المقايضة
حكى لهما ليونيل كيف ماتت أمه.
كانت قد طلبتْ منه أن يحضر مساحيق زينتها. أمسك لها ليونيل بالمرآة.
قالت: «ما هي إلا ساعة تقريبًا.»
كريم الأساس، بُدْرة الوجه، قلم رسم الحواجب، المسكرة، قلم تخطيط الشفاه، طلاء الشفاه، حُمرة الوجه. كانت بطيئة ومرتعشة، ولكنها أتمَّتْ عملًا جيدًا.
قال ليونيل: «لم يستغرق منكِ ذلك ساعة.»
فقالت لا، إنها لم تكن تقصد ذلك.
كانت تقصد، ساعةٌ ثم تموت.
سألها إذا كانت تريده أن يتصل بأبيه. أبوه، زوجها، كاهنها.
فقالت: ولأي سبب؟
وفقًا لنبوءتها، كان قد تبقى لها خمس دقائق فقط أو نحوها.
•••
كانوا جالسين وراء المنزل — منزل لورنا وبريندان — على شرفة صغيرة تشرف على خليج بورارد وأضواء حي بوينت جراي. نهض بريندان ليحرك رشاشات الماء إلى بقعةٍ أخرى من العشب.
كانت لورنا قد التقت بوالدة ليونيل منذ أشهر قليلةٍ فقط. سيدة جميلة ضئيلة الحجم بيضاء الشعر ذات سحرٍ جسور، كانت قد أتت إلى فانكوفر من بلدةٍ تقع في سلسلة جبال روكي، لتشاهد فرقة الكوميدي فرانسيز في جولتها الفنية. طلب ليونيل من لورنا أن ترافقهما. بعد انتهاء العرض، وبينما كان ليونيل يمسك المعطف المخملي الأزرق مفتوحًا لترتديه أمه، قالت الأم للورنا: «أنا سعيدة جدًّا بمقابلة صديقة ابني الجميلة.» (ونطقت ذلك الوصف بالفرنسية.)
فقال ليونيل: «ليتنا لا نفرط في استعمال اللغة الفرنسية!»
لم تكن لورنا حتى متأكدة من معنى الوصف. صديقة جميلة؟ عشيقة؟
رفع ليونيل حاجبَيْه ناظرًا إليها، من وراء رأس والدته. كما لو كان يقول، أيًّا كان ما قالته أمه، فهو ليس خطأه.
كان ليونيل في وقتٍ ما واحدًا من طلاب بريندان في الجامعة، عبقريًّا خامًا، في سن السادسة عشرة. أذكى العقول الرياضية التي رآها بريندان في حياته كلها. تساءلت لورنا، وقد فطنت إلى ذلك بأثر رجعي، إن كان بريندان يبالغ في هذا الموضوع؛ نظرًا لكرمه غير المعتاد نحو الموهوبين من طلابه، وأيضًا نظرًا لما آلتْ إليه الأمور فيما بعدُ. كان بريندان قد أدار ظهره للحزمة الأيرلندية برمتها — أسرته وكنيسته والأغنيات العاطفية — ومع ذلك ظل يخالجه ضعفٌ أمام أي حكاية ذات طبيعة مأساوية. بطبيعة الحال، وبعد انطلاقة ليونيل المتوهِّجة، عانى انهيارًا من نوعٍ ما، واضطر للبقاء في مستشفًى للرعاية، وابتعد عن الأبصار، حتى الْتقى به بريندان في السوبر ماركت واكتشف أنه كان يعيش على بُعْدِ ميلٍ واحدٍ من منزلهما، هنا في شمال فانكوفر. كان قد هجر الرياضيات تمامًا واشتغل في مكتب النشر التابع للكنيسة الأنجليكانية.
قال له بريندان: «تعالَ لرؤيتنا!» بدا ليونيل له في حالةٍ رثَّة، ووحيدًا. «تعالَ وقابلْ زوجتي!»
كان مسرورًا بأن يكون له الآن بيت، وأن يدعو الناس إليه.
«الحقيقة لم أعرف ما الذي ستكونين عليه.» هكذا قال ليونيل وهو يحكي للورنا عن هذا، «افترضتُ أنكِ قد تكونين شنيعةً.»
قالت لورنا: «يا إلهي! ولكن لماذا؟»
«لا أدري. الزوجات، وهكذا.»
كان يأتي لرؤيتهما في الأمسيات، بعد أن يأوي الأطفال إلى أَسِرَّتهم. كانت أهون مقاطعات الحياة المنزلية — مثل صيحة طفلٍ تتناهى إليهم عبرَ نافذةٍ مفتوحة، أو حين يوبِّخ بريندان لورنا أحيانًا لتَرك لعب الأولاد مرميةً على العشب، بدلًا من جمعها في صندوق الرمل، أو حين ينادي لها من المطبخ يسألها إن كانت قد تذكرت شراء الليمون الحامض من أجل شراب الجين والتونيك — تبدو وكأنها تسبِّب رعدةً لليونيل، وتوترًا يسري في جسده الطويل الهزيل ووجهه المتحمس القليل الثقة فيما حوله. كان لا بد أن تكون هناك وقفة صمت عندئذٍ، نقلة للرجوع إلى درجة ذات قيمة من التواصُل الإنساني. مرة كان يترنم، بخفوتٍ بالغ، بلحن أغنية «أوه تانينباوم» (أغنية ألمانية فلكورية ارتبطت بشجرة عيد الميلاد والحياة الأسرية الحميمة)، أو أغنية «آه يا حياة الزوجية، آه يا حياة الزوجية»، وابتسم في الظلام ابتسامة خفيفة، أو ظنت لورنا أنه ابتسم. بدتْ لها هذه الابتسامة مثل ابتسامة ابنتها إليزابيث ذات الأربعة الأعوام، عندما كانت تهمس في أذن أمها بملاحظة معيبة إلى حدٍّ ما في مكانٍ عام. ابتسامة سرية صغيرة، راضية، ومُنذِرة بطريقةٍ ما.
كان ليونيل يقطع التل صعودًا على دراجته الهوائية المرتفعة العتيقة الطراز، في زمنٍ لا يكاد يركب فيه الدراجاتِ الهوائيةَ إلا الأطفال. لم يكن يبدِّل ثيابَ يومِ عمله. سروال داكن اللون، وقميص أبيض دائمًا ما بدا متسخًا متآكِلًا حول طرف الكمين والياقة، ورابطة عنق بلا ملامح. حين كان عليهم الذهاب لمشاهدة فرقة الكوميدي فرانسيز اضطر إلى أن يضيف إلى هذا سترة من قماش التويد الصوفي، كانت أوسع من اللازم عند الكتفين وأقصر من اللازم عند الكُمين. ربما لم يكن يملك أي ثيابٍ أخرى.
قال: «إنني أكدح في مقابل حد الكفاف. ليس حتى في كروم الرب، في أبرشية رئيس الأساقفة.»
وقال: «أحيانًا أشعر أنني في روايةٍ لديكنز. والأمر المضحك أنني حتى لا أميل لديكنز!»
كان يتحدَّث ورأسه مائل إلى الجانب، غالبًا، وهو يحدق في شيءٍ ما وراء رأس لورنا بقليل. كان صوته خفيفًا وسريعًا، وأحيانًا يصير رفيعًا وحادًّا في نوعٍ من الابتهاج المتوتر. كان يحكي كل شيءٍ باندهاش قليلًا. حكى عن المكتب حيث يعمل، في المبنى الذي يقع وراء الكاتدرائية؛ النوافذ الصغيرة العالية ذات الطراز القوطي والأشغال الخشبية المصقولة (لإضفاء الإحساس الكَنَسي على المكان)، وحامل لتعليق القبعات وآخر لوضع المظلات (الذي كان لسببٍ ما يملؤه بكآبة عميقة)، وكاتبة الآلة الكاتبة جانين، ومحررة صحيفة الكنيسة السيدة بينفاوند، ورئيس الأساقفة الذي يظهر عَرَضًا بين حينٍ وآخر، بحضوره الشبحي وشرود لُبِّه. كانت هناك معركة لم تتحدد نتيجتها قطُّ حول أكياس الشاي الصغيرة، ما بين جانين التي كانت تفضِّلها، والسيدة بينفاوند التي لم تكن تفضِّلها. كان الجميع يلوك مأكولاتٍ سرية لا تتم مشاركتها بالمرة، بالنسبة إلى جانين كانت حبات الكراميل، وليونيل نفسه كان يميل إلى اللوز المُحلى بالسكر. لكنه لم يستطع أن يكتشف هو وجانين ما هي اللذة السرية التي تلوكها السيدة بينفاوند؛ لأنها لم تكن تضع أغلفة أطعمتها الخفيفة في سلة المهملات. غير أن فكَّيْها كانا على الدوام مُنشغِلَيْن خِلسةً.
ذكرَ المستشفى الذي نزل فيه مريضًا لفترةٍ، وتحدَّث عن نواحي الشَّبه بينه وبين المكتب، فيما يتعلَّق بالمأكولات السرية، وبالأسرار عمومًا. ولكن كان الفارق أنه يحدث مرةً كلَّ فترة في المستشفى أن يأتوا ويقيدوك وينزعوا ثيابك ثم يوصلوا جسدك، كما قال، بمقبس النور.
«كان ذلك مشوِّقًا فعلًا. الحقيقة أنه كان عذابًا، ولكني لا أستطيع وصفه. هذا هو الجانب العجيب؛ أستطيع أن أتذكَّره ولا أستطيع وصفه!»
وبسبب تلك الأحداث في المستشفى، قال إنه كان يعاني درجة من قلة الذكريات، قلة التفاصيل. وراق له أن تحكي له لورنا عن ذكرياتها.
حكتْ له عن حياتها قبل أن تتزوج من بريندان؛ عن المنزلَيْن المتطابقيْن تمامًا، والقائميْن جنبًا إلى جنب في البلدة التي نشأت فيها، وقبالتهما كان هناك مجرًى عميق يُسمَّى مصرف الصبغة؛ لأنه كان يُستخدَم لتصريف المياه الملونة بالصبغة من مصنع التريكو، ووراءهما كان هناك مرج النباتات البرية حيث يُحظر على الفتيات أن يذهبن إليه. كانت تعيش مع أبيها في أحد المنزلين، وفي الآخر عاشت جدتها وعمتها بياتريس وابنة عمتها بولي.
كانت بولي بلا أب. ذلك ما كانوا يقولونه وما صدَّقته لورنا ذات مرة من قلبها. بولي بلا أب، على غرار قولنا إن القطة مانكس بلا ذيل.
في الغرفة الأمامية من بيت جدتها كانت هناك خريطة للأرض المقدسة، يتسم الصوف الذي صُنِعت منه بظلال عديدة، تستعرض المواقع الواردة في الكتاب المقدس. وقد أوصتْ جدتها بأن تُوهب بعد موتها لمدرسة الأحد الخاصة بالكنيسة المتحدة. لم يكن للعمة بياتريس أي حياة اجتماعية تتعلَّق برجلٍ ما، منذ زمن عارها الذي مُحِيَتْ وصمته، وكانت صعبة الإرضاء للغاية، ينهشها حرصٌ مستبسل على أسلوب الحياة القويم، بحيث كان من اليسير حقًّا الاعتقاد بأنها قد حبلتْ ببولي وهي عذراء بلا دَنَس. الشيء الوحيد الذي تعلَّمَتْه لورنا من العمة بياتريس هو أن عليها دائمًا أن تضغط قُطَب الخياطة من الجنب، دون أن توسعها أكثر من اللازم، بحيث لا تظهر علامة المكواة عليها، وأيضًا أنه يجب عدم ارتداء بلوزة شفافة القماش إلا بعد ارتداء ما يستر ما تحتها بحيث يُخفِي شرائط حمَّالة الصدر.
قال ليونيل: «آه، نعم، صحيح.» وفرد ساقَيْه كما لو أن امتنانه بالحكاية قد بلغ حتى أصابع قدمَيْه. «ماذا عن حال بولي في هذا الجو المنزلي الظلامي؟ كيف كانت بولي نفسها؟»
بولي كانت على خير ما يُرام، هكذا قالت لورنا. ممتلئة بالطاقة واجتماعية، طيبة القلب، واثقة من ذاتها.
قال ليونيل: «آه، احكي لي من جديد عن المطبخ.»
«أي مطبخ؟»
«ذلك الذي لا يوجد فيه كناري.»
«مطبخنا!» وصفتْ له كيف فركت المطبخ كله بأوراق لف الخبز المشمعة لتجعله لامعًا، الأرفف المسودَّة وراءه التي تحمل المقالي، الحوض والمرآة الصغيرة أعلاه التي بها قطعة مفقودة من أحد الأركان على شكل مُثلث، والحوض القصديري الصغير من تحتها — الذي صنعه والدها — الذي كان فيه على الدوام مشط، ماسك الأقداح الساخنة القديم، علبة حُمرةِ الوجه الجافة الصغيرة للغاية التي لا بد أنها كانت خاصة بأمها ذات يوم.
حكت له عن الذكرى الوحيدة التي تحتفظ بها عن أمها. كانت في وسط المدينة بصحبة أمها في يوم شَتوي، كان هناك ثلج ما بين رصيف المُشاة والشارع، وكانت قد تعلَّمتْ للتوِّ قراءة الوقت، وتطلَّعتْ نحو ساعة مكتب البريد الكبيرة ورأت أنه قد حان وقت المسلسل الدرامي الممتد الحلقات التي كانت هي وأمها تستمعان إليه كلَّ يوم عبر الراديو. شعرت بقلقٍ عميق، ليس بسبب ضياع قصة المسلسل عليها؛ ولكن لأنها تساءلتْ عن مصير الأشخاص من أبطال القصة، والراديو مُطفَأ وهي وأمها لا تستمعان إليه. كان ما شعرتْ به أكثر من مجرد قلق، كان ذُعْرًا، أن تفكِّر في الطريقة التي يمكن للأشياء بها أن تُفقَد، أو أن تُمنَع من الحدوث، لمجرد غيابٍ طارئ أو مصادفة عابرة.
وحتى في تلك الذكرى، كانت أمها مجرد فخذ وكتف، بداخل معطفٍ ثقيل.
قال ليونيل إن معرفته بوالده لا تزيد كثيرًا عن تلك الدرجة من معرفتها بأمها، على الرغم من أن أباه ما زال حيًّا. حفيف ردائه الكهنوتي الأبيض؟ اعتاد ليونيل وأمه أن يتراهنا حول طول الفترات التي يمكن لأبيه أن يمضيها دون أن يتحدَّث إليهما. كان قد سأل والدته ذات مرة عمَّا قد يثير غضبة أبيه، فأجابته بأنها حقًّا لا تدري!
قالت: «أظن أنه ربما لا يحب وظيفته.»
قال ليونيل: «ولماذا لا يجد لنفسه وظيفة أخرى؟»
«ربما لا يمكنه التفكير في وظيفةٍ يمكنه أن يحبها.»
ثُم تذكر ليونيل حين اصطحبته أمه إلى المتحف وأثار مرأى المومياوات الذعرَ في نفسه، وأنها قد قالت له إنهم ليسوا بموتى حقًّا، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من تلك الصناديق إلا حين ينصرف الجميع إلى بيوتهم. قال «أليس من الممكن أن يكون مومياء؟» حسبت أمه أنه قال «أم» وليس «مومياء». وفيما بعدُ ردَّدَتْ هذه القصةَ باعتبارها مزحةً، وكان هو مُحبَطًا للغاية، في حقيقة الأمر، إلى درجة تمنعه من تصحيح خطئها، محبطًا للغاية، في سِنِّه المبكرة، حيال مشكلة التواصل الهائلة تلك.
كانت هذه من بين الذكريات القليلة التي بقيت معه.
ضحك بريندان على هذه القصة أكثر مما فعل كلٌّ من لورنا وليونيل. كان بريندان يجلس إليهما لبُرهة، ويقول: «فيمَ تثرثران أنتما الاثنان؟» وبعد ذلك ينهض، بشيءٍ من الارتياح كأنما قد أدَّى ما عليه في الوقت الراهن، قائلًا إن لديه عملًا ليقوم به، ويذهب إلى داخل المنزل، كما لو كان سعيدًا بالصداقة التي نشأتْ بينهما، الصداقة التي تنبَّأ بها بطريقةٍ ما وساهَمَ في تحقيقها، غير أن حديثهما كان يثير ضجره.
كان قد قال للورنا: «من المفيد له أن يأتي إلى هنا ويصير إنسانًا طبيعيًّا لفترةٍ بدلًا من أن يحبس نفسه في غرفته، وهو يشتهيكِ بكل تأكيد. المراهق المسكين!»
كان يروق له أن يقول إن الرجال تشتهي لورنا. وعلى الخصوص عند حضورهما حفلة من حفلات القسم الذي يدرِّس فيه، فتكون هي صغرى الزوجات هناك. كان يُحرِجها أن يسمعه أيُّ شخص وهو يقول ذلك؛ خشيةَ أن يظنوا في ذلك تزيدًا أحمق أو أمنيةً مستترة. ولكن في بعض الأحيان، وخصوصًا حين تكون ثَمِلة قليلًا، كان يثيرها ذلك جنسيًّا تمامًا كما يثير بريندان؛ أن تكون موضع إعجاب ورغبة عامة هكذا. ومع ذلك، ففي حالة ليونيل كانت على يقين أن ذلك ليس صحيحًا، وتمنَّتْ بشدة ألَّا يلمِّح بريندان بشيءٍ من هذا في حضوره. تذكَّرت النظرة التي رنا بها إليها من وراء رأس أمه. كان ثمة تنصُّل ونفي، تحذيرٌ لطيف.
لم تُطلِع بريندان على مسألة القصائد. مرةً كلَّ أسبوع أو نحو ذلك كانت تصل إليها قصيدة محكمة الإغلاق في مظروفها، عن طريق البريد. لم تكن تلك القصائد بيد مجهول، بل موقَّعةً باسم ليونيل. كان توقيعه مجرد خربشة غامضة، من الصعب حقًّا تبيُّنه، ولكن هكذا أيضًا كانت كل كلمة في كل قصيدة منها. لحسن الحظ، لم يكن هناك الكثير للغاية من الكلمات — أحيانًا دستة أو دستتان إجمالًا — تمتد على طول الصفحة، شاقةً طريقًا غريبًا بلا انتظام، وكأنها مساراتُ طائرٍ كثير التردُّد والحيرة. بنظرةٍ أولى عجلى لم يكن بوسع لورنا أن تفهم أي شيءٍ على الإطلاق؛ وجدَتْ أن أفضل حلٍّ هو ألَّا تحاول بشدة أكثر من اللازم، وأن تمسك فقط بالورقة أمامها وتنعم النظر إليها مطولًا وفي ثبات كما لو كانت قد سبحتْ في غشية. بعد ذلك غالبًا ما كانت تتضح الكلمات وتظهر. ليس كلها — كانت هناك كلمتان أو ثلاث في كل قصيدة لا تستطيع أبدًا فك شفرتها — ولكن ذلك لم يكن مهمًّا للغاية. لم تكن هناك علامات ترقيم، وإنما شَرطات صغيرة أفقية. كانت أغلب المفردات أسماء. لم يكن الشِّعر شيئًا غريبًا على لورنا، كما أنها لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولةٍ أمام أي شيء لا تفهمه سريعًا، ولكنها شعرت إزاء قصائد ليونيل تلك بما كانت تشعر به تقريبًا إزاء الديانة البوذية مثلًا؛ بأنها كانت مَنهلًا مهمًّا قد تصير قادرةً على فهمه، والتزوُّد منه، مستقبلًا، ولكن لا يمكنها فعل ذلك في الوقت الراهن.
بعد أولى القصائد عذبها السؤال حول ما ينبغي عليها أن تقوله. شيءٌ يدل على التقدير، ولكن ليس غبيًّا. كل ما تدبَّرَتْه كان: «شكرًا على القصيدة.» عندما كان بريندان أبعد من أن يسمعها. منعت نفسها من أن تقول: «استمتعتُ بها.» أومأ ليونيل برأسه إيماءة عصبية سخيفة، وأصدر همهمةً تغلق باب الحديث تمامًا. تواتر وصول القصائد إليها، ولم يعودا إلى ذِكْرها مُجددًا. بدأت تفكِّر في أنها تستطيع اعتبارها قرابين، وليست رسائل، ولكنها ليست قرابين حب، كما قد يفترض بريندان مثلًا. لم يكن فيها شيء يخصُّ مشاعر ليونيل نحوها، لا وجود لشيء شخصيٍّ بالمرة. ذكرتها بتلك الانطباعات الخافتة التي يمكن أن تساور المرء أحيانًا على الأرصفة في الربيع؛ ظلال ترمي بها أوراق الشجر المبتلة، والملتصقة بمواضعها منذ العام السابق.
كان هناك شيء آخَر، أكثر إلحاحًا، لم تتحدَّث حوله إلى بريندان، أو إلى ليونيل. لم تقل إن بولي ستأتي لزيارتها؛ فقد كانت بولي، ابنة عمتها، آتيةً من البيت الذي نشأتا فيه.
كانت بولي تكبر لورنا سنًّا بخمسة أعوام، وقد عملت منذ تخرُّجها من المدرسة الثانوية في البنك المحلي. سبق أن ادَّخرت ذات مرةٍ المبلغَ الذي يكفي تقريبًا للقيام بهذه الرحلة، ولكنها قرَّرت بدلًا من ذلك أن تنفقه على مضخةٍ لتصريف المياه المتجمعة تحت المنزل. لكنها الآن تسافر عبر البلد بالحافلة. بالنسبة إليها بدا ذلك بشكل أكبر أمرًا طبيعيًّا ولائقًا؛ أن تزور ابنة خالها وزوجَ ابنة خالها وعائلةَ ابنة خالها، أما بالنسبة إلى بريندان فيبدو العمل نفسه تطفلًّا واقتحامًا، أو يكاد يكون هكذا يقينًا، شيئًا ليس من حق أي شخص القيام به إلا إذا تمَّت دعوته. لم يكن يُبغض استقبال الزوَّار — فها هو ليونيل — ولكنه أراد أن ينتقيهم بنفسه. وكلَّ يوم كانت لورنا تفكِّر كيف ستخبره، وكلَّ يوم كانت تؤجل الأمر.
كما أن هذا الخبر لم يكن بالشيء الذي يمكنها أن تحدِّث ليونيل بشأنه؛ لا يمكنك التحدُّث معه حول أي شيء قد يُعتبَر بجديةٍ مشكلةً ما؛ فالتحدُّث عن المشكلات لا يعني إلا البحث عن حلول، أو التطلُّع في أمل إلى إيجاد الحلول. وهذا ليس مثارَ اهتمام، فهو لا يشير إلى موقفٍ مشوِّق من الحياة، بل يوحي بالامتلاء بالرجاء، على نحو سطحي ومضجر. الهموم العادية، والعواطف البسيطة، لم تكن من الأمور التي يحب أن يُعِيرها آذانًا مصغية. كان يفضِّل أن تكون الأمور مُحيرة تمامًا، تفوق الاحتمال، وفي الوقت نفسه — من قبيل المفارقة، بل الطرافة أيضًا — كان يفضِّل لو أن من الممكن تحمُّلها.
شيءٌ واحد أخبرَتْه به لم يكن مأمونَ العاقبة تمامًا؛ إذ أخبرته كيف أنها بكت يومَ زفافها وفي أثناء طقوس إتمام الزفاف الفعلية. ولكنها كانت قادرةً على أن تصنع من ذلك مزحةً؛ لأنها استطاعت أن تحكي له كيف حاولت أن تسحب يدها من قبضة بريندان لتتناول منديلها، ولكنه لم يُفلِت يدها، فكان عليها أن تواصِل تنشق مخاط أنفها. وحقيقة الأمر أنها لم تبكِ بسبب أنها لم ترغب في أن تتزوَّج، أو لأنها لم تكن تحب بريندان؛ بل بكتْ لأن كل شيءٍ في بيتها حيث نشأت بَدَا فجأةً لها عزيزًا غاليًا — على الرغم من أنها دائمًا ما خطَّطت للرحيل — وبَدَا لها الناس فيه أقرب صلةً إليها من أي شخص آخَر قد تعرفه مطلقًا، على الرغم من أنها كانت تخفي عنهم أفكارها الخصوصية. لقد بكتْ لأن بولي كانت قد ضحكت وهما تنظفان أرفف المطبخ وتفركان مشمع الأرضية في اليوم السابق على الزفاف، وتظاهرت هي بأنها في مسرحية عاطفية وقالت وداعًا أيها المشمع القديم، وداعًا يا شروخ إبريق الشاي، وداعًا أيها الموضع الذي كنتُ ألصق فيه علكتي تحت المائدة، وداعًا.
لِمَ لا تقولين له أن ينسى الأمر وكفى؟ هكذا قالت لها بولي. لكنها بالطبع لم تكن تعني ذلك حقًّا، بل كانت فخورة، ولورنا نفسها كانت تشعر بالفخر، فهي في الثامنة عشرة من عمرها ولم يكن لها من قبلُ حبيبٌ قطُّ، وها هي تقترنُ برجلٍ في الثلاثين ذي طلعة بهية، وأستاذ في الجامعة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد بكتْ، وعاوَدَها البكاء حين تلقَّتْ رسائل من أسرتها في الأيام الأولى من زواجها. ضبطها بريندان في هذه الحالة، وقال: «أنت تعشقين أسرتك، ألستِ كذلك؟»
أحسَّتْ تعاطُفًا في كلامه، وقالت: «بلى.»
تنهَّد هو وقال: «أظن أن حبَّك لهم يفوق حبَّك لي.»
قالت إن هذا غير صحيح، كل ما هنالك أنها أحيانًا كانت تشعر بالأسف نحو أفراد أسرتها. لقد مروا بأوقاتٍ عصيبة، ظلت جدتها تدرِّس لتلاميذ الصف الرابع سنةً بعد أخرى، على الرغم من أن بصرها صار ضعيفًا للغاية حتى كانت بالكاد ترى ما تكتبه على السبورة، أما عمتها بياتريس فقد حالت مشكلاتُها العصبية العديدة بينها وبين الحصول على أي وظيفة، ووالدها — والد لورنا — كان يعمل في متجر أدوات ومعدات لم يكن حتى يمتلكه.
قال بريندان: «أوقات عصيبة؟ هل مروا بتجربة معسكر اعتقال؟»
ثم قال إن الناس بحاجة لأن يتحلَّوْا بالنباهة والذكاء في هذا العالم. رقدتْ لورنا على فراش الزوجية، وأطلقت العِنان لإحدى نوبات البكاء الغاضبة التي يخزيها الآن أن تتذكَّرها. بعد هنيهة، اقترب منها بريندان وطيَّبَ خاطِرها، ومع ذلك ظلَّ يعتقد أنها بكت كما تبكي النساء على الدوام عندما يعجزن عن الفوز في مجادلةٍ بأي طريقةٍ أخرى.
كانت لورنا قد نسيت بعض التفاصيل الخاصة بمظهر بولي. كم كانت طويلةً! وكم كان عنقها ممتدًّا وخصرها نحيلًا! وذلك الصدر الذي يكاد يكون مُسطحًا تمامًا. ذقن صغير غير مستوٍ وفم معوجٌّ. بشرة شاحبة، وشعر مقصوص قصير بلون بُني فاتح، ناعم كأنه ريش. بدت هشة وشجاعة معًا، مثل أقحوانة نحيفة على ساقٍ طويلة. كانت ترتدي تنورة جينز منفوشة وعليها تطريز.
لم يعلم بريندان بأمر قدومها إلا قبلها بثمانية وأربعين ساعة. كانت قد اتصلت هاتفيًّا بمكالمة على حساب المتلقِّي، من كالجاري، وكان هو من أجاب الاتصال. بعد ذلك كانت لديه ثلاثة أسئلة ليطرحها. كانت نبرة صوته مجافية، ولكن هادئة.
كم ستطول إقامتها؟
لماذا لم تخبريني؟
لماذا اتصلتِ بمكالمةٍ على حساب المتلقِّي؟
قالت لورنا: «لا أدري.»
•••
الآن من مكان لورنا في المطبخ حيث كانت تُعِدُّ العَشاء، كافحت لكي تسترق السمع لما كان يقول أحدهما للآخر. عاد بريندان للبيت قبل قليل. لم تستطع أن تسمع تحيته، ولكن صوت بولي كان عاليًا ومُفعمًا بمرحٍ خطر.
«وهكذا بدأتُ البداية الخطأ فعلًا يا بريندان، انتظر حتى تسمع ما الذي قلتُه. كنتُ أنا ولورنا نسير في الشارع من محطة الحافلات وأنا أقول، يا إلهي، يا للروعة! هذا الحي الذي تعيشون فيه راقٍ جدًّا يا لورنا، وبعد ذلك أقول، ولكن انظري إلى ذلك المكان، ما الذي يفعله هنا؟ قلتُ، إنه يبدو كأنه حظيرة ماشية!»
لم يكن بوسعها أن تختار بداية أسوأ من هذه. كان بريندان فخورًا للغاية بمنزلهما؛ كان منزلًا معاصِرًا، مبنيًّا على طراز الساحل الغربي المسمَّى بوست آند بيم (طراز معماري يعتمد بشدة على الأخشاب المتقاطعة في تصميمه). لم يكن يتم طلاء المنازل من طراز بوست آند بيم؛ فقد كانت الفكرة هي أن تكون متوافِقة مع الغابات الأصلية الطبيعية. وهكذا كانت تعطي من الخارج انطباعًا بالعادية وتأدية الغرض المباشِر، بسقفٍ مسطح وناتئ عن الجدران، أما بالداخل فقد كانت العوارض الخشبية مكشوفةً دون أن تتم تغطية أي جزءٍ من الأخشاب. كانت المدفأة في هذا المنزل مزوَّدة بمدخنة حجرية تمتد صعودًا حتى السقف، وكانت النوافذ طويلةً وضيقةً بلا ستائر. كان مقاول البناء قد أخبرهم أن هذا الطراز المعماري دائمًا ما يكون رفيع الشأن، وقد ردَّد بريندان قوله هذا، مع كلمة «معاصر» جنبًا إلى جنب، عند تقديم المنزل لأي شخص للمرة الأولى.
لكنه لم يتجشم عناء أن يقول هذا لبولي، أو أن يُخرِج لها المجلة التي نُشِرَ فيها مقال حول هذا الطراز، مصحوب بالصور الفوتوغرافية، وإن لم تكن لهذا المنزل تحديدًا.
•••
جلبتْ بولي معها، من موطن نشأتهما، عادةَ استهلالِ جُمَلِها باسم الشخص الذي تخاطبه على وجه التحديد. كانت تقول «لورنا …» أو «بريندان …» كانت لورنا قد نسيت هذه الطريقة في الحديث، وبدتْ لها الآن قاطعةً نوعًا ما وفظةً. عرفت لورنا أن بولي لم تكن تتعمَّد أن تكون فظةً، وأنها كانت تبذل جهدًا مزعجًا وإن كان شجاعًا لكي تبدو مرتاحةً وعلى طبيعتها. وقد حاولت في البداية إشراك بريندان في حديثهما، حاولتا ذلك هي ولورنا كلتاهما، وقد انطلقتا في تفسيرات حول الشخص الذي كانتا تتحدَّثان عنه أيًّا كان، غير أن ذلك كان بلا جدوى. لم يتحدَّث بريندان إلا لينبِّه لورنا إلى شيءٍ يحتاجه من فوق المائدة، أو ليشير إلى أن طفلهما دانيال قد سكب طعامه المهروس على الأرض حول مقعده المرتفع المخصَّص للأطفال.
واصلتْ بولي الحديث بينما كانتا تنظفان المائدة، ثم أثناء غسلهما الأطباق. عادةً كانت لورنا تحمم الأطفال وتضعهم في أَسِرَّتهم قبل أن تشرع في غسل الأطباق، ولكنها الليلة كانت على درجة من التشوُّش والضيق — فقد أحسَّت أن بولي على وشك أن تبكي — بحيث غفلتْ عن أداء المهام بترتيبها الملائم. تركت دانيال يزحف هنا وهناك على الأرض، أما إليزابيث فقد ظلَّت قريبة منهما للاستماع إلى الحديث؛ نظرًا لاهتمامها بالمناسبات الاجتماعية والشخصيات الجديدة. استمر هذا إلى أن أسقط دانيال المقعد المرتفع الخاص به — لحُسن الحظ لم يُوقِعه على نفسه، غير أنه صرخ من الذُّعر — فأتى بريندان من غرفة المعيشة.
قال: «يبدو أن موعد النوم قد تأجَّل!» بينما يأخذ ابنه من بين ذراعَيْ لورنا، «إليزابيث. اذهبي واستعدي لأخذ حمامك.»
كانت بولي قد انتقلتْ من الحديث حول الناس في البلدة إلى وصف ما كان يجري من أمورٍ في البيت. ليس خيرًا؛ كان مالك متجر المعدات — وهو رجل كان والد لورنا دائمًا ما يتحدَّث عنه بوصفه صديقًا وليس ربَّ عمل — قد باع متجره دون التصريح بكلمة واحدة عمَّا كان ينتويه إلى أن تمَّ الأمر. وكان المالك الجديد يُجرِي توسُّعًا في المتجر في الوقت ذاته الذي كان يخسر فيه أمام سلسلة متاجر كنديان تاير، ولم يكن يمر يومٌ واحد دون أن يثيرَ شجارًا ما مع والد لورنا. كان والد لورنا يعود من المتجر في غايةٍ من الإحباط بحيث كان كلُّ ما يريد فعله هو الاستلقاء على الأريكة؛ لم يَعُدْ يهتم بالصحف أو الأخبار. كان يشرب فوار بيكربونات الصوديوم دون أن يتناقش مع أحدٍ حول الآلام التي يشعر بها في معدته.
ذكرت لورنا رسالة من والدها كان قد هوَّن فيها من تلك المتاعب.
قالت بولي: «حسنًا، سيهوِّن من أمرها طبعًا، ألن يفعل معكِ أنتِ؟»
قالت بولي إن صيانة كلا المنزلين كانت كابوسًا متواصِلًا، ولا بد لهم جميعًا من الانتقال إلى أحد المنزلين وبيع الآخر، لكن الآن وقد تقاعدت الجدة من عملها صارت تشاكس والدة بولي طوال الوقت، كما أن والد لورنا لا يتحمل فكرة العيش مع الاثنتين. كثيرًا ما أرادتْ بولي أن تخرج دون أن تعود أبدًا، ولكن ماذا عساهم يفعلون من دونها؟
قالت لورنا: «لا بد أن تعيشي حياتك الخاصة!» بَدَا لها غريبًا أن تنصح هي بولي.
قالت بولي: «نعم، طبعًا، طبعًا، كان عليَّ أن أرحل حين كانت الأمور طيبة، ذلك ما أحسب أنه كان يتوجب عليَّ فعله. ولكن متى كان ذلك؟ أنا لا أتذكَّر حتى سير الأمور على ما يرام. ظللت عالقةً هناك حتى أتأكَّد من إنهائك للمدرسة أولًا، هذا على سبيل المثال.»
تحدَّثت لورنا بصوتٍ ينمُّ عن الأسف والدعم، ولكنها أبَتْ أن تتوقَّف عن عملها، من أجل أن تولي أنباء بولي ما تستحقه من انتباه. تقبَّلتِ الأخبار كما لو كانت تخصُّ بعض أناسٍ كانت تعرفهم وكانت تحبهم، ولكنها ليست مسئولةً عنهم. فكَّرَتْ في أبيها وهو مستلقٍ على الأريكة في الأمسيات، يعالج نفسه من آلامٍ لا يعترف بوجودها، وفي عمتها بياتريس في البيت المجاور، يأكلها القلق ممَّا كان الناس يقولونه عنها، تخشى أنهم كانوا يضحكون عليها من وراء ظهرها، ويكتبون أشياء حولها على الجدران، وتبكي لأنها قد ذهبت إلى الكنيسة وحمَّالة صدرها ظاهرة للعيان. مجرد التفكير في البيت والمنشأ ومَن فيه تسبَّبَ في إيلام لورنا، ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الشعور بأن بولي كانت تصبُّ ذلك كلها على رأسها عامِدةً، وأنها تحاول أن تدفعها إلى الاستسلام، وأنها تدثِّرها ببعض البؤس العائلي الحميم، وقد عزمت أمرها على ألَّا تستسلم.
«فقط انظري إليكِ. انظري إلى حياتك. حوض مطبخك من الصلب المقاوم للصدأ، ومنزلك مُشيَّد على طرازٍ رفيع الشأن.»
قالت بولي: «إذا حدث وتركتُهم الآن ورحلت، أعتقد أنني لن أجني إلا شعورًا هائلًا بالذنب. لا يمكنني احتمال ذلك؛ سأشعر بذنبٍ هائل لو تركتُهم.»
«وبالطبع هناك بعض الأشخاص لا يشعرون بالذنب مطلقًا. بعض الأشخاص لا يشعرون مطلقًا.»
•••
قال بريندان، حين كانا راقدَيْن جنبًا إلى جنب في الظلام: «حصلتِ على حكايةٍ كلها كربٌ وبؤسٌ.»
فقالت لورنا: «هذا ما في عقلها.»
«فقط تذكِّري أننا لسنا من أصحاب الملايين.»
جفلت لورنا لقوله. «إنها لا تريد مالًا.»
«حقًّا؟»
«ليس لهذا السبب كانت تحكي لي ذلك.»
«لا تكوني واثقةً أكثر من اللازم.»
ظلت راقدة متصلِّبة الجسد. لم تُجِبْه بشيء؛ وعندئذٍ فكَّرت في شيء قد يعدل من مزاجه المتعكر.
«لن تمكث هنا لأكثر من أسبوعين.»
أتى دوره لكيلا يجيبها بشيء.
«أَلَا ترى أنها لطيفة المظهر؟»
«بلى.»
كانت على وشك أن تخبره بأن بولي كانت هي مَن صنعت لها فستان الزفاف. كانت قد خطَّطَتْ أن تتزوَّج مُرتدية تاييرها الكحلي، ولكن بولي قالت، قبل الزفاف بأيامٍ معدودة: «لن يحدث هذا.» وهكذا أخرجتْ ثوبها الخاص بحفلات المدرسة الثانوية (كانت بولي على الدوام أكثر شعبيةً من لورنا، وكانت تذهب إلى الحفلات الراقصة)، وأضافت إليه وصلات من شرائط مزركشة بيضاء، وخاطت فيه كُمَّين من الشيفون المزركش؛ لأن الطير يحتاج لجناحين أبيضين حتى يطير، هكذا قالت.
ولكن ما الذي قد يكترث له بشأن ذلك؟
•••
حلمتُ بأنني آخذك في جولة على دراجتي. كنَّا منطلقين بسرعة شديدة. لم يبدُ أنك خائفة، ومع ذلك ربما كان عليك أن تخافي. يجب ألَّا نشعر بأننا مطالَبَيْن بتفسيرٍ لهذا الحلم.
غادر بريندان المنزل مبكرًا، كان يدرس في المدرسة الصيفية، وقال إنه سيتناول الإفطار في الكافيتريا. خرجت بولي من غرفتها بمجرد أن انصرف هو. ارتدتْ سروالًا بدلًا من تنورتها المكشكشة، وراحتْ تبتسم طوال الوقت، كما لو كان بفعل مزحةٍ تخصُّها وحدَها. ظلت تراوغ برأسها تجنُّبًا لعينَي لورنا.
قالت: «من الأفضل أن أخرج وأرى شيئًا ما من فانكوفر. بما أنه يبدو غالبًا أنني لن آتي إلى هنا مرةً أخرى.»
وضعت لورنا بعض علامات على خريطة، وقدَّمت لها التوجيهات اللازمة، وقالت لها إنها آسفة لأنها لا تستطيع مرافقتها، ولكن مع وجود الأطفال سيكون الخروج مجرد متاعب لا داعي لها.
«أوه، لا. لم أتوقَّع منك أن تصحبيني؛ فلم آتِ إلى هنا كي أشغلك طوال الوقت.»
استشعرت إليزابيث توتُّرًا في الجو المحيط. قالت: «لماذا نسبِّب متاعب؟»
منحت لورنا غفوةً مبكرة لدانيال، وحين استيقظ وضعته في عربة الأطفال وأخبرت إليزابيث بأنهم ذاهبون إلى أحد الملاعب. الملعب الذي اختارته لم يكن ذلك الموجود في متنزه قريب، بل كان في سفح التل، بجوار الشارع الذي يعيش فيه ليونيل. كانت لورنا تعرف عنوانه، على الرغم من أنه لم يسبق لها بالمرة أن رأت المنزل. كانت تعلم أنه كان منزلًا، وليس شقة. كان يعيش في غرفة واحدة، بالطابق العلوي.
لم يستغرق منها الوصول إلى هناك وقتًا طويلًا، على الرغم من أن العودة سوف تستغرق وقتًا أطول بلا شك، حين ستدفع عربة الصغير صعودًا على التل. لكنها كانت قد مرَّت سابقًا إلى الجزء الأقدم من شمال فانكوفر، حيث المنازل أصغر حجمًا، وتجثم على مساحات صغيرة. المنزل الذي يعيش ليونيل فيه كان اسمه مكتوبًا عليه بجوار أحد الأجراس، واسم بي هاتشيسُن على الجرس الآخَر. كانت تعرف أن السيدة هاتشيسُن هي مالكة العقار. قرعت الجرس.
قالت: «أعلم أن ليونيل ليس موجودًا وأنا آسفة على إزعاجك، ولكني أعرتُه كتابًا، وهو كتاب مستعار من مكتبة عامة، والآن فات موعد إرجاعه، وكنت أتساءل فقط إذا كان بوسعي أن ألقي نظرة سريعة على شقته لأرى إن كان يمكنني العثور عليه.»
قالت مالكة العقار: «أوه!» كانت سيدة مُسنة بعصبة تحيط برأسها وبقع سوداء كبيرة على وجهها.
«أنا وزوجي صديقين لليونيل. كان زوجي أستاذًا له في الجامعة.»
لطالما كانت عبارة «أستاذ جامعة» ذات نفع. صار المفتاح في يد لورنا. أوقفت عربة الصغير في ظل المنزل وأخبرت إليزابيث أن تنتبه لدانيال.
قالت إليزابيث: «هذا ليس ملعبًا!»
«سأصعد فقط للأعلى وأعود فورًا. دقيقة واحدة فقط، اتفقنا؟»
كان في طرف غرفة ليونيل مختلًى محفور في الجدار وموقد غاز بشعلتين ودولاب ثياب خشبي. لا ثلاجة ولا حوض ماء، عدا ذلك الموجود في المرحاض. كانت المصاريع المعدنية مُسدَلة حتى منتصف النافذة، وعلى الأرضية مربع من مشمع غُطِّيَ نقشه بطلاء بني اللون. كانت هناك رائحة ضعيفة لموقد الغاز، ممتزجة برائحة ثياب ثقيلة لم تتعرَّض للتهوية، وعرق، وبعض مزيل للاحتقان برائحة الصنوبر، وقد قبلت بذلك المزيج على أنه الرائحة الحميمة الخاصة بليونيل دون أن تمعن التفكير في الأمر تقريبًا، ودون أن تنفر من الرائحة بالمرة.
فيما عدا ذلك، لا يكاد المكان يقدِّم أي مفاتيح أو أمارات. لم تأتِ إلى هنا من أجل أي كتاب مستعار من مكتبة، بالطبع، ولكن لتكون — ولو للحظةٍ — داخل المساحة التي يعيش فيها، تتنفَّس هواءَه، تنظر من نافذته. كان المنظر بالخارج لمنازل أخرى، غالبًا مثل هذا المنزل مقسَّمة إلى شققٍ صغيرة، تقوم على المنحدر ذي الأشجار لجبل جراوس. كانت الطبيعة المجردة للغرفة، التي تفتقد للشخصية الخاصة، تمثِّل تحدِّيًا صارمًا. سرير، مكتب، منضدة، مقعد؛ هي فقط قِطَع الأثاث الواجب توافُرها بحيث يمكن الإعلان عن غرفة مؤثَّثة للإيجار. حتى مفرش السرير بلون الكاكاو الفاتح ومن قماش الشانيل لا بد أنه كان موجودًا عندما انتقل إلى الغرفة. لا وجود لصور — ولا حتى لتقويمٍ للأيام — والأكثر إدهاشًا، لا وجود لأي كُتب.
لا بد أن الأشياء مخبَّأة في مكانٍ ما. في أدراج المكتب؟ لا تستطيع أن تبحث. ليس فقط لأنه لا يوجد وقت كافٍ لذلك — يمكنها سماع إليزابيث تنادي عليها من باحة المنزل — ولكن أيضًا لأن ذلك الغياب ذاته لأي شيءٍ قد يُعَدُّ ذا صبغة شخصية قد جعل وعيها بليونيل أكثر قوةً وحضورًا. ليس فقط الوعي بتقشُّفه وبأسراره، ولكن باليقظة والحرص؛ بَدَا الأمر كما لو كان قد نصب لها فخًّا وكان ينتظر ليرى ماذا ستفعل.
لم يكن إجراء المزيد من الاستقصاء هو ما تريد حقًّا القيام به، بل أن تجلس على الأرض، في منتصف مربع مشمع الأرضية. أن تجلس لساعات لا لكي تطيل النظر إلى هذه الغرفة بقدر ما تغرق بداخلها. أن تبقى في هذه الغرفة حيث لا وجودَ لأحدٍ يعرفها ولا أحدَ يريد منها شيئًا. أن تبقى هنا لوقتٍ طويل، وتصير أكثر رهافةً وأكثر خفةً، خفيفة مثل إبرة.
•••
في صبيحة يوم السبت، كان من المفترض أن يسافر كلٌّ من لورنا وبريندان والطفلين بالسيارة إلى بينتكتُن؛ إذ دعاهم أحد الطلاب المتخرجين إلى حفل زفافه. وسيمكثون هناك ليلةَ السبت وطوال يوم الأحد وليلته كذلك، ويعودون إلى المنزل صباحَ الإثنين.
قال بريندان: «هل أخبرتِها؟»
«لا بأس في ذلك. إنها لا تتوقَّع أن نصحبها معنا.»
«ولكن هل أخبرتِها؟»
قضوا يومَ الخميس على شاطئ آمبلسايد. ذهبت إلى هناك لورنا وبولي والطفلان بالحافلات، حيث بدَّلوا الحافلة مرتين، وهم مثقلون بما يحملون من مناشف، وألعاب الشاطئ، والحفاضات، والغداء، ودولفين إليزابيث المنفوخ بالهواء. تلك الأعباء البدنية التي تورَّطَتَا فيها، وكذلك ما أثاره مرأى فرقتهما الصغيرة من اضطراب وتوتر في المسافرين الآخرين، كل هذا أدَّى بهما إلى رد فعل أنثوي شديد الغرابة؛ حالة مزاجية أقرب إلى المرح غير المبالي. كما كان من المفيد الابتعاد عن المنزل حيث كانت لورنا مُتوَّجة كزوجةٍ. بلغتا الشاطئ بإحساسٍ بالانتصار والفوضى المشعثة، ثم نصبتا مخيمهما، ومنه كانتا تتناوبان على النزول إلى المياه، ومراقبة الصغار، وجلب المشروبات الخفيفة، والحلوى والبطاطس المقلية.
لوَّحَتِ الشمسُ بشرةَ لورنا بسُمرة طفيفة، أما بولي فلا شيء بالمرة. فَرَدَتْ ساقها بجانب ساق لورنا وقالت: «انظري إلى تلك، عجينة لم تختمر.»
قالت لها إنها مع كل ما عليها من عمل في المنزلين، إلى جانب وظيفتها في البنك، لا يمكنها أن تجد ولو رُبعَ ساعة تكون فيها بلا مشاغل تقضيها جالسةً في الشمس. لكنها كانت تتحدَّث الآن بنبرة إقرار الواقع، دون أن تتلوَّن نبرتُها بالفضيلة والتشكِّي. كان ذلك الغلاف الحامض الذي يحيط بها — مثل خرق مطبخ قديمة — يتساقط متقشرًا عنها. كانت قد عرفت كيف تشقُّ سبيلها في أنحاء فانكوفر بمفردها؛ المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك في مدينة. تحدَّثت إلى غرباء على محطات الحافلات، وسألت عن المعالم التي لا بد لها أن تراها، وبناءً على نصيحة أحدهم استقلَّت المصعد المعلَّق حتى قمة جبل جراوس.
وبينما كانتا راقدتين على الرمال قدَّمت لورنا تفسيرًا واجبًا.
«هذا وقتٌ سيئ من العام بالنسبة إلى بريندان. التدريس في المدرسة الصيفية يدمِّر أعصابه حقًّا، يكون عليه أن ينجز الكثير بسرعة بالغة.»
قالت بولي: «حقًّا؟ ليس الأمر بسببي إذن؟»
«لا تكوني غبية. بالطبع ليس بسببك.»
«حسنًا، طمأنتِ قلبي. ظننتُ أنه يكرهني كُرْهَ العمى.»
وبعد ذلك تحدَّثتْ عن رجل في البلد كان يريد أن يرافقها ويخرجان معًا.
«إنه في غاية الجدية؛ فهو يبحث لنفسه عن زوجة. أظن أن بريندان كان كذلك أيضًا، لكني أظن أنكِ كنتِ تحبينه.»
فقالت لورنا: «كنتُ وما زلتُ.»
«حسنًا، لا أظن أنني أحب هذا الرجل.» كانت بولي تتحدَّث ووجهها مضغوط في مرفقها، «أظن الأمر قد يُفلح مع ذلك، إذا مالت المرأة نوعًا ما لشخصٍ لا بأس به، وخرجت معه وعقدت نيتها أن ترى الجوانب الطيبة فيه.»
«ما هي الجوانب الطيبة إذن؟» قالت لورنا وهي تعتدل جالسةً بحيث يمكنها مراقبة إليزابيث التي تركب على دولفينها المنفوخ.
«أمهليني قليلًا حتى أجد شيئًا منها.» هكذا قالت بولي وهي تقهقه، «لا، الحقيقة هناك الكثير منها. أنا أُسخِّف منه فحسب.»
بينما كانتا تلملمان الألعاب والمناشف قالت بولي: «أنا جديًّا لا أمانع من تكرار هذا المشوار كله غدًا مرةً أخرى.»
فقالت لورنا: «ولا أنا، ولكن عليَّ أن أتجهَّز للسفر إلى أوكاناجان. نحن مدعوُّون إلى هذا الزفاف.» جعلت الأمر يبدو كأنه مهمة منزلية ثقيلة، شيءٌ لم تهتم بالحديث عنه حتى الآن لأنه كان كريهًا ومضجرًا للغاية.
فقالت بولي: «أوه. حسنًا، ربما آتي إلى هنا بمفردي إذن.»
«طبعًا، فلتفعلي ذلك.»
«أين تقع أوكاناجان؟»
•••
في هذا المساء ذاته، وبعد إرقاد الطفلين ليناما، ذهبت لورنا إلى الغرفة التي كانت بولي تنام فيها. ذهبت هناك لكي تُخرِج حقيبة سفر من الخزانة، متوقِّعةً أن تكون الغرفة خاليةً؛ إذ حسبت أن بولي ما زالت في الحمام، تخفِّف من حرقة شمس النهار بالجلوس في الماء الفاتر والصودا.
غير أن بولي كانت في الغرفة، والملاءة ملمومة من حولها وكأنها كفن.
«خرجتِ من الحمام» هكذا قالت لورنا، وكأنها وجدت هذا كله عاديًّا تمامًا. «كيف حال حروق بشرتك الآن؟»
قالتْ بولي بصوتٍ مكتوم: «أنا بخير.» أدركتْ لورنا في الحال أنها كانت على الأغلب لا تزال تبكي. وقفت هناك عند طرف الفراش، غير قادرة على مغادرة الغرفة. استحوذ عليها إحباطٌ كان أقرب إلى غثيان، موجة تقزُّز. لم تكن بولي حقًّا تقصد أن تواصل الاختباء، التفتَتْ ونظرت بعيدًا بوجهها كله منكمشًا وعاجزًا، ومحمرًا من الشمس، وببكائها. انحدرت من عينَيْها دموعٌ جديدة. كانت كومةً من البؤس، اتهامًا واحدًا صلدًا.
«ما الأمر؟» قالت لورنا وهي تتظاهر بالاندهاش، تتظاهر بالتعاطف.
«أنتما لا تريدانني.»
كانت عيناها مصوَّبتين نحو لورنا طوال الوقت، طافحتين بالدموع، ولكن أيضًا طافحتين بمرارتها والاتهام بالغدر، لكن إلى جانب مطالبتها إياها في غضب وإلحاح بأن تضمها إليها، أن تهدهدها وتطمئنها.
كانت لورنا توشك أن تضربها. أي حقٍّ لكِ؟ هكذا أرادتْ أن تقول. لماذا تتشبثين بي كالعَلَقة المتطفلة؟ أيُّ حقٍّ لكِ؟
العائلة. العائلة تمنح بولي ذلك الحق. لقد ادَّخرت مالها وخطَّطت لهروبها، بافتراض أن لورنا ينبغي أن تأويها وتنصرها. أذلك صحيح؟ أتكون قد حلمت بالبقاء ها هنا دون أن تضطر إلى الرجوع أبدًا؟ وأن تصير جزءًا من حظ لورنا السعيد، ومن عالم لورنا المتحول الجديد؟
«ماذا ترين أنني أستطيع فعله؟» قالت لورنا في قسوةٍ تامة، فاجأتها هي نفسها: «أتظنين أن لي أي سلطة؟ إنه لم يعطني قطُّ أكثرَ من ورقةٍ بعشرين دولارًا في المرة الواحدة.»
سحبت حقيبة السفر إلى خارج الغرفة.
كان الأمر كله زائفًا ورخيصًا ومقزِّزًا؛ أن تستعرض حسراتها الخاصة على هذا النحو، فقط لتجاري بها حسرات بولي. ثم ما علاقة العشرين دولارًا بأي شيء ممَّا يجري؟ كان لديها حسابٌ جارٍ، ولن يرفض مطلقًا أن يمنحها ما تطلب.
لم تستطع الخلود للنوم، وراحت تعنِّف بولي وتوبِّخها في مخيلتها.
•••
جعلت حرارة أوكاناجان الصيف يبدو أكثر واقعيةً وأصالةً من الصيف على الشاطئ. التلال بعشبها الشاحب، والظل المتناثر الشحيح لأشجار الصنوبر في الأراضي الجافة، بَدَا هذا خلفية طبيعية لحفل زفاف بهيج بمئونته التي لا تنفد من شراب الشامبانيا، ورقصه ومغازلاته والصداقة والمودة اللتين تنعقدان في لمح البصر. سرعان ما ثملتْ لورنا وتعجَّبت إزاء مقدار سهولة الفكاك، بفضل الكحول، من أَسْرِ أطيافها وهواجسها. تصاعَدَ البخار البائس متبددًا، وخلدت إلى الفراش وهي لا تزال ثَمِلة، وميَّالة للفُحْش، وهو ما صبَّ في مصلحة بريندان. حتى خمار رأسها في اليوم التالي من بقايا سُكر بدا معتدلًا، مُطهرًا أكثر منه مُعاقِبًا. شاعرةً بهشاشتها، ولكن من غير أي غضبٍ على نفسها بالمرة، رقدت على شاطئ البحيرة وراقبت بريندان وهو يعاون إليزابيث في بناء قلعة من الرمال.
سألتْها: «هل كنتِ تعرفين أنني أنا ووالدك التقينا لأول مرة في حفل زفاف؟»
قال بريندان: «لكنه لم يكن يشبه هذا الزفاف مع ذلك.» كان يقصد أن ذلك الزفاف الذي قد حضره، عند زواج صديقٍ له من ابنة آل ماكويج (كانت أسرة ماكويج أرفع وأثرى العائلات في بلدة لورنا)؛ كان حفلًا جافًّا بمعنى الكلمة؛ إذ تم الاستقبال في قاعة الكنيسة المتحدة — كانت لورنا إحدى الفتيات اللاتي اخترْنَ لتقديم الشطائر للضيوف — وكان المدعوون يتناولون شرابهم على عجل، في موقف السيارات. لم تَعْتَدْ لورنا على شم رائحة الويسكي على الرجال، فظنَّتْ أن بريندان قد أفرط في وضع نوعٍ غريب من دهان الشعر. وعلى الرغم من ذلك، فقد أُعجِبتْ بكتفَيْه المكتنزتين، وعنقه الثخينة مثل رقبة الثور، وبعينيه الضاحكتين الآمِرتين بلونهما البُني المذهب. حين علمت أنه كان معلمًا يدرِّس الرياضيات، وقعت في غرام ما يوجد بداخل رأسه كذلك. أثارت حماستَها المعرفةُ المجهولة التي يحوذها رجلٌ كان غريبًا عنها تمامًا. وربما لو كانت معرفته تخصُّ ميكانيكا السيارات لَكان لها نفس التأثير كذلك.
آنذاك بَدَا انجذابه المتجاوب إليها أشبه بالمعجزات، غير أنها علمت فيما بعدُ أنه كان يبحث عن زوجة؛ فقد بلغ سن الاقتران، كان الوقت قد حان. رغب في فتاة شابة، لا واحدة من زميلاته، أو طالبة، ربما حتى ليست فتاة ممَّن قد يرسلها والداها إلى إحدى الكليات بعد المرحلة الثانوية. بريئة، لم تفسدها الحياة. ذكية، ولكن بريئة. زهرة برية، هكذا قال في حرارة تلك الأيام الأولى، وأحيانًا يقولها حتى الآن.
•••
في رحلة عودتهما، خلفوا وراءهما الريف الذهبي الحار، في موضعٍ ما بين كيرميوس وبرينستون، غير أن الشمس لم تزل ساطعة، وساور عقل لورنا اضطرابٌ خافت متردِّد، مثل شعرة تسقط في محيط بصرها من الممكن إبعادها باليد، أو يمكن أن تطير مختفيةً عن النظر من تلقاء ذاتها.
لكن تلك الشعرة ظلت تعود مرةً بعد أخرى، وازدادتْ شؤمًا وضغطًا عليها، حتى انبثقتْ واضحةً أمامها فأدركتْ ما كانت عليه في الحقيقة.
كانت تخشى — بل كانت نصف متيقِّنة — أن بولي قد أقدمتْ على الانتحار في مطبخ منزلهم في شمال فانكوفر، بينما كانوا هم بعيدًا في أوكاناجان.
في المطبخ. كانت الصورة في خيال لورنا لا لبسَ فيها ولا ريب؛ رأت بكل تحديد الطريقة التي ستنفِّذ بها بولي الأمرَ. سوف تشنق نفسها وراء الباب الخلفي مباشَرةً. عندما يعودون سيدخلون إلى المنزل من المرأب، وسوف يجدون الباب مُغلقًا؛ سيفتحونه بالمفتاح ويحاولون أن يدفعوه لينفتح ولكنهم لن يستطيعوا بسبب ثقل جثة بولي من ورائه. سيلتفون حول المنزل مُهرِعين إلى الباب الأمامي، وهكذا يدخلون المطبخ فيواجَهون بالمنظر الكامل لبولي ميتة. سوف ترتدي الجيبة الجينز المكشكشة والبلوزة البيضاء بفتحة صدر تُضَم بشريطين؛ نفس طقم الملابس الشجاع الذي ظهرت به أول مرة لتمتحن كرم ضيافتهما. ساقاها الطويلتان الشاحبتان تتدليان للأسفل، رأسها مُلتوٍ على عنقها النحيل بما يوحي بالقضاء المحتوم، وأمام جسدها سيكون هناك مقعد المطبخ الذي صعدت عليه، ثم خطت أو وَثَبَتْ من فوقه، لترى كيف يمكن للبؤس أن يُنهِي نفسه بنفسِه.
وحدها في منزل أشخاصٍ لا يريدونها، حيث الجدران ذاتها والنوافذ والقَدَح الذي شربت فيه قهوتها، كل ذلك يبدو أنه يزدريها.
تذكرتْ لورنا وقتًا ما حين تُرِكت بمفردها مع بولي، ليومٍ واحد فقط تركوها في رعاية بولي، في بيت جدتهما. ربما كان والدها في المتجر، ولكن كانت لديها فكرة بأنه هو أيضًا قد سافَرَ، أن الثلاثة الكبار جميعهم غادروا البلدة. لا بد أنها كانت مناسَبة غير اعتيادية، بما أنهم لم يذهبوا قطُّ في رحلات للتسوُّق، فضلًا عن رحلات بغرض المتعة. جنازة، لا شك تقريبًا أنها كانت جنازة. كان يوم سبت، ولم تكن هناك مدرسة. كانت لورنا أصغر من سن المدرسة على أيِّ حال. لم يكن شَعْرها طال بما يكفي لجدله في ضفائر؛ كان أشعث في خصلات كبيرة حول رأسها، كما هو شَعْر بولي الآن.
كانت بولي تمرُّ بمرحلةٍ كانت تحب فيها أن تحضِّر بنفسها حلوى وأطعمة غنية من أي نوع، مسترشدة بكتاب الطبخ الخاص بجِدَّتها. كيك الشوكولاتة بالبلح، البيتي فور، والنوجا المنفوشة الطرية. في ذلك اليوم كانت في وسط عملية خلط المقادير معًا عندما اكتشفت أن بعض المقادير التي تحتاج إليها غير متوافرة في خزانة المطبخ. كان عليها أن تركب دراجتها إلى وسط البلد، لتجلب ما تحتاجه من المتجر. كان الطقس باردًا كثير الرياح، والأرض جرداء، لا بد أن الفصل كان أواخر الخريف أو أوائل الربيع. قبل أن تذهب، قامت بولي بإغلاق المدفأة في إحكام، ومع ذلك راودتها حكايات سمعتها حول أطفالٍ أحرقوا منازلهم تمامًا حين تركتهم أمهاتهم من أجل قضاء مشاوير سريعة مشابهة. وهكذا طلبت من لورنا ارتداء معطفها، وأخذتها إلى الخارج، في ركنٍ ما بين المطبخ والجزء الأساسي من المنزل، حيث لم تكن الريح بالغة الشدة. لا بد أن المنزل المجاور كان مغلقًا، وإلا كانت أخذتها إلى هناك. أخبرتها أن تبقى حيث هي، وانطلقت بدراجتها إلى المتجر. ابقي في مكانك، لا تتحركي ولا تخافي، هكذا قالت لها، ثم قبَّلت أذن لورنا. أطاعتها لورنا حرفيًّا. لعشر دقائق، أو ربما لخمس عشرة، بقيت جاثمة وراء شجيرة الليلك الأبيض، تدرس أشكال الأحجار، الداكنة والبيضاء، تحت أساس المنزل. إلى أن عادت بولي مُسرِعةً ورمت بالدراجة في الباحة وراحت تنادي باسمها، لورنا، لورنا، وهي تُلقِي بكيس السكر البُني وعين الجمل ثم تُقبِّلها في كل موضع من رأسها. كانت قد ساورتها فكرة أنه ربما عثر أحد المختطفين المترصدين على لورنا في ركنها، أحد أولئك الرجال الأشرار الذين كانوا السبب وراء وجوب عدم اقتراب البنات من الحقول التي تقع وراء المنازل. كانت تصلي وتدعو الله طوال طريقِ عودتِها ألَّا يحدث هذا. لم يحدث هذا. أسرعت في همة بإدخال لورنا للبيت حتى تدفئ يدَيْها وركبتَيْها المكشوفتين.
آه، يا للكفين الصغيرتين المسكينتين! هكذا قالت. آه، هل كنتِ خائفة؟ أحبَّتْ لورنا هذه الضجة من أجلها وأحنَتْ رأسها لتمسِّد بولي عليه، وكأنها كانت فرسًا صغيرة.
اختفت أشجار الصنوبر لتظهر مكانها الغابة الأكثف الدائمة الخضرة، وحلَّ محلَّ الكتل البُنية للتلال جبالٌ ناهضة ذات لونٍ يتأرجح بين الأخضر والأزرق. بدأ دانيال يَئِنُّ متذمِّرًا فأخرجت لورنا زجاجة العصير الخاصة به. فيما بعدُ طلبتْ من بريندان إيقاف السيارة بحيث يمكنها أن تُرقِد الصغير على المقعد الأمامي وتغيِّر له حفاضته. بينما تقوم هي بهذا سار بريندان مبتعدًا، مدخنًا سيجارة. دائمًا ما كانت تسوءه قليلًا طقوس تغيير الحفاضات.
انتهزتْ لورنا الفرصة كذلك لكي تستخرج كتب قصص إليزابيث، وحين استقرَّ وضعهم من جديد أخذت تقرأ للطفلين. كان أحد كتب د. سويس، وكانت إليزابيث تحفظ جميع الأناشيد، وحتى دانيال كان يعرف إلى حدٍّ ما متى يدندن بكلماته الملفقة.
لم تَعُدْ بولي تلك الفتاة ذاتها التي فركت كفَّيْ لورنا الصغيرتين بين يديها، الفتاة التي تعرف كل الأشياء التي لم تكن لورنا تدري عنها شيئًا، والتي يمكن الاعتماد عليها لرعايتها في هذا العالم. انقلب كلُّ شيءٍ إلى نقيضه، وبدا أن بولي قد بقيت كما هي خلال السنوات التي مرت منذ زواج لورنا؛ لقد مضت لورنا وتجاوَزَتْها. والآن كان لدى لورنا هذان الطفلان في المقعد الخلفي وعليها رعايتهما ومحبتهما، وليس من اللائق لامرأةٍ في سن بولي أن تأتي إليهم مُطالِبةً بنصيبها من الرعاية والمحبة.
لم يكن من المجدي أن تفكِّر لورنا في هذا. ما إنْ صاغت حجتها على هذا النحو حتى شعرت بالجسد يرتطم بالباب وهم يدفعونه محاوِلين فتحه. الثقل الميت، الجسد الرمادي. جسد بولي، التي لم تُعْطَ أيَّ شيء على الإطلاق. لم تجد لها مكانًا في الأسرة، ولا وجدت الأمل في التغيير الذي حلمتْ ولا بد بأنه وشيك في حياتها.
قالت إليزابيث: «الآن اقرئي قصة مادلين.»
فقالت لورنا: «لا أظن أنني أحضرتُ معي قصة مادلين، لا، لم أحضرها. دَعِي عنكِ هذه، أنتِ تحفظينها كلمةً كلمةً.»
في منزل قديم في باريس تغطيه الكروم
كانت تعيش اثنتا عشرة فتاة في صفين متجاورين.
في صفين متجاورين كنَّ يأكلن
ويغسلن أسنانهن، ويذهبن إلى أَسِرَّتهن …
هذه حماقة، هذه ميلودراما بائسة، هذا إحساس بالذنب. لن يحدث هذا.
وفي منتصف الليل
أضاءت آنسة كلافيل النور
وقالت: «هناك شيء غير مضبوط …»
قالت إليزابيث: «أمي، لماذا توقَّفتِ؟»
قالت لورنا: «رغمًا عني، دقيقة واحدة. جفَّ ريقي.»
•••
في منطقة هوب تناولوا شطائر الهمبرجر وشراب اللبن المخفوق. ثم واصَلوا طريقهم حتى وادي فريزر، وقد نام الطفلان في المقعد الخلفي. ما زال أمامهم بعض الوقت حتى يصلوا إلى تشيليواك، حتى يبلغوا آبوتسفورد، حتى تظهر أمامهم تلال نيو وستمنستر والتلال الأخرى المتوَّجة بالمنازل؛ بشائر المدينة. ما زالت أمامَهم جسورٌ يعبرونها، ومنعطفات يتخذونها، وشوارع يجتازونها، ونواصٍ يمرون بها. كل هذا كان في وقت سابق، ولن ترى أيًّا من هذا إلا في وقت لاحق.
عندما دخلوا إلى متنزه ستانلي خطر لها أن تصلِّي وتبتهل. كانت هذه وقاحة خالصة؛ الصلاة الانتهازية لغير المؤمن. الغمغمة بقول: لا تدعه يحدث، لا تدعه يحدث، لا تدعه يكون قد حدث فعلًا.
كانت سماء النهار لا تزال صافية دونما سُحُب، ومن فوق جسر ليونز جيت تطلَّعَا إلى مضيق جورجيا.
قال بريندان: «هل يمكنك رؤية جزيرة فانكوفر اليومَ؟ انظري أنتِ فأنا لا أستطيع.»
أدارت لورنا رقبتها لتنظر فيما وراءه.
قالت: «من بعيد. باهتة تمامًا ولكنها مرئية.»
وعند رؤيتها تلك الهضاب الزرقاء تبتعد وتُعتِم تدريجيًّا إلى أن ذابت صورتها تقريبًا وبدت كأنها تطفو فوق سطح البحر، فكَّرت في شيءٍ واحد كان في استطاعتها أن تقوم به؛ أن تقايض شيئًا بشيء. وقد آمنت أن هذا ما زال ممكنًا، حتى آخِر لحظة سيبقى ممكنًا أن تقوم بمقايضةٍ.
لا بد أن تكون مقايضة ذات شأن، أن يكون ذلك الوعد أو العرض الذي تقدِّمه نهائيًّا ومُوجِعًا لأقصى حدٍّ. أن تقول: فَلْتأخذ هذا. أنا أَعِدُ بهذا. فقط إذا لم يكن ما تتخيَّله صحيحًا، فقط إذا تبيَّنَ أنه لم يحدث قطُّ.
لا، ليس طفلَيْها. انتزعت تلك الفكرة بعيدًا على الفور كما لو كانت تنتزعهما من قلب النيران. وليس بريندان، لسبب معاكس؛ إنها لم تحبه بما يكفي. كان يمكنها أن تقول إنها قد أحَبَّتْه، وتكون صادقةً إلى حدٍّ معين، وأرادت أن يحبها هو، ولكن كان ثمة طنين خافت من الكراهية يواصِل سريانه بمحاذاة حبِّها جنبًا إلى جنب، طوال الوقت تقريبًا؛ لذا سيكون من العيب المستهجن — ومن غير المجدي كذلك — أن تضحِّي به في أي مقايضة.
هي نفسها؟ مظهرها؟ صحتها؟
خطرَ لها أنها ربما تكون على المسار الخطأ؛ ففي حالةٍ مثل هذه، ربما لا يكون الخيار في يد المرء. ليس من حقِّك أن تضع الشروط. لا تعرف بالشروط إلا حين تواجِهها، ولا بد أن تَعِدَ باحترامها، دون أن تدري ما الذي ستكون عليه. فَلْتَعِدْ.
لكن لا شيء له صلة بالطفلين.
صعدوا على طريق كابيلانو، ثم دخلوا إلى ناحيتهم من المدينة حيث الركن الخاص بهم من العالم، حيث تتَّخذ حياتُهم وزنَها الحقيقي ويكون لأفعالهم تبعات وعواقب. هناك كانت الجدران الخشبية لمنزلهم، معانِدةً، تظهر عبرَ الأشجار.
•••
قالت لورنا: «الباب الأمامي سيكون أسهل، هناك لن نصعد أيَّ دَرَج.»
فقال بريندان: «وما البأس في درجتين أو ثلاث؟»
صاحت إليزابيث: «لم أرَ الجسر بالمرة.» وقد استيقظت تمامًا فجأةً وهي محبطة. «لماذا لم تُوقِظاني لأرى الجسر؟»
لم يُجِبْها أحدٌ.
قالت: «ذراع دانيال كله حروق من الشمس.» بنبرة رضًا غير كامل.
سمعت لورنا أصواتًا اعتقدت أنها كانت صادرةً عن باحة المنزل المجاور لبيتهم. تبعت بريندان نحو زاوية المنزل. استرخى دانيال على كتفها وهو ما زال مثقلًا بالنعاس. حملت حقيبة الحفاضات وحقيبة كتب الأطفال، وحمل بريندان حقيبة السفر.
رأت أن الأشخاص الذين سمعت أصواتهم كانوا في الباحة الخلفية لمنزلها هي؛ بولي وليونيل. كانا قد سحبا مقعدين من مقاعد المرج قريبًا بحيث يمكنهما الجلوس في الظل، مولِّين ظهرَيْهما للمنظر.
ليونيل. كانت قد نسيته تمامًا.
وثب قائمًا وركض ليفتح لهم الباب الخلفي.
«وها قد عادت الحملة الاستكشافية بجميع الأعضاء المعنيِّين.» هكذا قال بصوتٍ لم تظن لورنا أنها قد سمعته يصدر عنه من قبلُ. كانت فيه حرارة طليقة من القلب، طمأنينة وثقة مواتيتان. صوت صديق العائلة. بينما أمسك البابَ مفتوحًا أمامَها، نظر نحو وجهها مباشَرةً — وهو شيء لم يفعله قبل ذلك قطُّ تقريبًا — وابتسَمَ لها ابتسامةً قد زال عنها كلُّ الرهافة، والتكتُّم، والتواطُؤ الساخر، وكذلك زال عنها ذلك التعبُّد الغامض. زالت التعقيداتُ كلها، والرسائلُ الخصوصية كلها.
جعلت من صوتها صدًى لصوته.
«إذن، متى عدتَ؟»
قال: «يوم السبت، كنتُ نسيت أنكم ستسافرون. أتيتُ إلى هنا من العمل مباشَرةً لألقي عليكم التحية ولم تكونوا هنا، لكن بولي كانت هنا وبالطبع أخبرَتْني فتذكَّرْتُ.»
«ما الذي أخبرَتْكَ به بولي؟» هكذا قالت بولي، وهي تقترب من ورائه. لم يكن هذا سؤالًا حقًّا، ولكنه ملاحظة نصف مشاكِسة لامرأةٍ تعرف أن أي شيء تقريبًا تقوله سوف يُستقبَل استقبالًا حَسنًا.
كانت حروق الشمس على بشرة بولي قد تحوَّلت إلى طبقة من السُّمرة، أو على الأقل إلى تورُّد جديد، على جبينها وعنقها.
«هاتِ عنكِ.» قالت للورنا، وهي تريحها من الحقيبتين اللتين كانت تحملهما على ذراعها، وكذلك زجاجة العصير الفارغة في يدها. «سآخذ كل شيء عدا الصغير.»
كان شعر ليونيل اللين المنبسط قد استحال لونه الآن إلى أسود مائل للبُني وليس أسود تمامًا — بطبيعة الحال؛ فقد كانت تراه لأول مرة في نور الشمس المكتمل — وكانت بشرته هو أيضًا مسفوعةً بسُمْرة الشمس، بما فيه الكفاية لأن يفقد جبينه إشراقَه الشاحب. كان يرتدي السروال الداكن المعتاد، غير أن قميصه لم يكن مألوفًا لها. قميص أصفر قصير الكمين، مصنوع من قماشٍ رخيص برَّاق يحتاج إلى كَيٍّ شديدٍ، وأوسع من اللازم عند كتفَيْه، ربما اشتراه من معرض تخفيضات السلع القديمة الخاص بالكنيسة.
•••
حملت لورنا دانيال إلى غرفته بالأعلى. أرقدته في مهده ووقفت إلى جواره تصدر أصواتًا ناعمة وتمسِّد ظهره.
فكَّرتْ أن ليونيل بلا شك يعاقبها على خطئها بالذهاب إلى غرفته. لا بد أن صاحبة البيت قد أخبرَتْه. كان على لورنا أن تتوقَّع ذلك، لو أنها توقَّفت لتفكِّر قليلًا. لم تتوقَّف لتفكِّر، على الأرجح، لأنه قد خطر لها أن ذلك غير مهم. وربما تكون قد فكَّرت أنها سوف تخبره بنفسها.
«مررتُ بمنزلك في طريقي إلى ملعب الصغار وخطرتْ لي فكرة أن أدخل وأن أجلس في منتصف أرضية غرفتك. ليس لديَّ تفسيرٌ للأمر. بَدَا الأمر وكأنه سوف يمنحني دقيقةً من السلام والسكينة، أن أكون في غرفتك وأن أجلس في منتصف أرضيتك.»
فكَّرَت — بعد رسالته؟ — أن ثمة رابطة تجمع بينهما، رابطة لا مجالَ للتصريح بها، ولكن من الممكن الاعتماد عليها والوثوق بها. وكانت على خطأٍ، فقد أخافَتْه. أفرطت في وضع الافتراضات. كان قد انصرف عنها وهناك كانت بولي؛ فبسبب إساءة لورنا إليه اندفَعَ إلى مودة بولي دون تفكير.
لكن ربما لم يكن الأمر كذلك، ربما تغيَّر بكل بساطة. فكَّرت في غرفته الجرداء إلى حدٍّ خارقٍ للمألوف، في الضوء على جدرانها. من ذلك التجريد والعراء قد تخرج تلك النُّسَخ المتغيِّرة منه، نَسَخٌ تُخْلَق دونما جهد وفي طرفة عين. وقد يكون ذلك استجابةً لشيءٍ اتخذ مسارًا خاطئًا بقدرٍ قليل، أو استجابةً لغايةٍ لم يستطع أن يدركها. أو دونما شيءٍ محدَّد وواضح؛ وإن هي إلا طرفة العين.
عندما استغرق دانيال في النوم الفعلي نزلت إلى الطابق الأرضي. في الحمام وجدَتْ أن بولي قد غسلت الحفاضات جيدًا ونقعتها في سَطْل، وغطَّتْها بالمحلول الأزرق الذي يعقِّمها. تناولت حقيبة السفر التي كانت موضوعةً في منتصف أرض المطبخ، وحملَتْها للأعلى ووضعَتْها على الفراش الكبير، وفتحَتْها لتَفرز الثياب وتعرف أيها بحاجةٍ للغسيل وأيها يمكن إعادته لموضعه.
كانت نافذة هذه الغرفة تطل على الباحة الخلفية. سمعت أصواتهم؛ كان صوت إليزابيث مرتفعًا، يكاد يكون صارخًا من الحماسة والبهجة للعودة إلى البيت، وربما لما تبذله من جهدٍ للاحتفاء بانتباه جمهورها الذي ازداد عدده، وصوت بريندان كذلك كان متسلِّطًا ولكن مبتهجًا، وهو يروي كيف كانت رحلتهم.
اقتربت من النافذة وأطلَّتْ للأسفل. رأت بريندان يتوجَّه إلى سقيفة التخزين، ويفتح بابها، ويبدأ في جر حوض سباحة الأطفال. كان الباب يتأرجح منغلقًا عليه، فأسرعت بولي لتمسكه من أجله.
نهض ليونيل وذهب ليفك الخرطوم الملفوف. لم يخطر لها أنه كان يعرف حتى موضع ذلك الخرطوم.
قال بريندان شيئًا ما لبولي. يشكرها؟ مَن يراهما يظن أنهما متوافِقان على خير ما يُرام.
ولكن كيف حدث ذلك؟
لعل الأمر أن بولي قد صارت الآن جديرةً بالاعتماد والثقة، ما دام ليونيل قد اختارها. صارت اختيارَ ليونيل، وليس عبئًا تفرضه عليه لورنا.
أو أن بريندان كان سعيدًا بكل بساطة؛ لأنهم ابتعدوا عن البيت لبعض الوقت. ربما يكون قد أسقط عن كاهلَيْه ولو لبرهة عبْءَ الحفاظ على نظام العائلة والبيت. ولعله قد رأى، عن حقٍّ تمامًا، أن بولي التي تبدَّلت هذه لا تمثِّل أيَّ تهديد.
مشهد عادي للغاية ومدهش للغاية، وكأنه ظهر بفعل السحر. الجميع سعداء.
بدأ بريندان ينفخ إطار الحوض البلاستيكي. كانت إليزابيث قد خلعت ثيابها عدا سروالها الداخلي، وأخذت ترقص في الأرجاء نافدةَ الصبر. لم يهتم بريندان حتى بأن يطلب منها أن تجري لتلبس ثوب السباحة، وأن يخبرها أن سروالها الداخلي هذا غير مناسب. فتح ليونيل صنبور المياه، وإلى أن يصير الحوض جاهزًا لمَلْئِه بالماء وقف يروي أزهار أبو خنجر، مثل أي ربِّ بيت. تحدَّثت بولي إلى بريندان فسَدَّ الفجوة التي كان ينفخ منها الحوض ليغلقها، ممرِّرًا إليها كومة البلاستيك شبه المسطحة تقريبًا.
تذكَّرت لورنا أن بولي كانت هي مَن نفخت الدولفين البلاستيك على الشاطئ. وكما قالت عن نفسها فإن نَفَسها طويل. كانت تنفخ في ثبات ومواصلة ودون أن يبدو عليها أي مجهود. وقفت هناك في سروالها القصير، وساقاها المكشوفتان متباعدتان بصلابة، ببشرة تومض كأنها سعف النخيل. وكان ليونيل يراقبها. هذا ما أحتاج إليه بالضبط، لعل هذا ما يقوله لنفسه. يا لها من امرأة متمكنة ولبيبة، طيِّعة لكن صلبة! امرأة غير تافهة أو حالمة أو ساخطة. وفكَّرَتْ أنه قد يكون من نوع ذلك الشخص الذي سوف يتزوَّج ذات يوم، زوجةً يمكنها أن تمسك بزمام الأمور، ثم سيتغيَّر هو ويتغيَّر من جديدٍ، وربما يقع في غرام امرأةٍ أخرى، في طريقه، ولكن الزوجة ستكون مشاغلها كثيرة للغاية بحيث لن تلحظ ذلك.
قد يحدث ذلك، بولي وليونيل، أو قد لا يحدث. ربما ترجع بولي إلى المنزل وفق الخطة، وإذا فعلتْ ذلك فلن يكون هناك أي انفطار للفؤاد. أو أن ذلك ما فكَّرت فيه لورنا. ستتزوج بولي، أو لا تتزوَّج، ولكن أيًّا كان ما سيحدث، فإن الأشياء التي تجري لها مع الرجال لن تكون هي ما يفطر فؤادها.
وفي وقت وجيز صارتْ حوافُّ الحوض البلاستيكي منتفخةً وملساء. أنزلوا الحوضَ على العشب، ووضعوا الخرطوم بداخله، وراحت إليزابيث تنثر المياه بقدمَيْها. تطلَّعَتْ للأعلى نحو لورنا كما لو كانت تعلم أنها كانت هناك طوال الوقت.
«باردة» صاحت في نشوة. «ماما، المياه باردة.»
الآن تطلَّعَ نحوها بريندان ولورنا كذلك.
«ما الذي تفعلينه لديك؟»
«أُفرِغ الحقيبة.»
«ليس عليكِ أن تفعلي ذلك الآن. هيا اخرجي وتعالي.»
«سأخرج. دقيقة واحدة.»
منذ أن دخلت المنزل — بل في الحقيقة، منذ أن تبيَّنت لأول وهلة أن الأصوات التي سمعتها كانت صادرة عن باحتها الخلفية، وأنها كانت أصوات بولي وليونيل — لم تفكِّر لورنا في الرؤية التي ساورتها، ميلًا بعد ميل، لبولي المشنوقة التي ترتطم بالباب الخلفي. فاجَأَها هذا الآن كما يُفاجَأ المرء أحيانًا، بعد يقظته بوقت طويل، عند تذكُّره حلمًا زاره. كان لتلك الرؤيا ما للحلم من تأثيرٍ مقنعٍ ومُخْزٍ. وكانت عديمة النفع كالحلم كذلك.
ليس في الوقت نفسه تمامًا، ولكن بطريقة متوانية متلكئة، عادت إليها ذكرى مقايضتها. فكرتها البدائية الواهنة والعصابية حول إجراء مقايضة.
ولكن ما الذي كانت قد وعدتْ به؟
لا شيء يخص الطفلين.
أهو شيء يخصها هي؟
وعدت بأن تفعل أي شيء ينبغي عليها فعله، عندما تتبيَّن ما هو.
كان ذلك تحوُّطًا، كانت مقايضة لا يمكن اعتبارها مقايضةً، وعدًا ليس له أي معنًى على الإطلاق.
غير أنها كانت قد جرَّبت احتمالات متنوعة. فعلت ذلك كما لو أنها تقريبًا كانت تصيغ هذه القصة لتحكيها لشخصٍ ما — ليس ليونيل الآن — ولكن لشخصٍ ما، على سبيل التسلية.
أن تقلع عن قراءة الكتب.
أن ترعى أطفالًا من أُسَر مفكَّكة ومن بلدان فقيرة؛ أن تجتهد في علاجهم من الجراح والإهمال.
أن تذهب إلى الكنيسة؛ أن تذعن للإيمان بالله.
أن تقص شعرها قصيرًا، وأن تتوقَّف عن وضع مساحيق زينة الوجه، ألَّا تعود أبدًا إلى رفع نهدَيْها بحمَّالة صدر ذات أسلاك.
جلست على السرير، وقد أنهكَتْها كل هذه الحركة، وهذا الشرود الذي لا محلَّ له من الإعراب.
•••
الأمر المعقول أكثر ممَّا عداه هو أن تكون المقايضة التي عليها أن تجريها هي أن تواصِلَ العيش كما كانت تعيش. كانت المقايضةُ ساريةَ المفعول من قبلُ. أن تتقبَّل ما قد كان وأن تدرك بوضوح ما قد يكون. الأيام والسنوات والمشاعر ستكون هي ذاتها بقدرٍ كبير، عدا أن الطفلين سيكبران، وربما يكون هناك طفلٌ آخَر أو طفلان آخَران، يكبران كذلك، أما هي وبريندان فسوف تتقدَّم بهما السن ومن ثَمَّ يشيخان.
لم يسبق لها حتى الآن، ليس قبل هذه اللحظة، أن رأت بمثل هذا الوضوح أنها كانت تعول على حدوثِ شيءٍ ما، شيء قد يغيِّر حياتها. كانت قد قبلَتْ زواجَها باعتباره تغييرًا واحدًا كبيرًا، ولكن ليس باعتباره التغيير الأخير.
إذن، لا شيءَ الآن عدا ما يمكن لها أو لأي شخص أن يستشرفه بكل عقل واتزان. كانت سعادتها هي مربط الفرس، كانت هي ما قد قايضَتْ به. لا يوجد شيء سِرِّي، أو غريب.
انتبهي لهذا، فكَّرت. طاف بها خاطرٌ درامي أن تجثو راكعةً على ركبتَيْها. هذا أمرٌ جاد.
نادت إليزابيث من جديد. «ماما، تعالي إلى هنا.» تبعها الآخَرون — بريندان وبولي وليونيل، أحدهم بعد الآخَر — ينادونها، ويغيظونها ويشاكسونها.
«ماما.»
«ماما.»
«تعالي إلى هنا.»
•••
مضى وقتٌ طويل للغاية منذ أن جرى هذا. هناك، في شمالي فانكوفر، حين كانوا يعيشون في منزل من طراز بوست آند بيم. عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وجديدة على فن المقايضة.