مُوجَز لِكَارل بُوبَر
أمَّا نمو المعرفة فكان يتألف، وفقًا للتصور السائد، من إضافة حقائق يقينية حديثةِ الاكتشاف إلى مجموعةِ الحقائق القائمة التي تتمدد وتتسع على الدوام، شأنها شأن خزينةِ نفائسَ لا تزال محتوياتها في ازدياد على مَرِّ الزمن: فالموجود فيها أصلًا يبقى كما هو بطبيعة الحال، فيما يُضاف الجديدُ إليه فيظل المخزون في تزايدٍ مُطَّرِد، أمَّا أولئك الذين كانوا على إلمام بأفكار لوك وهيوم، فكانوا يعلمون أنَّ القوانين العلمية لم تتم البرهنة عليها بصفة نهائية، غير أنه في ظل النجاح الساحق لتطبيقات هذه القوانين على مدى أحقاب طويلة من الزمن، فقد كان هؤلاء يميلون إلى اعتبار القوانين العلمية أشبه بما يمكن أن يُسَمَّى «لا نهائي الاحتمال»، بمعنى أنه شديدُ القرب من اليقين بحيث ينعدم الفرقُ على صعيد الأغراض العملية.
(١) المعرفة غير اليقينية
في منعطف القرن العشرين ظهر في الساحة عبقريٌّ علميٌّ جديدٌ لا يقل حجمًا عن نيوتن، إنه يهودي ألماني يُدعَى ألبرت أينشتين (١٨٧٩–١٩٥٥م)، قدَّم أينشتين نظرياتٍ لا تتفق مع نظريات نيوتن، وكان عقلُه مثل نيوتن، مذهل الخصب يضج بأفكار جوهرية. دفع أينشتين بنظريته الخاصة في النسبية عام ١٩٠٥م، وبنظريته العامة عام ١٩١٥م، وليس من المستغرب أن النظريتين كانتا مَثارَ خلافٍ كبيرٍ في البداية، ولكن أهميتَهما لم تكن لدى أي متخصص محلَّ خلاف، وكانت هذه الحقيقة بحد ذاتها مبعث قلق، ذلك أنه إذا كان أينشتين على صواب لكان نيوتن على خطأ، وفي هذه الحالة يتكشف أننا لم نكن «نعرف» مضامين العلم النيوتوني طوال هذه الحقب.
وهذا بعينه ما تَكَشَّف، فقد صُمِّمَت تجاربُ إمبيريقيةٌ فاصلةٌ لتحكم بين النظريتين، جاءت نتائجها، بما لا يدع مجالًا للشك، لمصلحة أينشتين، وكانت آثارُ ذلك في مجال الفلسفة أشبه بالزلزال، فمنذ عهد ديكارت، كان البحث عن اليقين يمثل لُبَّ لُبابِ الفلسفة الغربية، ومع العلم النيوتوني ترسَّخ في اعتقاد الإنسان الغربي أنه قد أماط اللثام عن كمٍّ هائلٍ من المعرفة الوثيقة عن عالمه الذي يعيش فيه، وعما يتجاوز عالَمه أيضًا، وأن هذه المعرفة هي ذات أهمية جوهرية ونفعٍ كبيرٍ.
(٢) تنشئة ثرية وحياة طائلة
مثلما تكفل جون لوك سابقًا بالتعبير عن منطويات العلم النيوتوني، وما يحمله من دلالات فلسفية واجتماعية وسياسية، كان فيلسوف القرن العشرين الذي حمل على عاتقِه هذه المهمة بالنسبة لثورة أينشتين العلمية هو كارل بوبر الذي وُلد في فينا عام ١٩٠٢م، ابنًا لمحامٍ نابِه، وتلقى رغم أصله اليهودي تربيةً مسيحية لوثرية، واعتنق الماركسية في صباه الباكر ثُمَّ عافها حين رأى «الشيوعيين» يُجيزون التضحية بالبشر العاديين إذا كان هذا يخدم مُخططهم، وتحوَّلَ إلى جانب الديمقراطيين الاشتراكيين، وعاش بوبر «اشتراكيته» يرتدي ثوب العمال ويخالط العاطلين ويخدم الأطفال المعاقين، وكان هذا الميل الأخير سببًا لتعرُّفه بالمحلل النفسي ألفرد أدلر، وفي هذا الوقت أيضًا تعرَّف بالحركة الطليعية في الموسيقى وزعيمها «شوينبرج»، وجمعته الصداقة بالموسيقار فيبرن، أمَّا في عطلاته فقد كان مغرمًا بتسلق الجبال، وتزوج بطالبةٍ من حسناوات جيله.
(٣) يقين العلم
طوَّرَ بوبر هذا الاستبصار إلى نظريةٍ مكتملة في المعرفة، وفقًا لهذه النظرية يُعَد الواقع الفيزيائي موجودًا بمعزلٍ عن عقل الإنسان، وله نظام مختلف جذريًّا عن خبرة الإنسان، ولهذا السبب عينِه لا يتسنَّى فهمُه بطريق مباشر، فنحن نُنتج نظريات معقولةً لكي نفسر هذا الواقع، ونظل نستخدم هذه النظريات ما دامت تعمل بنجاحٍ وتؤدي إلى نتائج عمليةٍ ناجحة، غير أنه في جميع الحالات تقريبًا سوف تضعُنا هذه النظريات، عاجلًا أم آجلًا، أمام مصاعب عندما يتبين قصورُها في جانب معين، هنالك سوف نُجِيل النظرَ طلبًا لنظريةٍ أفضل: نظريةٍ أكثرَ رحابةً تضطلع بتفسير كل ما تمكنت النظريةُ الأولى من تفسيره وتتلافى في الوقت نفسه أوجهَ القصور التي تنطوي عليها النظرية الأولى، ونحن لا نَستَنُّ هذه الطريقة في العلم وحدَه، بل في كل حقل من حقول النشاط الأخرى، بما فيها أفعال الحياة اليومية، يعني ذلك أن طريقنا في معالجة الأمور هي في صميمها طريقةُ «حل مشكلات»، «وأننا نحرز تقدُّمنا لا عن طريق إضافة يقينٍ معرفيٍّ جديدٍ إلى كم المعارف القائم، بل بإحلال نظرياتٍ أفضلَ مَحَلَّ النظريات القائمة، باستمرارٍ وبصفةٍ دائمة؛ ومِنْ ثَمَّ فإن علينا أن نتخلَّى عن البحث عن اليقين، ذلك البحث الذي استحوذ على عقول أعظم فلاسفة الغرب بدءًا من ديكارت وانتهاءً برَسِل، ذلك أن هذا اليقين لا وجود له.»
ورغم ذلك، ففي حين لا يمكن إثبات أي نظرية كليَّة، فإنَّ بالإمكان دحضها، وهذا يعني أن بالإمكان اختبارَها، فإذا لم تكن ثمة نهاية لعدد البجعات البيضاء التي تلزم ملاحظتها لإثبات صدق العبارة الكلية «كل البجع أبيض»، فإن ملاحظة بجعة واحدة سوداء تكفي لدحض العبارة، من ذلك يتبيَّن أن الاختبار الممكن للعبارات الكلية هو بالبحث عن أمثلة مضادة، فإذا كان الأمر كذلك، يصبح «النقد» هو الوسيلة الرئيسية التي نُحرز بها تقدُّمًا في حقيقة الأمر، «فالعبارةُ التي لا توجد أيةُ ملاحظةٍ يمكن أن تدحضها، هي عبارةٌ لا يمكن اختبارُها؛ ومِنْ ثَمَّ لا يمكن أن تُعَد عبارةً علميةً، ذلك أنه إذا كان أي شيء ممكن الحدوث سيكون متفقًا مع العبارة، فلا شيء إذن يمكن أن يُعتبر بينةً على صدقها.»
(٤) المجتمع المفتوح
كان الكتاب الرائد الذي ضَمَّنَه بوبر هذه الأفكار هو كتاب «منطق الكشف العلمي» الذي نُشر بالألمانية عام ١٩٣٤م وبالإنجليزية عام ١٩٥٩م، وليس قبل أن يستوثق من نجاح أفكاره بصدد العلوم الطبيعية أدرك بوبر أنَّها تنطبق أيضًا على العلوم الاجتماعية، وفي عام ١٩٤٥م نشر بوبر كتابًا بعنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه» في مجلدين، وفيه قام بتطبيق أفكاره العلمية على النظرية السياسية والاجتماعية.
يبرهن بوبر بالحجة على أنَّ اليقين لا وجودَ له في السياسة مثلما هو لا وجودَ له في العلم، ومِنْ ثَمَّ فإن فرضَ وجهةٍ لواحدةٍ من الرأي هو أمرٌ لا مبرر له، وأسوأ صور المجتمع الحديث جميعًا هي تلك المجتمعات التي تَفرِض تخطيطًا مركزيًّا ولا تسمح بالمعارضة، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يمكن فيه تنقيح السياسات الاجتماعية قبل تنفيذها، وملاحظةُ النتائج غير المرغوبة هي أوجَبُ سببٍ لتعديلِ السياسات أو نبذِها بعد أن يتم تنفيذُها.
يتبيَّن من ذلك أنَّ المجتمع الذي يسمح بالمعارضة والحوار النقدي (ما يُسميه بوبر «المجتمع المفتوح») سيكون بالتأكيد أقدَرَ على حلِّ المشكلات العملية لصُنَّاع السياسات من المجتمع الذي لا يسمح بذلك، وسيكون تقدمه أسرع وأقل تكلفة.