كراهية وصداقة وغزل وحُب وزواج
منذ سنين، قبل أن تتوقف القطارات عن المرور على كثيرٍ من الخطوط الفرعية، أتت إلى محطة السكك الحديدية امرأة ذات جبينٍ مرتفعٍ وعليه نمش، وشعرٍ مجعدٍ بُنيٍّ مُشرَّبٍ بحمرة، وسألتْ عن شحن الأثاث.
كثيرًا ما أقدم ناظر المحطة على تحرُّشٍ هيِّنٍ بالنساء، خصوصًا غير الجميلات ممن كُنَّ يُقدِّرن ذلك.
قال: «أثاث؟» كما لو أنها فكرة لم تخطر على بال إنسانٍ من قبل. «حسنٌ. عن أي نوعٍ من الأثاث نتكلم؟»
مائدة حجرة طعام وستة مقاعد. طاقم غرفة نومٍ كامل، أريكة، منضدة قهوة، ومناضد جانبية مرتفعة، ومصباح طويل أرضي، وكذلك خزانة أطقم المائدة لأطقم الصيني، وبوفيه.
«على رسلك. أتقصدين ملء بيتٍ كامل؟»
قالت: «يجب عدم اعتبار هذا كثيرًا إلى هذا الحد؛ فليس هناك أشياء للمطبخ وليس سوى أثاثٍ يكفي غرفة نومٍ واحدة.»
كانت أسنانها محتشدة في مقدمة فمها، وبدت كما لو كانت متأهبة للجدال.
قال: «سوف تحتاجين إلى سيارة نقل.»
«لا، أريد أن أرسلها بالقطار. سوف تتجه غربًا، إلى ساسكاتشِوان.»
كانت تتحدث إليه بصوتٍ عالٍ كما لو كان أصمَّ أو أحمق، وكان هناك شيءٌ غريب في طريقة نطقها للكلمات؛ لُكْنَةٌ ما. فكَّر في الهولنديين — كان الهولنديون يأتون للإقامة في هذه الأنحاء — غير أنْ لم يكن لها الوزن الثقيل للنسوة الهولنديات أو بشرتهنَّ الوردية المُحببة أو شعرهن الأشقر. قد تكون أقل من الأربعين، ولكن ما أهمية هذا؟ ليستْ ملكة جمال … بالمرة.
حوَّل انتباهه للعمل فقط.
«أولًا، سوف تحتاجين إلى سيارة نقلٍ حتى تحضري الأثاث إلى هنا من المكان الذي تضعينه فيه. ويَحسن بنا أن نتأكد إن كان ذلك المكان في ساسكاتشِوان يمر به القطار، وإلا فسيكون عليكِ ترتيب أمر تسلُّم أغراضك في محطة ريجينا مثلًا.»
قالت: «في جدينيا، القطار يمر بها.»
تناولَ دليلًا مُغطًّى بالزيت كان مُعلقًا بمسمارٍ وسألها كيف تتهجين تلك الكلمة. تناولتْ قلمَ رصاصٍ كان معلقًا بخيط أيضًا، وكتبتْ على قطعةٍ من ورقٍ من محفظتها: «ﺟ د ي ن ي ا».
«أيَّ جنسيةٍ تتبعها تلك المنطقة؟»
قالت إنها لا تدري.
أخذ منها قلم الرصاص ليتتبع المسار من خط قطارٍ إلى آخر.
قال: «هنالك أماكن كثيرة تمتلئ بالتشيكيين أو المجريين أو الأوكرانيين.» خطر له حين قال هذا أنها قد تكون من هؤلاء. لكن ماذا في ذلك، فقد كان يقر أمرًا واقعًا وحسب.
«ها هي، حسنٌ، إنها على الخط.»
قالت: «نعم، أريد أن أشحنه يوم الجمعة؛ هل يمكنك فعل ذلك؟»
قال: «يمكننا شحنه، ولكنني لا أستطيع أن أحدد اليوم الذي سوف يصل فيه إلى هناك، المسألة كلها تعتمد على الأولويات. هل سينتظر شخصٌ ما وصول الأثاث هناك؟»
«نعم.»
«قطار يوم الجمعة مختلط، ركاب وبضائع، يقوم في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة مساءً. لا بد أن تنقل السيارة الأثاث يوم الجمعة صباحًا. هل تقيمين هنا في البلدة؟»
أومأت برأسها، ثم كتبتِ العنوان: ١٠٦ طريق المعرض.
لم تكن منازل البلدة قد رُقِّمت إلا مؤخرًا، ولم يتمكَّن من تحديد المكان بدقة، على الرغم من أنه كان يعرف أين يقع طريق المعرض. لعلها لو كانت ذكرت له اسم ماكولي في ذلك الحين لربما أبدى مزيدًا من الاهتمام، ولربما انتهت الأمور إلى غير ما انتهت إليه. كانت هناك منازل جديدة في تلك المنطقة، أُنشئت منذ الحرب، كانت تُسمَّى «منازل أيام الحرب» افترضَ أن ذلك المنزل واحدٌ منها.
قال لها: «تدفعين عند الشحن.»
«وأريدُ أيضًا تذكرة سفرٍ لي على نفس القطار، عصرَ يوم الجمعة.»
«مسافرة إلى المكان نفسه؟»
«نعم.»
«يمكنكِ أن تسافري على نفس القطار إلى تورونتو، وهناك سيكون عليكِ أن تنتظري القطار العابر للقارات، يقوم في العاشرة والنصف مساءً. أتريدين عربة نومٍ أم عربة عادية؟ في الأولى يكون لكِ مقصورة خاصة بسرير، وفي العادية تجلسين في عربة النهار.»
قالت إنها ستجلس.
«انتظري قطار مونتريال في سادبيري، لكنكِ لن تنزلي عن القطار هناك، فسوف يعملون تحويلة للقطار وحسب، وسيربطونه بعربات مونتريال. ومن هناك إلى بورت آرثر ومنها إلى كينورا. لا تنزلي عنه حتى تصلي إلى ريجينا، وهناك لا بد أن تنزلي لتلحقي بقطار الخط الفرعي.»
أخذت تومئ برأسها كما لو كان ينبغي عليه أن يُسرعَ ويعطيَها التذكرة.
قال، مبطئًا من إيقاعه: «ولكني لا أتعهد لكِ بأن أثاثك سوف يصل عند وصولكِ أنتِ، لا أظن أنه سوف يصل إلا بعد ذلك بيومٍ أو يومين. إنها مسألة أولويات. هل سيأتي شخصٌ ما للقائك؟»
«نعم.»
«جيد؛ لأنها ليست محطةً بالمعنى المعروف. البلدات هناك لا تُشبه كثيرًا بلداتنا هنا. أغلب الأمور هناك بدائية تمامًا.»
دفعتْ ثمن تذكرة السفر، من لفة أوراقٍ نقديةٍ في كيسٍ قماشيٍّ كان بحافظتها، مثل سيدةٍ عجوز. أحصت الفكة المتبقية أيضًا، ولكن ليس كما قد تُحصيها سيدةٌ عجوز؛ إذ أمسكت بها في كفها ومرت بنظرها عليها سريعًا، ومع هذا فقد بدا مؤكدًا أنها لم تغفل عن بنسٍ واحدٍ منها. عندئذٍ استدارتْ مبتعدةً على نحوٍ فظٍّ، دون تحية.
صاح مخاطبًا إياها: «أراكِ يوم الجمعة!»
في هذا اليوم الدافئ من أيام سبتمبر كانت ترتدي معطفًا طويلًا بهت لونه الزيتوني، وحذاءً برباطٍ يُصدر أصوات قعقعة، وجَورب قصير يصل إلى الكاحل.
كان يصب قهوةً من الإبريق الحافظ للحرارة حين عادت وطرقت على الكوة.
قالت: «الأثاث الذي سوف أرسله كله أثاث جيد، مثل الجديد تقريبًا. لا أريده أن يُخدَش أو يتكسَّر أو يتلف على أي نحو. ولا أريده أن يفوح برائحة المواشي أيضًا.»
قال: «أوه، حسنًا، السكك الحديدية تعرف كيف تشحن الأشياء. وهم لا يستخدمون لشحن الأثاث العربات نفسها التي تشحن الخنازير.»
«أنا حريصة جدًّا أن يصل الأثاث إلى هناك في نفس الحالة الجيدة التي يذهب بها من هنا.»
«حسنًا، تعرفين شيئًا، عندما اشتريتِ أثاثك ذلك، كان في المتجر، صحيح؟ ولكن هل سبق لك أن فكَّرت كيف وصل إلى هناك؟ فهو لم يتم تصنيعه في المتجر، صحيح؟ كلا، لقد صُنع في مصنعٍ ما في مكانٍ ما، ثم شحنوه إلى المتجر، ومن المحتمل جدًّا أن يكونوا شحنوه بالقطار أيضًا. إذا كانت هذه هي الحال، أفلا يعتبر هذا دليلًا منطقيًّا على أنهم في السكك الحديدية على درايةٍ بهذا الأمر؟»
ظلَّت ترنو إليه دون ابتسامةٍ أو أي إقرارٍ بحماقتها الأنثوية.
قالت: «أتمنى هذا، أتمنى أن يكونوا كذلك!»
•••
كان بوسع ناظر المحطة أن يقول، دون تفكيرٍ في الأمر، إنه يعرف كل سكان البلدة؛ مما كان يعني أنه يعرف بالفعل نصفهم تقريبًا. وأغلب مَن كان يعرفهم هم نواة البلدة وأساسها؛ أي إنهم «سكان» البلدة حقًّا، بمعنى أنهم لم يصلوا إليها أمسِ وليس لديهم أي خططٍ للانتقال إلى مكانٍ آخر. لم يكن يعرف المرأة المسافرة إلى ساسكاتشِوان لأنها لم تكن تُصلي في الكنيسة نفسها التي يُصلي فيها، أو تُعلِّم أطفاله في المدرسة، أو تعمل في أيٍّ من المتاجر والمطاعم والمكاتب التي كان يتردد عليها. كما أنها لم تكن زوجةً لأي رجلٍ ممن عرَفهم في إلكس أو أودفيلوز أو نادي الليونز أو الليجيون. وبنظرةٍ منه إلى يدها اليسرى حين كانت تستخرج نقودها علم — ولم يندهش بما علم — أنها غير متزوجةٍ من أي شخص. ومن حذائها ذلك، وجوربها القصير بدلًا من الجوارب الحريمية الطويلة، وخروجها في ساعة الأصيل بلا قبعةٍ أو قفازين، علم أنها قد تكون إحدى المُزارعات. غير أنها لم تُبدِ ذلك التردُّد الذي يميزهن عمومًا، وذلك الحرج. لم تكن لها أخلاق القرية، في الحقيقة، لم تكن لها أخلاق بالمرة؛ إذ تعاملتْ معه كما لو كان ماكينة معلومات. علاوةً على أنها كتبت عنوانها في البلدة — طريق المعارض. لم تُذكِّره حقًّا إلا براهبةٍ في ثيابٍ عاديةٍ غير رسميةٍ كان قد رآها على شاشة التليفزيون وهي تتحدث عما أدَّته من عملٍ تبشيريٍّ في مكانٍ ما بالأدغال، أغلب الظن أنهن خلعن ثياب الرهبانية هنالك لأن من شأن هذا أن يُسهِّل عليهن السعيَ والتسلق هنا وهناك.
•••
كان هناك أمرٌ آخر انتوت جوهانا القيام به لكنها طالما أرجأته؛ إذ كان عليها أن تقصد متجر ثيابٍ يُدعى متجر مِلادي وأن تشتريَ لنفسها ثوبًا. لم يسبق لها بالمرة أن دخلت ذلك المتجر؛ فكلما اضطُرت إلى شراء أي شيء — جورب قصير مثلًا — كانت تذهب إلى متجر كالاجان لملابس الرجال والنساء والأطفال. كانت قد ورثت الكثير من الثياب عن السيدة ويليتس، أشياء مثل هذا المعطف الذي لن يبلى نسيجه أبدًا. أما عن سابيتا — الفتاة التي تقوم برعايتها في منزل السيد ماكولي — فإن بنات عمها كُن يُمطرنها بأشيائهن الغالية الفائضة عن الحاجة.
في واجهة متجر مِلادي تقف اثنتان من تماثيل المانيكان ترتدي كلُّ واحدةٍ طقم تايير بتنورةٍ قصيرةٍ وسترةٍ مربعةٍ قصيرة. أحد الطقمين كان لونه بُنيًّا مُذهبًا قليلًا والآخر كان لونه أخضر ناعمًا وعميقًا. كانت أوراق شجر القيقب كبيرة ومُبهرجة ومصنوعة من الورق، موزعة بين أقدام التمثالين ومُلصَقة على الواجهة الزجاجية هنا وهناك. في هذا الوقت من العام، حين كان أغلب الناس منشغلين بكنس وجرف أوراق الشجر المتساقطة وحرقها، كانت تلك الأوراق ذاتها موضع احتفاءٍ هنا. وعُلِّقت على الزجاج لافتة أفقية مكتوبة بخط أسود مائل الحروف تقول: أناقة بسيطة، مُوضة الخريف.
فَتحَت الباب ودخلَت المتجر.
أمامها مباشرة مرآةٌ بطول القامة أظهرتها في معطف السيدة ويليتس، المعطف الممتاز من حيث الجودة لكنه طويل ومهلهل، يكشف عن بضع بوصاتٍ من ساقَيْها المنتفختين العاريتين فوق الجورب القصير.
لقد فعلوا ذلك عن عمدٍ بكل تأكيد. وضعوا المرآة هناك بحيث يمكنكِ تكوين فكرةٍ تامةٍ عن عيوبك فورًا؛ ومن ثَمَّ — كما يأملون — تقفزين إلى نتيجةٍ مفادها أن عليكِ شراء شيءٍ ما ليُغير من هذه الصورة. حيلة مكشوفة تمامًا كانت من الممكن أن تدفعها لمغادرة المتجر، لولا أنها دخلت بِنِيَّة سابقة، وهي تعرف ماذا يجب أن تشتري.
على طول أحد الجدران كان هناك حامل معلقةٌ عليه فساتين السهرة، كلها ملائمة لحسناواتٍ ذاهباتٍ إلى حفلاتٍ راقصة، بأقمشة الشيفون والتافتاه، والألوان الرقيقة كالأحلام. ومن ورائها، وفي صوانٍ زجاجيٍّ بحيث لا يمكن أن تصل إليها أي أصابع قد تُدنسها، نصف دستةٍ من أثواب العُرس، من دانتيل هائشٍ وناصع البياض أو من ساتان بلون الفانيليا أو شبيك مزخرف بلون العاج السمني، وكلها مُطرزة بخرزٍ فضيٍّ أو لآلئَ صغيرة. الأجزاء المحيطة بأعلى الجسم دقيقة الحجم، وفتحات الصدر واسعة كالمراوح، وتنانير باذخة وواسعة. حتى حين كانت أصغر سنًّا ما كان بوسعها بالمرة أن تفكر في مثل ذلك الإسراف، ليست فقط مسألة نقودٍ بل مسألة تطلعات، الأمل المستحيل في أن تتغير، وأن تهنأ بالسعادة.
مرتْ دقيقتان أو ثلاث دون أن يظهر أي شخص. ربما يكون لديهم عين سحرية يختلسون منها النظر إليها، اعتقادًا منهم أنها لم تكن من نوعية زبوناتهم المعتادة، ويأملون أن تنصرف.
لن تنصرف. تحركت بعيدًا عن انعكاس المرآة — وخطَت فوق مشمع الأرضية القريب من الباب إلى سجادةٍ كثيفة الوبر — وأخيرًا فُتحت الستارة الموجودة في مؤخرة المتجر وخرجت من ورائها السيدة مِلادي بنفسها، مرتدية تاييرًا أسود بأزرارٍ لامعة. كانت تخطو على حذاءٍ عالي الكعب، بكاحليها النحيفين يحيط بهما بإحكام جورب من النايلون كأنه قشرة فاكهة، وشعرها الذهبي ملموم إلى الخلف بعيدًا عن وجهها المزين بالمساحيق.
«فكرت أني قد أجرِّب التايير المعروض في الفاترينة!» هكذا قالت جوهانا بصوتٍ سبق أن تدرَّبت عليه، وأضافت: «الأخضر اللون!»
قالت المرأة: «آه، إنه تايير بديع، المعروض في الفاترينة مقاس عشرة. أما أنتِ فيبدو أن مقاسك … ربما أربعة عشر؟»
تحركت بخطواتٍ مزعجةٍ إلى ما وراء جوهانا، نحو جانبٍ من المتجر حيث عُلِّقَت الثياب العادية، الأطقم وفساتين النهار.
«أنتِ محظوظة. مقاس أربعة عشر موجود.»
كان أول ما فعلته جوهانا هو النظر إلى بطاقة السعر. أغلى بمرتين مما توقعته، ولم تكن تنوي التظاهر بعكس ذلك.
«إنه غالي الثمن.»
قالت المرأة: «إنه من أفخر أنواع الصوف.» ثم راحت تنبش هنا وهناك حتى عثرت على بطاقة الصنف، ثم قرأت وصفًا للخامة لم تُعره جوهانا أذنًا مصغية لأنها كانت مدت يديها إلى الحاشية لتفحص الصنعة.
«ملمسه كالحرير، لكنه يتحمل كالحديد. يمكنكِ أن ترَيْ أنه مُبطن جيدًا في كل موضع، بطانة بديعة من حريرٍ طبيعيٍّ وحريرٍ صناعيٍّ رقيق. لن تجديه يتجعد ويتكسر في المقعد ولن يترهل كما يحدث للأطقم الرخيصة. انظري إلى مخمل طيات الأكمام والياقة والأزرار المخملية الصغيرة على الكُم.»
«أراها.»
«هذه هي التفاصيل الصغيرة التي تدفعين مقابلها، لا يمكن الحصول عليها بطريقةٍ أخرى. كم أُحب لمسة المخمل! إنها موجودة فقط على الطقم الأخضر، تعرفين، الطقم المشمشي لا يتحلَّى بها، على الرغم من أنهما بنفس السعر تمامًا.»
في عينَي جوهانا، كانت حلية المخمل في الكُمين والياقة في الحقيقة هي ما أعطت الطقم لمسة الترف اللطيفة التي جعلتها ترغب في شرائه. لكنها لن تقول هذا.
«ربما من الأفضل أن أجربه!»
هذا ما كانت قد جاءت وهي مستعدة للقيام به على كل حال. ثياب داخلية نظيفة وبودرة تَلكٍ طازجة تحت إبطيها.
كانت المرأة من الكياسة بما يكفي لأن تتركها وحدها في المقصورة الساطعة الضوء. تجنبت جوهانا النظر إلى المرآة كأنها السُّم إلى أن بسطت التنورة وزررت السترة.
في البداية اكتفت بالنظر إلى التايير. كان على ما يُرام. كان المقاس ملائمًا، التنورة أقصر مما اعتادت عليه ولكن ما اعتادت عليه لم يكن على الموضة. لم يكن هناك مشكلة في الطقم ذاته، المشكلة كانت فيما ينتأ خارجًا منه؛ رقبتها ووجهها وشعرها ويديها الكبيرتين وساقيها الغليظتين.
«كيف الحال معك؟ أيمكنني إلقاء نظرة؟»
فكرتْ جوهانا قائلة: يمكنكِ إلقاء ما تشائين من نظرات، فنحنُ أمام حالةٍ نموذجيةٍ للفسيخ وكيف قد يُصنع منه شرابٌ حُلو، كما سوف تكتشفين بنفسك في الحال.
جربت المرأة النظر من جانبٍ واحد، ثم من الجانب الآخر.
«طبعًا سوف تحتاجين معه جوربًا من النايلون وحذاءً عاليَ الكعب. كيف تجدينه عليكِ؟ مرتاحة؟»
قالت جوهانا: «الطقم يبدو رائعًا، المشكلة ليست في الطقم نفسه.»
تمعَّر وجه المرأة في المرآة، وتوقفتْ عن الابتسام. بدت خائبة الأمل ومرهقة، ولكن أكثر طيبة ولُطفًا.
«أحيانًا هذا ما يحدث تمامًا. لن تعرفي حقًّا بالمرة إلا بعد أن تُجربي الشيء عليكِ. الأمر هو …» ثم أضافت بنبرةٍ جديدةٍ تغشى صوتها، نبرة اقتناعٍ معتدل: «الأمر هو أن تكوين جسمك جميل، ولكنه تكوين قوي. إنك تتمتعين بعظامٍ كبيرة، وما المشكلة في هذا؟ لكن الأزرار الصغيرة المغطاة بالمخمل ليست هي الأنسب لكِ. لا تهتمي به أكثر من ذلك. اخلعيه وحسب.»
حين بلغت جوهانا ثيابها الداخلية من جديد كانت هناك طرقة خفيضة ويدٌ من خلال الستارة.
«ارتدي هذا، على سبيل التجربة لا أكثر.»
فستان صوفي بُني اللون، مبطن، بتنورةٍ كالمروحة محتشدة الطيات في أناقة، وبثلاثة أرباع كُم وفتحة صدرٍ دائريةٍ بسيطة. الثوب كله من أبسط ما يكون، باستثناء حزامٍ ذهبيٍّ رفيعٍ للغاية. لم يكن غاليَ الثمن كالطقم الآخر، ومع ذلك ظلَّ السعر يبدو لها مرتفعًا، مع اعتبار ما بُذل فيه.
على الأقل كان طول التنورة أكثر حشمة والقماش يدور في دوامةٍ راقيةٍ حول ساقيها. تشجَّعتْ ونظرتْ إلى المرآة.
هذه المرة لم تكن تبدو كما لو كانت محشورةً في الثوب على سبيل الدُّعابة.
أتت المرأة ووقفت إلى جانبها، وضحكت، ولكن في ارتياح.
«إن للثوب نفسَ لون عينيك. أنتِ بغير حاجةٍ إلى ارتداء المخمل، فإن لكِ عينين مخمليتين.»
كانت هذه المُداهنة لإتمام البيعة من النوع الذي تتهكم منه جوهانا عادة، غير أن المداهنة بدَتْ في هذه اللحظة وكأنها مُجاملة صادقة.
لم تكن عيناها كبيرتين، ولو طُلِب منها أن تصف لونهما لَقالت: «أظنه درجة من البُني.» ولكن الآن، بدت عيناها وكأن لهما لونًا بُنيًّا عميقًا حقًّا، ناعمًا ولامعًا.
ليس الأمر أنها بدأت تعتقد فجأةً أنها جميلة أو أي شيءٍ كهذا، كل ما هنالك أن لعينيها لونًا لطيفًا، كما لو أنهما كانتا قطعةً من قماش.
قالت المرأة: «والآن، أراهن أنكِ لا ترتدين أحذية رسمية كثيرًا، ولكن يمكنك ارتداء الجوارب النايلون والاكتفاء بأبسط صندلٍ حريمي، وأراهن أنكِ لا تضعين حُليًّا، ومعك الحق تمامًا، فأنتِ لا تحتاجين إليها مع ذلك الحزام.»
لكي تقطع جوهانا وصلة المبيعات هذه قالت لها: «حسنٌ، من الأفضل أن أخلعه كي يمكنكِ تغليفه.» شعرتْ بالأسف لأنها ستُحرم من الثقل الناعم للتنورة ومن الشريط الذهبي الوقور حول خصرها. لم يسبق لها خلال حياتها كلها أن خامرها هذا الشعور الأحمق بأن يفتنها شيءٌ ارتدته.
«أتمنى أن يكون هذا الثوب من أجل مناسبةٍ خاصة!» هكذا قالت المرأة من بعيد، بينما تعود جوهانا على عجلٍ إلى ثيابها العادية التي تبدَّت لها الآن كئيبة الصورة.
قالت جوهانا: «المرجَّح أنه سيكون ثوب عُرسي.»
فوجئتْ هي نفسها بما أفلت من فمها. لم يكن خطأً فادحًا؛ فالمرأة لم تكن تعرف مَن هي، وأغلب الظن أنها لن تتحدث مع أي شخصٍ يعرفها بالفعل. ومع ذلك، فقد كانت تنتوي أن تطويَ الأمر في صدرها تمامًا. لا بد أنها شعرت أنها مدينة لهذه المرأة بشيءٍ ما، وهما اللتان خاضتا معًا في غمار كارثة الطقم الأخضر ثم اكتشاف الثوب البُني، كانت تلك رابطة جمعتهما. غير أن كل هذا ليس إلا هراءً فارغًا؛ فالمرأة كانت تعمل في بيع الأثواب، وقد نجحت للتوِّ في مهمتها تلك.
صاحت المرأة: «أوه، ما أروع ذلك!»
حسنٌ، ربما يكون كذلك، هكذا فكَّرت جوهانا، ثم استدركتْ من جديد: وربما لا يكون. فربما تكون موشكة على الزواج من أي شخص؛ مزارعٍ بائسٍ يحتاج إلى حصان شغلٍ بجانبه، أو عجوزٍ أنفاسه تصفر ونصف مُقعَد ويبحث عن ممرضة. ليس لدى هذه المرأة أي فكرةٍ عن الرجل الذي ستقترن به، وهذا ليس من شأنها على كل حال.
قالت المرأة وكأنها قد قرأت تلك الأفكار الساخطة: «أستطيع أن أخمِّن أنه زواج قائم على الحب. وهذا سبب لمعان عينيكِ في المرآة. لقد لففتُه كلَّه في ورق التغليف الشفَّاف، كل ما عليكِ هو إخراجه وتعليقه وسوف ينسدل قماشه كأجمل ما يكون. مَرِّري المكواة عليه خفيفًا إذا شئتِ، ولكنك على الأغلب لن تحتاجي إلى ذلك.»
بعد ذلك جاءت مهمة دفع النقود. تظاهرت كلٌّ منهما بعدم النظر، لكن كلتيهما نظرت.
قالت المرأة: «يستحق ثمنه؛ فالمرأة منَّا لا تتزوج إلا مرةً واحدةً في العمر. وعلى الرغم من ذلك، هذا لا يصدق على كل الحالات دائمًا …»
قالت جوهانا: «يصدق على حالتي أنا.» توهَّج وجهها بالسخونة؛ لأن الزواج، في حقيقة الأمر، لم يُذكر بعدُ. ولا حتى في الرسالة الأخيرة. لقد أفضتْ إلى هذه المرأة بما تعقد عليه أملها، ولعلَّ في فعلها ذلك ما يجلب النحس.
قالت المرأة بنبرة التهلل الملهوف نفسها: «أين الْتقيتِ به؟ ماذا عن موعدكما الأول؟»
قالت جوهانا صادقة: «من خلال الأسرة.» لم تكن تنوي قول أي شيءٍ أكثر من ذلك، غير أنها سمعت نفسها تواصل، قائلة: «المعرض الغربي، في لندن.»
كررت المرأة: «المعرض الغربي، في لندن.» كان يمكنها أن تقول: «حفل القلعة.»
قالت جوهانا: «كنا نستضيف ابنته وصديقتها»، وقد فكَّرت أنه بطريقةٍ ما سيكون من الأدق أن تقول إنها مَن كانت في ضيافته هو وسابيتا وإديث، كانت هي — جوهانا — ضيفتَهم.
«تعرفين، يمكنني أن أقول إن يومي لم يَضِع سُدًى؛ فقد وفرتُ ثوبًا لترتديَه امرأة وتصير فيه عروسًا سعيدة. في هذا الكفاية لتبرير وجودي.» عقدت المرأة شريط زينةٍ قرنفليَّ اللون بإحكامٍ حول صندوق الثوب؛ مما أسفر عن زهرةٍ كبيرةٍ لا ضرورة لها، ثم شذَّبتها بالمقص في براعة.
قالت: «أنا موجودة هنا طوال النهار، وفي بعض الأحيان أجدني أتساءل عمَّا أقوم به. أسأل نفسي: ماذا تعتقدين أنك تفعلين هنا؟ أُغيِّر المعروض في الواجهة وأقوم بهذا الشيء أو ذلك لأُغريَ الناس بالدخول، ولكن تمر بعض الأيام — أيام كثيرة — ولا أرى روحًا واحدة تمر عبر ذلك الباب. أنا أعرف، الناس يعتقدون أن تلك الثياب أغلى ثمنًا من اللازم، ولكنها ثياب جيدة. إنها لَثيابٌ جيدة. إذا أردتِ شيئًا ذا جودةٍ عاليةٍ فلا بد من دفع سعره.»
«لا بد أنهم يأتون حين يريدون شيئًا من هذه.» هكذا ردَّت جوهانا وهي تنظر نحو فساتين السهرة. «وإلا فإلى أي مكانٍ آخر قد يذهبون؟»
«هذا هو الأمر. فهم لا يأتون، بل يذهبون إلى المدينة، ذلك هو المكان الآخر الذي يذهبون إليه. يقودون سياراتهم خمسين ميلًا، أو مائة ميل، ناهيكِ عن الوقود الذي يحرقونه، ويُحدثون أنفسهم قائلين إنهم بهذه الطريقة يحصلون على شيءٍ أفضل مما لديَّ هنا؛ ولا يحصلون عليه؛ لا جودة أفضل، ولا ذوق أفضل، لا شيء. كل ما هنالك أنهم سيخجلون إذا قالوا إنهم اشترَوْا فساتين الفرح من هُنا، من البلدة. أو أنهم يأتون إليَّ ويُجربون شيئًا ويقولون إن عليهم التفكير بشأنه … سنعود، هكذا يقولون. وأنا أفكِّر في نفسي: آه، نعم، أعلم ما معنى ذلك؛ معناه أنهم سيحاولون أن يجدوا الشيء نفسه بسعرٍ أرخص في لندن أو كيتشنر، وحتى لو لم يجدوه أرخص فسوف يشترونه من هناك بعد أن يكونوا قد قادوا سياراتهم كل تلك المسافة وتعبوا من البحث.»
وأضافت: «أنا لا أدري، ربما لو أنني كنت واحدة من السكان المحليين لاختلفت الحال. الناس هنا منغلقون على جماعتهم، كما أرى. أنتِ لستِ من السكان المحليين، صحيح؟»
قالت جوهانا: «نعم.»
«ألا ترينهم كذلك؟ منغلقين؟»
مجموعة منغلقة على نفسها.
«ما أقصده أنه من العسير على شخصٍ غريبٍ عنهم أن يَنفُذ إليهم.»
قالت جوهانا: «لقد اعتدتُ أن أكون بمفردي.»
«لكنكِ عثرتِ على شخصٍ ما؛ لن تكوني بمفردك بعد الآن، أوليس هذا جميلًا؟ في بعض الأيام أفكِّر كم سيكون ذلك رائعًا، الزواج والبقاء في البيت. بالطبع، أنا كنت متزوجة، وكنتُ أعمل على أي حال. آه، حسنٌ. ربما ذات يومٍ سوف يأتي الرجل الذي يسكن القمر ويدخل إلى هنا ويقع في غرامي وعندئذٍ كل شيءٍ سيكون على خير ما يُرام!»
كان على جوهانا أن تُسرع، إن حاجة تلك المرأة للحديث أخَّرتها. كانت تُسرع عائدةً إلى المنزل، فلا بد أن تُخفي ما اشترته بعيدًا قبل أن تعود سابيتا من المدرسة.
ثم تذكرت أن سابيتا ليست هناك، وأن بنت عم أمها — عمتها روكسان — قد أخذتها يومَ العطلة الأسبوعية لتعيش في تورونتو حياةً تليق بفتاةٍ ثرية، وتذهب إلى مدرسةٍ تليق بالفتيات الثريات. ومع ذلك واصلت جوهانا سيرها بسرعة، بسرعةٍ شديدةٍ حتى إن شخصًا متذاكيًا استظرف وتشبث بجدار إحدى الصيدليات وصاح بها: «أين الحريق؟» فأبطأت سيرها لكيلا تلفت الانتباه.
كان صندوق الثوب مُحرجًا لها، كيف كان عساها أن تعرف أن المتجر يملك صناديقه الخاصة من الورق المقوى القرنفلية اللون، واسم متجر مِلادي مكتوبٌ عليها بخطٍّ بنفسجي؟ إشارة تفضح ما كانت تنوي كتمانه.
شعرتْ بحماقتها لأنها ذكرت مسألة الزفاف، في حين أنه لم يُشِر إليه بالمرة وكان عليها أن تتذكر ذلك. عدا ذلك أفضى كلٌّ منهما بالكثير للآخر — بالكلام أو الكتابة — وبعد أن عبَّرا عن كل ذلك الولع والشوق، بدا وكأنهما غفلا عن أمر الزواج نفسه. على النحو نفسه الذي قد تتحدث فيه عن استيقاظك في الصباح ولا تذكر شيئًا عن تناول الإفطار، على الرغم من أنك تنوي بكل تأكيدٍ أن تتناوله.
على الرغم من ذلك كان عليها أن تُطبق فمها على سرها.
رأت السيد ماكولي يسير في الاتجاه المقابل لها على الناحية الأخرى من الشارع. لم تجد ضررًا في ذلك؛ فحتى لو أنه الْتقى بها مباشرةً ما كان ليلحظ الصندوق الذي تحمله. كان سيكتفي برفع إصبعٍ نحو قبعته ويمر بها مرَّ الكرام، هذا بافتراض أنه انتبه إلى أنها كانت مديرة منزله، ولكن الأرجح أنه لن يلحظ هذا. كان عقله منشغلًا بأمورٍ أخرى، وبحسب ما يعرف الجميع عنه فلعله كان يتطلع نحو بلدةٍ أخرى غير تلك التي يرَوْنها هُم. على مدار كل يومٍ من أيام العمل الأسبوعية — وأحيانًا في أيام الأحد والإجازات، بفعل النسيان — كان يرتدي إحدى بدلاته ذات الصديري وفوقها معطفه الخفيف أو الثقيل، وقبعته الرمادية الضيقة الحواف، وحذاءه الملمَّع جيدًا، ثم يسير من طريق المعرض صعودًا نحو مكتبه الذي ما زال يحتفط به أعلى ما كان ذات يومٍ متجرًا لسروج الخيل والحقائب الجلدية. كان مكتبه يُعتبر مكتبًا لبيع بوالص التأمين، على الرغم من أن وقتًا طويلًا قد مرَّ منذ أن باع فعليًّا بوليصة تأمين. أحيانًا يصعد الناس الدَّرَج ليرَوْه، وربما يسألونه سؤالًا ما حول بوالص تأمينهم أو الأرجح سؤالًا حول حدود ملكياتهم وأراضيهم، وتاريخ أحد العقارات في البلدة أو مزرعةٍ في الريف المتاخم لها. كان مكتبه ممتلئًا بالخرائط قديمها وجديدها، ولم يكن يطيب له شيء في الدنيا أكثر من أن يفردها أمامه ويستغرق في مناقشةٍ سرعان ما تمتد فيما وراء موضوع السؤال المطروح. لثلاث أو أربع مراتٍ في اليوم كان يخرج فجأة ويسير في الشارع، كما هو الآن. في أثناء الحرب كان قد ركن سيارته البويك-ماكلولين في المخزن، عارضًا إياها للبيع، وراح يمشي في كل مكانٍ ليكون قدوة للآخرين. وما زال يبدو أنه يُقدم قدوة للآخرين، بعد خمسة عشر عامًا. كان يبدو — ويداه معقودتان وراء ظهره — مثل مالك أراضٍ يتفقد عقاراته أو مثل واعظ كنيسةٍ يسرُّه أن يراقب أبناء معموديته. وبطبيعة الحال، لم يكن لدى نصف من يقابلهم من الناس أي فكرةٍ عمن يكون هذا الشخص.
لقد تغيرت البلدة، حتى عمَّا كانت عليه حين أتت جوهانا إلى هنا. كانت المتاجر تنتقل إلى الطريق السريع؛ حيث تم افتتاح متجر جديد بأسعار مخفضة، ومتجر كنديان تاير للبيع بالتجزئة، وأيضًا فندق صغير مزود بصالون للِّقاءات والراحة وراقصات عاريات الصدور. حاولت بعض متاجر البلدة أن تُحسِّن من هيئتها بطلاء قرنفلي أو بنفسجي فاتح أو زيتوني، لكن هذا الطلاء تقشر عن الآجر القديم وصارت بواطن الجدران عارية في بعض المواضع. كان من المحتم تقريبًا أن يحذوَ متجر مِلادي حذوَ سابقيه.
لو أن جوهانا كانت هي مالكته، ماذا كان عساها أن تصنع؟ مبدئيًّا، لم يسبق لها بالمرة أن اقتربت من فساتين سهرةٍ متقنة الصنع بهذا العدد. ماذا يمكنها أن تصنع بدلًا من ذلك؟ فإن هي تحولت إلى الثياب الأرخص ثمنًا فستضع نفسها في منافسة متجر كالاهانز والمتجر الآخر ذي الأسعار المخفضة، والأغلب أنه لن توجد حركة بيعٍ وشراءٍ كافيةٌ للاستمرار. ولكن ماذا لو أنها تعاملت في ثياب الرُّضع الجذابة، وثياب الأطفال، لتحاول أن تجذب إليها الجدَّات والعمات والخالات اللاتي لديهن من المال ما ينفقنه على مثل ذلك النوع من الأشياء؟ انسَيِ الأمهات؛ فهنَّ يذهبن إلى كالاهانز، بما لديهن من نقودٍ أقل وعقولٍ أرجح.
ولكن إذا كانت هي — جوهانا — في موضع المسئولية، فما كانت لتستطيع أن تجذب إلى معروضاتها أي إنسان. إنها بارعة في أن ترى ما يجب عمله، وكيف يجب إتمامه، وكانت تعرف كيف توجِّه الآخرين وتشرف عليهم حتى يتم العمل، ولكن لم يكن بوسعها بالمرة أن تجذب الأنظار أو تفتن الألباب. فلن يكون شعارها إلا: ما بين البائع والشاري يفتح الله! ولا شك أن الآخرين كانوا سيقولون: يفتح الله.
كان من النادر أن ينجذب إليها إنسان، وقد كانت على درايةٍ بذلك لفترةٍ طويلة. بالتأكيد لم تذرف سابيتا الدموع عند وداعها، على الرغم من أنه يمكن القول إن جوهانا كانت لسابيتا أقرب إلى الأم، منذ أن تُوفِّيت أمها. سوف يشعر السيد ماكولي بالضيق لرحيلها لأنها كانت تُقدِّم خدمة جيدة وسيكون من العسير أن يجد من تحل محلها، غير أن ذلك سيكون كل ما يفكر فيه. كان هو وحفيدته مُدللين وأنانيين. أما عن الجيران فلا شك أنهم سوف يبتهجون لرحيلها؛ فقد اشتبكت جوهانا في مشكلاتٍ مع كلا الجانبين من العقار. على أحد الجانبين كان كلب الجيران يحفر في أرض حديقتها، ليدفن مئونته من العظام ثم يستردها، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن يفعله في بيته. وعلى الجانب الآخر كانت شجرة الكرز الأسود، وهي ضمن ملكية آل ماكولي، تحمل أغلب ثمارها من التوت على الفروع المعلقة فوق الباحة المجاورة. في الحالتين خاضت جوهانا شجارًا، وانتصرتْ. تم رُبط الكلب جيدًا وترك الجيران الآخرون ثمار الكرز في حالها. إذا تسلقَت السُّلَّم المتنقل كان يمكنها بلوغ الجزء الممتد فوق باحتهم، لكنهم ما عادوا يطردون الطيور بعيدًا عن الفروع، وقد أثَّر هذا على مقدار ما تجمعه.
أما عن السيد ماكولي فقد كان يتركهم يقطفون ما شاءوا، وكان يترك الكلب يحفر. كان يترك نفسه يستغله الآخرون. جانبٌ من الأمر أن هؤلاء كانوا أناسًا جددًا في منازلَ جديدةٍ لذا فضَّل ألا يوليَهم أي اهتمام. في وقتٍ ما لم يكن هناك إلا ثلاثة أو أربعة منازل كبرى في طريق المعرض. وفي الجهة المقابلة لتلك المنازل كانت الأرض المخصصة للمعارض، حيث يُقام معرض الخريف (المُسمَّى رسميًّا بالمعرض الزراعي، ومن هنا جاء الاسم)، وما بين ذلك كانت أشجار الفاكهة، ومروجٌ صغيرة. قبل اثني عشر عامًا أو نحو ذلك بيعت تلك الأرض بمساحاتٍ منتظمةٍ ثم بُنيت المنازل؛ منازل صغيرة بطرزٍ غير منسجمة؛ فهذا طراز بطوابق عليا وذلك من دونها، بعضها بدا باليًا للغاية الآن.
لم يَعد هناك إلا منزلان يعرف السيد ماكولي القاطنين فيهما ويحتفظ بمودتهم؛ الآنسة هود مُعلمة المدرسة وأمها، وكذلك منزل عائلة السيد شولتز، الذي كان يدير متجر إصلاح الأحذية. كانت ابنة عائلة شولتز، إديث، أقرب صديقات سابيتا، أو كانت كذلك بالأحرى. كان الأمر طبيعيًّا بسبب وجودِهما معًا في نفس الصف الدراسي بالمدرسة — على الأقل حتى العام الماضي، حين تراجعت سابيتا عامًا دراسيًّا — والعيشِ إحداهما بالقرب من الأخرى. لم يمانع السيد ماكولي ذلك، وربما كان يعلم أن سابيتا سوف يتم إبعادها قبل مرور وقتٍ طويل لكي تعيش حياة من نوعٍ مختلفٍ في تورونتو. لو خيَّروا جوهانا لما اختارت إديث صديقة لسابيتا، على الرغم من أن الفتاة ما كانت فظة قط، وما كانت مزعجة حين كانت تأتي للمنزل. أيضًا لم تكن غبية. لعل تلك كانت المشكلة؛ فقد كانت ذكية وسابيتا لم تكن بالغة الذكاء. وقد جعلت من سابيتا شخصًا ماكرًا.
سوف أرتب أمر إرسال أثاثكَ كله إليكَ على متن القطار بأسرع ما يمكنهم أخذه وسوف أدفع لهم مقدمًا بمجرد إبلاغي كم سيتكلف نقله. كنتُ أفكر أنكَ سوف تحتاج إليه الآن. أظن أنه ليس من المفاجئ لك أنني فكرت في أنك لن تمانع إذا سافرتُ أنا أيضًا لأكون عونًا بجانبك كما أتمنى أن أكون.
كانت هذه هي الرسالة التي أخذتْها إلى مكتب البريد، قبل أن تذهب لتُتم الإجراءات في محطة القطار. كانت الرسالة الأولى التي ترسلها إليه مباشرةً، أما الرسائل الأخرى فكانت تنسلُّ داخل الرسائل التي كانت تجعل سابيتا تكتبها. رسائله أيضًا كانت تصل إليها بالطريقة ذاتها، مطوية بعناية وباسمها، جوهانا، مكتوبًا بالآلة الكاتبة على ظهر الصفحة بحيث لا يقع أي خطأ. أَبْعَدَ ذلك مَن يعملون في مكتب البريد من اكتشاف أمرهما، ولا ضرر أبدًا من توفير طابع بريد. بالطبع كان يمكن لسابيتا أن تبلغ جدها، أو حتى أن تقرأ ما كان مكتوبًا من أجل جوهانا، غير أن سابيتا كانت قد فقدت الاهتمام بالتواصل مع الرجل العجوز، فضلًا عن فقدانها الاهتمام بالرسائل، سواءٌ كتابتها أو تَلقِّيها.
عزيزي السيد ماكولي
سوف أرحل في قطار هذا الأصيل (الجمعة). أدرك أنني أفعل هذا دون أن أعطيَك إشعارًا سابقًا برحيلي كما يجب، لكنني سوف أتنازل عن آخر أجرٍ لي، وهو ما سيكون قيمته ثلاثة أسابيع في يوم الإثنين المقبل. توجد طبخة خضار باللحم البقري على الموقد في قِدر البخار ليست بحاجةٍ إلا إلى تسخينها. هناك ما يكفي لثلاث وجباتٍ أو ربما لوجبةٍ رابعة. بمجرد أن تسخن وتأخذ منها كل ما تريد أَعِدِ الغطاء من جديدٍ وَضَعْها في الثلاجة. تذكَّر أن تضع الغطاء فوق القِدر في الحال لكيلا تدع أي فرصةٍ لأن تفسد. أطيب التمنيات لك أنت وسابيتا وسوف أتواصل معكما غالبًا بمجرد أن يستقر بي المقام. جوهانا باري.
ملحوظة: لقد قمتُ بشحن أثاثه إلى السيد بودرو فقد يحتاج إليه. وتذكَّر عند إعادة تسخينك للطبيخ أن هناك ماءً بما فيه الكفاية في الجزء السفلي من قِدر البخار.
لم يجد السيد ماكولي أي مشقةٍ في اكتشاف أن التذكرة التي اشترتها جوهانا كانت إلى جدينيا، في ساسكاتشِوان. اتصل بالمحطة وسألهم. لم يستطع أن يصف لهم جوهانا — أتبدو عجوزًا أم شابة، نحيفة أم بدينة إلى حدٍّ ما، ماذا كان لون معطفها؟ — غير أن ذلك كله لم يكن له ضرورة بمجرد أن ذكر أمر الأثاث.
عندما ورد هذا الاتصال كان ثَمَّةَ بضعة أشخاص في المحطة ينتظرون قطار المساء. حاول ناظر المحطة أن يحتفظ بصوته خفيضًا في البداية، لكنه سرعان ما أصبح مُنفعلًا حين سمع بأمر الأثاث المسروق (كان ما قاله السيد ماكولي فعليًّا: «وأعتقد أنها أخذت معها بعض الأثاث.») أقسم الناظر أنه لو كان يعلم مَن كانت وما الذي كانت تنوي فعله لما سمح لها قط بأن تضع قدمًا على متن القطار. هذا القَسَم المؤكد تناهى إلى الأسماع وكررته الألسن وصدَّقه الناس، دون أن يتساءل أي شخصٍ كيف كان عساه أن يوقف امرأة ناضجة دفعت ثمن تذكرتها، ما لم يكن لديه دليلٌ ما في التوِّ والحال على أنها كانت لصة. غير أن أغلب من رددوا كلماته آمنوا أنه كان بوسعه إيقافها وأنه كان يحق له ذلك؛ كانوا يؤمنون بسلطة نُظار محطات السكك الحديدية وسُلطة الرجال المسنين ممن يمشون منتصبي القامة مرتدين بدلاتٍ ذات ثلاث قِطعٍ أمثال السيد ماكولي.
كانت طبخة الخضار باللحم ممتازة، كما كان عهده بطبخ جوهانا على الدوام، غير أن السيد ماكولي وجد نفسه عاجزًا عن ابتلاعها. تجاهل تعليماتها بخصوص الغطاء فترك القِدر مكشوفًا على الموقد ولم يكلِّف نفسه حتى مشقة أن يُطفئ الموقد حتى تبدد جميع الماء الموجود في قعر قِدر البخار ولم ينتبه إلا على رائحة المعدن الذي احترق حتى انبعث منه الدخان.
كانت هذه هي رائحة الغَدر.
نصح نفسه بأن يشعر بالامتنان؛ فعلى الأقل هناك من يرعى سابيتا ولم يعد مضطرًا لأن يقلق حيال ذلك. كانت قريبته تلك — ابنة عم زوجته في الحقيقة؛ روكسان — قد كتبت إليه لتخبره بأنها مما رأته من سابيتا خلال زيارتها الصيفية لبحيرة سيمكوي، تعلم أن الفتاة سوف تحتاج إلى معاملةٍ خاصة.
«بصراحة لا أظنك أنت وتلك المرأة التي وظَّفتها لديك ستكونان مستعدَّين لذلك عندما تبدأ قطعان الصبية في التجمُّع حولها.»
لم يبلغ بها الحد أن تسأله إن كان يريد أن يجد مارسيل أخرى بين يديه، بيد أن ذلك هو ما كانت تقصد قوله. قالت إنها سوف ترسل سابيتا إلى مدرسةٍ جيدة؛ حيث يمكنها أن تتعلم آداب السلوك على الأقل.
أدار جهاز التليفزيون كوسيلةٍ للتلهِّي، ولكن بلا جدوى.
كانت مسألة الأثاث هي ما أثار سخطه. كان الأثاث ملكًا لكين بودرو.
والحقيقة أنه قبل ثلاثة أيام فقط — في ذلك اليوم ذاته الذي اشترت فيه جوهانا تذكرتها، كما أبلغه بذلك ناظر المحطة — تلقَّى السيد ماكولي رسالة من كين بودرو يطلب منه (أ) بعض النقود على سبيل مقدمٍ بضمان الأثاث الذي يخصه (كين بودرو) هو وزوجته الراحلة، مارسيل، والذي كان مُخزنًا في حظيرة السيد ماكولي، أو (ب) إن لم يجد وسيلة لفعل ذلك، أن يبيع الأثاث بأكبر سعرٍ يمكنه التوصُّل إليه ثم يرسل المال بأسرع وقتٍ ممكنٍ إلى ساسكاتشوان. ذلك دون أن يذكر أي شيءٍ عن القروض السابقة التي أقرضها الحمو لصهره، وكلها بضمان قيمة هذا الأثاث وتزيد قيمتها عن أفضل سعرٍ يمكن أن يباع به. أيمكن أن يكون كين بودرو قد نسي كل ذلك؟ أم أنه ببساطةٍ يأمل — وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا — أن يكون حموه هو الذي نسي؟
كان الآن، على ما يظهر، مالكًا لفندق. لكن الخطاب كان ممتلئًا بالانتقادات اللاذعة ضد المالك السابق له، الذي خدعه فيما يخص تفاصيل شتى.
قال: «لو استطعتُ فقط أن أتجاوز هذه العقبة! من بعدها أنا واثق بأنني أستطيع إنجاح المشروع.» ولكن ماذا كانت العقبة؟ حاجته العاجلة إلى المال. غير أنه لم يقل إن كان هذا المال سوف يذهب إلى المالك السابق، أم إلى البنك، أم إلى شخصٍ استدان منه برهن العقار، أم ماذا! كانت هي القصة القديمة ذاتها؛ النبرة اليائسة والمتملقة الممتزجة بشيءٍ من العجرفة، وإحساس بأنه يطلب حقًّا له، بسبب ما ابتُلي به من جراح، ما عاناه من خزيٍ من جرَّاء مارسيل.
على الرغم من هواجسه العديدة، تذكَّر أن كين بودرو كان على كل حال زوج ابنته، وقد خاض الحرب وعانى في زواجه ما لا يعلمه إلا الله من كروب؛ لذلك فقد جلس السيد ماكولي وكتب رسالةً يخبره فيها أنه ليس لديه أي فكرةٍ كيف عساه أن يحصل على أفضل سعرٍ للأثاث، وأنه سيكون من العسير للغاية عليه أن يكتشف وسيلة لذلك، وأنه يُرفق بالرسالة شيكًا، وهو ما سيعتبره قرضًا شخصيًّا محضًا. وتمنى لو أن زوج ابنته يعتبره كذلك أيضًا، وأن يتذكر عددًا من القروض الشبيهة التي أقرضها له فيما مضى، وكما يعتقد، فإن مجملها يتجاوز أي قيمةٍ للأثاث. أدرج أيضًا قائمة بالتواريخ والمبالغ المالية. ففيما عدا خمسين دولارًا دفعها صهره له قبل ما يقرب من العامين (مع وعدٍ بأن يتبعها دفعاتُ سدادٍ منتظمة)، لم يتلقَّ منه شيئًا. وعلى صهره هذا أن يفهم بالطبع أنه نتيجةً لكل تلك القروض من دون أي فائدةٍ التي لم تُرَدَّ فإن دخل السيد ماكولي قد انخفض، بما أنه كان يمكنه استثمار هذا المال لولا ذلك.
فكَّر أن يضيف: «أنا لستُ الأحمق الذي يبدو أنك تعتبرني إياه!» غير أنه أحجم عن ذلك، بما أن ذلك سيكشفُ عن سخطه وربما ضعفه.
وانظر الآن ما كان منه، لقد باغت غريمه وجنَّد جوهانا — كان دائمًا قادرًا على التعامل مع النساء — وحصل على الأثاث علاوةً على الشيك. لقد دفعتْ ثمن الشحن من جيبها الخاص، كما أبلغه ناظر المحطة. قِطع الأثاث الحديثة اللامعة المظهر والمصنوعة من خشب القيقب قد بولغ في قيمتها في المعاملات بينهما بالفعل ولا تستحق الكثير مقابلًا لها، وخصوصًا إذا وضع في الاعتبار كلفة النقل بالقطار. لو كان هذان الاثنان أكثر براعةً لكانا أخذا شيئًا من المنزل؛ إحدى الخزائن العتيقة أو أرائك رَدهة الاستقبال غير المريحة لدرجةٍ تُنفِّر من الجلوس عليها، التي تم صنعها وشراؤها في القرن الماضي. كان ذلك بالتأكيد سيكون سرقة صريحة. ولكن ما فعلاه لم يبتعد عن ذلك كثيرًا.
توجَّه للنوم في فراشه وقد عقد عزمه على مقاضاتهما.
استيقظ في المنزل وحيدًا، دون رائحة قهوةٍ أو إفطارٍ تنبعث من المطبخ، بدلًا من ذلك، كانت هناك نفحة متبقية ما زالت في الهواء من أثر احتراق القِدر. لسعة برودة فصل الخريف استقرت في جميع الغرف العالية السقوف، المهجورة من أهلها. كان الجو دافئًا حتى المساء السابق فقط أو في المساءات السابقة عليه؛ ذلك لأن نيران الفرن لم تكن قد انطفأتْ بعد، وحين قام السيد ماكولي بإشعاله كان الهواء الدافئ مصحوبًا بهبَّةٍ من رطوبة القبو، هبَّةٍ من رائحة عفنٍ وأرضٍ وتحلُّل. اغتسل وارتدى ثيابه في بطء، مع وقفاتٍ من شرود اللب، ثم فردَ بعضًا من زبدة الفول السوداني على قطعةٍ من خبزٍ ليفطر. إنه ينتمي إلى جيلٍ يُقال إن رجاله غير قادرين حتى على غلْي بعض الماء، وكان هو أحد هؤلاء. نظر عبر النوافذ الأمامية فرأى الأشجار على الجانب الآخر من مضمار السباق يلفها ضباب الصباح، الذي بدا وكأنه يزيد ويتقدم، لا يتراجع كما ينبغي أن يكون في هذه الساعة، عبر المضمار ذاته. بدا وكأنه يرى في الضباب الأبنية غائمة الصورة لأراضي المعرض القديم؛ أبنية حميمة ورحبة، وكأنها حظائر ضخمة. انتصبت تلك الأبنية لسنواتٍ وسنواتٍ دون أن تُستخدَم — طوال فترة الحرب — وقد نسي ما الذي حل بها في النهاية. هل حل بها الخراب، أم سقطت متهدمة؟ إنه الآن يمقت السباقات التي كانت تقام فيها، الحشود ومكبرات الصوت وشرب المسكرات غير القانوني والضجيج الجائح لأيام الآحاد في الأصياف. عندما تذكَّر ذلك تذكَّر ابنته المسكينة مارسيل، جالسةً على سلم الشرفة تصيح على زميلاتها في المدرسة الناضجات بينما هن يخرجن من السيارات المركونة ويُهرعن لمشاهدة السباقات. تذكَّر الضجة التي كانت تثيرها، والبهجة التي كانت تُعرب عنها لرجوعها إلى البلدة، تبادُل الأحضان معهن وتأخيرهن والتحدث بسرعة ميلٍ في الدقيقة، والثرثرة دون الْتقاط الأنفاس حول أيام الطفولة وكيف أنها افتقدت جميع الناس هنا. كانت قد قالت إن الأمر الوحيد غير المثالي بشأن حياتها كان افتقادها لزوجها، كين، الذي سافر إلى الغرب لظروف عمله.
كانت تخرج إلى الشرفة وهي مرتدية منامتها الحريرية، وبشعرها الأشقر المصبوغ غير المصفف. كانت ذراعاها وساقاها نحيلة، لكن وجهها كان منتفخًا إلى حدٍّ ما، وما زعمت أنه سُمرة أضْفتها الشمس عليها لم يكن إلا لونًا بُنيًّا يشي بالمرض، ربما مرض الصفراء.
أمَّا الطفلة فقد بقيت بالداخل تشاهد التيلفزيون، برامج الرسوم المتحركة ليوم الأحد التي كانت كبيرة على مشاهدتها بكل تأكيد.
لم يستطع أن يعرف ما المشكلة، أو أن يكون على ثقةٍ من وجود أي مشكلةٍ أساسًا. سافرت مارسيل إلى لندن لمعالجة مرضٍ من أمراض النساء هناك، وتُوفِّيت في المستشفى. وحين اتصل تليفونيًّا بزوجها ليخبره، قال كين بودرو: «ما الذي تناولتْه؟»
لو أن أم مارسيل كانت لا تزال على قيد الحياة، هل كانت الأمور ستختلف ولو قليلًا؟ الحقيقة أن أمها، حين كانت لا تزال حية، كانت لا تقل عنه هو حيرةً وارتباكًا. كانت تجلس في المطبخ تبكي بينما كانت ابنتهما المراهقة، والمحبوسة في غرفتها المغلقة عليها، تنزل من النافذة وتنزلق إلى سطح الشرفة الخارجية حيث تُرحب بها حمولة سيارة من الشباب.
كان المنزل مفعمًا بشعور الهجران القاسي القلب، بالخداع. لا شك أنه كان هو وزوجته والدَين طيبَين، قادتهما مارسيل إلى قَبول الأمر الواقع. وحين فرَّت بصحبة طيار، تمنيا لها أن تكون بخير. كانا كريمين مع الاثنين كما لو كانا يتعاملان مع زوجين شابين هما الأكثر مراعاةً للأصول. لكن ذلك كله انهدَّ وانهار. وعلى النحو ذاته كان كريمًا أيضًا مع جوهانا باري، وانظروا كيف عاملته هي أيضًا كأنه خصمها!
سار إلى وسط البلدة وتوجَّه إلى الفندق ليتناول إفطاره. قالت النادلة له: «لقد استيقظتَ باكرًا نَشِطًا هذا الصباح.»
وفيما كانت لا تزال تصب له قهوته شرع يخبرها كيف أن مدبرة منزله تركته ورحلت دون أي إنذارٍ أو استفزاز، ولم تكتفِ بأن تترك وظيفتها دون إشعارٍ سابقٍ وحسب، بل إنها أخذت حمولةً من الأثاث كانت تخص ابنته، ويفترض أنها الآن تخص زوج ابنته. ولكن هذا ليس صحيحًا؛ فقد تم شراء هذا الأثاث بمال عُرس ابنته. أخبرها كيف تزوجت ابنته من طيار، وسيم، كان يبدو شخصًا مقبولًا ولكن سرعان ما اتضح أنه ليس محلًّا للثقة.
قالت له النادلة: «اعذرني، لَكَمْ أود أن أثرثر قليلًا، ولكن ينتظرني أناسٌ لأقدم لهم إفطارهم. اعذرني!»
صَعِدَ الدَّرَج إلى مكتبه، وهناك، كانت الخرائط القديمة التي كان يدرسها أمسِ مفرودة على مكتبه؛ إذ كان يحاول جاهدًا أن يحدد بالضبط أول أرضٍ تم استخدامها في دفن الموتى في البلدة (ثم هُجرت في عام ١٨٣٩ بحسب اعتقاده). أضاء النور وجلس، لكنه اكتشف أنه لا يمكنه التركيز. بعد زجر النادلة له — أو ما اعتبره هو زجرًا — ما عاد بمقدوره تناول إفطاره أو الاستمتاع بقهوته. قرر أن يخرج من المكتب للتمشية حتى يهدأ.
لكنه بدلًا من أن يسير على طول طريقه المعتاد، محييًا الناس وهو مارٌّ يبادلهم كلماتٍ معدودة، وجد نفسه ينطلق في خُطَبٍ مطوَّلة؛ ففي اللحظة ذاتها التي كان يسأله أي شخصٍ عن حاله هذا الصباح يشرع هو في التحدُّث تلقائيًّا عن مِحَنِه وكروبه، بطريقةٍ أبعد ما تكون عن شخصيته، بل حتى شائنة له، ومثل النادلة كان لدى أولئك الأشخاص شئون يعتنون بها فيومئون برءوسهم ويجرجرون أقدامهم وهم يُبدون له الأعذار للإفلات منه. ولم يبدُ أن الصباح راح يصير أكثر دفئًا على نحو ما هو معتاد في صباحات الخريف الكثيفة الضباب؛ ولم تكن سترته تُدفئه بما يكفي؛ فالتمس الراحة في المتاجر.
كان أكثر الأشخاص ذهولًا لسلوكه هذا هم مَن عرفوه لزمنٍ أطول. لقد اتسم بالكتمان وقلة الكلام طول عمره؛ إذ كان ذلك السيدَ النبيلَ المُراعيَ للأصول جيدًا، عقله هائم في أزمنةٍ أخرى، وكان تهذيبه اعتذارًا بارعًا عن تميزه (وهو ما كان مزحة من نوعٍ ما؛ لأن التميز كان غالبًا في ذكرياته وغير واضحٍ للآخرين). لا بد أنه آخر شخصٍ قد يجاهر بالإساءات أو يلتمس تعاطف الآخرين معه — لم يفعلها حين ماتت زوجته، أو حتى حين ماتت ابنته — ومع ذلك فها هو ذا يُخرج من جيبه رسالةً ما، ومتسائلًا: أليس من العار على هذا الشخص أن يأخذ منه المال مرارًا وتكرارًا؟ وحتى الآن حين أخذته الشفقة مجددًا بهذا الشخص فإنه تآمر مع مدبرة منزله لسرقة الأثاث. ظنَّ البعض أنه كان يتحدث عن الأثاث الخاص به هو، فاعتقدوا أن العجوز قد تُرك دون سريرٍ أو مقعدٍ في منزله، ونصحوه أن يتجه إلى الشرطة.
قال: «ذلك بلا فائدة، لا فائدة من ذلك. لن أحصل على شيءٍ إلا بطلوع الروح.»
دخل إلى محل تصليح الأحذية وحيَّا هيرمان شولتز.
«أتذكر ذلك الزوج من الأحذية الطويلة الرقبة الذي جددتَ لي نعليه، الحذاء الذي اشتريته من إنجلترا؟ جددتهما لي من أربع أو خمس سنوات!»
كان المحل أقرب إلى كهف، مزوَّد بلمبات مؤطرة تتدلى فوق مواقع عملٍ متعددة. كان هواء المكان لا يُطاق، غير أن تلك الروائح الرجولية كانت موضع ترحيبٍ لدى السيد ماكولي، روائح الغراء والجلد والورنيش المُلمِّع ونعال اللباد المقصوصة مؤخرًا أو تلك القديمة البالية. هنا كان جاره هيرمان شولتز، حِرفي خبير شاحب الوجه، بنظارةٍ طبية، وكتفين محدبتين، مشغولًا في جميع الفصول بدق مساميرَ حديديةٍ وأخرى مدببة، وبسكينٍ معقوفةٍ بارعةٍ يقطع من الجلد الأشكال المطلوبة. كان اللباد يُقص بشيءٍ يشبه منشارًا دائريًّا منمنمًا. انبعث صوتُ حفيفٍ من الفُرَش وصوتُ قشطٍ خشن من عجلة السنفرة، وراح حجر التلميع على حافة الأداة يغني عاليًا كأنه حشرة آلية وأخذت ماكينة الخياطة تثقب الجلد بإيقاعٍ صناعيٍّ جاد. كل تلك الأصوات والروائح والنشاطات الدقيقة الخاصة بالمكان كانت قد صارت أليفة بالنسبة إلى السيد ماكولي على مدى سنواتٍ، ولكنه لم يسبق له قطُّ أن تأمَّلها مدققًا من قبلُ. الآن ينتصب أمامه هيرمان، في مريلة العمل الجلدية المسودَّة اللون، وفي إحدى يديه حذاء برقبةٍ طويلة، ابتسم وأومأ برأسه، ورأى السيد ماكولي حياة الرجل بتمامها في هذا الكهف. تمنَّى لو أنه أعرب عن تعاطفٍ أو إعجابٍ أو شيءٍ أكثر من هذا لم يتمكَّن من فهمه.
قال هيرمان: «نعم أتذكَّر، كان حذاءً لطيفًا.»
«بل حذاء رائع. أتعرف أنني اشتريته في أثناء رحلة زواجي؟ اشتريته من إنجلترا. لا أذكر من أين بالضبط الآن، ولكن ليس من لندن.»
«أذكر أنك أخبرتني بذلك.»
«لقد أتقنتَ العمل عليه. ما زال الحذاء في حالةٍ جيدة. أحسنت صنعًا هيرمان! أنت تُحسن عملك هنا. تؤدي العمل في أمانة.»
«هذا خير.» قالها هيرمان وهو يُلقي نظرة سريعة على الحذاء الطويل الرقبة المرفوع على يده. عرف السيد ماكولي أن الرجل كان يريد العودة إلى عمله، ولكنه لم يكن بوسعه أن يدعه.
«تلقيتُ للتوِّ صدمة كاشفة.»
«حقًّا؟»
أخرج العجوز الرسالة وبدأ يقرأ منها أجزاءً بصوتٍ عالٍ، مع وقفات تعجبٍ يضحك خلالها ضحكًا كئيبًا.
«التهاب شُعبي! يقول إنه مريض بالتهابٍ شعبيٍّ حاد. لا يعرف إلى أين يتوجَّه. لا أعرف إلى من أتوجَّه. الحقيقة أنه دائمًا يعرف إلى أين يتوجه. فعندما يجرب كل السبل يتوجه إليَّ أنا. بضع مئاتٍ فقط حتى أقف على قدميَّ من جديد. يتوسل ويتضرع إليَّ بينما يتآمر طول الوقت مع مدبرة منزلي. هل عرفت بذلك الأمر؟ لقد سرقَتْ شحنة بحالها من الأثاث وفرَّت بها غربًا. كانا متعاونَين معًا مثل يدٍ في قفازها. هذا رجل هُرعتُ لنجدته المرة تلو الأخرى، ولم يسدد بنسًا مما عليه. لا، لا، عليَّ أن أكون نزيهًا وأقول خمسين دولارًا. سدد خمسين فقط من مئات ومئات الدولارات … آلاف. تعرف أنه كان في القوات الجوية في أثناء الحرب. يتبخترون هنا وهناك معتقدين أنهم كانوا أبطال حرب! صحيح، أظن أنه لا ينبغي أن أقول ذلك، ولكني أعتقد أن الحرب قد أفسدتْ بعضًا من أولئك، لم يعد بوسعهم التكيُّف مع الحياة بعدها قطُّ. ولكن هذا ليس بالعذر الكافي لهم. صحيح؟ لا يمكنني الْتماس العذر له إلى الأبد بسبب الحرب.»
«كلا، لا يمكنك.»
«كنتُ أعلم أنه ليس محل ثقةٍ من أول لقاءٍ جمعني به. هذا هو الأمر العجيب! كنت أعلم ذلك وتركته يخدعني دونما اكتراث. ثَمَّةَ أشخاص تلك طبيعتهم؛ تأخذك الشفقة بهم لمجرد كونهم لصوصًا ومحتالين. لقد حصلتُ له على وظيفته في شركة التأمين هناك، كان لديَّ بعض الصلات. ثم أفسد الأمر طبعًا. بيضة فاسدة! البعض تلك طبيعتهم.»
«أنت مُحق في هذا.»
لم تكن زوجته السيدة شولتز في المحل ذلك اليوم. عادةً ما تكون هي الواقفة أمام النضد، تتسلم الأحذية وتعرضها على زوجها وتعود لتُبلغ الزبائن بما قاله، وتكتب قصاصات الورق، وتأخذ النقود عند تسليم الأحذية التي تم إصلاحها. تذكَّر السيد ماكولي أنها قد أجرت عمليةً جراحيةً ما خلال فصل الصيف.
«زوجتك ليست هنا اليوم، أهي بخير؟»
«رأت أن من الأفضل لها أن تستريح اليوم. معي ابنتي هنا.»
أومأ هيرمان شولتز نحو الأرفف إلى يمين النضد، حيث تُعرض الأحذية التي انتهى العمل فيها. أدار السيد ماكولي رأسه ورأى إديث، الابنة، ولم يكن قد لاحظ وجودها لدى دخوله. فتاة نحيفة نحافة الأطفال، بشعرٍ أسود ينسدل مستقيمًا، وكانت توليه ظهرها، تعيد ترتيب الأحذية. بتلك الطريقة ذاتها كان يبدو أنها تختفي عن النظر ثم تظهر فجأة كلما أتت إلى منزله باعتبارها صديقة سابيتا. لا يمكنك بالمرة أن ترى وجهها رؤية واضحة وتامة.
قال السيد ماكولي: «هل ستساعدين أباك هنا منذ الآن؟ هل أتممت المدرسة؟»
«اليوم هو السبت!» هكذا قالت إديث بنصف الْتفاتة، وابتسامة لا تكاد تبين.
«صحيح إنه السبت. حسنٌ، إنه لأمر طيب أن تساعدي أباكِ على كل حال. لا بد أن تعتني بوالدَيكِ. لقد كدحا كثيرًا وهما شخصان طيبان.» قال هذا بنبرة اعتذارٍ طفيف، كما لو كان يعلم أنه بدأ يتكلم مثل الوعاظ. «أكرم أباك وأمك، فقد تطول أيامك في …»
قالت إديث شيئًا ما بصوت مهموس لم يسمعه. قالت: «في ورشة تصليح الأحذية.»
فقال السيد ماكولي: «أنا أُضيع وقتكما، أفرض نفسي عليكما، لديكما عمل لتعتنيا به.»
قال والد إديث حين انصرف العجوز: «نحن في غنًى عن تهكماتك!»
•••
أمام وجبة العشاء أخبر أم إديث بكل ما جرى مع السيد ماكولي.
قال: «صار شخصًا آخر، أصابه شيءٌ ما.»
قالت: «لعلها جلطة طفيفة.» منذ أن أجرتْ عمليتها الجراحية — لاستئصال المرارة — أضحت تتحدث حول أمراض الآخرين بنبرة العارف وفي رضاءٍ مطمئن.
الآن وقد ذهبت سابيتا، توارت بداخل نوعٍ آخر من الحياة، الحياة التي كان يبدو أنها تنتظر سابيتا على الدوام، عادت إديث إلى طبيعتها، إلى الشخص الذي طالما كانت عليه قبل أن تأتيَ سابيتا إلى هنا؛ «أكبر من سنها»، مجتهدة، منتقدة. بعد أن مرت ثلاثة أسابيع في المدرسة الثانوية أدركت أنها سوف تتفوق في جميع المواد الجديدة، اللغة اللاتينية، وعلم الجبر، والأدب الإنجليزي. كما آمنت بأنهم سيميزون تفوقها ويمتدحونه وبأن مستقبلًا له شأنه سوف يفتح لها أبوابه. أما حماقات العام الماضي بصحبة سابيتا فقد تبخرتْ كأن لم تكن.
وعلى الرغم من ذلك حين فكرت في رحيل جوهانا غربًا سرت في بدنها رعدة من ماضيها؛ شعور بالذعر تملَّكها تمامًا. حاولت أن تضرب بغطاءٍ قويٍّ فوق ذلك، لكن الغطاء ما كان ليستقر في موضعه.
بمجرد أن انتهت من غسيل الأطباق انفردتْ بنفسها في غرفتها مع الكتاب الذي كان مقررًا عليهم في صف الأدب؛ «ديفيد كوبرفيلد».
كانت طفلة لم تتلقَّ من والدَيها بالمرة إلا أهون التوبيخات الشكلية — والدان أكبر سنًّا من أن يحظيا بطفلةٍ في سنها، وهو ما كان يقال إنه وراء كونها بتلك الطبيعة — ومع ذلك فقد شعرتْ بمطابقةٍ تامةٍ بينها وبين ديفيد في وضعه البائس. شعرتْ بأنها قد تكون شخصًا مثله، شخصًا قد يكون يتيمًا أيضًا؛ لأنها سوف تُضطر إلى الهرب على الأرجح، الهرب ثم الاختباء في مكانٍ ما، وسيكون عليها أن تعتنيَ بنفسها، عندما تنكشف الحقيقة ويسد ماضيها السُّبل أمام مستقبلها.
•••
بدأ كل شيءٍ مع قول سابيتا، وهما في طريقهما إلى المدرسة: «علينا أن نمر بمكتب البريد. يجب أن أرسل رسالة إلى أبي.»
كانتا تذهبان إلى المدرسة وتعودان معًا كل يوم. أحيانًا تسيران بأعينٍ مغمضة، أو بظهريهما للأمام ووجهيهما للخلف. أحيانًا حين تلتقيان أناسًا، كانتا تغمغمان بلغوٍ بلا معنًى؛ إرباكًا للآخرين. أغلب أفكارهما الجيدة كانت من بنات أفكار إديث. الفكرة الوحيدة التي قدَّمتْها سابيتا هي كتابة اسم أحد الأولاد في ورقةٍ واسم إحداهما، ثم حذف كل الحروف المتكررة في الاسمين وإحصاء ما تبقى. ثم التأشير بالعدد المتبقي على الأصابع مع ترديد: كراهية، صداقة، غزل، حُب، زواج، حتى الاستقرار على نتيجة لما يمكن أن يحدث بين الفتاة وذلك الفتى.
قالت إديث: «هذه رسالة سميكة.» كانت تلاحظ كل شيء، وتتذكر كل شيء؛ ففي لمح البصر كانت تحفظ صفحاتٍ كاملةً من الكتب المدرسية بطريقةٍ اعتبرها الأطفال الآخرون إثمًا وفسادًا. «ألديكِ أشياء كثيرة تكتبينها لوالدك؟» هكذا قالت متعجبة؛ لأنها لا يمكنها تصديق هذا الاحتمال، أو على الأقل لا يمكنها تصديق أن تُدوِّن سابيتا على الورقة تلك الأشياء إن وُجدت.
قالت سابيتا وهي تتحسس الرسالة: «لم أكتب إلا صفحة واحدة.»
قالت إديث: «حسنٌ، فهمت.»
«ماذا فهمتِ؟»
«أراهنك أنها وضعتْ شيئًا آخر فيه. أقصد جوهانا.»
عزيزي السيد كين بودرو
خطر لي فقط أن أكتب إليك تعبيرًا عن شكري لك من أجل الأشياء اللطيفة التي ذكرتها عني في رسالتك لابنتك. ليس عليك أن تقلق من أنني قد أرحل. تقول إنني شخص يُعتمد عليه. ذلك هو المعنى الذي فهمته، وهو أمر صحيح في حدود علمي. أنا ممتنة لك، لقولك ذلك، بما أن بعض الناس يعتبر أن شخصًا مثلي يُعد دون المستوى، ما دام جاهلًا بخلفيته وبيئته. وهكذا فكرتُ أن أخبرك بشيءٍ عن نفسي. لقد وُلدت في جلاسجو، غير أن أمي اضطُرت للتخلي عني حين تزوجَتْ. أُخِذْتُ إلى إحدى دور الرعاية في الخامسة من عمري. كنت أنتظر عودتها غير أنها لم تعد، واعتدتُ على العيش هناك، ولم يكن القائمون على الدار بذلك السوء. في الحادية عشرة من عمري أرسلوني إلى كندا بحسب اتفاق عملٍ محدد، وعشتُ مع آل ديكسون للعمل في بساتينهم الصغيرة. كان من ضمن الاتفاق أن أذهب إلى المدرسة، غير أنني لم أحصل إلا على أقل القليل من التعليم. في الشتاء كنتُ أعمل في المنزل في خدمة السيدة، لكن الظروف دفعتني للتفكير في الرحيل، ولأنني ضخمة وقوية بالنسبة إلى عمري قبلوني للعمل في إحدى دور رعاية المسنين. لم أجد بأسًا في العمل، ولكني تركته بحثًا عن أجرٍ أفضل وذهبت للعمل في مصنع مقشات. كان للسيد ويليتس مالكه أمٌّ مُسنة زارت المصنع لترى كيف تسير الأمور، وقد انجذبت كلٌّ منا إلى الأخرى بطريقةٍ ما. كان جو المصنع يُسبب لي مشكلاتٍ في التنفس لذلك قالت إن عليَّ أن آتيَ وأعمل لديها وهذا ما فعلته. عشتُ معها ١٢ سنة على بُحيرةٍ اسمها مورنينج دوف تقع في الشمال. لم يكن هناك إلا أنا وهي، ولكنني كنت أتولى رعاية كل شيءٍ داخل المنزل وخارجه، حتى تشغيل الزورق الآلي وقيادة السيارة. تعلمتُ أن أقرأ قراءة سليمة؛ لأن ضعف عينيها كان يتزايد وكانت تحب أن أقرأ لها. تُوفِّيت في عمر ٩٦. لعلَّك تقول أي حياةٍ هذه بالنسبة إلى شابة، بيد أنني كنت سعيدة. كنا نأكلُ معًا كل وجبة، ونمتُ في غرفتها خلال فترة العام والنصف الأخيرة. ولكن بعد موتها أمهلتني عائلتها أسبوعًا واحدًا لأرحل. كانت قد أوصت لي ببعض المال وأحسبُ أن ذلك لم يَرُقْ لهم. أرادتْ مني أن أنتفع به لأحصل على قسطٍ من التعليم، غير أنني كنتُ سأحضر مع الأولاد الصغار. وهكذا حين رأيتُ الإعلان الذي نشره السيد ماكولي في صحيفة جلوب آند ميل أتيتُ لأستطلع الأمر. كنتُ أحتاج أن أعمل حتى أتغلب على شعوري بافتقاد السيدة ويليتس. أحسب أنني أضجرتك بهذا الحديث المطول حول تاريخي، ولستَ مضطرًا لأن تطَّلع على ما جرى حتى لحظتنا الحاضرة. شكرًا لك على رأيك الطيب فيَّ ولاصطحابي إلى المعرض، فعلى الرغم من أني لستُ الشخص الذي يهوى ركوب الألعاب وتذوُّق الأطعمة المختلفة، فقد كان من دواعي سروري دون شكٍّ أن أصحبكم.
قرأتْ إديث كلمات جوهانا عاليًا، بصوتٍ مستجدٍ وتعبيرٍ تعيس.
«لقد وُلدت في جلاسجو، غير أن أمي اضطُرت للتخلي عني بمجرد أن ألقتْ نظرةً عليَّ …»
قالت سابيتا: «توقفي، سأتعب من كل هذا الضحك!»
«كيف وضعت خطابها داخل رسالتك دون أن تعلمي؟»
«أخذتْ مني رسالتي لتضعها في مظروفٍ وتكتب عليه من الخارج العنوان لأنها تظن أن خطي ليس جيدًا بما يكفي.»
كان على إديث أن تضع شريطًا لاصقًا على لسان الظرف من أجل لصقه، بما أنه لم يَعد هناك ما يكفي من المادة اللاصقة عليه. قالت: «إنها متيمة به!»
«آه، شيء مقزز!» هكذا قالت سابيتا وهي ممسكة بمعدتها، «لا يمكن لها ذلك. جوهانا العجوز!»
«ما الذي قاله عنها على أي حال؟»
«كلام عادي حول كيف يُفترض بي أن أحترمها وأنه سيكون من السيئ للغاية إذا هي رحلت وتركتنا لأننا محظوظون بوجودها معنا، وأنه ليس لديه بيت ملائم لي، كما أن جدي لا يستطيع أن يرعى بنتًا بمفرده، وإلى آخر هذا الهراء. وقال إنها سيدة راقية، قال إنه يستطيع أن يحكم على ذلك.»
«لهذا إذن صارت «مُطيَّمة» به؟»
بقيت الرسالة مع إديث ليلًا، خشية أن تكتشف جوهانا أنها لم يتم إرسالها وأنها مغلقة بشريط لاصق شفاف. ثم أخذتاها إلى صندوق البريد في الصباح التالي.
قالت إديث: «الآن سوف نرى ما الذي سيكتبه ردًّا عليها. خذي حذرك!»
•••
عزيزتي سابيتا
يأتي عيد الميلاد هذا العام وأنا في ضائقةٍ ماليةٍ نوعًا ما، آسف لأنني لا أملك أكثر من ورقةٍ بدولارين لأرسلها إليك! لكنني أتمنى أن تكوني في صحةٍ جيدةٍ وأن تنعمي بعيد ميلادٍ مباركٍ وأن تتابعي اجتهادك في المدرسة. أما عني فقد مررت بأزمةٍ صحية؛ إذ أصابني الْتهاب شعبي حاد، وهو ما يصيبني كلَّ شتاءٍ على ما يبدو، ولكنها المرة الأولى التي يُلزمني فيها الفراشَ قبل أعياد الميلاد. وكما ترَيْن من خلال العنوان البريدي أنا الآن في مكانٍ جديد. كانت الشقة في موقعٍ صاخبٍ ويمر بي فيها كثيرٌ من الناس أملًا في احتفال. هذا بنسيون صغير، وذلك يناسبني كثيرًا بما أنني لم أُحسن قط لا التسوُّق ولا الطهي.
قالت إديث: «المسكينة جوهانا! سوف ينفطر قلبها.»
فقالت سابيتا: «ومن يهتم؟»
قالت إديث: «إلا إذا فعلناها نحن.»
«فعلنا ماذا؟»
«أجبنا عليها.»
كان عليهما أن تكتبها رسالتهما على الآلة الكاتبة؛ لأن جوهانا كانت ستلحظ أن الخط ليس خط والد سابيتا. لكن النسْخَ على الآلة لم يكن أمرًا صعبًا، فقد كانت هناك آلة كاتبة في منزل إديث، موضوعة فوق منضدةٍ مربعةٍ للعب الورق في الغرفة الأمامية. لقد عملت أمها في أحد المكاتب قبل زواجها وما زالت تكسب مالًا يسيرًا من كتابة نوعية الرسائل التي يريد لها أصحابها أن تتخذ صبغة رسمية. كانت قد علَّمت إديث أساسيات النسخ على الآلة الكاتبة، على أمل أن إديث أيضًا قد تحصل على وظيفةٍ مكتبيةٍ ذات يوم.
قالت سابيتا: «عزيزتي جوهانا، آسف لأنني لا يمكنني أن أُغرم بك بسبب كل تلك البثور البشعة على وجهك كله.»
قالت إديث: «سوف أكتب بجدية. أغلقي فمك.»
كتبت على الآلة: «كم سررتُ بتلقي الرسالة …» وهي تنطق بالكلمات التي تؤلفها بصوتٍ مسموع، متوقفة بينما تفكر في المزيد، فيما تتزايد نبرة الوقار والرقة في صوتها. تمددتْ سابيتا على الأريكة، وهي تُقهقه. عند نقطةٍ ما أدارت التليفزيون، غير أن إديث قالت لها: «أرجووووكِ. كيف أستطيع التركيز على «مشاااعري» مع تشغيل كل ذلك البراز؟»
عزيزتي جوهانا
كم سُررتُ بتلقِّي الرسالة التي وضعتِها داخل خطاب سابيتا وأن أطَّلع على حياتك. لا بد أنها كانت حياةً من الحزن والوحدة، على الرغم من أن السيدة ويليتس تبدو لي سعيدة الحظ لأنها عثرت عليكِ. لقد بقيتِ تكدحين دون شكوى، ولا بد لي أن أقول إنني معجب بك إعجابًا كبيرًا. أما حياتي أنا فقد شابها التنقُّل والتغيُّر ولم يحدث لي قط أن نعمتُ بالاستقرار. لا أدري لماذا يعتريني ذلك الشعور الداخلي بالقلق والوحدة، يبدو أن هذا هو قدري وحسب. دائمًا ما ألتقي بالناس وأتحادث مع الناس، ولكني أحيانًا أسأل نفسي: من هو صديقي؟ ثم أتت رسالتك وكتبتِ في نهايتها: صديقتك، ففكرتُ: أهي تعني ذلك حقًّا وصدقًا؟ كم ستكون هديةَ عيد ميلادٍ رائعةً لي إن أخبرتني جوهانا بأنها صديقتي! لعلَّك كنتِ فكرتِ أنها مجرد طريقةٍ لطيفةٍ لإنهاء رسالة وأنكِ لا تعرفينني معرفة وثيقة بما فيه الكفاية. عيد ميلاد مبارك عليكِ على كل حال.
عادت الرسالة إلى البيت حيث جوهانا. وانتهى الأمر بكتابة رسالة سابيتا أيضًا من جديدٍ على الآلة الكاتبة لأنه ما من سببٍ يدعو لكتابة إحداهما على الآلة الكاتبة دون الأخرى؟ اقتصدتا في البخار هذه المرة وفتحتا المظروف في حرصٍ شديدٍ بحيث لا تكون بهما حاجة للشريط اللاصق الفاضح.
قالت سابيتا، معتقدةً أنها تستعرض ذكاءها: «لماذا لا نُحضر مظروفًا جديدًا ونكتب عليه بالآلة أيضًا؟ ألن يفعل ذلك هو نفسه إذا كان يكتب الرسائل على الآلة؟»
«لأن المظروف الجديد لن يكون عليه ختم البريد يا أم العريف!»
«ماذا لو أنها ردَّتْ عليه؟»
«سنقرأ ردَّها.»
«صحيح، ولكن ماذا لو أنها ردَّت عليه وأرسلت الرسالة مباشرةً إليه.»
لم تحب إديث أن تبدو وكأنها لم تفكر في ذلك الاحتمال.
«لن تفعل ذلك، إنها ماكرة ومتكتمة. على كلٍّ، عليكِ أن تكتبي له الردَّ بلا تأخيرٍ لتوحيَ إليها بفكرة أن تدس ردها في خطابك.»
«كم أكره كتابة الرسائل الغبية!»
صديقي العزيز
لقد سألتني إن كنتُ أعرفك معرفة وثيقة بما يكفي لأن أعتبرك صديقًا، وإجابتي هي: نعم، أعتقد أنني أعرفك جيدًا. لم أحظَ خلال حياتي كلها إلا بصديقةٍ واحدة؛ السيدة ويليتس التي أحببتُها وكانت طيبةً للغاية معي، غير أنها تُوفِّيت. كانت سنُّها أكبر من سني كثيرًا، والمشكلة مع الأصدقاء الأكبر سنًّا هي أنهم يموتون ويتركونك. كان الكِبَر قد بلغ بها عتيًّا حدَّ أنها كانت تناديني أحيانًا باسم شخصٍ آخر. ولم أكن أكترث مع ذلك.
سأخبرك بأمرٍ غريب. تلك الصورة التي أمرتَ المصور الفوتوغرافي بالتقاطها في المعرض، لك أنت وسابيتا وصديقتها إديث وأنا معكم، لقد كبَّرتُها ووضعتها في إطارٍ وعلَّقتُها في غرفة المعيشة. إنها ليست صورة رائعة ولا شك لأن المصور أخذ منك أكثر مما كانت تستحق، ولكنها خيرٌ من لا شيء. ثم حدث أول أمسِ بينما كنتُ أمسح الغبار من حولها أنني تخيلتُ أني أسمعك تقول مرحبًا لي. لقد قلتَ: مرحبًا، وتطلعتُ أنا إلى وجهك على نحوٍ يمكنك أن تراه أنت أيضًا في الصورة وقلتُ لنفسي: حسنٌ، لا بد أنني أفقد عقلي، أو لعلَّها علامة على رسالةٍ آتية. ما أنا إلا حمقاء؛ فأنا لا أومن جديةً بأيٍّ من ذلك. ولكن أمسِ وصل خطابك. وهكذا ترى أنك لا تطلب ما هو أكثر من اللازم مني لأكون صديقتك. إنني أعرف على الدوام كيف أشغل وقتي، ولكنَّ صديقًا حقيقيًّا لهو شيء آخر تمامًا.
بالطبع لم يكن من الممكن أن يعاد وضع تلك الرسالة في المظروف من جديد؛ لأن والد سابيتا كان سيستريب لإشاراتها إلى رسالة لم يكتبها قط. كان لا بد من تمزيق رسالة جوهانا نتفًا صغيرة وفتح الماء عليها في مرحاض منزل إديث.
•••
حين ورد الخطاب الذي يتحدث بشأن الفندق كانت قد مرت شهور وشهور. كان الفصل صيفًا، وكان من حسن الحظ فقط أن تلتقط سابيتا الخطاب بنفسها بما أنها كانت بعيدة عن المنزل لثلاثة أسابيع، مقيمة في بيتٍ ريفيٍّ صغيرٍ كالكوخ يُطلُّ على بحيرة سيمكوي وملك عمتها روكسان وعمها كلارك.
أول ما نطقت به سابيتا تقريبًا — بعد أن دخلت إلى منزل إديث — كان: «يا للقرف! رائحة هذا المكان نتنة.»
«يا للقرف!» كان تعبيرًا التقطته من بنات عمتها.
تنشَّقتْ إديث الهواء: «أنا لا أشم أي شيء.»
«إنها مثل رائحة ورشة أبيك، فقط أقل بشاعة. لا بد أنهما يجلبانها على ثيابهما وهكذا.»
تولَّت إديث أمر تبخير الرسالة وفتحها. في طريقها من مكتب البريد اشترت سابيتا من متجر الحلوى والمخبوزات إصبعين من إكلير الشوكولاتة. كانت راقدة على الأريكة تأكل قطعتها.
قالت إديث: «رسالة واحدة فقط. من أجل خاطرك، يا مسكينة يا جوهانا العجوز! بالطبع هو لم يتلقَّ فعليًّا أيًّا من رسائلها.»
قالت سابيتا في تسليم: «اقرئيها عليَّ؛ فقد صارت يداي ملوثتين ودبقتين تمامًا.»
حسنًا يا سابيتا، لقد اتخذ حظي في الحياة منعطفًا مختلفًا، وهكذا كما ترَيْن لم أعد في براندون ولكن في مكانٍ يُدعى جدينيا. ولم أعد موظفًا لدى أرباب عملي السابق. لقد قضيتُ شتاءً شاقًّا بصورةٍ تفوق الوصف بسبب مشكلات صدري، وَهُم — أقصد أرباب عملي — اعتقدوا أن عليَّ أن أعمل بالخارج على الطرقات حتى ولو كنتُ معرضًا لخطر الإصابة بالتهابٍ رئوي، وهكذا أدى هذا إلى نزاعٍ ما فاتفقنا جميعًا على الفراق. غير أن الحظ شيء غريب؛ ففي نفس ذلك الوقت تقريبًا صرتُ أمتلك فندقًا. الأمر أكثر تعقيدًا من أن أتمكن من شرحه تفصيلًا بحذافيره، ولكن إذا أراد جدك أن يعرف فأخبريه بأن رجلًا كان مدينًا لي بالمال ولم يستطع السداد ترك لي هذا الفندق في المقابل. وها أنا ذا انتقلت من غرفةٍ في بنسيون إلى مبنًى فيه اثنتا عشرة غرفة نوم، ومن شخصٍ لا يملك حتى السرير الذي ينام عليه إلى شخصٍ يملك العديد من الأسِرَّة. من الرائع للمرء أن يستيقظ في الصباح وهو يعلم أنه قد صار ربَّ عمل نفسه. هناك بعض الإصلاحات التي عليَّ القيام بها، الحقيقة أنها كثيرة، وسوف أشرع فيها بمجرد أن يدفأ الطقس. سأكون بحاجةٍ إلى توظيف شخصٍ ما لمساعدتي، وفيما بعد سوف أوظف طاهيًا جيدًا ليكون لدينا مطعم إلى جنب قاعة الشراب. أظن أن هذا سيكون رائجًا شأن الكعك الساخن بما أنه لا يوجد مكان آخر لسوانا في البلدة. أتمنى أن تكوني بخير حالٍ وتؤدين واجباتك المدرسية وتكتسبين عاداتٍ طيبة.
قالت سابيتا: «ألديكِ بعض القهوة؟»
فقالت إديث: «قهوة سريعة، لماذا؟»
شرحت لها سابيتا أن القهوة المثلجة كانت هي ما يشربه الجميع في المنزل الريفي وكانوا كلهم مهووسين بها. كانت هي أيضًا مهووسة بها. نهضت وعبثت في المطبخ قليلًا، غلت الماء وقلَّبت القهوة مع الحليب ومكعبات الثلج. قالت: «ما يجب أن نتناوله بحق هو آيس كريم الفانيليا، آه يا ربي! أروع شيءٍ في الدنيا. ألا تريدين قطعة الشوكولاتة؟»
«آه يا ربي!»
فقالت إديث في لؤم: «نعم أريدها كلها.»
كل تلك التغيرات طرأت على سابيتا في غضون ثلاثة أسابيع فقط، في الوقت نفسه الذي كانت إديث فيه تعمل في الورشة وأمها تتعافى في المنزل من العملية الجراحية. كانت بشرة سابيتا قد بدأت تكتسب لونًا بُنيًّا ذهبيًّا، وقُصَّ شعرها فصار أقصر ومنفوشًا للخارج حول وجهها. قَصَّته لها بنات عمها وأكسبنه تجعيدة دائمة. كانت ترتدي طقمًا خفيفًا من نوعٍ ما، بسروالين قصيرين يبدوان على شكل تنورة وبصفٍّ من الأزرار في الأمام وكشكشةٍ على الكتفين بلونٍ أزرق يتدرج للأفتح. صارت أكثر امتلاءً، وحين مالت لالتقاط كأس القهوة المثلجة، الذي كان على الأرض، أبدتْ شقًّا ناعمًا ولامعًا فيما بين نهديها.
نهداها؛ لا بد أنهما بدآ في النمو قبل أن تسافر، غير أن إديث لم تلحظهما. ربما كانا من نوعية الأشياء التي تستيقظ الفتاة ذات صباحٍ فتجدها لديها … أو لا تجدها.
أيًّا كانت طريقة ظهورهما، فقد ظهرا كإشارةٍ على ميزةِ تفوُّقٍ ظالمةٍ وغير مُستحَقَّة بالمرة.
كانت سابيتا كثيرة الحديث عن بنات عمتها والحياة في المنزل الريفي. كانت تقول: «اسمعي هذا، لا بد أن أخبرك بهذا، ضحك لِحَدِّ الصراخ …» ثم تتحدث بلا هُدًى حول ما قالته العمة روكسان للعم كلارك حين تشاجرا، وكيف كانت ماري جو تقود سيارة ستان المكشوفة (مَن هو ستان؟) بعد أن تخفض غطاءها دون أن يكون لديها رخصة قيادة، وتأخذهن كلَّهن في نزهة بالسيارة، أما الضحك حدَّ الصراخ أو مقصد قصتها فإنه بطريقةٍ أو بأخرى لا يتضح بالمرة.
ولكن بعد فترة جرت أمورٌ أخرى؛ مغامرات الصيف الحقيقية. الفتيات الأكبر سنًّا — ومن بينهن سابيتا — كنَّ يبتن ليلهن في الطابق العلوي من بيت الضيوف. أحيانًا كنَّ يخضن معارك دغدغة؛ فيتجمعن كلهن ضد إحداهن ويدغدغنها حتى تصيح بهن أن يرحمنها وتوافق على أن تُنزل سروال بيجامتها لِيَرين إن كان لديها شَعر. كُنَّ يروين الحكايات عن تلميذات المدرسة الداخلية اللاتي كنَّ يقمن بأمور بمقابض فُرَش الشعر، أو فُرَش الأسنان. يا للقرف! ومرةً قدَّمت فتاتان من بنات العم عَرضًا؛ فاعتلت إحداهما الأخرى وتظاهرتْ بأنها صبي ولفَّتْ كلٌّ منهما ساقَيها بساقَي الأخرى وراحت تئنُّ وتلهث وتتمادى.
أتت شقيقة العم كلارك وزوجها في زيارةٍ خلال شهر العسل، وقد شاهدوه وهو يضع يده داخل ثوب السباحة الخاص بها.
قالت سابيتا: «إنهما عاشقان حقًّا، هائمان هكذا ليلًا ونهارًا.» وضمَّتْ وسادة إلى صدرها: «لا يمكن للإنسان أن يمسك نفسه حين يكون عاشقًا هكذا.»
كانت إحدى بنات العمة قد أتت ذلك الفعل حقًّا مع صبي. كان ممن يعملون صيفًا في حدائق المنتجع الذي يقع على الطريق المقابل. اصطحبها في نزهةٍ بقاربٍ وهددها بأن يدفعها لتغرق حتى وافقت أن تدعه يفعل بها ما يشاء. وهكذا لم يكن الخطأ خطأها.
قالت إديث: «ألا يمكنها أن تسبح؟»
ضغطتْ سابيتا الوسادة ما بين ساقيها. قالت: «آااااه، ما ألطف هذا الإحساس!»
كانت إديث على علمٍ بكل ما يخص اللوعات الممتعة التي كانت تُحس بها سابيتا، ولكن ما أصابها بالذعر أن يُقدِم أي شخصٍ على فعل ذلك عَلنًا. وهي نفسها كانت تخشى تلك اللوعات. قبل سنوات، ودون أن تدري حتى ما الذي كانت تفعله، استغرقت في النوم وقد استقرت بطانية ما بين ساقيها، واكتشفت أمها الأمر وأخبرتها بأمر فتاةٍ كان من المعروف أنها تقوم بمثل تلك الأمور طوال الوقت، وفي النهاية اضطروا لإجراء عملية جراحية لها لإصلاح المشكلة.
كانت أمها قد قالت لها: «اعتادوا أن يرشوا عليها الماء البارد، لكنه لم يعالجها؛ ولذلك كان عليهم اللجوء للقص.»
لو لم يفعلوا لكانت أعضاؤها التناسلية احتقنتْ وربما ماتت البنت.
قالت لسابيتا: «كفى.» ولكن سابيتا راحت تئنُّ وتزوم في تحدٍّ وقالت: «هذا لا شيء. كنا جميعنا نفعل مثل هذا. ألم تُحضري وسادة لكِ؟»
نهضتْ إديث وذهبت إلى المطبخ وملأت كوبها الفارغ من القهوة المثلجة بالماء البارد. وحين عادتْ وجدت سابيتا ترقد مسترخية على الأريكة، وهي تضحك، وقد سقطت الوسادة على الأرض.
قالت: «ما الذي ظننتِ أنني كنتُ أفعله؟ ألم تعرفي أنني كنتُ أمزح؟»
فقالت إديث: «كنتُ عطشى.»
«شربتِ حالًا كوبًا ممتلئًا بالقهوة المثلجة.»
«كنتُ عطشى للماء.»
«أليس من الممكن المرح معكِ أبدًا؟» ثم انتصبت سابيتا في جلستها مضيفة: «ما دمتِ عطشى إلى هذا الحد فلِمَ لا تشربينه؟»
جلستا في صمتٍ متعكر قليلًا حتى قالت سابيتا بنبرة استرضاءٍ ولكن يشوبها الإحباط مع ذلك: «ألن نكتب رسالة أخرى إلى جوهانا؟ فلنكتب لها رسالة غرامٍ وهيام.»
كانت إديث قد فقدت جزءًا كبيرًا من اهتمامها بأمر الرسائل، ولكن سَرَّها أن ترى سابيتا لم تفقد اهتمامها بها بعدُ. عاد إليها بعضٌ من إحساسها بالسلطة على سابيتا، على الرغم من بحيرة سيمكوي والنهدين. تنهدتْ، كما لو كانت تتمنَّع وتتردد، ونهضت ورفعت الغطاء عن الآلة الكاتبة.
قالت سابيتا: «جوهانا يا أعز الناس …»
«لا، هذا تعبير مقزز جدًّا.»
«لن تراه هي كذلك.»
فقالت إديث: «بل ستراه كذلك.»
تساءلتْ في نفسها إن كان ينبغي عليها أن تخبر سابيتا بمخاطر احتقان الأعضاء التناسلية. قرَّرت ألا تخبرها. من ناحيةٍ لأن تلك المعلومة تقع في فئة التحذيرات التي تلقَّتها عن أمها ولا تدري بالمرة إن كان يجب تصديقها أم لا. تلك التحذيرات لم تكن ضعيفة المصداقية، على غرار الاعتقاد بأن ارتداء المرء في المنزل للأحذية المطاطية الخارجية التي تحفظ الحذاء الداخلي من الماء قد يدمر قوة البصر، ولكن ليس هناك من وسيلةٍ للتأكد، وربما تجد وسيلة ذات يوم.
من ناحيةٍ أخرى إذا أخبرتها فستضحك سابيتا عليها. إنها تضحك من التحذيرات، سوف تضحك حتى إن قال لها المرء إن أصابع إكلير الشوكولاتة تجعلها بدينة.
«في رسالتك الأخيرة ما أسعدني كثيرًا …»
فقالت سابيتا: «رسالتك الأخيرة أفعمتني بالنشوة …»
«أسعدني كثيرًا أن أومن بأن لي صديقًا حقيقيًّا في هذا العالم، ألا وهو أنت …»
«يجافيني النوم طوال الليل بسبب شوقي لأن أحطم ضلوعك بين ذراعيَّ …» قالت سابيتا وهي تحتضن جسدها بذراعيها وتهتز للأمام والوراء.
«كلا. كثيرًا ما تستولي عليَّ وحدة هائلة على الرغم من حياتي الاجتماعية السرْبية ولا أعرف لي ملجأً …»
«ما معنى «سربية»؟ لن تفهم لها معنًى.»
«بل ستفهم.»
أخرسَ هذا سابيتا وربما جرح شعورها. وهكذا قرأت إديث في النهاية: «لا بد أن أقول وداعًا، والطريقة الوحيدة لأفعل ذلك هو أن أتخيلك تقرئين هذا ويتضرَّج وجهك …» «أهذا أقرب إلى ما تريدين؟»
عزيزتي جوهانا
في رسالتك الأخيرة أسعدني كثيرًا أن أومن بأن لي صديقًا حقيقيًّا في هذا العالم، ألا وهو أنتِ. كثيرًا ما تستولي عليَّ وحدة هائلة على الرغم من حياتي الاجتماعية السرْبية ولا أعرف لي ملجأً.
على كلٍّ، لقد أخبرتُ سابيتا في رسالتي بشأن منعطف الحظ الطيب الذي وقع لي وكيف دخلتُ في مجال إدارة الفنادق. لم أخبرها في الحقيقة كم ساءت حالتي الصحية في الشتاء الماضي لأنني لا أريد أن أقلقها. ولا أريد أن أقلقكِ أنت أيضًا، يا جوهانا العزيزة، أقول ذلك فقط لأخبرك أنني فكرت فيك كثيرًا للغاية، واشتقتُ إلى رؤية وجهك الحلو الحبيب. حين أصابتني سخونة الحُمى خُيل إليَّ أنني حقًّا أراه قريبًا مني وسمعتُ صوتك يخبرني بأنني سوف أتحسن قريبًا وأحسستُ بيديك الطيبتين تُسعفانني. كنتُ أنزل في بنسيون، وحين زالت عني الحُمى كان في انتظاري الكثير من المشاكسات من نوع: من هي جوهانا تلك؟ لكنني كنتُ حزينًا لأنني أفقتُ فلم أجدك هناك بجانبي. إنني لَأتساءل حقًّا إن كان بوسعك أن تُحلِّقي في الهواء لتكوني معي، حتى وإن كنت أعرف أن ذلك غير ممكن. صدقيني، صدقيني، إنني لا أرحب بأي إنسانةٍ ولو كانت نجمة من نجمات السينما أكثر مما أرحب بكِ أنتِ. لا أدري إن كان عليَّ أن أخبرك بالأشياء الأخرى التي تخيلتُك تقولينها لي لأنها كانت في غاية العذوبة والحميمية، ولكن هذا قد يصيبك بالإحراج. لَكَم أكره أن أُنهيَ هذه الرسالة لأنني أشعر الآن وكأنني أحيطك بذراعيَّ وأنني أتحدث لك همسًا في غرفةٍ مظلمةٍ تخصنا وحدنا أنا وأنت، ولكني لا بد أن أقول وداعًا، والطريقة الوحيدة لأفعل ذلك هو أن أتخيلك تقرئين هذا ويتضرَّج وجهك. سيكون رائعًا إذا كنتِ تقرئينه في فِراشك وأنتِ مرتدية ثوب النوم وتفكرين كيف سأحطم ضلوعك بين ذراعَيَّ.
كان من المفاجئ على نحوٍ ما ألا يكون هناك رد على هذه الرسالة. حين أتمَّت سابيتا كتابة نصف الصفحة الخاصة بها، وضعتها جوهانا في المظروف وعنونته وانتهى الأمر.
•••
حين نزلت جوهانا عن القطار لم يكن يوجد أحد بانتظارها. لم تَدَعْ نفسها تقلق لهذا الشأن؛ فقد فكرت أن رسالتها ربما لا تصل، على كل حال، قبل أن تصل هي نفسها. (والحقيقة أن الرسالة وصلت، وكانت ترقد في صندوق البريد، لكن لم يتسلمها أحد؛ وذلك لأن كين بودرو، الذي لم تكن حالته الصحية في غاية السوء في الشتاء الماضي، مصاب الآن حقًّا بالتهابٍ شعبيٍّ حادٍّ ولأيامٍ عديدةٍ لم يذهب لتسلُّم بريده. كان بريده في ذلك اليوم يضم مظروفًا آخر، يحوي شيك السيد ماكولي. غير أن الأخير كان قد أوقف صرف الشيك من قبل.)
ما كان مقلقًا أكثر لها هو أن المكان لم يظهر وكأنه بلدة. لم تكن المحطة سوى مأوًى مُسيجًا بمقاعدَ طويلةٍ على طول الجدران ومصاريع خشبية مسدلة على نافذة شباك التذاكر. كانت هناك سقيفة للشحن — افترضتْ هي أن هذه سقيفة شحن — ولكن الباب المنزلق المؤديَ إليها لا يتزحزح من موضعه. اختلستْ نظرةً من بين الألواح الخشبية إلى أن اعتادت عيناها على الظلمة بالداخل فرأت أن المكان خاوٍ، بأرضيةٍ قذرة. لا صناديق حاوية ولا أثاث هناك. نادت: «هل من أحدٍ هنا؟ هل من أحدٍ هنا؟» مراتٍ عديدة، ولكنها لم تتوقع إجابة.
وقفت على الرصيف وحاولت أن تملك زمام نفسها.
على بُعْد نصف ميلٍ كان هناك تلٌّ هزيل، تلحظه العين مباشرةً لأنه متوَّج بالأشجار. أما المسار الرملي المنظر الذي اتخذته، فقد اعتقدت، حين رأته من القطار من حارةٍ خلفيةٍ مؤديًا إلى حقلِ فلَّاح، أن هذا لا بد هو الطريق. الآن رأت الأشكال الخفيضة للمباني هنا وهناك ما بين الأشجار، وصهريج مياه بدا من بعيدٍ وكأنه لعبةُ أطفال؛ جنديٌّ من الصفيح بساقين طويلتين.
التقطتْ حقيبتها — لن يكون هذا عبئًا عسيرًا عليها؛ فعلى كل حالٍ قامت بحملها من طريق المعارض إلى محطة القطار الأخرى — ثم انطلقت تسير.
كانت هناك ريح تهب، ولكن اليوم كان حارًّا — أكثر حرارةً من الطقس الذي خلفته وراءها في أونتاريو — وحتى الريح بدت حارةً هي أيضًا. فوق ثوبها الجديد كانت ترتدي المعطف القديم ذاته، والذي كان سيأخذ مساحة هائلة من حقيبة السفر. نظرت في اشتياقٍ أمامها إلى الظل في البلدة، غير أنها حين بلغتها كانت الأشجار إما مدببة كأشجار الصنوبر، وكانت نحيلة وضيقة فلم تفرش أيَّ ظل لها، وإما أشجار الحور القطني بأوراقها الرفيعة الشعثاء، التي تهتز مع الريح فتترك الشمس تتخللها على كل حال.
كان ثَمَّةَ افتقار محبط للشكل الرسمي، أو أي نوعٍ من التنظيم، لهذا المكان؛ فلا أرصفة مشاة ولا شوارع مُعبَّدة، لا مبانيَ فخمة عدا كنيسة كبيرة تبدو أقرب إلى حظيرةٍ من الآجر، وفوق بوابتها رسمٌ زيتي يصور العائلة المقدسة بوجوهٍ في لون الطمي وأعينٍ زرقاء مُحدقة. كان تُسمَّى تيمُّنًا بقديسٍ غير معروف؛ القديس فويتيتش.
لم يبدُ أن المنازل قد حظيت بقدرٍ كبيرٍ من التدبُّر والتخطيط سواءٌ من ناحية مواقعها أو تصميمها. كانت تُطِلُّ بزوايا مختلفةٍ على الطريق، أو الشارع، وأغلبها بنوافذَ صغيرةٍ ذات مظهرٍ رديءٍ ملصوقة هنا وهناك، بمداخل مسقوفة للحماية من الثلج بدت وكأنها صناديق تحيط بالأبواب. لم يكن هناك أي شخصٍ بالخارج في باحات البيوت، ولماذا قد يخرجون؟ فلا وجود لشيءٍ قد يعتنون به، فقط كتلٌ من العشب البُنِّي وعُشبة كبيرة من الرواند، ذبلت وجفَّت من عدم الاعتناء.
أما الشارع الرئيسي، إن صحَّت تسميته بذلك، فكان له ممشًى خشبي مرتفع على أحد جانبيه، وفيه بعض المباني غير راسخة البناء، منها متجر بقالة (ويشمل مكتب البريد) ومرأب يبدو أنه الوحيد الذي يؤدي عمله. كان هناك مبنًى من طابقين ظنَّت أنه قد يكون الفندق، ولكنها وجدته مصرفًا، وكان مُغلقًا.
أول كائنٍ بشريٍّ وقع بصرها عليه — على الرغم من أن كلبين قد نبحا عليها — كان رجلًا أمام المرأب، منشغلًا بتحميل جنازير حديدية في صندوق شاحنته.
قال لها: «الفندق؟ لقد ابتعدتِ عنه كثيرًا.»
أخبرها أن الفندق بجانب محطة القطار، على الجانب الآخر من القضبان على مبعدةٍ يسيرة، وأنه مطلي بالأزرق ولا يمكن أن يخطئه قاصده.
وضعت حقيبة السفر أرضًا، ليس عن خيبة أملٍ ولكن لأنها كانت بحاجةٍ إلى دقيقة راحة.
قال إنه يمكنه أن يُقلَّها حتى هناك إن هي انتظرت دقيقة واحدة. وعلى الرغم من أنه كان شيئًا جديدًا بالنسبة إليها أن تقبل عرضًا كهذا، فسرعان ما وجدت نفسها جالسة في الكابينة الحارة والملوثة بالشحم لشاحنته، وهي تهتز عائدةً عبر الطريق القذر الذي قطعته للتوِّ، مع تلك الجنازير التي تصدر قعقعة يائسة في الخلف.
قال لها: «إذن، من أين أتيتِ وجلبتِ معك هذه الموجة الحارة؟»
قالت: أونتاريو، بنبرةٍ لا تَعِدُ بأنها ستقول أكثر من هذا.
قال بنبرةٍ آسفة: «أونتاريو! حسنٌ، ها نحن وصلنا … فندقك.» ورفع يدًا واحدةً عن عجلة القيادة. مالت الشاحنة ميلًا خفيفًا مصاحبًا لتلويحه بيده نحو مبنًى مسطح السقف من طابقين لم تكن قد غفلت عنه، بل رأته من القطار وهم يدخلون المحطة. لقد ظنَّته بيت عائلةٍ كبيرًا، مُهملًا إلى حدٍّ ما، ولعله مهجور تمامًا. الآن وبعد أن رأت المنازل في البلدة، أدركت أنه كان عليها ألا تستبعده من احتمالها بهذه السرعة. كان مغطًّى برقائق من الصفيح مسكوكة بحيث تبدو كأنها أحجار آجر ومطلية بلونٍ أزرق فاتح. كانت هناك تلك الكلمة الواحدة: «فندق»، بأنابيب من مصابيح النيون، لم تعد تضيء، مثبتة فوق المدخل.
«ما أغباني!» هكذا قالت، وعرضت على الرجل دولارًا مقابل التوصيلة.
ضحكَ، «احتفظي بنقودك. لن تعرفي أبدًا متى ستحتاجين إليها.»
كانت هناك سيارة لا بأس بها متوقفة أمام الفندق، ماركة بلايماوث. كانت في غايةٍ من القذارة، ولكن كيف يمكن تجنُّب ذلك، في وجود تلك الطرقات؟
على الباب عُلقت إعلانات تجارية عن ماركاتٍ من السجائر والجعة. انتظرت حتى رجعت الشاحنة من حيث أتت ثم طرقت الباب، طرقَتْ لأن المكان لم يبدُ على أيِّ نحوٍ مفتوحًا للعمل. ثم جرَّبت الباب لترى إن كان مفتوحًا، ودخلت إلى غرفةٍ متربةٍ صغيرةٍ فيها سُلَّم ثم إلى غرفةٍ واسعةٍ ومظلمةٍ كان فيها منضدة بلياردو ورائحة سيئة لجعة وأرضية غير مكنوسة. ومن مسافةٍ وفي غرفةٍ جانبيةٍ رأت الْتماع مرآة، وأرففًا خاوية، ونضدًا. كانت مصاريع النوافذ في تلك الغرفة مسدلة بإحكام. الضوء الوحيد الذي رأته كان ينبعث من نافذتين مستديرتين صغيرتين، وقد ظهر أنهما في بابٍ دوَّارٍ بمصراعين. دخلتْ من ذلك الباب إلى المطبخ. كانت إضاءته أفضل بسبب صفٍّ من نوافذَ عاليةٍ ولكن قذرة، غير مغطاة، في مواجهة الجدار. وهنا وجدت أولى علامات الحياة؛ كان أحدهم قد تناول طعامًا على المائدة وترك طبقًا ملطخًا بصلصة الطماطم المحفوظة وقد جفت الآن، وكوبًا نصفه ممتلئ بقهوةٍ سوداء باردة.
أحد أبواب المطبخ كان يؤدِّي إلى الخارج — هذا الباب كان مغلقًا بمفتاح — وآخر يؤدي إلى خزانةٍ كبيرةٍ فيها العديد من علب الأطعمة المحفوظة، وآخر يؤدي إلى خزانة أدوات النظافة، وآخر إلى دَرَجٍ مُسيج. صعدَتِ الدَّرَج، وحقيبة سفرها ترتجُّ أمامها طوال الوقت نظرًا لضيق المساحة. قبالتها مباشرةً في الطابق الثاني رأت مقعد مرحاضٍ مرفوع الغطاء.
كان باب غرفة النوم في آخر الرَّدهة مفتوحًا، وبالداخل وجدتْ كين بودرو.
رأتْ ثيابه من قبل أن تراه. سترته معلقة على حرف الباب وسرواله على مقبض الباب، بحيث كانت أطرافهما تتدلى على الأرضية. فكرتْ في الحال أن هذه ليست الطريقة الملائمة للاعتناء بثيابٍ جيدة، وهكذا دخلت غرفة النوم في جرأة — وتركت حقيبة سفرها في الردهة — وقد فكرت أن عليها تعليق الثياب كما يجب.
كان في الفراش، وليس فوقه إلا ملاءة. كانت البطانية وقميصه مُلقيَين على الأرض. كانت أنفاسه مضطربة كما لو كان على وشك أن يصحو، فقالت: «صباح الخير، أو مساء الخير.»
كان ضوء الشمس الساطع يدخل من النافذة، يكاد يبلغُ وجهه مباشرةً. كانت النافذة مغلقة، والهواء فاسدًا ينضح بروائح عِدَّة من بينها منفضة سجائر ممتلئة كانت على المقعد الذي استخدمه كأنه منضدة جانبية للفراش.
لديه عاداتٌ سيئة، يدخِّن في السرير.
لم يوقظه صوتها، أو ربما استيقظ بدرجةٍ طفيفةٍ فقط. بدأ يسعل.
تعرفت في سعاله على حالةٍ خطرة، إنه سعالُ رجلٍ مريض. كافح ليرفع جسده قليلًا، بعينين لا تزالان مغلقتين، فاقتربت من الفراش وسندته. بحثتْ عن منديلٍ قماشيٍّ أو علبة مناديل ورقية، لكنها لم ترَ شيئًا من هذا فتناولت قميصه من الأرض. أرادت أن تنظر عن قرب إلى ما بصقه.
عندما سعل بما يكفيه، غمغم بشيءٍ وغاص مجددًا في الفراش، وهو يلهث، ورأت الوجه الساحر المعتد بنفسه الذي تتذكره وهو يتجعد مُشمئزًا. أدركتْ من ملمس جسده أنه مُصاب بِحُمَّى.
كان لون المادة التي بصقها أصفر مائلًا للخُضرة، دون وجودٍ لخطوط البلغم الصدئ. حملَتِ القميص إلى حوض الحمام، وهناك اندهشت لوجود قالب صابون، فغسلت القميص وعلَّقته على شماعة الباب، ثم غسلتْ يديها على أتم وجه. اضطُرتْ لأن تجففهما في تنورة ثوبها البُني الجديد. كانت قد ارتدت هذا الثوب في حمامٍ آخر — حمام السيدات على متن القطار — قبل ما لا يزيد عن ساعتين أو نحو ذلك. وقد تساءلتْ حينذاك إن كان ينبغي عليها أن تضع على وجهها بعض مساحيق الزينة.
في خزانة الردهة عثرت على لفافة ورق حمام، فأخذتها إلى غرفة نومه من أجل المرة القادمة حين يغلبه السُّعال. التقطَتِ البطانية من الأرض وغطته جيدًا، وأسدلتْ مصاريع النافذة حتى الإطار ورفعت النافذة الصلبة بوصة أو اثنتين، مثبِّتة إياها مفتوحةً بواسطة منفضة السجائر التي أفرغتها. ثم بدَّلتْ ثيابها، بالخارج في الردهة، فنضتْ عن نفسها الثوب البُنيَّ وعادت إلى ثيابٍ قديمةٍ أخرجتها من حقيبتها. سيكون ارتداء ثوبٍ لطيفٍ أو وضع أي قدرٍ من المساحيق الآن أمرًا لا لزوم له.
لم تكن متأكدة من مدى سوء حالته، ولكنها مرَّضَتِ السيدةَ ويليتس — وكانت هي الأخرى مدخنةً شرهة — خلال نوباتٍ عديدةٍ من إصابتها بالتهابٍ شعبي، وفكرت أن بوسعها أن تتدبر أمرها لفترةٍ دون الاضطرار لاستدعاء طبيب. في خزانة الردهة ذاتها وجدت كومةً من مناشف نظيفة، على الرغم من أنها بالية وحائلة اللون، فبللت إحداها ومسحت ذراعيه وساقيه، في محاولةٍ لتلطيف السخونة. وعند ذاك استيقظ بنصف انتباهٍ وعاود السعال من جديد. رفعته وجعلته يبصق في ورق الحمام وتفحَّصت ما بصقه مرةً أخرى ثم ألقت به في مقعد المرحاض وغسلت يديها. لديها الآن منشفة لتجفيفهما. نزلت إلى الطابق الأرضي ووجدتْ كوبًا في المطبخ، كما وجدت أيضًا زجاجةً كبيرة فارغة من جعة الزنجبيل، فملأتها بالماء. ثم حاولت أن تجعله يشربه. احتسى النَّزْر اليسير، متمنعًا، وتركته يرقد. وبعد خمس دقائق أو نحو ذلك كررت المحاولة مجددًا. واصلَتِ القيام بهذا حتى اعتقدت أنه ابتلع أقصى ما يمكنه شربه دون أن يتقيأ.
بين الوقت والآخر كان يسعل فترفعه، وتمسك به بإحدى ذراعيها بينما تُربِّت باليد الأخرى على ظهره لمساعدته على تحرير العبء الرازح على صدره. فتح عينيه عدة مراتٍ وبدا كأنه يتقبَّل وجودها دون توتُّر أو اندهاش، أو حتى امتنان. مسحت جسده بإسفنجةٍ مرةً أخرى، حريصةً على أن تغطيَ بالبطانية على الفور الجزء الذي رطبته للتوِّ من جسده.
لاحظت أن المساء بدأ يحل، فنزلت إلى المطبخ، ووجدت زر النور. كانت الكهرباء تعمل وكذلك الموقد الكهربائي العتيق. فتحت علبة طعامٍ محفوظٍ فيها حساء أرز بالدجاج فسخنته، ثم حملته إلى الطابق الأعلى وأنهضته. ابتلع القليل من الملعقة. استغلَّت فرصة يقظته المؤقتة لتسأله إن كانت لديه قارورة أقراص أسبرين. أومأ برأسه أن نعم، ثم صار متحيرًا للغاية وهو يحاول أن يخبرها بموضعها. قال: «في سلة المهملات.»
قالت: «لا، لا، أنت لا تقصد سلة المهملات.»
«في اﻟ … في اﻟ …»
حاول أن يوضح شكل شيءٍ بيديه. صعدت دموعٌ إلى عينيه.
قالت جوهانا: «لا عليك! لا عليك!»
انخفضت سخونته قليلًا. نام لساعةٍ أو أكثر دون سُعال. ثم ارتفعت درجة حرارته من جديد. في ذلك الوقت كانت قد عثرت على قارورة الأسبرين — كانت في درج المطبخ إلى جانب أشياء من قبيل مفك براغي وبعض لمبات كهربائية وكُرة من الليف المجدول — فأخذت قرصَي أسبرين إليه. سرعان ما انتابته نوبة سعال عنيفة، ولكنها لم تعتقد أن معدته لفظت القرصين. حين رقد وضعت أذنها على صدره وأنصتت لتنفُّسه المجهد كالصفير. كانت قد بحثت من قبلُ عن خردلٍ لِتُعِدَّ له لصقة به، ولكن كان واضحًا أنه لا يوجد شيءٌ منه. نزلت إلى الطابق الأرضي من جديدٍ وسخنت بعض الماء وأحضرته في وعاءٍ كبير. حاولت أن تجعله ينحني فوقه، وهي تظلِّل رأسه بمنشفةٍ كأنها خيمة، بحيث يمكنه أن يستنشق البخار. استجاب لها لدقيقة لا أكثر، ولكن ربما ساعده؛ إذ سعلَ باصقًا كمياتٍ من البلغم.
انخفضتْ درجة حرارته مرة أخرى ونام نومًا أكثر هدوءًا. جرَّت مقعدًا كبيرًا بذراعين وجدته في إحدى الغرف الأخرى ونامت هي الأخرى على نوباتٍ خاطفة، فكانت تصحو وتتساءل أين هي، ثم تتذكر فتقوم وتمسه — بدا أن سخونته آخذة في الانخفاض — وتُسوِّي البطانية جيدًا عليه. أما لتغطية نفسها فقد استعانت بالمعطف الأزلي العتيق بقماشه من صوف التويد الخشن الذي كانت ممتنة للسيدة ويليتس من أجله.
استيقظ وقد مضى جزء من الصباح. قال بصوتٍ خشنٍ وضعيف: «ماذا تفعلين هنا؟»
قالت: «وصلت أمسِ، وأحضرت معي أثاثك. لم يصل إلى هنا بعدُ، ولكنه في الطريق. لقد كنتَ مريضًا حين وصلتُ وبقيتَ مريضًا أغلب الليل. كيف حالك الآن؟»
قال: «أفضل حالًا.» وبدأ يسعل. لم يكن عليها أن ترفعه؛ إذ جلس معتمدًا على نفسه. لكنها اقتربت من الفراش وربتت بقوةٍ على ظهره. حين انتهى، قال لها: «أشكرك.»
كانت بشرته الآن باردة مثل بشرتها تمامًا. باردة وناعمة، بلا شاماتٍ خشنة، ولا دهون. كان بوسعها أن تلمس ضلوع صدره. كان أقرب إلى صبيٍّ رقيقٍ مُبتلًى، وله رائحة مثل رائحة الذرة.
قالت له: «لقد ابتلعت البلغم، لا تفعل ذلك، هذا يضرك. إليك مناديل ورقية، يجب أن تبصق ما على صدرك. إذا ابتلعت البلغم فستؤذي كُليتيك.»
قال: «لم أكن أعرف هذا من قبل. أيمكنك العثور على القهوة؟»
كانت مصفاة القهوة سوداء من الداخل. غسلتها بأفضل ما في وسعها وأعدَّت القهوة. ثم غسلت وجهها وهندمت نفسها، وهي تتساءل أيَّ نوعٍ من الطعام عليها أن تقدم له. في خزانة المعلبات وجدت علبة من مزيج طحينٍ لإعداد البسكويت. في البداية ظنت أن عليها خلطه بالماء، لكنها عثرت على علبةٍ من لبن البودرة كذلك. حين صارت القهوة جاهزة وضعت صينية البسكويت في الفرن.
•••
بمجرد أن سمعها منشغلة في المطبخ، نهض عن فراشه وذهب إلى الحمام. كان أضعف مما ظن؛ واضطُر لأن يميل ويستند بإحدى يديه على خزان الماء. ثم وجد بعض الثياب الداخلية في أرضية خزانة الردهة حيث كان يحتفظ بالثياب النظيفة. كان قد تبين الآن من كانت هذه المرأة. قالت إنها أتت لتحضر له أثاثه، على الرغم من أنه لم يطلب منها أو من أي شخصٍ أن يفعل ذلك؛ لم يرسل في طلب الأثاث على الإطلاق، طلب نقودًا وحسب. لا بد أنه يعرف اسمها، لكنه لم يستطع تذكُّره. لهذا السبب فتح محفظتها، التي كانت على أرض الردهة بجوار حقيبة سفرها. كان هناك اسم مخيط في البطانة من الداخل.
جوهانا باري، والعنوان هو عنوان حَمِيه، في طريق المعرض.
كانت هناك أشياء أخرى؛ كيس من قماشٍ بداخله بضع أوراقٍ نقدية، سبعة وعشرون دولارًا، وكيس آخر للعملات المعدنية، لم يهتم بإحصائها. ثم دفتر ادخارٍ مصرفي أزرق لامع، فتحه دون تفكير، دون أن يتوقع أي شيءٍ غير معتاد.
قبل أسبوعين استطاعت جوهانا أن تُحوِّل كلَّ إرثها من السيدة ويليتس إلى حسابها المصرفي، علاوةً على مبلغ المال الذي ادخرته. شرحت لمدير المصرف أنها لا تعلم متى ستكون بحاجةٍ إليه.
لم يكن المبلغ مُبهرًا، ولكنه كان شيئًا ما، أضفى عليها جوهرًا ما. في عقل كين بودرو، أضفى هذا على اسم جوهانا باري غلافًا خارجيًّا بالغ النعومة.
حين رجعت بصينية القهوة، قال لها: «أكنتِ ترتدين ثوبًا بنيَّ اللون؟»
«نعم، صحيح. حين وصلتُ إلى هنا في البداية.»
«ظننتُ أنني كنتُ أحلم. لقد كنتِ أنتِ.»
فقالت جوهانا: «كما في حلمك الآخر!» وقد الْتمع جبينها المنقط بالنمش. لم يدرِ عمَّ كانت تتحدث ولم يملك الطاقة الكافية ليستفسر. لعله حلمٌ آخر أيقظه بينما كانت هي هنا في الليل؛ حلمٌ لا يتذكره الآن. عاوده السعال على نحوٍ أكثر اعتدالًا، فناولته بعض المناديل الورقية.
قالت: «والآن، أين ستضع صينية قهوتك؟» دفعت للأمام قليلًا المقعدَ الخشبيَّ الذي حرَّكته ليسهل عليها الوصول إليه. قالت: «ها هنا.» رفعته من تحت إبطيه وسندت ظهره بوسادةٍ من ورائه، وسادة متسخة، دون كيسٍ يغطيها، لكنها كانت قد غطَّتها ليلة أمسِ بمنشفة.
«أيمكنكِ أن تَرَيْ إن كان يوجد أي سجائر بالطابق الأرضي؟»
هزَّت رأسها نفيًا، ولكنها قالت: «سأبحث لك. لقد وضعت بسكويتًا في الفرن.»
•••
كان في طبع كين بودرو عادة اقتراض النقود، وإقراضها سواءً بسواء. أغلب المشكلات التي حلَّت به — أو لنقُل إنه تورَّط فيها — كانت من جرَّاء عدم قدرته على أن يرفض لصديقٍ طلبًا. الإخلاص. لم تتم معاقبته بالتسريح من القوات الجوية في زمن السلم، لكنه اضطُر للاستقالة نتيجةً لإخلاصه لصديقٍ ناله التوبيخ لإقدامه على إهانة أحد الضباط الأعلى رتبةً في حفلٍ صاخب. في حفلٍ كهذا، حيث يفترض بكل شيءٍ أن يكون مجرد مزحةٍ ولا يأخذ أحد الأمر على محمل الإساءة، لم يكن هذا إنصافًا. ثم إنه فقد وظيفته في شركة الأسمدة لأنه أخذ إحدى شاحنات الشركة وعبر بها الحدود الأمريكية دون تصريح، في يوم إجازة، لِيُقِلَّ من هناك صاحبًا له تورَّط في عراكٍ وخاف من القبض عليه وتوجيه اتهام له.
جزءٌ لا ينفصل بالمرة عن إخلاصه لأصدقائه كان صعوبة تعامله مع رؤسائه في العمل. كان يُقِرُّ بأنه وجد صعوبةً في الإذعان والطاعة. «نعم يا سيدي»، و«لا يا سيدي» لم تكن من العبارات الحاضرة في مخزونه اللغوي. لم يتم فصله من شركة التأمينات، غير أنهم تخطَّوه في الترقيات مراتٍ عديدةً للغاية بحيث بدا الأمر كما لو أنهم يتحدَّوْنه ليستقيل، وقد استقال في نهاية الأمر.
لا بد من الاعتراف بأن الشراب لعب دورًا في ذلك كله، وكذلك فكرة أن الحياة لا بد أن تكون مغامرة بطولية أكثر مما كانت تبدو عليه في ذلك الوقت.
راق له أن يخبر الناس في لعبة بوكر بأنه امتلك الفندق. غير أنه لم يكن مقامرًا بالمعنى الكامل، ولكن النساء كان يطيب لهن رنين عبارةٍ كتلك. لم يعترف بأنه أخذ الفندق — دون حتى أن يُلقيَ نظرةً عليه — سدادًا لأحد الديون. وحتى بعد أن رآه قال لنفسه إنه من الممكن أن يتم إنقاذه من الخراب. جذبته فكرة أن يكون هو سيِّدَ نفسه في العمل. لم يرَ فيه مكانًا يصلح لإقامة الناس، اللهم إلا الصيادين في فصل الخريف. رأى فيه مكانًا لاحتساء الشراب ومطعم. فقط إن استطاع توظيف طاهٍ جيد. ولكن قبل أن يتمكَّن من إحراز أي شيءٍ معقولٍ لا بد من إنفاق بعض المال وإنجاز بعض العمل، أكثر مما يمكن له بمفرده القيام به، على الرغم من أنه لا يفتقد البراعة في الأعمال اليدوية. إن استطاع فقط أن يجتاز الشتاء، وأن يُنجز أقصى ما يمكنه بمفرده، مبرهنًا على نواياه الحسنة، فكَّر أنه ربما يكون بوسعه أن يحصل على قرضٍ من البنك. ولكنه كان بحاجةٍ إلى قرضٍ أصغر حتى يمكنه تجاوز فصل الشتاء، وهذه هي اللحظة التي دخل فيها حموه إلى الصورة. كان يفضل أن يجرب اللجوء إلى شخصٍ آخر، ولكن ما من أحدٍ قد يتوافر لديه مال فائض بهذه السهولة.
اعتقد أنها فكرة جيدة أن يصوغ الْتماسه في صورة اقتراحٍ ببيع الأثاث، وهو الأمر الذي كان يعلم أن العجوز لن يحرك قدميه أبدًا للقيام به. كان مدركًا، ليس على وجهٍ تام التحديد، استدانته قروضًا من الماضي ما زالت دون سداد، لكنه كان يعتبر أنه يستحقها تمامًا، من أجل مساندته لمارسيل خلال فترة السلوك السيئ (سلوكها هي، في وقتٍ لم يكن هو قد بدأ يسلك مثلها) ومن أجل تَقبُّله لسابيتا باعتبارها ابنته في حين كان لديه شكوكه الخاصة. كما أن آل ماكولي كانوا هم الأشخاص الوحيدين الذين يعرفهم ولديهم من المال ما لا يمكن لأي شخصٍ على وجه الأرض الآن أن يكسبه.
«أحضرتُ معي أثاثك.»
لم يكن بمقدوره أن يتبين ما الذي قد يعنيه ذلك بالنسبة إليه في الوقت الراهن. كان منهكًا للغاية. كان يرغب في النوم أكثر من رغبته في الطعام حين عادت بالبسكويت (ومن دون سجائر). ولكي يُرضيَها أكل نصف واحدة، ثم أخذه النوم في الحال. استيقظ بنصف انتباهٍ فقط حين أدارته على أحد جنبيه، ثم الآخر، لكي تستخرج الملاءة المتسخة من تحته، ثم تفرش أخرى نظيفة، وتديره عليها من جديد، كل ذلك دون أن تجعله ينهض من الفراش أو يستيقظ تمام اليقظة.
قالت له: «وجدتُ ملاءة نظيفة، لكن مهلهلة مثل خرقة، كانت رائحتها غير طيبة، فعلقتُها على الحبل لوهلة.»
فيما بعدُ أدرك أن الصوت الذي سمعه لوقتٍ طويلٍ في حلمه لم يكن إلا صوت الغسالة. تساءل كيف أمكنها ذلك؛ فسخان الماء معطوب. لا بد أنها سخنت آنية من الماء على الموقد. وبعد ذلك أيضًا، سمع الصوت المميز لسيارته تدور وتنطلق مبتعدة. لا شك أنها أخذت المفاتيح من جيب سرواله.
ربما تكون آخذة في الابتعاد الآن بالشيء الوحيد الذي يملكه وله قيمة ما، متخليةً عنه، دون أن يكون بمقدوره حتى الاتصال بالشرطة للقبض عليها؛ فالهاتف بلا حرارةٍ حتى لو استطاع النهوض والوصول إليه.
كان ذلك احتمالًا قائمًا على الدوام — السرقة والفرار — ومع ذلك فقد أدار جسمه على الملاءة النظيفة، التي فاحت برائحة رياح مروجٍ وعشبٍ أخضر، وعاد لنومه، واثقًا أنها فقط ذهبت لشراء بعض الحليب والبيض والزبد والخبز ومؤنٍ أخرى — بل وسجائر أيضًا — من ضرورات الحياة الكريمة، وأنها سوف تعود وتنهمك في مشاغلها بالطابق الأرضي وأن صوت نشاطها سوف ينسج من تحته شبكة، منحة من السماء، هبة من الواجب قبولها.
في حياته حاليًّا ثَمَّةَ مشكلة تخص امرأة، امرأتين في الواقع، شابة وأخرى أكبر سنًّا (أي في مثل سِنِّه تقريبًا) وكلٌّ منهما تعلم بوجود الأخرى وكلُّ واحدة مستعدة لاقتلاع شعر الأخرى. كل ما حصل عليه منهما مؤخرًا كان العواء والشكوى، مع وقفاتٍ في الأثناء لتأكيدهما الغاضب بأنهما تحبانه.
ربما يكون قد وصل إلى عتبة داره حلٌّ لذلك أيضًا.
•••
حين كانت تشتري البقالة في المتجر سمعت جوهانا صوت قطار، وحين عادت بالسيارة إلى الفندق رأت سيارة متوقفة عند محطة القطار. وحتى من قبل أن توقف سيارة كين بودرو رأت حاويات الأثاث مكومة على الرصيف. تحدثت إلى ناظر المحطة — كانت هذه هي سيارته هناك — وكان مندهشًا ومغتاظًا لوصول كل تلك الحاويات الضخمة. حين استخلصت منه اسم رجلٍ لديه شاحنة — شاحنة نظيفة، كما أصرت — يعيش على بُعْد عشرين ميلًا وأحيانًا يقوم بنقل الأشياء، استخدمت هاتف المحطة للاتصال بالرجل كي يحضر، بكلام نصفه رشوة ونصفه أمر. ثم ألحَّت على ناظر المحطة بأن عليه أن يبقى إلى جانب الحاويات حتى وصول الشاحنة. بحلول أول المساء كانت الشاحنة قد جاءت، وقام الرجل وابنه بإنزال كلِّ الأثاث وحمله إلى داخل الغرفة الرئيسية للفندق.
في اليوم التالي ألقت نظرة متفحصة في أنحاء المكان. كانت تتدبر الأمر لتتوصل إلى قرار.
في اليوم التالي له ارتأت أن كين بودرو صار بمقدوره الجلوس والاستماع إليها، فقالت: «هذا المكان إسفنجة سوف تمتص المال كأنه الماء ولا تشبع. البلدة على وشك التداعي. ما يجب عمله هو استخراج أي شيءٍ قد يجلب أي نقودٍ وبيعه. لا أقصد بهذا الأثاث الذي تم شحنه، أقصد أشياء مثل منضدة البلياردو وموقد المطبخ. ثم علينا بيع المبنى لشخصٍ يمكنه أن ينزع الصفيح عنه كي يبيعه خُردة. هناك دائمًا طريقة للانتفاع بأشياء لم تكن تتخيل أن لها أيَّ قيمة. بعد ذلك، ما الذي كنت تفكر في القيام به قبل أن تمتلك الفندق؟»
قال إنه ساورته فكرةٌ ما للذهاب إلى كولومبيا البريطانية، تحديدًا إلى سالمون آرم، حيث له صديق أخبره ذات مرةٍ بأن بوسعه أن يحظى هناك بوظيفةٍ في إدارة بساتين الفاكهة. ولكنه لم يستطع الذهاب لأن السيارة كانت بحاجةٍ إلى إطاراتٍ جديدةٍ وإصلاحاتٍ أخرى قبل أن يمكنه الشروع في رحلةٍ طويلة، وكان ينفق كل ما يملك ليعيش. ثم وقع هذا الفندق بين يديه.
فقالت: «مثل طنٍّ من الحجارة. إن إصلاح السيارة وتزويدها بالإطارات سيكون استثمارًا أفضل من ابتلاع هذا المكان لكل ما يُرمى فيه. ستكون فكرة صائبة أن نسافر إلى هناك قبل سقوط الجليد. ونشحن الأثاث بالقطار مرةً أخرى، لننتفع به حين نصل إلى هناك. لدينا كل ما يلزمنا لنؤثث بيتًا.»
«قد يتضح أنه لم يكن عرضًا نهائيًّا.»
فقالت: «أعرف. لكن ستكون الأمور على ما يرام.»
فَهِم أنها كانت واثقة أنهما سيكونان على ما يرام، هكذا كان الأمر وهكذا سيكون. بوسعك القول إن حالةً كحالته كانت أنسب ما يكون لها.
ليس معنى هذا أنه لن يكون ممتنًّا لها. كان قد بلغ نقطةً لا يُعَدُّ فيها الامتنان عبئًا، بل كان طبيعيًّا؛ لا سيما حين لا يطالبنا به أحد.
كانت أفكار تجديد الدم قد بدأت تساوره. هذا هو التغيير الذي أحتاج إليه. كان قد قال ذلك من قبلُ، ولكن بالطبع كان هذا هو الوقتَ الذي سيصير فيه هذا القول حقيقة. «كل ما نحتاجه لنصنع بيتًا.»
•••
كان لديه كبرياؤه، هكذا فكَّرتْ. يجب وضع هذا في الحسبان. ربما يكون من الأفضل ألا تذكر بالمرة أمر تلك الرسائل التي كشف فيها عن دخيلته لها. قبل أن تسافر كانت قد تخلَّصت منها. في الحقيقة كانت تتخلَّص من كل رسالةٍ منها بمجرد أن تقرأها مراتٍ كافيةً لتحفظها عن ظهر قلب، ولم يكن هذا يستغرق وقتًا طويلًا؛ فالأمر المؤكد بالنسبة إليها هو ضرورة ألا تقع تلك الرسائل بين أيدي سابيتا وصاحبتها الداهية. وخصوصًا الجزء الخاص بثوب نومها، وقراءتها للرسالة في فراشها. لم تكن هذه من قبيل الأشياء التي لا يمكن تقبُّلها، ولكن قد يكون من الفجاجة أو الحمق أو مدعاة للسخرية وضعُها على الورق.
تشكَّكتْ في أنهما قد يريان سابيتا كثيرًا. ولكنها لن تعارضه أبدًا، إذا كان هذا هو ما أراده.
لم تكن هذه تجربة جديدة حقًّا، هذا الشعور النَّشِط بالتوسع والمسئولية. لقد شعرت بشيءٍ مثل هذا تجاه السيدة ويليتس؛ شخص آخر طائش، جميل المظهر، في حاجةٍ لمن يرعاه ويدبر شئونه. اتضح أن كين بودرو كان أكثر مما تهيأتْ له من هذا الناحية، وكانت هناك الفروق الواجب توقُّعها بالنسبة إلى رجل، لكن الأكيد أنه لم يكن فيه أي شيءٍ لا يمكنها الاضطلاع به.
بعد السيدة ويليتس ظلَّ فؤادها جافًّا، وحسبت أنه قد يظل هكذا دائمًا وأبدًا. والآن جاء ذلك الاضطراب الدافئ، وتلك المحبة النشطة.
•••
تُوفِّي السيد ماكولي بعد عامين من رحيل جوهانا. كانت جنازته هي آخر جنازةٍ أقيمت في الكنيسة الأنجليكانية. حضر فيها جمعٌ لا بأس به. سابيتا — التي أتت مع بنت عمِّ أمها، سيدة تورونتو — وقد صارت الآن مكتفية بذاتها ونحيفة نحافة جميلة وملحوظة وعلى نحوٍ غير متوقَّع. ارتدت قبعة سوداء متقنة الصنع ولم تتحدث إلى أي شخصٍ قبل أن يبادرها هو بالحديث أولًا. وحتى عندئذٍ، لم تكن تبدو أنها تتذكر أحدًا.
خبر الوفاة الذي نُشر في الجريدة قال إن السيد ماكولي شيَّعته حفيدته سابيتا بودرو وزوج ابنته كين بودرو، وزوجته السيدة جوهانا بودرو، بصحبة طفلهما عُمَر، وقد أتوا من سالمون آرم، كولومبيا البريطانية.
قرأت والدة إديث هذا الخبر بصوتٍ مسموع؛ إذ لم تكن إديث تُلقي نظرة بالمرة على الصحيفة المحلية. بالطبع لم يكن الزواج خبرًا جديدًا بالنسبة إلى أيٍّ منهما، أو بالنسبة إلى والد إديث، الذي كان في ركن الغرفة الأمامية يشاهد التليفزيون. لم يُعرها أحدٌ جوابًا. الخبر الجديد كان عُمر.
قالت أم إديث: «لقد أنجبت طفلًا!»
كانت إديث تقوم بواجب الترجمة اللاتينية على مائدة المطبخ.
في الكنيسة كانت قد احتاطت ألا تبادر سابيتا بالحديث أولًا، ما لم تتحدث سابيتا إليها.
لم تعد خائفة، كما كانت، من انكشاف أمرهما، على الرغم من أنها ما زالت لا تفهم سبب عدم انكشافه. بطريقةٍ ما، بدا الأمر الوحيد الملائم هو ألا تجتمع عجائب ذاتها السابقة بذاتها الراهنة بأي رابطة، ناهيك عن ذاتها الحقيقية التي كانت تتوقع أنها سوف تمسك بالزمام بمجرد أن تخرج من هذه البلدة وتبتعد عن جميع الناس الذين ظنوا أنهم قد عرفوها. ما أفزعها حقًّا هو المنعطف الكامل للعواقب؛ فقد بدا خياليًّا، ولكنه باهت وبليد كذلك، بل ومهين أيضًا، مثل مزحةٍ من نوعٍ ما أو تحذيرٍ أحمق، يحاول أن يشبك خطاطيفه بداخل نفسها. فأين إذنْ في قائمة الأشياء التي خطَّطت لإنجازها في حياتها، كان مخبَّأً أي ذكرٍ لأن تكون مسئولة عن وجود نفسٍ على هذه الأرض لصبيٍّ يُدعى عُمر؟
تجاهلت أمها، وكتبت الترجمة للجملة اللاتينية: «إياك وأن تسأل! فمن المحظور علينا أن نطلع …»
توقفت قليلًا وهي تمضغ قلم الرصاص، ثم أكملت الجملة برعدةٍ من الرضا: «أن نطلع على ما خبَّأه القدر لي أو لك …»