قدير، وبميسور طريقته الديالكتيكية الفعالة أن تُخرِج أرانبَ فيزيقية حقيقيةً من قبعاتٍ ميتافيزيقيةٍ خالصة. وهكذا نجح هيجل منطلقًا من محاورة طيماوس لأفلاطون وشعوذتها عن العدد في أن يُثبت بالطرق الفلسفية الخالصة (بعد «أُسُس» Principia نيوتن بمائة وأربع عشرة سنة) أن الكواكب لا بد لها أن تتحرك وفق قوانين كبلر! بل إنه تمكن من استنباط الموقع الفعلي للكواكب، وبذلك أثبت أنه لا يمكن أن يقع كوكب ما بين المريخ والمشتري (ولسوء حظه فقد فاته أن مثل هذا الكوكب كان قد اكتُشِف قبل ذلك ببضعة أشهر).١٧
-
ذنب إيمانويل كانت: في كتابه «نقد العقل الخالص» يحذر كانت، متأثِّرًا في ذلك بهيوم، من أن نُرخِي العِنانَ للتأمل النظري المحض دون سند، إذ إنه يؤدي إلى التورط في «النقائض» Antinomies وإلى إنتاج الهُراء والوهم والدوجماطيقية العقيمة والتظاهر السطحي بمعرفة كل شيءٍ. حاول كانت أن يُبين أن كل حكم أو دعوى ميتافيزيقية عن بداية العالم في الزمان مثلًا أو عن وجود كائن ضروري أو عن حرية الإرادة أو عن قابلية الانقسام اللانهائي للمكان، من الممكن أن تقابَل بدعوى مضادةٍ تنطلق من نفس الفروض ويبرهَن عليها بنفس الدرجة من البَيِّنة.كان هدفُ كانْت ومَقصِدُه هو أن يوقف مرةً وإلى الأبد ذلك التدفق اللعين للمتفيهقين في استخدام الجدل العقلي. وقد كانت النتيجة أنهم توقفوا عن محاولة التعليم ولم يتوقفوا عن اختلاب العامة. والحق أن كانْت يتحمل شطرًا كبيرًا من المسئولية عن ذلك! لأن الأسلوب العويص المستغلق الذي كُتِب به «نقد العقل الخالص» (والذي كتبه بعجلةٍ كبيرةٍ، وإن جاءت بعد سنين طويلة من التأمل) قد أسهم إسهامًا كبيرًا في انحدار مستوى النصوع والوضوح في الكتابة النظرية الألمانية.١٨
(١١) ماركس
يقول بوبر في «المجتمع المفتوح»: «كانت نظرية الثورات المضادة للحرية هي دائمًا أن تستثمر العواطف لا أن تهدر جهدك في محاولات غير مجدية لتحطيمها». وكم رأينا أنبل الأفكار الإنسانية يهتف بها ألدُّ أعدائها، وينجحون بذلك في اختراق المعسكر الإنساني متخفين في ثياب أنصار، فيوقعون الفرقة والاضطراب الشديد. وكم كُتِبَ النجاح لهذه الخطة الماكرة، كما نشهد من أن العديد من الإنسانيين الحقيقيين ما يزالون يوقِّرون فكرةَ أفلاطون عن «العدالة»، وفكرةَ العصور الوسطى عن السلطة «المسيحية»، وفكرة روسو عن «الإرادة العامة»، وأفكار فخته وهيجل عن «الحرية القومية». غير أن هذه الطريقة في اختراق المعسكر الإنساني وتفريقه وتشتيته وزرع طابور خامس غير ملحوظ (وبالتالي مضاعَف الضرر)، هذه الطريقة لم تبلغ أوج نجاحها إلا بعد أن رسَّخت الهيجلية نفسها كأساسٍ لواحدةٍ من الحركات الإنسانية الحقيقية: الماركسية، وهي أنقى صورة حتى الآن من صور التاريخانية وأكثرُها نضجًا وأشدُّها خطرًا.
ومن الإنصاف لماركس أن نتبين إخلاصه. إن سعة أفقِه وحِسَّه بالوقائع وكراهته للحشو اللفظي (الأخلاقي بخاصة) يجعل منه واحدًا من أشد المنافحين في العالم ضد الرياء والفرِّيسية. لقد كان متحرِّقًا لنجدة المظلومين وكان على وعي واضح بضرورة إثبات ذاته في الأفعال لا في الأقوال وحدها. ولما كانت مواهبُه الرئيسية نظريةً فقد كرَّس جهدًا ضخمًا لكي يصوغَ ما اعتقد أنه أسلحةٌ علميةٌ للنضال من أجل تحسين أحوال الأغلبية العظمى من بني البشر. وإن إخلاصه في بحثه عن الحقيقة وأمانته الفكرية لَتميزه عن كثير من أتباعه. كان اهتمام ماركس بالعلم الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية اهتمامًا عمليًّا بالدرجة الأساس، فقد رأى في المعرفة وسيلةً لتعزيز التقدم الإنساني.
(١٢) المذهب السيكولوجي، والتاريخانية، ونظريات المؤامرة
إن تورط المذهب السيكولوجي في فكرة المنشأ السيكولوجي للمجتمع يمثل في رأي بوبر حجَّةً حاسمة، غير أن أهم نقد يُوجَّه إلى المذهب السيكولوجي هو فشل هذا المذهب في فهم المهمة الرئيسية للعلوم الاجتماعية التفسيرية. ليست هذه المهمة كما يظن التاريخانيون هي التنبؤ بالمسار المستقبلي للتاريخ، وإنما هي الكشف عن الآليات الخفية التي تقف في طريق الفعل الاجتماعي؛ ولنَقُل هي دراسة المادة أو النسيج الاجتماعي: عناده وهشاشته ونزوعه إلى الرِّدَّة وصعوبة مِراسه ومقاومته لمحاولاتنا تشكيله وتناوله.
لا يود بوبر أن نفهم من ذلك أن المؤامرات لا تحدث ولا تُحاك على الإطلاق. إذ هي على العكس ظاهرةٌ اجتماعيةٌ صميمةٌ. وتَبرز أهمية المؤامرات مثلًا كلَّما تَقَلَّدَ الحكم أناسٌ يؤمنون بنظرية المؤامرة. هنالك يتبنى هؤلاء (وبخاصةٍ مَن يؤمنون بصدقٍ أنهم يعرفون كيف يحققون الفردوس على الأرض) نظريةَ المؤامرة وينخرطون في نظرية مؤامرة مضادة موجهة إلى متآمرين لا وجود لهم. ذلك أن التفسير الوحيد الذي يستطيعونه لفشلهم في تحقيق جنتهم هو النوايا الشريرة لذلك «الشيطان» الذي له مصلحةٌ مكتسبةٌ في الجحيم!
إن المؤامرات لتحدث، وعلينا أن نعترف بذلك. غير أن الحقيقة المثيرة التي تُكَذِّب نظرية المؤامرة، على الرغم من حدوث المؤامرات، هي أن المؤامرات قلما تنجح في النهاية، وأن المتآمرين قلَّما يُتِمُّون مؤامرتهم!
ولكن لماذا تفشل المؤامرات؟ لماذا يتسع البونُ بين الإنجازات والأماني؟ الجواب أن هكذا الحال دائمًا في الحياة الاجتماعية، بمؤامرة أو بغير مؤامرة. فالحياة الاجتماعية ليست مجرد اختبار قوة بين جماعات متعارضة: إنها فعل داخل إطارٍ رَجوعٍ هَش من المؤسسات والتعاليم، وهي تخلق — بمعزل عن أيِّ فعل مضاد واع — كثيرًا من ردود الأفعال (الاستجابات) غير المتوقعة في هذا الإطار، ولا يمكن توقعها في بعض الأحيان.
إن المهمة الرئيسية للعلوم الاجتماعية هي محاولة تحليل هذه الاستجابات والتنبؤ بها قدر المستطاع. إنها مهمة تحليل الآثار الاجتماعية غير المقصودة للأفعال الإنسانية المقصودة، تلك الآثار التي أغفلت كلٌّ من نظرية المؤامرة والمذهب السيكولوجي دلالتَها كما أشرنا. إن الفعل الذي يمضي وفق المقصود تمامًا لا يخلق مشكلة للعلم الاجتماعي (اللهم إلا تفسير لماذا خلت هذه الحالة الخاصة من أي آثار غير مقصودة). وقد سبق أن ضربنا مثلًا للآثار غير المقصودة لأفعالنا بواحدٍ من أشد الأفعال الاقتصادية بدائية، فإذا أراد رجل أن يشتري منزلًا بصفة عاجلة، فإن لنا أن نفترض أنه لا يرغب في رفع سعر المنازل في السوق. غير أن واقعة ظهوره في السوق كمشترٍ هي نفسها ستنزع إلى رفع أسعار السوق. وتنطبق على البائع ملاحظاتٌ مثيلةٌ. ولنأخذ مثالًا آخر من مجال مختلف تمامًا. إذا قرَّر رجل أن يؤمِّن على حياته، فمن غير المحتمل أنه يقصد تشجيع بعض الناس على استثمار ما لهم في أسهم التأمين، غير أنه سيفعل ذلك! هكذا يتبدَّى بوضوح أن نتائج أفعالنا ليست كلُّها نتائج مقصودة، ويتبين بالتالي أن نظرية المؤامرة لا يمكن أن تَصدُق؛ لأنها تقول بأن جميع النتائج، حتى التي لا تبدو لأي شخص مقصودة للنظرة الأولى، هي نتائج مقصودة لأفعال أناسٍ لديهم مصلحةٌ في هذه النتائج.
(١٣) الماركسية الحقيقية والماركسية السوقية
ورغم أن النظرية العلمية، من حيث هي كذلك، ليس فيها ما يدعونا مباشرةً إلى العمل (إذ لا يمكن إلا أن تصرفنا عن بعض الأعمال باعتبارها لا تلائم الواقع)، فقد يكون فيما يلزم عنها ما يشجع على العمل أولئك الذين يشعرون بأن واجبهم أن يعملوا شيئًا. ولا شك في أن المذهب التاريخاني يتقدم بهذا النوع من التشجيع، بل إنه يمنح العقل الإنساني دورًا معينًا يؤديه، لأن التفكير العلمي، أي علم الاجتماع الموافق للمذهب التاريخي، وهو وحده الذي يستطيع إرشادنا إلى الجهة التي يجب أن يقصد إليها أيُّ عمل معقول حتى يطابق اتجاه التغيرات الوشيكة الوقوع.
(١٤) الماركسية الحقيقية على محك التكذيب
-
وفقًا لنظرية ماركس لن يمكن لغير الرأسمالية المكتملة النمو أن تصبح «شيوعية». ومِنْ ثَمَّ فلا بد لجميع المجتمعات من أن تُتِم المرحلةَ الرأسمالية من التطور أوَّلًا. ولكن ما حدث في الواقع هو أن جميع البلاد التي أصبحت شيوعية، باستثناء تشيكوسلوفاكيا، كانت بلادًا «قبل-صناعية» Pre-industrial، ولم يكن أيٌّ منها مجتمعًا رأسماليًّا مكتمل النمو.
-
وفقًا لنظرية ماركس كان يتعين أن تقوم الثورة على أكتاف البروليتاريا الصناعية. غير أن ماو تسي تونج، وهُوشي مِنه، وفيدل كاسترو رفضوا ذلك جِهارًا وأقاموا ثوراتهم بنجاح على أكتاف الفلاحين من بلادهم المختلفة.
-
وفقًا لنظرية ماركس هناك أسباب معقدة تحتم على البروليتاريا الصناعية أن تزداد فقرًا، وتزداد عددًا، ويزداد وعيها الطبقي، ويزداد نزوعها إلى الثورة. ولكن ما حدث على صعيد الواقع هو أن جميع البلاد الصناعية منذ عهد ماركس قد صارت أغنى وأقل عددًا وأقل وعيًا طبقيًّا وأقل ميلًا إلى الثورة.
-
وفقًا لنظرية ماركس لا يمكن قيام الشيوعية إلا بيد العمال أنفسهم، بيد الجماهير. ولكن الحقيقة أن الحزب الشيوعي لم يتمكن في أيِّ دولة، حتى في شيلي، من أن يحظى بتأييد الأغلبية في اقتراع حر. وحيثما انتزع السلطة الكاملة فقد كان ذلك أمرًا مفروضًا على الأغلبية بواسطة الجيش، ودائمًا جيش أجنبي.
-
وفقًا لنظرية ماركس فإن مصير ملكية وسائل الإنتاج الرأسمالية هو أن تتركز في أيد أقلَّ فأقل. ولكن مع تطور شركات رأس المال المشترك توزعت الملكية على نطاقٍ واسعٍ بحيث انتقلت السيطرة إلى أيدي طبقة جديدة من المديرين المهنيين. كما أن ظهور هذه الطبقة هو بحد ذاته بمثابة دحضٍ لتنبؤ ماركس بأن جميع الطبقات سوف تزول حتمًا وتُستقطب إلى طبقتَين: طبقة رأسمالية تتقلص على الدوام، وهي التي تملك وتُسيطر ولكن لا تعمل، وطبقة بروليتاريا تتمدد على الدوام، وهي التي تعمل ولكن لا تملك ولا تسيطر.٢٦
وإذا تأملنا النظرية من زاوية أخرى، نجد أن ما قاله ماركس وإنجلز عن معظم العلوم قد عفا عليه الزمن، وقضت عليه التطورات اللاحقة في هذه العلوم، فقد قضت فيزياء ما بعد أينشتين على نظريتهما في المادة. وقضت سيكولوجيا ما بعد فرويد على فهمهما للسلوك الفردي. وقضى علمُ الاقتصاد الجديد على الاقتصاد الريكاردي الذي تأسَّست عليه النظرية الماركسية. وقضى منطقُ ما بعد فريجه على المنطق الهيجلي الذي قامت عليه النظرية. أمَّا تصورهما للتطور المستقبلي للنظم السياسية فلا يشبه النظم الحالية من قريب أو بعيد، وذلك لأنهما لم يأخذا نمو الديمقراطية مأخذَ الجِد. وهو فشلٌ فرضته عليهما نظريتُهما التي لا تسمح بأيِّ شيءٍ من هذه التطورات الخطيرة.
كل أولئك يشكل دحضًا لنظريةٍ تدَّعي أنها علمية. وهو دحضٌ يتم بالمنهج الأساسي القائم على تعريض التنبؤات لاختبار التجربة وبيان أنها كاذبة. غير أن هذا وإن كان هو المعيار الأساسي ليس هو الصنف الوحيد من الاختبار الذي يتعيَّن على النظرية أن تصمد له، فالنظرية يجب أيضًا أن تفي بالمعايير المنطقية الخاصة بالاتساق الداخلي والترابط. ومن الجلي أن الاعتقاد الأساسي للماركسية والقائل بأن نمو وسائل الإنتاج هو المحدِّد الوحيد للتغير التاريخي، هو اعتقادٌ غير متسق منطقيًّا، إذ لا تملك مثل هذه النظرية أن تفسر كيف يتأتى لوسائل الإنتاج أن تنمو فعلًا بدلًا من أن تبقى كما هي.
ومن الحق والإنصاف أن نقول إن جميع نبوءات ماركس تتعلق بالرأسمالية الطليقة؛ رأسمالية عدم التدخل، ولكن مذهب التدخل قد هَوَّنَ العواقبَ وخفَّفَ الأضرارَ وغيَّرَ المسارَ وكذَّبَ توقعات ماركس.
(١٥) تقييم نبوءة ماركس
لم تكن الأدلة التي أقام عليها ماركس نبوءته التاريخية أدلة صائبة. وقد فشلت محاولته البارعة لاستخلاص نتائج نبوئية من ملاحظاته للاتجاهات الاقتصادية التي عاصَرَها. لم يكن فشله بسبب قصور في الأساس الإمبيريقي لحجته. فرغم أن تحليلاته الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المعاصر له كانت أحادية الجانب بعض الشيء، فقد كانت تحليلاتٍ ممتازة من الناحية الوصفية. إنما يَرجع فشله كنبيٍّ إلى عقم المذهب التاريخي نفسه، إلى الحقيقة البسيطة القائلة بأننا حتى لو لاحظنا اليوم ما يظهر أنه اتجاه أو ميل تاريخي فما هو بإمكاننا أن نعرف إن كان هذا الميل سوف يتخذ نفس المظهر غدًا.
كان ماركس متفائلًا يؤمن بقانون «التقدم» الذي كان يؤمن به أيضًا بورجوازيو عصره، فترتب على ذلك أن كانت خطتُه تصور مجتمعًا ديناميكيًّا متحرِّكًا. وقد تنبأ للمجتمع بتطور ينتهي به إلى نظام مثالي لا مكان فيه للقهر السياسي والاقتصادي. وقد حاول أن يعمل على تحقيق هذا النظام المثالي الذي تَذوِي فيه الدولة ويتعاون فيه الأفراد على أساس من الحرية، فيقوم كل منهم بالعمل الملائم لقدراته، واجدًا في المجتمع كل ما يُرضي حاجاته. غير أن هذا التفاؤل التاريخاني لا يليق بنبيٍّ، إذ أنه يقيد الخيال التاريخي، كما أن واقعة التقدم، كما يقول فيشر: «مكتوبة بوضوح على صفحة التاريخ، غير أن التقدم ليس قانونًا للطبيعة، فالأرض التي يكسبها جيلٌ قد يخسرها الجيلُ الذي يليه.»
وتمشيًا مع هذا المبدأ «كل شيءٍ جائز» كان من الممكن أن تتحقق نبوءات ماركس، شأنها شأن جميع النبوءات التي تحقق ذاتها. فمذهب التقدم في القرن التاسع عشر يمكن أن يكون قوة سياسية كبيرة، ويمكن أن يحقق ما تنبأ به. وهكذا فحتى لو تحقَّقت نبوءة ماركس فإن هذا ينبغي ألا يؤخذ على أنه تعزيز للنظرية ولصفتها العلمية. فقد يكون هذا بالأحرى نتيجة لطبيعتها الدينية ودليلًا على قوة الروح الدينية التي استطاعت أن تبثها في الناس. وقد كان العنصر الديني في الماركسية بصفة خاصة واضحًا لا تخطئه العين. لقد منحت نبوءة ماركس العمالَ في أحلك لحظات بؤسهم إيمانًا بأنفسهم وبرسالتهم وبالمستقبل العظيم الذي ينتظر كل البشر على أيديهم.
(١٦) الأساس الأخلاقي لكتابات ماركس
كانت المهمة التي نذر ماركس نفسه لها في كتابه «رأس المال» هي أن يكتشف القوانين الصارمة للتطور الاجتماعي. لم يكن همه أن يكشف القوانين الاقتصادية التي يُرجى نفعها للتكنولوجي الاجتماعي. ولم تكن مهمته تحليل الشروط الاقتصادية التي تتيح تحقيق الأهداف الاجتماعية بأثمان عادلة: التوزيع العادل للثروة، الأمان، التخطيط المعقول للإنتاج، وفوق كل شيء «الحرية». ولا كانت مهمتُه محاولة تحليل هذه الأهداف وتوضيحها.
ولكن رغم أن ماركس كان مناوئًا بشدة للتكنولوجيا اليوتوبية ولكل محاولة لتقديم تبرير أخلاقي للأهداف الاجتماعية، فقد كانت كتاباته تنطوي في داخلها على نظرية أخلاقية. وقد عبر عن هذه النظرية من خلال تقييمه الأخلاقي للنظم الاجتماعية بالدرجة الأساس. إنَّ شجب ماركس للرأسمالية هو في نهاية المطاف شجبٌ أخلاقي في جوهره. فالنظام الرأسمالي مُدان، لأنه يشتمل على ظلمٍ وحشيٍّ متأصل فيه ومقترن بتبرير «شرعي» كامل. النظام الرأسمالي مُدان لأنه إذ يدفع المستغِلِّين لاستعباد المستغَلِّين فإنه يجرد كلا الطرفين من الحرية. إن ماركس لا يحارب الثراءَ ولا يُقَرِّظ الفقر. لقد كان يكره الرأسمالية، لا لأنها تكدس الثروة، بل لأنها أوليجاركية الطبع. كان يكرهها لأن الثروة في نظامها تعني النفوذ السياسي بمعنى التسلط على بقية الخلق. إنها تُحوِّل قوةَ العمل إلى سلعة، وهو ما يعني أن على الناس أن يبيعوا أنفسَهم في السوق. كان ماركس يكره النظام الرأسمالي لأنه يشبه الرق.
يبدَهنا بوبر بأن إيمان ماركس الحقيقي في نظره كان إيمانًا بالمجتمع المفتوح! لقد كان موقف ماركس من المسيحية وثيق الصلة بموقفه من الرأسمالية، وبحقيقة أن الدفاع المنافق عن الاستغلال الرأسمالي كان في زمنه سمة من سمات المسيحية الرسمية. ولم يكن موقف ماركس في ذلك بعيدًا عن موقف معاصره كيركجار، المصلح العظيم للأخلاق المسيحية الذي بيَّنَ أن الأخلاق المسيحية الرسمية في عصره كانت أخلاقًا مضادة للمسيحية، وكانت رياءً مضادًّا للنزعة الإنسانية. كان النموذج الصارخ لهذا الصنف من المسيحية هو الكاهن الأكبر تاونسند، الذي ألف دفاعًا سافرًا عن الاستغلال، يؤكد فيه أن الجوع هو المحرك الطبيعي للصناعة والعمل، وأن كلَّ شيءٍ في نظام العالَم يعتمد على إفشاء الجوع بين الطبقة العاملة وإبقائه على الدوام! يرى تاونسند أن هذه هي الحكمة الإلهية من وراء مبدأ النمو السكاني، إذ يبدو أن من قوانين الطبيعة، ومن منابع السعادة، أن يكون الفقيرُ «لا أباليًا» قصيرَ النظر حتى تبقى هناك فئة من البشر موكلة بالمهام الشاقة والوضيعة، مفسحةً المجال للسَّراة من الناس لكي يَفرُغوا لأداء ما انتُدبوا له وفق ميولهم. ويزيد هذا السِّريُّ الأذل، كما يسميه ماركس، أن محو الفقر من شأنه أن يُفسِد الانسجام والجمال والاتساق الذي ينطوي عليه ذلك النظام الذي وضعه الله ووضعته الطبيعة في العالم!
(١٧) معنى المذهب التاريخي (التاريخانية) Historicism
-
اعتقاد يهود العهد القديم في رسالة الشعب المختار.
-
اعتقاد المسيحيين الأوائل في حتمية اهتداء الجموع البشرية متبوعًا ﺑ «المجيء الثاني» Second Coming.
-
اعتقاد بعض الرومان بأن قَدَرَ روما أن تحكم العالم.
-
اعتقاد التحرريين في عصر التنوير بحتمية التقدم البشري.
-
اعتقاد كثير من الاشتراكيين بحتمية الاشتراكية.
-
اعتقاد هتلر في تأسيس رايخ الألف عام.
وبِحَسْبِ المرء أن يشرع في سرد بعض الأمثلة الشهيرة لكي يدرك أن مثل هذه النبوءات التاريخانية قلما تتحقق. وبصرف النظر عن أي نظرية محددة فإن التصور العام بوجود مصير تاريخي محتم (أو على الأقل خطة أو معنى أو نمط مترابط) هو تصور يحظى بانتشار واسع.
- (١)
إما أن التاريخ يسيِّره عقلٌ خارجيٌّ ما وفقًا لمشيئته الخاصة (التفسير الثيولوجي).
- (٢)
أو أن التاريخ يدفعه إلى الأمام عقلٌ داخليٌّ (روحٌ مُحايث، سورةُ الحياة، مصيرُ الإنسان …)
- (٣)
أو أن ليس في الأمر روحٌ على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون هناك عمليات مادية حتمية تمامًا يسير التاريخ وفقًا لها.
من هذا المنطلق يهاجم بوبر جميع النظريات التاريخانية، وقد خَصَّ الماركسية بأعتى هجماته. ذلك أنها الأكثر نفوذًا في العالم الحديث، وأنها هي التي تدَّعي أن التاريخ يمضي وفقًا لقوانين علمية، وأننا بمعرفة هذه القوانين (والتي تزودنا بهذه الماركسية) يمكن أن نتنبأ بالمستقبل.
(١٨) تفنيد المذهب التاريخي
قَدَرُ العلوم الإنسانية أنها اختصَّت بدراسة آثار كائنٍ حُرٍّ مُريد تقف القوانين السببية عنده مستأذنةً وتتحدَّد نتائجه بيقين الحتمية مضروبًا في «لا يقين» الحرية!
إنه المخلوقُ الخالِقُ الذي يوجَد خارجَ واقعه وخارج ماهيته.
إنه الكائن الذي يُدخِل «الوعي» في نسيج العالم.
ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة.
ويُسبغ «المعنى» على صمتِ الكون.
إنه الدودة في التفاحة.
أرقٌ في سُباتِ الضرورة.
صَدعٌ بين «الأشياء».
ولا حيلة للعلم في التنبؤ بمَآلِه.
وليس يُجدي بإزائه إلا «الفهم» لا «التفسير».
- (١)
يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثُّرًا قويًّا بنمو المعرفة الإنسانية. (وهذه المقدمة لا بد من أن يسلِّم بها حتى أولئك الذين يرون في أفكارنا، بما في ذلك أفكارنا العلمية، نتاجًا عَرَضيًّا لنوعٍ من التطور المادي.)
- (٢)
لا يمكن لنا بالطرق العقلية أو العلمية، أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية.
- (٣)
إذن فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني.
- (٤)
وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري، أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري. ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسًا للتنبؤ التاريخي.
- (٥)
إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه، وببيان ذلك يتداعى المذهب التاريخي» (عقم المذهب التاريخي، مقدمة).
وهناك دليل آخر: إذا كان المستقبل قابلًا للتنبؤ العلمي فإنه فور اكتشافه لن يعود سرًّا ما دام قابلًا من حيث المبدأ لإعادة الاكتشاف من جانب أي فرد، وهذا يُفضي فضلًا عن ذلك إلى مفارقة حول إمكان/عدم إمكان أخذ إجراءات وقائية.
لهذه الأسباب المنطقية وحدها تنهار التاريخانية. وتنهار الفكرة المحورية في البرنامج الماركسي، والقائلة بتاريخ نظري مناظر للفيزياء النظرية. وبانهيار فكرة التنبؤ العلمي بالمستقبل تنهار أيضًا فكرة التخطيط الاجتماعي الشامل. ويتكشف التناقض المنطقي لهذه الفكرة أيضًا بطرق أخرى: أوَّلًا لأنها لا تقدم إجابة متسقة عن السؤال: «من يخطط المخطِّطين؟!» وثانيًا لأن أفعالنا كما قلنا آنفًا لها دائمًا نتائج غير مقصودة. وإن إغفال ذلك يوقع اليوتوبيين في مغالطة المؤامرة التي سبق لنا تفصيلها.
قد يُنكر التاريخانيون دعوانا بأن عملية التطور عملية فردة، ويستندون في ذلك إلى فكرة أن دورة الحياة المتدرجة من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة تنطبق على المجتمع مثلما تنطبق على الفرد، وهم يقدمون أمثلة تبين أن «التاريخ يعيد نفسه»، فينبشون في قديم التاريخ وحديثه عن «تشابهات» و«توازيات» تؤيد زعمَهم. لكن هذه ليست أكثر من مثال من أمثلة النظريات الميتافيزيقية الكثيرة التي يبدو أن الوقائع تؤيدها. ولو دققنا النظر في هذه الوقائع لتبيَّن لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينها التي نريد اختبارها بها (انظر ما قلناه في ذلك في الفصل الأول).
وجملة القول إن من أهم المغالطات التي يقع فيها التاريخانيون هي أنهم يستعيرون أمثلةً من التنبؤات من العلم الطبيعي باعتبارها تُشكِّل ماهيةَ التنبؤ العلمي، ويفوتهم أن هذه التنبؤات لا تنطبق إلا على الأنظمة التكرارية الموقوفة المعزولة، ثُمَّ يريدون أن يطبقوا منهج التنبؤ العلمي على المجتمع البشري والتاريخ الإنساني. إن التاريخ الإنساني بطبيعة الحال ليس نظامًا معزولًا (والحق أنه ليس نظامًا على الإطلاق)، فهو في تغير مستمر، وفي تطور دائب غير تكراري (لا يُعيد نفسه). كل حادثة في التاريخ هي حادثة مفردة جديدة فذة، ومتمايزة أنطولوجيًّا عن أيِّ حادثة أخرى، ولهذا السبب فإن من الممتنع من حيث المبدأ إمكان وضع تنبؤات علمية غير مشروطة فيما يتعلق بالتاريخ البشري. أمَّا فكرة أن نجاح التنبؤ بالكسوف يقدِّم أملًا في نجاح التنبؤ بتطور التاريخ البشري، فقد تبين أنه يقوم على سوءِ فهمٍ فادح، وأنه مغلوطٌ تمامًا. يقول بوبر في «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»: «إن واقعة أننا نتنبأ بظواهر الكسوف والخسوف لا تقدم إذن مبرِّرًا صحيحًا لأن نتوقع أن بإمكاننا أن نتنبأ بالثورات.»
(١٩) لا معنى في التاريخ إلا ما نُضفيه عليه نحن في معنى
(٢٠) تفنيد النزعة اليوتوبية والتخطيط الشمولي
-
إنك حيثما شئتَ أن تذهب فلا بديل لك من أن تبدأ من حيث أنت. فالبدء من لا شيء هو أمر محال في السياسة قدر ما هو محال في الإبستمولوجيا أو العلم أو الفنون، فلا يمكن لأيِّ تغيير حقيقي، كمقال للتغيير الموهوم، إلا أن يكون تغييرًا في ظروف قائمة فعلًا. وقد دأب اليوتوبيون على توكيد أنه قبل أن يمكن تغيير هذا الشيء أو ذاك لا بدَّ من تغيير المجتمع ككل. غير أن ما يُفضي إليه هذا القول هو أنك قبل أن يمكنك تغيير أي شيء ينبغي أن تُغير كل شيء! وهو تناقض واضح.
-
أيًّا ما كانت الأفعال التي نتخذها فسوف يكون لها نتائج غير مقصودة، والتي قد تكون ببساطة أشياء مخالفةً للرسم الذي رسمناه. وكلَّما اتسع نطاقُ مشروعِنا زاد عددُ النتائج غير المقصودة. وادِّعاؤنا العقلانية في خطط شاملة لتغيير المجتمع ككل هو ادِّعاءٌ بمعرفةٍ سوسيولوجية مفصَّلة نحن ببساطة لا نملكها، كما أن الحديث بالطريقة اليوتوبية عن الوسائل والغايات هو بمثابة استخدام استعارة بلاغية بطريقة مضلِّلة، فليس ثمة في حقيقة الأمر غير مجموعة من الأحداث القريبة زمنيًّا يُطلق عليها «الوسيلة»، متبوعة بمجموعة أبعد من الأحداث يُطلَق عليها «الغاية». غير أن هذه المجموعة الأخيرة سوف تُتبع بدورها — ما لم يتوقف التاريخ تمامًا — بمجموعات متتالية من الأحداث. ومِنْ ثَمَّ فإن «الغاية» ليست غاية في حقيقة الأمر. ولا فائدة تُرجى في الدفاع عن مزايا ندَّعيها لشيءٍ لا يعدو أن يكون مجموعة ثانية من الأحداث في سلسلة لا متناهية. وفضلًا عن ذلك، وحيث إن المجموعة الأولى هي أقرب زمنيًّا، فإن احتمال تحقيقها بالشكل المطلوب هو أكبر من احتمال تحقيق المجموعة الثانية الأبعد زمنيًّا والأقل يقينًا. ومِنْ ثَمَّ فالمكاسب التي تَعِدنا بها الأخيرةُ هي أقل ضمانًا من التضحيات التي قُدِّمَت لها في الأولى. وإذا كان لجميع الأفراد دعاوى أخلاقية متساوية، فمن الخطأ أن نضحي بجيلٍ لمصلحة الجيل التالي.
-
حجة خاصة بالرسم نفسه: إن اختلاف الناس حول نوع المجتمع الذي يريدونه هو حقيقة واقعة، حتى المحافظين التقليديين والتحرريين والاشتراكيين، لكي لا نستثنى أحدًا. ومِنْ ثَمَّ فأيًّا ما كانت طبيعة الجماعة التي تتقلد السلطة بهدف تحقيق رسمها المتصور للمجتمع، فإنها سوف تكبح معارضة الآخرين، إن لم تقسرهم على خدمة هدفٍ لا يريدونه. وفي حين يربأ المجتمعُ الحر عن فرض أهداف اجتماعية مشتركة، فإن الحكومة ذات الأهداف اليوتوبية مضطرةٌ إلى أن تصبح استبدادية، ومصيرها أن تكون استبدادية.
-
لما كانت إعادة التشييد الجذرية للمجتمع هي مطلب ضخم، فمن المقدر له أن يستغرق زمنًا طويلًا. ولكن مَنِ الضامن أن الأهداف والأفكار والمثل الاجتماعية لن تتغير تغيُّرًا جوهريًّا خلال هذا الزمن، وهو زمنُ فورانٍ ثوريٍّ بحكم التعريف؟ فإذا حدث ذلك بالفعل فهو يعني أن ما بدا حتى لواضعي الرسم على أنه أفضل صور المجتمع سوف يتباعد عن ذلك كلما اقتربوا منه، وسوف يختلف عن أيِّ شيء مطلوب بالنسبة للخَلَف الذين لا علاقة لهم بهذا الرسم قبل كل شيء.
-
ويتعلق ذلك بحجة أخرى: إن المخطِّطين أنفسهم جزءٌ من المجتمع الذي يرغبون في محوه. ليس هذا فحسب، بل إن تجربتهم الاجتماعية، ومِنْ ثَمَّ فروضهم وأهدافهم مهما بلغت نقديتُها، قد قُدِّرَ لها أن تكون مكيفةً به بعمق، مما يعني أن محو هذا المجتمع يتضمن محوَهم ومحوَ خططهم أيضًا!
-
إن إعادة البناء الاجتماعي بصورة جذرية، وبالتالي بصورة ممتدة زمنيًّا، يعني أن تستأصل وتُشتت عددًا كبيرًا جِدًّا من الناس، خالقًا بذلك محنةً نفسية ومادية هائلة. ومن المتوقع أن بعض الناس على الأقل سوف يناهضون الإجراءات التي تهددهم بهذه الآثار. مثل هؤلاء المناهضين سوف تراهم الفئة الحاكمة التي تحاول تحقيق المجتمع المثالي على أنهم مناهضون للخير كله بباعث من المصلحة الشخصية (وسيكون في ذلك شيءٌ من الحقيقة)، ومِنْ ثَمَّ على أنهم أعداء المجتمع. وسيكون هؤلاء ضحايا ما سيأتي، فلما كانت الأهداف المثالية البعيدة المنال يتأخر مجيئها طويلًا، وفترة خنق النقد والمعارضة تطول أكثر فأكثر، فإن الاضطهاد والاستبداد سيزدادان حدة (وإن خلصت النوايا!)، وبالضبط لأن المقاصد والأهداف تُرَى مثالية فإن الفشل المستمر في تحقيقها جديرٌ بأن يؤدي إلى القذف بالتهم وادِّعاء أن «شخصًا ما يهز القارب!» لا بد أن هناك تخريبًا، أو تدخلًا أجنبيًّا، أو قيادةً فاسدة (إذ إن جميع التفسيرات الممكنة التي تستثني نقد الثورة نفسها تتضمن بالضرورة خبثًا وشرًّا من جانب شخصٍ ما).
حينئذٍ تبرز ضرورة كشف المذنبين واستئصال شأفتهم، ومَنْ طَلَبَ مذنبين وجد مذنبين! وهنا يكون النظام الثوري قد غرق للأذقان في عواقب غيرِ متوقعة ونتائج غير مقصودة لأفعاله؛ لأنه حتى بعد أن يَلقَى أعداءُ الثورة جزاءَهم ستظل الأهداف الثورية متعسرةً لا تتحقق. وسوف يضطر الحكام أكثر فأكثر إلى الأخذ بالحلول المباشرة للمشكلات العاجلة الملحة (ما يُطلِق عليه بوبر «التخطيط غير المخطَّط») وهو عادة شيءٌ من الأشياء التي ازدروا عليها الأنظمة السابقة. وسوف تتسع الفجوة بين أهدافهم المعلنة وبين ما يصنعونه بالفعل. وسوف يقترب ما يصنعونه أكثر فأكثر من ذلك الذي تصنعه الحكومات الشديدة البُعد عن اليوتوبية. ذلك أن الحياة بعد كلِّ شيءٍ لا بد أن تسير بأيِّ شيء، لا بدَّ للناس أن يطعموا ويلبسوا ويسكنوا، ولا بد للأطفال أن يتعلموا، ولا بد أن تستمر الخدمة الطبية والنقل والشرطة والإطفاء، وكل هذه أشياءُ تعتمد في المجتمع الحديث على تنظيمٍ واسعِ النطاق. ومعنى أن تمحو كل هذه الأشياء مرة واحدة هو أن تخلق فوضى بمعنى الكلمة. وإنه لَضَربٌ من الجنون أن تعتقد أنه من هذا العَماء يمكن بشكل ما أن يبزغَ مجتمعٌ مثاليٍّ! وضربٌ من الجنون حتى أن تعتقد أن مجتمعًا أفضل من هذا قليلًا يحتمل أن يبزغ من العماء أكثر مما يحتمل أن يبزغ من هذا المجتمع الذي وصلنا إليه الآن. ورغم هذا فحتى لو صممنا على ذلك فلن نستطيع، برغم أحلامنا بالكمال، أن نمحو كل شيء ونبدأ من جديد مرة ثانية.
إنَّ البشر على حد قول أوتو نويرات أشبه ببحارة سفينة في عُرض البحر، يمكنهم أن يُصلِحوا أيَّ جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يُصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعةً واحدة.
إن التغير لن يتوقف إلى الأبد، وهذه حقيقةٌ تجعل فكرة «رسم» مجتمع فاضل هي بحد ذاتها فكرة غير ذات معنى. إذ حتى لو حصلنا على مجتمع مطابق للرسم، فإنه سيبدأ بحكم حقيقة التغير في الابتعاد عن «الرسم». ومِنْ ثَمَّ فإن المجتمعات المثالية مستحيلة التحقيق، لا لأنها مثالية فحسب، بل لأن مطابقة أي «رسم» على الإطلاق يستلزم أن يكون المجتمع ثابتًا سكونيًّا لا يتغير، وليس هناك مجتمع بهذه المواصفات يمكن تصوره أو التنبؤ به. والحق أن تسارع خطوات التغير الاجتماعي تبدو في ازدياد مستمر عامًا بعد عام. ويبدو أن عملية التغير، على حد إدراكنا، لن تنتهي عند حد. ومِنْ ثَمَّ فإن أيَّ توجه سياسي يُرجَى له أن يُطابِق الحقائق يجب أن يكون مُكيفًا لا بالأحوال الثابتة بل بالتغير.
(٢١) الهندسة الاجتماعية الجزئية Piecemeal Social Engineering
والمهندس الاجتماعي الجزئي، مثله مثل سقراط، يعلم أنه لا يعلم إلا قليلًا. وهو يعرف أن أخطاءنا هي سبيلنا الوحيد إلى التعلم. ومِنْ ثَمَّ فهو يتلمَّس طريقَه خطوةً خطوةً، يقارن النتائج التي كان يتوقعها بالنتائج التي تحققت بالفعل، وهو يرتقب على الدوام ظهورَ النتائج التي لا يرغب فيها ولكنها لا مفرَّ منها في كل إصلاح. هذا فضلًا عن أنه لا يقدِم على الإصلاحات إذا كانت من التعقيد وسعة النطاق بحيث يمتنع عليه التمييز بين العلل والمعلولات المتشابكة فيها، فيمتنع عليه نتيجة لذلك إدراك ما هو في سبيل القيام به على حقيقته.
سمة الهندسة الجزئية أن رسومها بسيطة تخص نظامًا واحدًا: الصحة، التأمين ضد البطالة، المحاكم، ميزانية معالجة الكساد، إلخ. إذا أخطأَت الهندسةُ الجزئية فأخطاؤها غيرُ فادحة وتدارُك الأخطاء غير بعيد وإعادة التأقلم غير عسيرة. ولما كانت أقلَّ خطرًا فهي أقلُّ إثارةً للشقاق والتصدع. أمَّا التخطيط الكلي المثالي فيقتضي مركزية السلطة وقوتها، ويؤدي مباشرةً إلى الديكتاتورية، وقمع النقد، وفقدان التغذية الراجعة الضرورية للرؤية الصائبة وحذف الخطأ. ولما كان التخطيط الكلي حَريًا أن يضر بمصالح الكثيرين، فإن المهندس الكلي يجد نفسه مضطرًّا إلى أن يَصُمَّ أذنيه عن شكاوى كثيرة، وربما جعل مهمته أن يكبح الاعتراضات السفيهة، وأن يُسكت الأصوات الناشزة، وأن يقول — مع لينين: «ليس بإمكانك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضًا.» غير أنه إذ يفعل ذلك سيكون قد خسر النقدَ الحكيم أيضًا والتوجيه المخلص.
(٢٢) التأويل التاريخي/معنى التاريخ
ليس هناك إذن «علم» للتاريخ، فالتاريخ ليس مجالًا للعلم بل التأويل.
ليست هناك «نظريات» تاريخية، بل «وجهات نظر» أو «تأويلات» لا يمكن اختبارها، إذ هي لا تقبل «التكذيب»، ومِنْ ثَمَّ فكل الملاحظات التي يبدو أنها تؤيدها لا قيمة لها ولو بلغت نجوم السماء عددًا.
والمذهب التاريخي يفهم هذه التأويلات خطأ على أنها نظريات، وهذه إحدى مثالبه الكبرى. فمن الممكن مثلًا تأويل التاريخ باعتباره تاريخ صراع بين الطبقات، أو تاريخ الصراع بين الأجناس البشرية من أجل السيادة، أو تاريخ الصراع بين الأفكار الدينية، أو بين المجتمع المفتوح والمجتمع المقفل، أو باعتباره تاريخ التقدم العلمي والصناعي. وكل هذه وجهات نظر تزيد أو تنقص في أهميتها، ولا اعتراض عليها من حيث خلوها من الإلزام (وإن تميز بعضها على بعض بالخصوبة، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام)، وإنما هم يعرضون هذه التأويلات على أنها مذاهب أو نظريات، فيقرِّرون أن كلَّ تاريخ هو تاريخ الصراع بين الطبقات أو ما إلى ذلك. وهم إذا اكتشفوا شيئًا من «الخصوبة» في وجهة النظر التي يأخذون بها، فتبينوا أن كثيرًا من الوقائع يمكن تنظيمها في ضوئها، فهموا ذلك خطأً على أنه تأييد لمذهبهم، بل برهان على صدقه.
•••
لقد خرج المذهبُ التاريخي ليبحث عن «الطريق» الذي كُتِبَ على البشرية أن تقطعه. خرج ليبحث عن «مفتاح» لغز التاريخ، خرج ليبحث عن «معنى» التاريخ. ولكن هل هناك «مفتاح» للتاريخ؟ هل للتاريخ معنى؟
يريد بوبر قبل كل شيءٍ أن يقول إننا جميعًا نلفظ كلمة «تاريخ» ونتحدث عن التاريخ كما لو كان هو ذاته شيئًا لا يحتاج إلى تفسير. فالحق أن «التاريخ» بالمعنى الذي يتحدث به معظم الناس هو ببساطة لا وجود له. وهذا على الأقل واحد من الأسباب التي تدعو بوبر لأن يقول بأن ليس للتاريخ معنى. لقد اعتاد الناس الحديث عن التاريخ، وتعلموا شيئًا منه في المدرسة أو الجامعة، وقرءوا كتبًا حوله، ورأوا ما يعالَج في هذه الكتب تحت اسم «تاريخ العالم» أو «تاريخ الجنس البشري»، ودرجوا على أن ينظروا إليه بوصفه سلسلة محددة من الوقائع، واعتقدوا أن هذه الوقائع تُشكِّل تاريخ الجنس البشري.
غير أننا رأينا أن عالم الوقائع يعج بما لا نهاية له منها، وأن لا مناص لنا من الانتقاء. بوسعنا مثلًا أن نكتب وفقًا لاهتماماتنا، عن تاريخ «الفن» أو «اللغة» أو «العادات الغذائية» أو «تاريخ حمى التيفوس». يقينًا ليس واحد من هذه هو تاريخ الجنس البشري (ولا كلها مجتمعة). فالذي يقرُّ في ذهن الناس عندما يتحدثون عن تاريخ الجنس البشري هو تاريخ الإمبراطورية المصرية والبابلية والمقدونية والرومانية وما إليها وصولًا إلى يومنا هذا. هم إذن يتحدثون عن «تاريخ الجنس البشري»، ولكنهم يعنون «تاريخ السلطان السياسي».
ليس هناك تاريخ للجنس البشري، بل هناك عدد لا حصرَ له من تواريخ الجوانب المختلفة من الحياة البشرية. وما التاريخ السياسي سوى واحد من هذه التواريخ، غير أنه رُفِعَ ليكون هو تاريخ العالم (وإن هذه لإهانة لكلِّ تصورٍ سام عن الجنس البشري). وما هو بأقوَمَ من أن تعرض تاريخ الاختلاس أو النهب أو دس السم بوصفه تاريخ الجنس البشري. ذلك أن تاريخ النفوذ السياسي ما هو إلا تاريخ الجرائم الدولية والقتل الجماعي (متضمِّنًا حقًّا بعض المحاولات لكبح ذلك). ونحن نتعلم في المدارس أن هذا هو التاريخ، ونُحمَل على تمجيد حفنة من عُتاةِ المجرمين بوصفِهم أبطالَه.
يعلم بوبر أن هذه الآراء سوف تلقى معارضة شديدة من جانب الكثيرين، بما فيهم العديد من المدافعين عن المسيحية. فقد ترسخ في التعاليم المسيحية أن الله يكشف عن نفسه في التاريخ وأن للتاريخ معنى، وأن هذا المعنى هو مشيئة الله. وهكذا وقر الاعتقاد بأن التاريخانية عنصر ضروري من عناصر الدين. غير أن بوبر يأبى الاعتراف بذلك، ويؤكد أن هذا الاعتقاد هو محض «وثنية» وخرافة، من وجهة النظر العقلانية أو الإنسانية، بل من وجهة النظر المسيحية نفسها.
ليس للتاريخ معنى، هكذا يُصرح بوبر. غير أن هذا التصريح لا يعني أن كلَّ ما يمكننا أن نفعله بإزائه هو أن ننظر نظرة المشدوه إلى تاريخ النفوذ السياسي، أو أن ننظر إليه على أنه نكتة فظة. ذلك أن بوسعنا أن «نؤَوِّله»، وأعيننا على تلك المشكلات السياسية التي ننتقي حلولها لكي نجربها في زمننا نحن. بوسعنا أن نؤول تاريخ السلطان السياسي من وجهة نظر نضالنا الحالي من أجل المجتمع المفتوح، ومن أجل حكم العقل، ومن أجل العدالة والحرية والمساواة، ومن أجل الحد من الجرائم الدولية. ليس للتاريخ غايات، ولكن بوسعنا نحن أن نفرض عليه غاياتنا. وليس للتاريخ معنى، ولكن بوسعنا نحن أن نُضْفِي عليه المعنى.
التاريخانية وريثة مذاهب عتيقة وغائية بدائية تترجم شعور الإنسان القديم بأنه يُساق نحو المستقبل بتأثير قُوى لا يعرفها ولا يملك مقاومتَها. إنها تبلور ذلك الخوفَ نفسه، والعجز نفسه. يبدو أن التاريخانيين يبشرون بالتغير في مناورةٍ التفافية لاحتواء خطره وكبح جماحِه. لعلهم خائفون من التغير، أو أنهم يريدون أن يروضوا التغيرَ ويحبسوا ماردَه في مصطلحات من صنعِهم وتصوراتٍ من وهمهم، أو أنهم على حدِّ قول بوبر في خاتمة «عقم المذهب»: «يحاولون تعويض أنفسهم عن فقدان عالم لا يتغير فيتشبثون بالاعتقاد بأن التغير يمكن التنبؤ به لأنه محكوم بقانون لا يتغير!»
(٢٣) التقدم يعتمد على الديمقراطية
ربما تكون قلة مِنَّا نحن الأثينيين هي القادرة على وضع السياسات، لكننا جميعًا نملك القدرة على الحكم عليها، وبدلًا من أن ننظر إلى الحوار على أنه حجر عثرة في طريق الفعل، فنحن نراه مقدمة لا غنى عنها لكلِّ فعلٍ سديدٍ على الإطلاق.
يفند بوبر في «عقم المذهب التاريخي» النظرية السيكولوجية في التقدم التي قال بها مفكرون مثل أوغست كونت، وجون ستيوارت مل. اعتقَدَ كونت أن قانون التقدم يمكن استنباطُه من ميل في طبيعة البشر يدفعهم إلى طلب الكمال أكثر فأكثر. ويتبعه مل في ذلك ويدفع بنظريته التي أسماها «تقدمية النفس الإنسانية»، هذه النفس التي يقول إن أول «قوة دافعة فيها … هي الرغبة في تحقيق الرخاء المادي.» أمَّا بوبر فقد اتخذ في ذلك منهجًا أسماه «التحليل النُّظُمي أو المؤسساتي (التكنولوجي) لشروط التقدم.» ولكي نعثر على شروط التقدم، فإن ذلك يقتضينا أن نحاول أن نتخيل الظروف التي يترتب على تحقيقها وقوف التقدم!
ويهمنا أن نلاحظ أن «الموضوعية العلمية» صفة تعتمد إلى حد ما على المؤسسات الاجتماعية، فالقول الساذج بأن الموضوعية العلمية وليدة موقف ذهني أو سيكولوجي لدى الفرد من العلماء، وأنها تعتمد على ما حصله من تجربة وما اكتسبه من تعود على الحيطة وتجنب التحيز، هذا القول من شأنه أن يستثير الرأي المعارض الذي يذهب إلى التشكيك في قدرة العلماء على اتخاذ موقف موضوعي. يقول أصحاب هذا الرأي الأخير إن افتقار العلماء إلى الموضوعية قد لا يكون له تأثير يُذكر في العلوم الطبيعية حيث لا يوجد ما يثير انفعالهم، أمَّا في العلوم الاجتماعية التي لا تنجو أبحاثها من الأهواء الاجتماعية والتحيز الطبقي والمصالح الشخصية فقد يكون لهذا الافتقار إلى الموضوعية أثرٌ فتاك. وهذا الرأي الذي ظهر بصورة مفصلة فيما يُسَمَّى «النظرية الاجتماعية في المعرفة»، يغفل تمامًا عما للمعرفة العلمية من طابع اجتماعي أو مؤسساتي؛ لأنه يرتكز على القول الساذج بأن الموضوعية معتمدة على سيكولوجية الأفراد من العلماء. وهو لا يرى أن جفاف موضوع البحث في العلوم الطبيعية أو بعده عن الأمور الشخصية لا يمنعان التحزب والمصلحة الذاتية من التسلل إلى معتقدات العالم، والحق أننا لو اعتمدنا كل الاعتماد على نزاهة العالم عن الهوى، لاستحال العلم تمامًا، بما في ذلك علم الطبيعة.
ومن المعاني الأخرى ﻟ «التاريخانية» ذلك المعنى البسيط القائل بأن فهمَ أي ظاهرة اجتماعية (كالليبرالية، الديمقراطية، اللغة، إلخ) يستوجب فهم تاريخها وتتبع نشأتها في الزمن وعدم اقتطاعها من سياقها الخاص.