نظرة نقدية
قد تؤَوَّل الفلسفة على أنها تعاقبٌ دائمٌ لميلاد الأفكار، وقد تؤوَّل على أنها تعاقب دائم لمصارع الأفكار. وقديمًا قال شيشرون إنه لا يوجد رأي مخالف للعقل لم يقل به من قِبَل بعض الفلاسفة. وهو قول حق، وأحق منه أنه لا يوجد رأي سديد محكم لم يجد له من الفلاسفة من يناوشه وينال من وجاهته. وقد كانت آراء بوبر من هذا الصنف الأخير. لم يَسلَم الرجل طوال حياته من سهام نقدية كَثُرَتْ كثرة المعارك العنيفة التي أضرم أوارها. وهي انتقادات تعكس لنا تأثيره الفكري الهائل من جهة، وتهيب بنا من جهة أخرى أن نتدبر هذه الانتقادات ونُنْعم فيها النظر، حتى تكتمل لنا صورة الرجل الذي جعل النقدَ ماهيةَ الفلسفة، وأحبَّ النقد حتى وَسَم به مذهبَه كله وأفرغ لنفسه مكانًا عزيزًا في التراث الفلسفي تحت اسم «العقلانية النقدية».
هكذا في أوج نفوذ فتجنشتين بقيَ بوبر خارج التيار الرئيسي للفلسفة الإنجليزية، ماضيًا في طريقه الفلسفي بإصرارٍ وعزمٍ وحِسٍّ عنيدٍ بما هو مهم حقًّا وما هو مجردُ تناقُرٍ حول ألفاظ. هكذا كان الحال. وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فقد كانت هذه حقبةً انقلبَت فيها الفلسفة على نفسها وانشغل الفلاسفةُ بتبديد حفنةٍ من الأحاجي الناجمة عن الاستخدام اللغوي والتي ضللت أسلافهم وأوقعتهم في مشكلاتٍ كاذبةٍ. ولا عجب أن كان بوبر هو الفيلسوف المُفضَّل عند الفيزيائيين وأهل الاقتصاد والتاريخ والسياسة، وبينما كان هؤلاء يُقَدِّرون أهميةَ المسائل التي شَغلَت بوبر والتي نَذَرَ لها نفسه، كان فلاسفة التيار السائد الأكاديميون يرونه متواضعَ المستوى محدودَ القدرة.
ورغم حرص بوبر على وضوح أفكاره وتحديدها، وتحرِّيه الدقة والنصوع في عرضها، وتجنبه لأي التباس يفتح مجالًا لإساءة الفهم أو للمماحكة اللفظية، فقد اختَلَف أتباعُه في فهم الكثير من أفكاره المحورية، وانقسموا حول تصور مذهبه. وتعددت التأويلات فيمن كان حريصًا على ألا يصير تأويلًا! وقد كان بوبر نفسه يشكو كثيرًا من أنه يُساء فهمه. وكان محرر كتاب «فلسفة كارل بوبر» يُصاب بالإحباط إذ يفشل الحوار بين بوبر ونُقاده لأن مقالاتهم، وفقًا لقول بوبر، موجهةٌ ضد آراءٍ لم يَقُل بها قط! وقد تكرر هذا الإحباط في مناسبات كثيرة بحيث إن المرء ليُساوره شكٌّ في أن يكون الكاتب — أي بوبر — مسئولًا عن ذلك قدرَ مسئوليةِ المفسِّر أو الناقد.
(١) فلسفته العلمية
(١-١) ماذا أنجز بوبر في فلسفة العلم؟ وكيف يرتبط إنجازُه بمشكلة الاستقراء؟
وقد يكون من المفيد أن نوضح ذلك بمثال، ولعل المثال الذي استرعى انتباه بوبر بشكلٍ حاسمٍ أن يُفيدنا أكثر من غيره:
هذا تَقَدُّمٌ كبيرٌ في المنهج العلمي بلا ريب، ولكن هل هو أيضًا حلٌّ لمشكلة الاستقراء؟ يدَّعي بوبر في أكثر من موضع أنه حل، ويشكو من أن الفلاسفة الآخرين لم يميزوا حَلَّه وأن نقاده لم يفهموه. تُرَى ما هي هذه المشكلة المُشهَّرة العتيدة … مشكلة الاستقراء؟ تتلخص مشكلة هيوم حول الاستقراء في الآتي:
«هل لدينا ما يُبرر الاستدلال من أمثلةٍ لنا بها خبرةٌ إلى أمثلةٍ ليس لنا بها خبرة؟ لقد شاهدنا الشمس، على سبيل المثال، تُشرق مراتٍ سابقةً عديدةً، فهل هذا يبرر اعتقادنا بأنها سوف تشرق مرةً تالية، غدًا مثلًا؟»
كيف يُجيب بوبر عن سؤال هيوم؟ من الواجب أوَّلًا أن نلاحظ كيف يُفسِّر سؤال هيوم. لقد اعتبره بحق لا مجرد مشكلة تعميم من حالات مفردة إلى جميع الحالات، بل كمشكلةٍ حول الاستدلال من حالاتٍ ماضيةٍ إلى حالةٍ مستقبلية مفردة. وهو يوافق هيوم أيضًا أن وصف اعتقادنا بشروق الغد بأنه احتمالي غير يقيني لا يحل المشكلة.
عندئذٍ يقول بوبر إن سؤال هيوم يجب أن تُعاد صياغتُه، وهو يريد من إعادة الصياغة أن يحوِّل المشكلة من سؤال عن حالات مفردة إلى سؤال عن نظريات تفسيرية كلية. وهو يجيب عن السؤال المعدَّل إجابتَه المتوقعة، وهي أن الملاحظات لا يمكن أن تبرِّر الدعوى بأن نظريةً كلية هي نظريةٌ صادقةٌ، بل يمكنها فقط أن تتيح لنا القول بأنها كاذبة، وأن الملاحظات يمكن أن تبرر تفضيلَنا لبعض النظريات على الأخرى.
غير أن نقاد بوبر أشاروا إلى أن هذا لا يبدو أنه إجابة عن سؤال هيوم! فالنظرية القائلة بأن الشمس تشرق كل يوم وإن كانت قد صمدت للتكذيب بالأمس، فهل يُعَد هذا سببًا للاعتقاد بأنها سوف تصمد للتكذيب غدًا؟ هذا هو ما أراد هيوم أن يعرفه.
يرد بوبر بأنه أجاب عن هذا السؤال. وجوابه: لا، الاستقراء ليس له من مبرر. فكون النظرية قد «تعززت» في الماضي «لا يُفضي لنا بأي شيءٍ مُطلَقًا عن أدائها في المستقبل»، وإن أشد النظريات تعزيزًا من الجائز أن تخفق غدًا. «من الجائز تمامًا أن العالم كما نعرفه، بكل اطِّراداته الدالة من الوجهة العملية، قد ينهار تمامًا في الثانية القادمة.»
إن انهيار العالم بالطبع أمر ممكن، غير أن من الواضح أن لنا ما يبرر الرهان بثقل ضد حدوث الانهيار في الثانية القادمة حتى لو كان مبررنا الوحيد هو أن العالم لم يتقوض في أيِّ ثانية سابقة من الثواني التي لدينا بها علم، وأننا لا نملك أساسًا للاعتقاد بأن هذا الانهيار هو أكثر احتمالًا في الثانية القادمة مما كان في أي ثانية أخرى.
أثبت هيوم رغم ذلك أن هذه الحجة المعقولة تفترض ببساطة أن الملاحظات الماضية تبرر بالفعل تنبؤات المستقبل. وعندما نحاول أن ندافع عن هذا الافتراض على أساس أن أولئك الذين افترضوا في الماضي أن المستقبل سوف يجيء على غرار الماضي قد تبين أنهم على صواب، فإننا نكون قد افترضنا مرة ثانية ما أردنا في الأصل أن نثبته. ومِنْ ثَمَّ فهو افتراض قد يبدو من المحال أن ندافع عنه دون «دور منطقي» ومن المحال أيضًا أن نتفادى اتخاذه.
يريد بوبر أن يقول إن بإمكاننا أن نتجنب افتراض أن المستقبل سوف يجيء (أو من المحتمل أن يجيء) على غرار الماضي، وهذا هو ما دعاه لأن يزعم أنه حل مشكلة الاستقراء. يقول بوبر إنني في غِنى عن اتخاذ هذا الافتراض إذا انطلقنا من صياغة حدوس افتراضية وحاولنا أن نكذِّبها.
غير أن المسألة للأسف لم تُحسَم بعد. فإذا أنا لم أفترض أن انبثاق الماء من الصنبور في الماضي كلما أدرت المقبض هو سبب لأن أعتقد بأنه سينبثق اليوم، فمن الجائز لي بنفس الدرجة من المعقولية أن أمد الكوب تحت المصباح الكهربي بدلًا من الصنبور! يرد بوبر على هذه المسألة البراجماتية بأننا يجب كأساس للفعل أن نفضل «النظرية الأفضل اختبارًا». وهذا لا يمكن أن يعني أكثر من النظرية التي صمدت للتفنيد في الماضي، ولكن لماذا نفضلها عقليًّا ما دام بوبر يقول بأن التعزيز الماضي لا علاقة له بأداء النظرية في المستقبل؟ يقول بوبر إن من «العقلانية» أن نفعل ذلك، «بالمعنى الأوضح لي من معاني هذه الكلمة … فأنا لا أعرف شيئًا أكثر «عقلانية» من نقاش نقدي يدور بكفاءة.»
هكذا يقع بوبر في «المماحكة» اللغوية التي نَذَرَ نفسَه لمناهضتها!
(١-٢) يؤكد بوبر أنه مناهض للمذهب الاصطلاحي Conventionalism
ولكن هذا يضع صعوبة تتعلق باتساق نظرية بوبر مع نفسها: فإذا تعيَّنَ على النظرية س أن تكون قابلةً للاختبار حقًّا (وتكون بالتالي نظريةً علميةً) فلا بد أن يكون بالإمكان تحديدُ ما إذا كانت القضايا الأساسية (التي يُرجَى إذا صدقت، أن تُكذِّب النظرية) هي صادقة فعلًا أم كاذبة (أي تحديد ما إذا كانت مكذِّباتها بالقوة هي مكذِّبات حقيقية).
(١-٣) كما بين إمري لاكاتوش I. Lakatos
(١-٤) تتم صياغة القوانين العلمية في عبارات كلية (أي أنها تأخذ الصورة المنطقية التالية أو مكافئًا لها)
كل أ هو ب.
وهي لذلك تُعَدُّ بمثابة عبارات شرطية متخفية، وينبغي أن نفهمها على أنها عبارات افتراضية تخبر عما يكون عليه الحال تحت ظروف مثالية معينة، وهي بحد ذاتها ليست عبارات «وجودية» الطابع. وعلى ذلك فإن:
كل أ هي ب تعني: إذا كان أي شيءٍ هو أ، إذن فهو ب.
وحيث إن القوانين العلمية هي قضايا غير وجودية، فهي لا يمكن من الوجهة المنطقية أن تتضمن أي عبارات أساسية، ما دامت العبارات الأساسية هي عبارات وجودية بشكل صريح. السؤال الذي يبرز إذن هو: كيف يتسنى لأيِّ عبارة أساسية أن تُكذِّب قانونًا علميًّا، ما دامت العبارات الأساسية غير مستنبطة بحد ذاتها من قوانين علمية؟
يُجيب بوبر بأن القوانين العلمية تؤخذ دائمًا مقترنةً مع عبارات تحدد «الشروط المبدئية» للنظام المشمول بالبحث، وهذه العبارات الأخيرة، والتي هي عبارات وجودية فردية، تُنتِج فعلًا حين تُضَم مع القانون العلمي متضمنات صلبةً وثابتةً. وهكذا فإن القانون «كل أ هو ب» مقترنًا بعبارة الحالة المبدئية «هناك واحدة من أ في ط» يُنتِج المتضمنة «أ التي في ط هي ب»، والتي إذا كانت كاذبة فهي تُكذِّب القانون الأصلي.
لا يكون هذا الرد وافيًا بالغرض إلا إذا صحَّ أن العبارات الوجودية الفردية ستقوم كما يزعم بوبر بمهمة سد الفجوة ما بين النظرية وبين التنبؤ. وقد اعترض هيلاري بتنام بوجهٍ خاصٍّ بأن هذا الافتراض غير صحيح، لأنه في بعض الأحيان على أقل تقدير تكون العبارات المطلوبة لسد الفجوة (والتي يُسمِّيها «الفرضيات المساعدة») عبارات كلية لا جزئية. ومِنْ ثَمَّ فإذا تكشَّفَ أن التنبؤ كاذبٌ فلا سبيل إلى أن نعرف إن كان هذا بسبب كذب القانون العلمي أم بسبب كذب الفرضيات المساعدة. ومن دأب العلماء دائمًا أن يفترضوا في البداية كذب الفرضيات المساعدة، الأمر الذي يُبَيِّن لنا ليس فقط أن القوانين العلمية عَصِية على التكذيب، بعكس ما يقوله بوبر، بل يُبين أيضًا لماذا هي عصية.
(٢) فلسفته السياسية والاجتماعية
لم تكن فلسفة بوبر السياسية أقل شأنًا وتأثيرًا في الأوساط الفلسفية وغير الفلسفية من فلسفته العلمية. ويذكر إدوارد بويل في مقاله المدرج بكتاب «فلسفة كارل بوبر» أن «المذهب الإيجابي في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» كان له أثر هائل في الأذكياء من جيل السياسيين الشبان من كلا الحزبين الرئيسيين في بريطانيا بعد الحرب الثانية.»
كانت السمة المميزة لدفاع بوبر عن الديمقراطية هي أنه جمع في معالجتها لموضوعه بين مجالات متباعدة تَباعُدَ فلسفةِ العلم والفلسفة السياسية. وكان العنصر الموحد بين هذه المجالات هو تطبيقه لمنهجه النقدي على المسائل الاجتماعية والسياسية. وعلى النقيض من الاعتقاد الشائع بأن الديكتاتورية أو «الاستبداد العادل» هو شكل من الحكومة أكثر كفاءة من الشكل الديمقراطي، أثبت بوبر بالحجة الدامغة أن المجتمع المفتوح بمؤسساته الحرة وانفتاحه على النقد هو أقدر على أن يجد سُبُلًا أفضل لحل مشكلاته على المدى البعيد. فالمؤسسات الحرة تتيح لنا أن نُغير رأينا فيما ينبغي أن يكون عليه الحُكم وأن نضع هذا التغيير موضع التنفيذ دون إراقة دماء.
في هذا الكتاب الذي يشبه البيان المحكم الجامع، يطبق بوبر منهجه النقدي في المجال الاجتماعي والسياسي. يقول بوبر إن أولئك الذين يظنون أن تأويل التاريخ كصراع للطبقات (أو كصراع بين الجنس الآري وغير الآري) هو نظرية علمية يرتكبون خطأً أساسيًّا. فالتأويل التاريخي مهم وملهم، ولكنه ليس نظرية. إنه مصدر خصب لاستخلاص فروض وصياغتها بحيث تكون قابلة للاختبار، وبدون هذه المهمة المنطقية يبقى التأويل تأويلًا مهما حَشَدَ له التاريخاني من شواهد واستنفرَ من أدلة. إن عليه أن يقول لنا أي التطورات المستقبلية أو الاكتشافات الجدية عن الماضي من شأنها أن تدحض النظرية. فإن لم يفعل، أو لم يقدر، فإن ادعاءه الوضع العلمي لتنبؤاته يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد، فهي تلحق بتأويلات المنجم الذي يَدَّعي وجود قوانين تربط بين موقع النجوم وأحداث الأرض، ويأتي بشواهد لا تُحصى دون أن يحدد لنا بشكل مسبق أي حال معين يمكن إن صدق أن يكون مكذِّبًا لأقواله.
(٢-١) نقده لهيجل
الحق أنَّ المرء لا يجد في هذا الفصل أيَّ دليلٍ يعالجه، ولا حجة يتناولها، ولا حصن يغريه بالهجوم، وإن المرء ليسأل نفسه بعد قراءة هذا الفصل: «حسنًا، ولكن أين هيجل؟» أين ذلك الصرح العقلي الشامخ الذي لا يعرف الخصم من أين يناله ولا من أين يأتيه؟ ربما لذلك اتجه بوبر إلى شخص الخصم بعد أن أعيَته الحيلةُ في النيل من فكره.
إنَّه يصف هيجل بأنه أفَّاقٌ يعمد إلى استخدام طنين لفظي يغشِّي به على فراغ فكره، وأنه متملق ذليل يهدف من مذهبه إلى تمكين عرش سيده وولي نعمته الملك البروسي الرجعي، وأنَّ نفوذه الفكري المطبق هو مما أفاضه عليه سيده ثمنًا لبضاعته الدعاوية الخبيثة، ومما أفاضه عليه عامةُ النَّاس الذين وجدوا فيه ما صورته لهم أفكارهم المغلوطة عن الفلسفة وطبيعتها، وبوبر في كل هذا يؤيد دعواه بشواهد مطوَّلة من نصوص هيجل اقتلعها من سياقاتها ولفَّقها تلفيقًا، وهي طريقة لو طبقتها على أعمق كتاب لبدا أحمق مأفونًا، وإن هيجل لأيسرُ ضحيةٍ لمثل هذه الطريقة من العرض، ذلك أنَّه دأب على شرح كل جانب من جوانب موضوعه على حدة، فإذا تحدث مثلًا عن «الدولة» فإنَّه يُركز على الوجه الجمعي من السياسة، وإذا تحدث عن المجتمع المدني، فهو أكثر تركيزًا على النزعة الفردية، ولا تكتمل الصورة الحقيقية التي يريد أن يرسمها إلا باجتماع الوجهين وضمهما سويًّا، غير أنَّ بوبر لم يكن مقصده في هذا الفصل أن يفهمَ هيجل بل أن يدمره.
- (١)
فهو يشارك بطريقة غير مباشرة بواسطة السلطة التشريعية التي هي مجلس للمقاطعات أو للطبقات أو للفئات ينتخب الشعب أعضاءه، وتقوم هذه المؤسسة بصياغة قوانين الدولة ووضع البرامج التي تكفل الرخاء للمجتمع ككل.
- (٢)
ويُشارك المواطن على نحو مباشر في العملية السياسية عن طريق التصويت العلني بإبداء رأيه الشخصي الخاص في المسائل المتعلقة بشئون الدولة، يقول هيجل في «فلسفة الحق»: «تعتمد حرية الأفراد الذاتية على أنَّهم يُكوِّنون آراءهم الخاصة وأحكامهم الشخصية ويعبرون عنها فضلًا عن توصياتهم في شئون الدولة، وتتجلى هذه الحرية على نحوٍ جمعيٍّ فيما نطلق عليها اسم «الرأي العام» الذي يرتبط فيه ما هو كلي وجوهري وحق بضده؛ أعني بما هو جزئي وبآراء شخصية للكثرة أو المجموع» (الفقرة ٣١٦). وهكذا نجد أنَّ «الرأي العام» هو خليط من الكلي والجزئي، من العقل واللاعقل، من الجاد والتافه، إذ يعبر عنه الأفراد المختلفون في درجة ذكائهم ومزاجهم واهتماماتهم وبواعثهم، وهذا يظهر لنا على أنَّ الرَّأي العام يبدو أمام الحكومة بطريقة غير منظمة، لكن الدولة ينبغي أن تؤدي عملها في جوٍّ من النظام والتخطيط الفكري، وبالتالي ينبغي انتقاء تلك الأفكار أو الآراء التي تعبر أعظم تعبير عن المصلحة العقلية للمجتمع ككل، وما هو هام في ذلك الانتقاء أو الاختيار ليس من يُعبر عن هذه الفكرة أو ذلك الرأي أو عددهم، بل ما هي الفكرة الخيرة أو العظيمة؟ عظيم مَن يستطيع أن ينظم الحاجة الكلية للشعب! «فالرجل العظيم في عصر ما هو الرجل الذي يستطيع أن يضع إرادة عصره في كلمات، إن الرجل الذي يتنبأ لعصره بما يريد ثُمَّ يقوم بإنجازه، وما يفعله هو قلبُ عصره وماهيته، إنه يحقق عصره بالفعل.
أمَّا مَن ينقصه الحس الكافي لاحتقار الرأي العام الذي يتجسد في الإشاعات، فإنه لن ينتج أبدًا شيئًا عظيمًا» (الفقرة ٣١٨). وبالتالي فإننا نستطيع أن نحترم الرأي العام أو نحتقره، إننا نحتقره بمقدار ما يتضمن من أكاذيب ومصالح ذاتية، لكننا يمكن أن نحترمه بمقدار ما يتضمن من مصالح حقيقية للأمة، «ومِنْ ثَمَّ فإن الرأي العام هو مستودع، ليس فقط للحاجات الأصلية والميول الصحيحة في الحياة العامة، بل هو أيضًا مستودع لمبادئ العدل الجوهرية الأزلية أعني المضمون الحقيقي للدستور كله وللتشريع والحياة الاجتماعية والوضع العام للدولة» (الفقرة ٣١٧).
-
من حيث مضمونها تعتمد على وحدة الحرية الموضوعية (أي حرية الإرادة الكلية أو الجوهرية) والحرية الذاتية (أي حرية كل فرد في أن يعرف وأن يريد غايات جزئية).
-
من حيث صورتها فهي تحدد ذاتها عن طريق القوانين والمبادئ التي هي أفكار ومِنْ ثَمَّ كلية» (فلسفة الحق، فقرة ٢٥٨).
المواطن في الدولة إذن هو فرد هو عالَم من الفكر والشعور والفعل، وهو قادر على السعي نحو تحقيق غايات تنتمي إلى شخصيته، وهو يميز نفسه على نحوٍ فريد بالاهتمامات الشخصية والأفكار والقيم وسمات الشخصية، لكنه كذلك عضو في دولة، وهو بما هو كذلك يسعى إلى تحقيق الكلي؛ أعني الحكومة والقانون والعادات في حياته، وهذا الكلي الذي هو الدستور يكمن تحت إرادة الشعب ككل ويجسد القيمَ الأساسية، بمقدار ما يتلقى تصديق العقل، ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن الذي هو على وعي بعضويته في الدولة يعي كذلك أن حريته الحقيقية تتجسد من خلال الكلي أو الدستور؛ لأنَّه تعبير عن إرادته الكلية، والقوانين التي يقضي بها الدستور لم تَعُد بعدُ أوامرَ خارجية محايدة عليه أن يطيعها لو أراد أن ينجز غايات معينة وإنَّما هي قوانينه الخاصة، القوانين التي تعبر هي إرادته بوصفه عُضوًا في الدولة: «غير أنَّ هذه القوانين، وهذه المؤسسات من ناحية أخرى ليست شيئًا غريبًا عن الذات، بل على العكس فإنَّ روح الذات تشهد عليها بوصفها ماهيتها، أعني الماهية التي تشعر فيها الذات بذاتيتها، والتي تعيش فيها كما تعيش في عنصرها الخاص الذي لا تنفصل عنه» (فقرة ١٤٧). وهذا هو السبب في أن حريته يمكن إنجازها فقط عندما يريد في أفعاله أن يحقق نُسُق القوانين التي تنبع من الدستور، وإذا عبرنا عن ذلك بطريقة أخرى، قلنا: إنَّ المواطن يحدد نفسه ويتنسم نسيم الحرية عندما يعمل طبقًا للقوانين التي يضعها الدستور، وبالتالي فإن المواطن الذي يفشل في توحيد إرادته الشخصية الذاتية مع الإرادة الموضوعية التي تجسد الدرجة القصوى من العقلانية، لن يحقق في فعله حريته الكاملة.
«الدولة في ذاتها ولذاتها هي كلٌّ أخلاقي، إنها التحقق الفعلي للحرية، وتلك هي الغاية المطلقة للعقل أن تتحقق الحرية تحقُّقًا فعليًّا» (ملحق للفقرة ٢٥٨). وبالتالي فما دامت الدولة هي الروح على الأرض — وهي تتحقق هناك بوعي — وما دامت هي التحقق الأعلى للفكرة الأخلاقية على الأرض، فإنه ينتج من ذلك أن المواطن — شاء أم أبى — لن يستطيع أن يُحقق حريتَه إلا كعضوٍ في الدولة، كعضو يتطلع لتحقيق الغاية التي تعبر عن الإرادة الكلية، «إن ماهية الدولة الحديثة هي أنَّها اتحاد الكلي بالحرية الكاملة لأعضائها الجزئيين وبمصلحة الأفراد، حتى إن مصلحة الأسرة والمجتمع المدني لا بد أن تتمركز في الدولة، رغم أن الغاية الكلية لا يمكن أن تتقدم بغير معرفة شخصية، وإرادة أعضائها الذين لا بد أن تتأكد حقوقهم الخاصة. وهكذا نجد أنَّه لا بد من تعزيز الكلي من ناحية، ولا بد للذاتية من ناحية أخرى أن تبلغ تطورها الحي الكامل، وعندما توجد هاتان اللحظتان معًا وفي قوتهما، عندئذٍ فقط يمكن أن يُنظَر إلى الدولة على أنها تنظيم عضوي أصيل منسق» (ملحق للفقرة ٢٦٠). وعلى ذلك نجد أن الدولة بخلاف الحكومة في المجتمع المدني لا تقف أمام أعضائها على أنها «آخر»، أو على أنها شيء خارجي عنهم، وإنما هي الآن وحدة تجسد حقوقهم ومصالحهم، فإذا لم تنسجم غاية الفرد مع غاية الدولة بشكل أو بآخر، فإن الدولة تصبح «معلقة في الهواء» وتأخذ مكان المجتمع المدني. ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن حين يُطيع القوانين التي سنَّتها الدولة فإنه يحقق حريته؛ لأن القانون الذي يطيعه إنما هو تعبير عن إرادته وغايته الحقيقية-إنه قانونُه هو، وهذا هو أساس الدعوة بأن «على الأفراد واجبات تجاه الدولة بمقدار ما لهم عليها من حقوق» (فقرة ٢٦١).
-
أساس الدولة عند هيجل هو القانون، فما يحكم ويحدد حياة الفرد في الدولة ليس عاملًا خارجيًّا، ولا قوة خارجة عن الفرد، وإنما هو القانون، القانون الذي يدركه المواطن عن وعي بوصفه موجودًا عاقلًا حُرًّا، ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن الذي هو عضو في الدولة إنَّما يوجد في ظروف فردية وبوصفه مصدر السلطة؛ أعني الدولة التي تحدد حياته وحياة المجتمع بصفة عامة.
-
وغاية الدولة عند هيجل هي الحرية لأعضائها، وبالتالي فإن الدولة هي الوسط الذي يُحِّقق فيه المواطن حريته بوصفه فردًا بشريًّا، ولا يمكن للدولة أن تستخدم المواطن كوسيلة لغاية جزئية أنانية، بل على العكس إنها تبلُغ خاصيتَها كدولة فقط عندما تعامل كل مواطن على أنه شخص، أعني على أنه غاية في ذاته.١٠
أليس من العبث والمغالطة أن نصرف أنظارنا عن عمق التحليل الهيجلي للدولة، ثُمَّ نطبق عليه ببساطة أسماء وعناوين مثل: شمولي، غير ديمقراطي، غير ليبرالي؟ ذلك أن من المحال لأي لقب من هذه الألقاب أن يصف موقف هيجل وصفًا كافيًا. والحق أن هيجل نفسه يَنفُر من هذه الألقاب، واهتمامُه الأساسي هو ببساطة أن يحلل الطبيعة الجوهرية أو المبدأ الأساسي للدولة … ما يجعل من المجتمع المنظم دولة … الشروط التي يستطيع فيها أي عضو في هذا المجتمع أن يحقق فرديته الإنسانية أو حريته. إن الشكل الذي يتخذه الدستور عند هيجل (الشكل الديمقراطي، الكلي، … إلخ) ليس هو الأمر الحاسم وإنما السؤال الحقيقي هو: بأية طريقة يستطيع الدستور — عندما يصبح عاملًا في تشكيل سلوك المواطنين — أن يساعد في نمو النوع الأعلى من الشخصية البشرية، الشخصية التي تستطيع تحديد مصيرها، أو باختصار الشخصية الفاضلة؟
«عندما سأل أحد الآباء فيلسوفًا فيثاغوريًّا عن أفضل طريقة لتربية ابنه تربيةً أخلاقية، أجاب الفيلسوف الفيثاغوري بقوله: اجعل منه مواطنًا في دولة ذات قوانين صالحة» (فلسفة الحق فقرة ١٥٣، إضافة). هكذا يُلح هيجل على أن تطور القيم لا يتم في فراغ، وإنما يتم في وسطٍ عيني من القوانين والعرف والمؤسسات بصفة عامة، وليس في استطاعتنا، شئنا أم لم نشأ، أن نتجاهل دور هذه العوامل في ازدهار الشخصية البشرية.
(٢-٢) أوجه الشبه بين هيجل وبوبر
على الرغم من ذلك اللدد والعداء الشديد، فإن بوبر يعود في كتابه الأحدث «المعرفة الموضوعية»، فيعترف أن هيجل قد سبقه في كلٍّ من نظرية المعرفة الموضوعية نفسها، والمخطط التطوري لنمو المعرفة (بدءًا من مشكلة ما، ومرورًا بحل اختباري للمشكلة، ثُمَّ نقد لهذا الحل، وانتهاء بمشكلة جديدة). ومهما حاول بوبر إبراز الفروق فإن تلامذة هيجل لن يجدوا صعوبة في تَبيُّن التصور البوبري للمعرفة في هيجل، والديالكتيك الهيجلي في بوبر، يدَّعي بوبر أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين الديالكتيك الهيجلي وبين مخططه لتقدم المعرفة، غير أن هذا الفارق قائم على فكرة خاطئة تقول بأن النظام الهيجلي يحتمل التناقضات، بينما لا يحتملها مخطط بوبر، فالحق أن هيجل لا يقبل التناقض أكثر مما يقبله بوبر، ووفقًا لهيجل فإنَّ استحالة احتمال التناقض في أيِّ مرحلة من المراحل يدفعنا إلى التقدم إلى وضع آخر يمكن أن يوفق بين وجهتي النظر المتناقضتين سابقًا، عندئذٍ تبرز تناقضاتٌ جديدةٌ وتتكرر نفس العملية، ومجمل القول: إنَّ التوازي بين فكرتي هيجل وبوبر شديد الوضوح، وأنَّ سلطان هيجل العقلي قد شمل بوبر نفسه من حيث لا يدري، وأن حال بوبر في ذلك يُذكِّر بقول النابغة للنعمان:
(٢-٣) نقده لماركس
من المتفق عليه أنَّ بُوبر قدَّم أعنف نقد وُجِّهَ إلى الماركسية منذ نشأتها، وأنَّه كان مُوفَّقًا فيه إلى أبعد حدٍّ. ويتميز نقد بوبر لماركس بأنه موضوعي يخلو من القدح والسباب ولا يتناول شخصَ الخصم دون حجته، بل هو نقدٌ مُنصِفٌ في مجمله يعرف لماركس قيمتَه الفلسفية ويُقدِّر نبلَ نواياه وسلامةَ مَقاصدِه.
غير أنَّ ماركس شخصية تميزت بتعدد الجوانب ومَرَّت بتطوراتٍ فكريةٍ جارفة، فاختلف فهمُ الناس لها في حياتها، ثُمَّ تَعرَّض مذهبه لتحولاتٍ أعنف بعد وفاته فاختلفت تصوراتُ الناس لهذه الشخصية اختلافًا خلق فجوةً هائلةً بين الحقيقة والأسطورة، ثمة إذن أكثر من ماركس في أذهان الناس، سواء كانوا من أتباعه أو من خصومه، تُرى أي «ماركس» ذاك الذي تناوله بوبر بالنقد في «المجتمع المفتوح»؟
إنما لهذا الصنف من التفسير الحتمي المتصلب الدوجماوي لأفكاره دأب ماركس في أواخر أيامه أن يقول بأنه: «ليس ماركسيًّا!»
لقد كان ماركس وإنجلز مسئولين عن كل ذلك، فقد كان ماركس في بعض الأحيان (وإنجلز في كثير من الأحيان) يكتب كما لو كانت الماركسية صَرحًا من المعرفة العلمية تحتوي على قوانين عامة تحكم تطورَ التاريخ كله، ولما كان هذا التصور للماركسية سهلَ الفهم وجذَّابًا بالنسبة لحقبةٍ انبهرَ الناسُ فيها بإنجازات العلم في مجالات أخرى، فقد تبيَّن أنَّه كان تصوُّرًا رائجًا بين الماركسيين المتأخرين. وحيث إن معظم التنبؤات عن القوانين العامة الأصلية قد تَبيَّنَ كذبُها، فإن المرء حقيقٌ ألا يملك نفسه عن الميل المُفرِط للتمسك بهذه النظرة اليوم، هذا هو التأويل الوحيد الممكن للماركسية الذي يستطيع بوبر أن يقول إنه دَحَضَه، وهو تأويلٌ غير مقبول في يومنا هذا، ولقد رأينا أن ماركس وإنجلز قد رفضا في أواخر أيامهما فكرةَ القوانين الكلية المتحكمة في مسار التاريخ كله.
ما يبقى من ماركس
ولكن هل هذا هو ماركس كلُّه؟ بالطبع لا، فهناك نصوصٌ هيجلية الطابع كتبها ماركس ولم يطَّلع عليها بوبر يوم كتب «المجتمع المفتوح»، لم يكن ماركس في هذه النصوص «نيوتن العلوم الاجتماعية»، بل كان فيلسوفًا حصيفًا يستخدم المقولات والمصطلحات الهيجلية، ولا يَدَّعي يقينًا علميًّا، بل يحاول أن يطبق على العالم الواقعي تلك الاستبصارات التي استمدَّها من هيجل.
والواقع الحق أنَّ هذه الاستبصارات تبقَى مشرقةً ومضيئةً، والفهم الحقيقي للماركسية الحقيقية يحملنا على أن نُقدِّر هذا التوجه الفلسفي، ونرى فيه إلهامًا بطرائق في النظر إلى الإنسان والمجتمع مثمرة علميًّا وإن لم تكن علمًا بالمعنى الكامل، بوسعنا أن نضرب صفحًا عن إسراف ماركس في ادِّعاء اليقين في بعض الأحيان، وعن نبوءاته الخاطئة، وأن نوافق رغم ذلك على أنه أشار إلى طريقٍ يمكن أن تتقدم فيه العلوم الاجتماعية، لقد كان السائد قبل ماركس أن يُدرَس الإنسان وأفكاره كما لو كان تاريخهما وتطورهما لا علاقة له البتة بمتطلبات العيش اليومية وحاجات الحياة الأرضية الملحة، ومنذ ماركس انعقد الإجماع على أن أنشطة الإنسان الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مشتبكةٌ معًا، ولا يمكن فهمها بمعزلٍ عن بعضها البعض، لهذا السبب يمكننا أن نقول بحق: إنَّ استبصاراته قد جعلت نشوءَ علمٍ للمجتمع أمرًا ممكنًا.
ولسنا نرى داعيًا لأن يُنكر بوبر أي شيء من ذلك، فكله يتفق تمام الاتفاق مع نظرته عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الميتافيزيقا في العلم، كمصدر للفرضيات التي تُقدَّم إلى العلم لكي يختبرها، ويجتبي الصامد منها.