الدُّب صعد الجبل
كانت فيونا تعيش في منزل والديها، في المدينة ذاتها التي ذهبت فيها إلى الجامعة هي وجرانت. كان منزلًا كبيرًا بنوافذ فسيحةٍ مُصطفة، وقد بدا المنزل لجرانت مُنمَّقًا ويفتقد للنظام في نفس الوقت، فالسجاجيد ملتوية على الأرض وقد انطبعتْ دوائر الأطباق على ورنيش المائدة اللامع. كانت والدتها أيسلندية؛ امرأة قوية تعلو رأسها كتلةُ شعرٍ أبيض كزَبَدِ الموج، وذات آراء سياسية ساخطة تميل إلى أقصى اليسار. كان والدها طبيبَ قلبٍ بعيدَ الشَّأْو، في المستشفى يلقى كل إكبار وتبجيل، ولكنه في البيت يكتفي بدور التابع المذعن عن طيب خاطر، حيث كان يستمع إلى خُطَب مطولة وغريبة وهو يبتسم شاردَ اللب. كان مَن يُلقِي تلك الخطب أناس من جميع الألوان، أثرياء أو في أسمال مهلهلة، وقد كانوا باستمرار يأتون ويذهبون، يتجادلون ويتباحثون أحيانًا بلكناتٍ أجنبية. كان لدى فيونا سيارة صغيرة وكومة من بلوفرات الكشمير، لكنها لم تنضم إلى الأخويات الخاصة بفتيات الجامعة، ولعل سبب هذا كان النشاط الذي يحفل به منزلها.
لم تكن تكترث بذلك النشاط. كانت أخويات الفتيات بالنسبة إليها مجرد مزحة، مثلها مثل أمور السياسة، على الرغم من أنها كانت تحب أن تدير على الفونوغراف أسطوانة «الجنرالات المتمردون الأربعة»، وأحيانًا كانت تدير «نشيد الأُمَمية» بصوتٍ مرتفع للغاية إذا كان هناك أحد الضيوف ممَّن سوف يوترهم ذلك. كان هناك شاب أجنبي بشعرٍ أجعد وسيماء كئيبة يتودد إليها، قالت إنه كان من نسل القوط الغربيين، كما كان يتودد إليها كذلك طبيبان أو ثلاثة أطباء تحت التدريب جديرون بالاحترام، وشُبَّانٌ مرتبكون. كانت تسخر منهم جميعًا ومن جرانت كذلك. كانت تلهو بتكرار بعض عباراته المنتمية إلى مدينته الصغيرة. ظن أنها ربما كانت تمزح أيضًا عندما عرضت عليه الارتباط به، في يوم بارد ومشرق على شاطئ بورت ستانلي. كانت الرمال تلسع وجهَيْهما، والأمواج تُلقِي بأكوام مهشمة من الحصى تحت أقدامهما.
«أتظن أنه سيكون ظريفًا …» هكذا صاحت فيونا، «أتظن أنه سيكون ظريفًا لو تزوجنا؟»
جاراها في الأمر، وصاح نعم. أرادَ ألَّا يبتعد عنها أبدًا. كانت تملك شرارة الحياة.
•••
قُبَيْل أن يغادرا المنزل لاحظتْ فيونا علامة على أرضية المطبخ، نتجت عن الخف المنزلي الأسود الرخيص الذي كانت ترتديه في وقتٍ سابق من اليوم.
«كنتُ أظن أن ذلك الخف لم يَعُدْ يترك علامات!» هكذا قالت بنبرة من الضيق المعتاد والحيرة، وهي تفرك اللطخة الرمادية التي بدت كأنها رُسِمتْ بقلم تلوين ثخين.
أشارت إلى أنها لن تضطر للقيام بهذا مرةً أخرى، بما أنها لن تأخذ ذلك الخف معها.
قالت: «أظن أنني سأكون في ثياب الخروج الكاملة طوال الوقت، أو ثياب شبه كاملة. سيكون الأمر أقرب للنزول في فندق.»
شطفتْ بالماء خرقةَ المطبخ التي استخدمَتْها ونشرتها على حامل بداخل الباب الذي تحت الحوض. ثم ارتدت سترة تزلُّج ثقيلة بياقةٍ من الفرو وباللونين الذهبي والبني، وتحتها كانت مرتدية بلوفرًا أبيض برقبة عالية وسروالًا مُفصلًا لونه بيج. كانت امرأة طويلة مكتنزة الكتفين، في السبعين من عمرها، ولكن ما زالت منتصبة القامة وأنيقة، بساقين طويلتين وقدمين طويلتين أيضًا، ورسغين وكاحلين يتسمان بالرقة، وأذنين صغيرتين للغاية شكلهما هزلي تقريبًا. أما شعرها، الذي كان خفيفًا مثل زغب نبتة الصقلاب، فقد استحال لونه من الأشقر الشاحب إلى الأبيض — بطريقةٍ ما لم يلحظ جرانت متى حدث هذا — وكانت لا تزال تصفِّفه مفرودًا على كتفَيْها، كما كانت تفعل أمها. (كان ذلك من بين الأمور التي أثارت حفيظة والدة جرانت، التي كانت أرملة تعيش في مدينة صغيرة وتعمل كموظفة استقبال لدى أحد الأطباء؛ فقد أنبأها الشعر الأبيض الطويل لوالدة فيونا — أكثر حتى ممَّا أوضحتْ لها حالة المنزل — بكل ما احتاجت إلى معرفته عن اعتبارات أهل البيت وآرائهم السياسية.)
فيما عدا تكوينات العظام الرقيقة لجسد فيونا وعينَيْها الصغيرتين في زرقة الياقوت، كانت أبعد ما تكون عن أمها. كان فمها معوجًا بدرجة طفيفة للغاية، وقد راحت تؤكد وجوده الآن بطلاء شفاه أحمر، وعادةً ما يكون هذا هو آخر ما تفعله قبل مغادرتها للمنزل. بدت على طبيعتها وأقرب ما تكون لصورتها الخاصة؛ مباشرة وغامضة كما كانت في الواقع، عذبة وساخرة قليلًا.
•••
منذ ما يزيد عن عام مضى، بدأ جرانت يلحظ الكثير للغاية من الوريقات الصفراء الخاصة بتدوين الملاحظات ملصوقة في كل أرجاء المنزل. لم يكن ذلك جديدًا؛ فطالما كانت تدون أشياء على سبيل التذكرة؛ عنوان كتاب سمعته يُذكَر في الراديو، أو المهام التي أرادت التأكد من القيام بها في ذلك اليوم. حتى روتينها الصباحي كانت مكتوبًا؛ وقد وجد هو ذلك أمرًا مُلغزًا ومؤثرًا من فرط دقته البالغة.
٧ص يوجا، ٧:٣٠–٧:٤٥ أسنان ووجه وشعر، ٧:٤٥–٨:١٥ تمشية، ٨:١٥ جرانت والإفطار.
كانت الملاحظات الجديدة مختلفة، ملصوقة على أدراج المطبخ، أدوات المائدة، فوط المطبخ، السكاكين. ألا يمكنها فحسب أن تفتح الأدراج فترى ما بداخلها؟ تذكَّر قصة عن جنود ألمان في دورية تحرس الحدود في تشيكوسلوفاكيا في أثناء الحرب. أخبره أحد التشيكيين بأن كل كلب من كلاب دورية الحراسة تلك، كانوا يضعون عليه لافتة صغيرة مكتوب عليها كلب باللغة الألمانية. لماذا؟ هكذا سأل التشيكيون، فقال الألمان: لأن ذلك كلب.
كان على وشك أن يحكي لفيونا عن ذلك، ثم فكَّر أنه من الأفضل ألا يفعل. كان دائمًا ما تضحكهما الأشياء ذاتها، لكن ماذا لو أنها لم تضحك هذه المرة؟
زادت الأمور سوءًا. ذهبت إلى البلدة واتصلت به من كشك هاتف عمومي وسألته كيف يمكنها أن تعود للمنزل. ذهبت لتمشي قليلًا عبر الحقل حتى الغابة ولم تستطع العودة إلى البيت إلا بمحاذاة خط السياج، وهو طريق ملتف أطول مما يلزمها للعودة. قالت إنها اعتمدت على أن السياج سوف يقود المرء دائمًا إلى مكانٍ ما.
كان من العسير استيضاح الأمر. قالت ما قالته حول السياج كما لو كان مجرد مزحة، كما أنها لم تجد أي مشقة في تذكُّر رقم الهاتف لتتصل به.
قالت: «لا أظن أن هناك أي شيء يستحق القلق، أتوقَّع أنني أفقد عقلي فحسب.»
سألها إن كانت تناولت أقراصًا منومة.
«إذا كنتُ فعلتُ فأنا لا أتذكر ذلك.» ثم قالت إنها آسفة لتحدُّثها بهذا الاستهتار.
«أنا متأكدة أنني لم أتناول أي شيء. ربما يجب عليَّ ذلك. ربما بعض الفيتامينات.»
لم تُجدِ الفيتامينات شيئًا. كانت تقف على مداخل الغرف وهي تحاول أن تكتشف ماذا كانت تفعل. كانت تنسى أن تشعل الموقد تحت الخضراوات، أو أن تضع الماء في ماكينة القهوة. سألت جرانت متى انتقلا إلى هذا المنزل.
«أكان ذلك في العام الماضي أم قبل الماضي؟»
فقال لها إنهما انتقلا قبل اثني عشر عامًا.
قالت: «ذلك صادم.»
قال جرانت للطبيب: «لطالما كانت هكذا بدرجة طفيفة. ذات مرة تركت معطف الفراء الخاص بها في مخزن، ثم نسيته تمامًا ببساطة. كان هذا حين كنا نذهب دائمًا إلى مكانٍ دافئ لقضاء فصول الشتاء. ثم قالت إن هذا حدث لغرضٍ ما وإنْ كان دون وعيٍ منها، قالت إنه كان مثل خطيئة تركتها خلفها. هذا هو الشعور الذي كان ينقله إليها بعض الناس نحو معاطف الفراء.»
حاوَلَ دونما نجاح أن يشرح شيئًا أكثر من هذا؛ أن يشرح كيف أن دهشة فيونا واعتذاراتها عن هذا كله بَدَتْ بطريقةٍ ما مجردَ مجاملة روتينية، دون أن تخفي تمامًا إحساسَها الخاص باللهو والتسلية حيال ما يحدث، كما لو كانت قد اعترضَتْ طريقَها مغامرةٌ لم تتوقَّعها، أو كأنها كانت تمارس لعبة تمنَّتْ لو أنه انضمَّ إليها فيها. دائمًا ما مارَسَا ألعابًا تخصهما؛ لهجات ولكنات ليست إلا لغوًا، وشخصيات يخترعانها معًا. كانت بعض أصوات فيونا الملفقة، الزقزقة أو التزلف الخانع (لم يستطع أن يخبر الطبيب بهذا) تحاكي على نحو غريب أصوات بعض نسائه اللاتي لا التقت هي بهن ولا عرفتهن قطُّ.
قال الطبيب: «نعم، حسنًا، قد يكون الأمر انتقائيًّا في البداية. إننا لا ندري، أليس كذلك؟ لا يمكننا التأكد حقًّا حتى نرى النمط الذي سيتخذه تدهور الذاكرة.»
بعد فترة لم يَعُدْ من المهم أي اسم سيُوصَف به ما يحدث؛ فقد اختفت فيونا — التي لم تَعُدْ تذهب للتسوُّق بمفردها — في السوبر ماركت بمجرد أن أدار جرانت لها ظهره. عثر عليها رجل شرطة وهي سائرة في منتصف الطريق على بُعْد بضعة شوارع. سألها عن اسمها فأجابته على الفور، ثم سألها عن اسم رئيس وزراء البلد.
«إن لم تكن تعرف ذلك أيها الشاب، فأنت لا تصلح لهذه الوظيفة المهمة.»
ضحك، لكنها عندئذٍ ارتكبَتْ خطأً ألا وهو سؤاله إن كان رَأَى بوريس وناتاشا.
كان هذان كلبان روسيان من نوع الوولف قد تبنَّتْهما قبل سنوات كمعروفٍ تقدِّمه لإحدى الصديقات، ثم كرَّست نفسها لهما خلال ما تبقَّى من عمرهما. لعل رعايتها لهما تزامنت مع اكتشاف أنها لن تتمكن غالبًا من الإنجاب. كان ثمة شيء في قنواتها مسدود أو ملتوٍ؛ لا يستطيع جرانت أن يتذكر الآن بالضبط، تجنَّب على الدوام التفكير بشأن كل تلك الأجهزة الأنثوية. أو ربما كان ذلك بعد أن توفيت أمها. كانت الأرجل الطويلة للكلبين وشعرهما الحريري، بوجهَيْهما الضيقين اللطيفين والمتصلبين، يتوافقان تمامًا مع مظهرها حين تصحبهما للخارج للتمشية. بل إن جرانت نفسه في تلك الأيام، وقد حصلَ على وظيفته الأولى بالجامعة، ربما بَدَا لبعض الأشخاص أن فيونا قد اختارته بناءً على واحدة من نزواتها الغريبة، ومن ثَمَّ فقد تلقَّى العناية والرعاية والعطف منها، على الرغم من أنه لم يفهم هذا قطُّ، لحسن الحظ، إلا بعد مرور وقتٍ طويل.
•••
في اليوم نفسه الذي تجوَّلت فيه خارج السوبر ماركت، قالت له بحلول وقت العَشاء: «تعرف ما الذي سيتوجَّب عليكَ أن تفعله بي، أليس كذلك؟ سوف تضطر لأن تضعني في ذلك المكان. شالو ليك؟»
فقال جرانت: «ميدو ليك؟ لم نصل إلى تلك المرحلةِ بعدُ.»
راحت تقول: «ليكن شالو ليك أو شيلي ليك أو سيلي ليك!» كما لو كانا مستغرقين في مباراة مرحة، «هو سيلي ليك إذن.»
أمسك رأسه بيدَيْه، مستندًا بمرفقَيْه على المائدة. قال إنهما إذا فكرا في هذا، فلا بد أن يعتبراه شيئًا ليس مستديمًا بالضرورة؛ علاجًا تجريبيًّا من نوعٍ ما، التداوي بالخلود للراحة.
•••
كانت هناك قاعدة تقضي بعدم قبول نزلاء جدد خلال شهر ديسمبر؛ لأن موسم الإجازات يتسم بالكثير من الشِّراك العاطفية. وهكذا قطعَا رحلة العشرين دقيقة بالسيارة في شهر يناير. قبل أن يصلا إلى الطريق السريع، كان طريق القرية يختفي بداخل فجوة سبخة قد تجمَّدت الآن تمامًا. ألقت أشجار السنديان والقيقب بظلالها كأنها قضبان متقاطعة على الجليد الساطع.
قالت فيونا: «آه، أتذكَّر؟»
فقال جرانت: «كنتُ أفكِّر في ذلك أنا أيضًا.»
قالت: «الفرق الوحيد أنه كان في ضوء القمر.»
كانت تتحدَّث عن الوقت الذي خرجا فيه للتزلُّج ليلًا، ومن فوقهما كان القمر بدرًا، ومن تحتهما الجليد المخطط بالأسود، في هذا المكان الذي لا يمكن لأحد الدخول إليه إلا في أعماق فصل الشتاء. كانا قد سمعا الأغصان تطقطق في البرد.
إذن، إذا كان بوسعها أن تتذكَّر ذلك بهذا القدر من الوضوح والدقة، أيمكن أن تكون قد ساءت حالتها حقًّا؟
كان كل ما استطاع فعله هو ألَّا يستدير بالسيارة ويسوقها للبيت عائدين.
•••
كانت هناك قاعدة أخرى شرحتها له المشرفة؛ غير مسموحٍ للنزلاء الجدد باستقبال زوَّار خلال الأيام الثلاثين الأولى. كان أغلبهم في حاجةٍ إلى ذلك الوقت للاعتياد والاستقرار. قبل أن يتم العمل بهذه القاعدة في المكان، كانت هناك تضرُّعات ودموع وثورات غضب، حتى من جانب هؤلاء الذين أتوا باختيارهم؛ ففي حدود اليوم الثالث أو الرابع لهم يبدءون في العويل والتوسُّل لإعادتهم إلى البيت، وقد يضعف بعض الأقارب أمام ذلك، وهكذا يجد المرء أحد الأشخاص يُحمَل من جديد إلى بيته دون أن تكون الحالة التي أتى عليها للمكان قد تحسَّنت بأي درجة، وما هي إلا ستة أشهر بعدها أو أحيانًا أسابيع معدودة فحسب، ويضطر الجميع إلى خوض هذا الكرب المزعج بكامله مرةً أخرى.
قالت المشرفة: «في حين أننا وجدنا أنهم إذا ما تُرِكوا بمفردهم فغالبًا ما ينتهي بهم الأمر سعداء راضين، سيكون عليك فعليًّا استمالتهم حتى يركبوا حافلة تأخذهم في رحلة إلى المدينة، والأمر نفسه يحدث في زياراتهم لبيوتهم. لا بأس على الإطلاق في أخذهم إلى البيت عندئذٍ، زيارة لساعة أو اثنتين؛ فهم مَن سوف يقلقون بشأن العودة إلى هنا على موعد العشاء؛ لأن ميدو ليك قد أصبح هو بيتهم حينئذٍ. لا ينطبق هذا بالطبع على نزلاء الطابق الثاني، فلا يسعنا تركهم يذهبون؛ فالأمر أصعب ممَّا يجب، ولم يعودوا يعرفون أين هم على أي حال.»
قال جرانت: «لن تصعد زوجتي إلى الطابق الثاني.»
قالت المشرفة مستغرقةً في التفكير: «كلا، أودُّ فقط أن أوضِّح كلَّ شيء من البداية.»
•••
كانا قد أتيَا إلى دار ميدو ليك بضع مرات قبل سنوات كثيرة، لزيارة السيد فاركوار، المزارع الأعزب العجوز الذي كان جارًا لهما. عاش بمفرده في منزل من الآجر معرَّض للرياح، ظل ثابتًا على حاله منذ السنوات الأولى للقرن، باستثناء إضافة الثلاجة وجهاز التليفزيون. كان قد زار كلًّا من جرانت وفيونا عدة مرات دون إخطار سابق وعلى فترات معقولة، وبالإضافة إلى الشئون المحلية للبلدة، أحَبَّ أن يناقش معهما الكتب التي كان يقرؤها؛ عن حرب القرم أو رحلات استكشاف المناطق القطبية أو تاريخ الأسلحة النارية. ولكن بعد أن نزل بدار ميدو ليك لم يكن يتحدَّث إلا عن الروتين الخاص بالدار، وقد استشعرَا فكرة أن زياراتهما له، على الرغم من أنه يمتنُّ لها، كانت عبئًا اجتماعيًّا عليه. وقد كرهت فيونا بالذات رائحة البول والمطهرات العالقة في الجو، وكرهت باقات الزهور الخامدة المصنوعة من البلاستيك في كوًى محفورة بالممرات المعتمة المنخفضة الأسقف.
اختفى ذلك المبنى الآن — على الرغم من أن تاريخ بنائه يرجع إلى الخمسينيات فقط — تمامًا كما اختفى منزل السيد فاركوار، وحلَّ محله شيءٌ أشبه بقلعة مبتذلة تستقبل بعضَ الأشخاص من تورونتو خلال عطلات نهاية الأسبوع. أما دار ميدو ليك الجديدة فقد كانت مبنًى جيدَ التهوية ذا أقواس، يحمل هواؤه نفحةً خفيفة مبهجة من عبير شجر الصنوبر، تمتد فيه نباتاتٌ خضراء حقيقية وباذخة من آنية عملاقة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد جرانت نفسه يتصوَّر فيونا موجودة في ذلك المبنى القديم في أثناء الشهر الطويل الذي كان عليه اجتيازه دون رؤيتها. كان أطول شهر في حياته كلها، هكذا فكَّر، أطول حتى من الشهر الذي قضاه مع أمه في زيارة أقارب لهم في مقاطعة لانارك، حين كان في الثالثة عشرة من عمره، وأطول من الشهر الذي قضته جاكي آدامز في إجازة مع أسرتها، في وقتٍ قريب من بداية علاقتهما الغرامية. كان يتصل بدار ميدو ليك يوميًّا، على أمل أن يستطيع التوصُّل إلى الممرضة التي كانت تُدعَى كريستي. بدت منشرحة بوفائه هذا، وكانت تقدِّم له تقريرًا أوفى من أي ممرضة أخرى يصادف أن تجيبه.
أُصِيبتْ فيونا بنزلة برد، ولكن هذا شيء معتاد للوافدين الجدد.
قالت كريستي: «تمامًا كما يحدث حين يبدأ أولادك الذهاب إلى المدرسة، يتعرَّضون لمجموعة كاملة من الجراثيم الجديدة، ولفترةٍ من الوقت يلتقطون كل شيء.»
ثم تعافت من نزلة البرد. توقَّفتْ عن تناوُل المضادات الحيوية، ولم تَعُدْ تبدو مشوشة كما كانت في أول دخولها إلى الدار. (كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها جرانت عن المضادات الحيوية أو التشوُّش.) كانت شهيتها للطعام جيدة تمامًا، وبدا أنها تستمتع بالجلوس في القاعة المشمسة. بدا أنها تستمتع بمشاهدة التليفزيون.
من بين الأمور التي ما كان من الممكن التسامح معها بشأن المبنى القديم للدار، الطريقةُ التي كان بها جهازُ التليفزيون مرئيًّا من كل مكان، بحيث يثقل على أفكارك ويفرض نفسَه على أحاديثك أينما اخترتَ أن تجلس. كان بعض النزلاء (هكذا كان هو وفيونا يدعوانهم، نزلاء وليسوا مقيمين) يرفعون أعينهم إليه، وبعضهم يرد على الجهاز الحديث مغمغمًا له، ولكن أغلبهم كان يكتفي بالجلوس متحملًا هجومه المعتدي في ذلٍّ ومسكنة. أما في المبنى الجديد، وبقدر ما يمكنه أن يتذكَّر، كان جهاز التليفزيون في غرفة جلوس منفصلة، أو في غرف النوم؛ بحيث يمكنك أن تختار أن تشاهده أو لا.
لا بد أن فيونا قد اختارت. ولكن ماذا كانت تشاهد؟
خلال الأعوام التي عاشاها في هذا المنزل، شاهَدَ هو وفيونا معًا الشيء القليل من البرامج التليفزيونية. تجسَّسَا على حيوات كل حيوان أو زاحف أو حشرة أو مخلوق بحري استطاعت الكاميرا أن تصل إليه، وتابعا حبكات درامية لمسلسلات بَدَتْ قريبة من روايات القرن التاسع عشر الرائعة والمتشابهة فيما بينها. كما فُتِنا بمسلسل كوميدي إنجليزي يدور حول الحياة في متجر متعدد الأغراض والأقسام، وشاهدا الكثير للغاية من حلقاته المعاد عرضها، حتى إنهما حفظا الحوار عن ظهر قلب. وحزنا معًا على اختفاء الممثلين الذين توفوا في الحياة الحقيقية أو اعتزلوا العمل، ثم رحَّبا معًا بعودة هؤلاء الممثلين أنفسهم عندما كانت تولد شخصياتهم في الأحداث من جديد. راقبا مدير البيع في المتجر ولون شعره يتدرج من الأسود إلى الرمادي، وأخيرًا يعود للأسود من جديد، الشعر المستعار الرخيص لا يتبدل أبدًا. ولكن حتى ذلك حالَ لونه أيضًا؛ ففي نهاية الأمر حال لون الشعر المستعار والشعر الأشد سوادًا على الإطلاق كما لو أن غبارًا من شوارع لندن كان ينسل من تحت أبواب المصعد، وكان لهذا أثرٌ محزن بدا أنه أشد أثرًا على جرانت وفيونا من أي مسرحية تراجيدية من الأعمال الخالدة، وهكذا توقفا عن متابعة المسلسل حتى نهايته الأخيرة.
كانت فيونا تعقد بعض الصداقات، هكذا قالت كريستي. لا شك أنها خرجت من قوقعتها.
أي قوقعة؟ أراد جرانت أن يسأل، لكنه راجع نفسه فامتنع، لكي يحافظ على العلاقة الطيبة مع كريستي.
•••
إذا اتصل أي شخص هاتفيًّا كان يتركه ليسجل رسالة على جهاز الرد الآلي. الأشخاص الذين كانا يتفاعلان معهم اجتماعيًّا من وقتٍ لآخر لم يكونوا جيرانًا قريبين، بل ممن يعيشون في أماكن متفرقة من الريف، وكانوا من المتقاعدين مثلهما، وكثيرًا ما يسافرون دون إخطار. خلال السنوات الأولى التي عاش فيها جرانت وفيونا هنا كانا يبقيان خلال فصل الشتاء. كان شتاء الريف تجربة جديدة، وكان لديهما الكثير للغاية مما يمكن لهما أن يقوما به، كإصلاح وصيانة المنزل. ثم واتتهما فكرة أن عليهما هما أيضًا أن يسافرا خاصةً أنهما يستطيعان ذلك، وهكذا ذهبا إلى اليونان، وإلى أستراليا، وإلى كوستاريكا. قد يظن الآخرون أنهما مسافران في إحدى الرحلات حاليًّا.
كان يذهب للتزلج على الجليد على سبيل التريُّض، ولكنه لم يذهب قطُّ بعيدًا حتى منطقة المستنقع. كان يتزلج هنا وهناك دائرًا في الحقل الذي يقع وراء المنزل، والشمس تهبط تاركةً السماء قرنفلية اللون فوق ريفٍ بَدَا وكأنه محاصَرٌ بأمواج جليد ذات حواف زرقاء. كان يقسم الأوقات التي يتجوَّل فيها في الحقل، ومن ثَمَّ يعود إلى البيت المعتم، يفتح نشرة الأخبار في التليفزيون بينما يعدُّ عشاءه. عادةً ما كانا يعدَّان العشاء معًا؛ أحدهما يعدُّ ما سيشربان والآخَر يوقد المدفأة، ويتحدَّثان عن عمله (كان يكتب دراسةً حول الذئاب في الأساطير الإسكندنافية، وعلى الخصوص الذئب العملاق فنريس الذي يبتلع أودين في نهاية العالم)، ويتحدثان عن أي شيء كانت تقرؤه فيونا، وعمَّا فكَّرَا فيه في خلال يومَيْهما المتقاربين والمنفصلين. كان هذا هو الوقت الذي عاشا فيه أزهى وأدفأ حالة من الحميمية، كما كان هناك أيضًا بالطبع خمس أو عشر دقائق من العذوبة الجسدية قبل أن يخلدا إلى الفراش مباشَرةً، شيئًا لم يكن ينتهي بهما غالبًا إلى الجنس، ولكنه طمأنهما أن الجنس لم تخمد جذوته بعدُ.
•••
حلم جرانت بأنه يُرِي زميلًا له كان يعدُّه من بين أصدقائه رسالةً، أرسلَتْها إليه شريكة في السكن لفتاةٍ لم ترد على باله لفترة. كان أسلوب الرسالة منافقًا وعدوانيًّا، مهدِّدًا على نحوٍ مثير للضيق، أحسَّ أن كاتبة الرسالة سحاقية مستترة. أما الفتاة نفسها فقد انفصل عنها بشكلٍ لائق ومحترم، وبدا من المستبعد أنها تريد أن تثير ضجة حول الأمر، فضلًا عن أن تحاول الانتحار، وهو ما كانت الرسالة تحاول أن تخبره به في وضوح وتفصيل.
كان زميله ذلك واحدًا من آلاف الأزواج والآباء الذين يسارعون بفكِّ أربطة عنقهم، ويغادرون منازل الزوجية ليمضوا كلَّ ليلة على مرتبة مفروشة أرضًا مع عشيقات شابات فاتنات، من بين المترددات على مكاتبهم، أو في فصولهم الدراسية، بأجسادهن المتسخة التي تنضح برائحة الماريجوانا. لكنه الآن لا يرى تلك الخيانات الحمقاء إلا عبر ساتر من ضباب، ويتذكَّر جرانت أن ذلك الزميل قد تزوَّج في الحقيقة من إحدى تلك الفتيات، وأنها صارت تقيم مآدب العشاء لضيوفهما وأنجبت له أطفالًا، تمامًا كما تفعل الزوجات.
«هذا ليس مُضحكًا!» قال الزميل لجرانت، الذي لم يعتقد أنه كان يضحك، «ولو كنتُ مكانك لحاولتُ أن أهيئ فيونا لاستقبال الأمر.»
وهكذا انطلق جرانت ليعثر على فيونا في دار ميدو ليك — المبنى القديم — وبدلًا من أن يفعل ذلك، دخل إلى قاعة المحاضرات. كان الجميع جالسين هناك في انتظاره ليعطي درسه، وفي الصف الأخير الأعلى كان يجلس سربٌ من الشابات ذوات الأعين الباردة، كلهن في ثياب سوداء، كلهن في حداد، لم يرفعْنَ عنه قطُّ أعينهن بتحديقها اللاذع، ولم يكتبن أو يكترثن بأي شيء مما كان يقوله.
أما فيونا فقد جلست في الصف الأول مطمئنةً، وقد حوَّلت قاعة المحاضرات إلى شيءٍ أشبه بذلك الركن الذي تعثر عليه دائمًا في أي حفلة؛ بقعة هادئة ومرتفعة حيث يمكنها أن تشرب النبيذ بالمياه المعدنية، وتدخن سجائر عادية وتحكي للآخرين طُرفًا عن كلبَيْها. كانت متشبثة بموضعها هناك ضد التيار، مع بعض الأشخاص ممَّن على شاكلتها، كما لو أن كل ما يدور حولها من دراما في الأركان الأخرى، في غرف النوم أو في ظلمة الشرفة، ليس سوى كوميديا صبيانية؛ كما لو كان التعفُّف أناقةً، والتكتُّم نعمةً.
قالت: «يا رباه! إن الفتيات في تلك السن دائمًا ما يمضين قائلات إنهن سوف ينتحرْنَ.»
لكن مجرد قول ذلك لم يكن كافيًا؛ الحقيقة أن الأمر أثار ذعره. كان خائفًا من أن تكون مخطئة، وأن شيئًا رهيبًا قد حدث، وأنه رأى ما لم تستطع هي رؤيته؛ تلك الحلقة السوداء كانت تزداد سُمكًا، وتهبط ساقطةً نحوه، وتلتف حول قصبته الهوائية، وتدور به أعلى القاعة.
•••
انتزع نفسه خارج الحلم وراح يفصل ما كان حقيقيًّا فيه عمَّا لم يكن كذلك.
كانت هناك رسالة، وظهرت كلمة «نذل» بطلاء أسود مكتوبة على باب مكتبه، وقالت فيونا — حين عرفتْ بأن ثمة فتاة تعاني من لوعة غرامها به — شيئًا شبيهًا للغاية بما قالته في الحلم. أما زميله فلم يتورَّط في الأمر، ولم تظهر قطُّ شاباتٌ في ثياب سوداء في صفه الدراسي، كما لم يُقدِم أحد على الانتحار. لم يُكلَّل جرانت بالخزي والعار، والحقيقة أنه خرج من تلك الورطة بسهولة مقارَنةً بما كان يمكن أن يحدث بعد ذلك بعامين فقط. لكن الخبر سرى بين الناس، وصار الجفاء جليًّا نحوه. صارت الدعوات الموجَّهة إليهما لحفلات الكريسماس أقل عددًا، وأمضيا عشية عيد الميلاد بمفردهما. صار جرانت يشرب حتى يثمل، ودون أن يُطالب بذلك — وأيضًا، ولله الحمد، دون أن يقترف خطأ الاعتراف لها بكل شيء — وعدَ فيونا بحياةٍ جديدة.
ما شعرَ به من عارٍ وقتَها كان ذلك العار الناجم عن أنه قد خُدِع، عن أنه لم يلحظ ما كان يطرأ من تغيُّر مستمر. وما من امرأة واحدة جعلته مدركًا له. طرأ التغيُّر في الماضي حين بَدَا له أن نساءً كثيرات للغاية صرن متاحاتٍ له فجأةً — أو هكذا بَدَا له الأمر حينئذٍ — والآن هذا التغيُّر الجديد، حين صرن يقلن له إن ما وقعَ بينهما لم يكن هو نفسه الشيء الذي كنَّ يتصورنه. لقد تجاوبنَ معه لأنهن كن ضعيفات الجناح ومرتبكات، ولم يجنين من الأمر برمته البهجة، بل الأذى والجراح. حتى حين كنَّ يأخذن بزمام المبادرة نحوه، لم يكنَّ يفعلْنَ ذلك إلا لأن حظوظ الدنيا لم تكن في صالحهن.
لا مجال للاعتراف بأن حياة زير نساء (إذا كان ذلك ما على جرانت أن يسمِّي به نفسه؛ على الرغم من أنه لم يحظَ بنصف ما حظي به الرجل الذي وبَّخَه في الحلم من فتوحات وصعوبات) قد تنطوي على أفعال تنمُّ عن الطِّيبة والكرم، بل التضحية أيضًا. ربما ليس في البدايات، ولكن بعد أن تمضي الأمور قُدمًا على الأقل. لقد غذَّى في مراتٍ كثيرة كبرياء امرأةٍ ما، أو هشاشتها، بتقديم عاطفة أكثر ممَّا كان يشعر به حقًّا نحوها، أو إبداء شغفٍ أعنف وأشد. وعلى الرغم من ذلك يمكنه أن يجد نفسه الآن متهمًا بأنه جرح تقديرها لذاتها، وأساء استغلالها ودمَّرها. كما أنه متهم بخداع فيونا — لقد خدعها بالطبع — ولكن هل كان من الأفضل لهما لو فعل مثلما فعل آخَرون مع زوجاتهن وهجرها؟
لم يخطر له شيء كهذا بالمرة. لم يتوقَّف قَطُّ عن ممارسة الحب مع فيونا، على الرغم من المطالب المزعجة في مكانٍ آخَر. لم يبقَ بعيدًا عنها ولو ليلةً واحدة. لم يخترع قصصًا مُتقنة لكي يقضي عطلة نهاية أسبوع في سان فرانسيسكو أو في خيمة على جزيرة مانيتولين. لم يُفرط في تعاطي الماريجوانا أو معاقرة الشراب وواصَلَ نشر أبحاثه، والمشاركة في اللجان، محقِّقًا تقدُّمًا في مسيرته المهنية. لم تخامره بالمرة أيُّ نية بالتخلِّي عن العمل والزواج واللجوء إلى الريف ليمارس النجارة أو يربي النحل.
غير أن شيئًا شبيهًا بذلك قد حدث على كل حال؛ فقد تقاعد مبكرًا بمعاشٍ أقل. تُوفِّي طبيب القلب والد فيونا، بعد أن أمضى بعض الوقت الصبور والذاهل بمفرده في المنزل الكبير، وورثت فيونا كلًّا من ذلك العقار ومنزل المزرعة الذي نشأ فيه والدها، في قريةٍ بالقرب من خليج جورجيان. تركت وظيفتها كمنسِّقة للخدمات التطوُّعية في أحد المستشفيات (في عالم الحياة اليومية، كما قالت، حيث كان الناس فعلًا يعانون أزمات غير متصلة بالمخدرات أو الجنس أو نزاعات المثقفين). وهكذا كانت هناك حياة جديدة حقًّا.
كان كلباها بوريس وناتاشا قد ماتا قبل هذا الوقت؛ مرض أحدهما ومات أولًا — نسي جرانت أيهما — ثم مات الآخَر، بدرجةٍ أو بأخرى، حزنًا على رفيقه.
راح هو وفيونا يعملان على إصلاح المنزل. مارسا التزلج في أنحاء الريف. لم يكونا اجتماعيين للغاية، ولكنهما استطاعا أن يكسبا بعض الأصدقاء تدريجيًّا. لا مزيدَ من المغازلات المحمومة، لا مزيدَ من أصابع أقدام الإناث التي تزحف صاعدةً تحت طرف بنطلون رجالي في حفل عشاء، لا مزيدَ من الزوجات المتهورات.
رأى جرانت أن هذا جاء في الوقت المناسب تمامًا، بعد أن غاض من نفسه إحساس الظلم. كلٌّ من النسويات (المدافعات عن حقوق المرأة في مواجهة الرجال)، وربما الفتاة الحزينة الساذجة نفسها، والجبناء من أصدقائه المزعومين؛ كلهم دفعوا به للخارج في الوقت المناسب تمامًا. خارج حياةٍ جلبت من المتاعب أكثر ممَّا تستحق، وربما كانت تلك الحياة ستكلفه فيونا في نهاية الأمر.
•••
في صباح اليوم الذي عزم فيه العودة إلى دار ميدو ليك ليقوم بزيارته الأولى، استيقظ جرانت باكرًا. كان مفعمًا بوخزٍ مهيب، كما في الأيام الخوالي في صباح موعده الأول مع امرأة جديدة. لم يكن شعورُه جنسيًّا على وجه التحديد (فيما بعدُ، حين صارت اللقاءات روتينًا منتظمًا، انقضى هذا الشعور تمامًا). كانت ثمة لهفة على الاكتشاف، وتمدُّد يكاد يكون روحيًّا. وكذلك تهيُّب، وتواضُع، وانتباه.
غادر المنزل مبكرًا كذلك. لم يكن مسموحًا باستقبال زوَّارٍ قبل الساعة الثانية. لم يرغب في الجلوس بالخارج في ساحة صف السيارات منتظرًا، وهكذا استدار بالسيارة ومضى في اتجاهٍ خاطئ.
كان الجليد ينحل في الدفء. ما زالت هناك بعض الثلوج، ولكن المشهد الصلب والمُبهِر لأوائل الشتاء قد تفتَّتَ. بدت تلك الكومات المتناثرة كالبثور تحت السماء الرمادية، أقرب إلى قمامة في الحقول.
في البلدة القريبة من دار ميدو ليك وجد محلًّا لبيع الزهور فاشترى طاقة كبيرة. لم يسبق له قطُّ أن أهدى زهورًا إلى فيونا، أو إلى أي شخصٍ آخر. دخل المبنى شاعرًا بأنه عاشق لا حول له ولا قوة، أو كأنه زوج مُذنب في الرسوم الهزلية.
قالت له كريستي: «يا للروعة! هذا أوان مبكِّر للغاية على النرجس؛ لا بد أنك دفعتَ فيه مبلغًا كبيرًا.» تقدَّمته سائرةً على طول رواقٍ ثم توقَّفت وأضاءت إحدى الخزانات، أو لعله مطبخ من نوعٍ ما، حيث بحثتْ عن زهرية. كانت امرأة شابة ممتلئة تبدو وكأنها أقلعت عن الاعتناء بأي جزء من جسدها عدا شعرها. كان أشقر كثير الالتفافات، له مظهر معتنًى به في رفاهية كأنها نادلة في حفل كوكتيل، أو راقصة تَعَرٍّ، هذا الشَّعْر يعلو مثل هذا الوجه والجسد العاديين تمامًا.
«هيا بنا الآن!» هكذا قالت وأومأت له نحو الرواق.
«اسمها مكتوب على الباب.»
وهكذا كان، على لافتة اسم صغيرة مزخرفة بعصافير زرقاء. تساءل إن كان عليه أن يطرق الباب، فطرقه ثم فتح ونادى اسمها.
لم تكن بالداخل. كان باب الدولاب مغلقًا، والفراش مُرتَّبًا. لا شيء على المنضدة المجاورة للفراش، إلا علبة مناديل ورقية وكوب ماء. لا توجد صورة فوتوغرافية أو مرسومة واحدة من أي نوع، ولا كتاب أو مجلة. ربما يتوجَّب عليهم حفظ تلك الأشياء في الدولاب.
عاد من جديد إلى قسم الممرضات، أو مكتب الاستقبال، أو أيًّا كان اسمه. قالت كريستي: «لا!» بدهشةٍ رآها من باب الواجب لا أكثر.
شعر بالتردد وهو يقف حاملًا الزهور، «لا بأس، لا بأس. فلنضع الطاقة هنا.» هكذا قالت وهي تتنهد، كما لو كان طفلًا هيابًا في يومه الأول بالمدرسة. قادته على طول الرواق، نحو مساحة مركزية فسيحة ذات سقفٍ مرتفع بأقواس، ويغمرها ضوء النهار من نوافذ ضخمة مُشرفة على السماء مباشَرةً. كان بعض الأشخاص جالسين بمحاذاة الجدران، في مقاعد مُريحة، وجلس آخرون إلى موائد في منتصف الأرضية المفروشة بالسجاد. لم يبدُ أن أيًّا منهم في حالة متدهورة. مسنُّون ولكن في حالة لائقة، بعضهم بلغ به العجز ما يكفي لأن يعتمد على مقعدٍ متحرك. فيما مضى، حين كان يأتي هو وفيونا لزيارة السيد فاركوار، كانت هناك بعض المشاهد الموهِنة والمزعجة؛ شعرٌ نابت على ذقون النسوة العجائز، لعاب يسيل، رءوس تتأرجح، ثرثرات غاضبة. الآن بدا الأمر كما لو أنهم قد اقتلعوا الحالات الأشد سوءًا، أو لعلها العقاقير والجراحات التي بدءوا يستعينون بها، ربما صارت هناك طرق لمعالجة تلك التشوهات الجسدية، بجانب حالات القصور اللفظي والأنواع الأخرى من العجز والضعف؛ طرق لم يكن لها وجود حتى منذ سنوات قليلة مضت.
ومع ذلك فقد كانت هناك امرأة حزينة للغاية تجلس إلى البيانو، تضرب المفاتيح عبثًا بإصبعٍ واحدة دون أن تصدر نغمة واحدة بالمرة. وامرأة أخرى تحدق من وراء وعاء القهوة وأكداس الأكواب البلاستيكية، تبدو وكأنها قد تحجرت من فرط ضجرها. ولكن لا بد أنها كانت إحدى العاملات في الدار؛ فقد كانت ترتدي زيًّا موحدًا ببنطلون أخضر فاتح مثل الذي ترتديه كريستي.
«أترى؟» قالت كريستي بصوتٍ أرق، «كل ما عليك أن تذهب وتلقي عليها التحية، وحاوِلْ ألَّا تفزعها، وتذكَّرْ أنها ربما لا … حسنًا، لا يهم. فقط اذهب إليها.»
رأى وجه فيونا من الجانب. كانت جالسة قريبًا من إحدى طاولات لعب الورق، لكنها لا تلعب. بدا وجهها منتفخًا قليلًا، كان الترهل الذي في خدها يخفي ركن فمها، بطريقةٍ لم تحدث قطُّ فيما قبلُ. كانت تراقب لعب أحد الرجال الذي تجلس بالقرب منه للغاية. أمسك الرجل بأوراق لعبه مائلةً بحيث تتمكَّن من رؤيتها. حين اقتربَ جرانت من الطاولة تطلَّعَتْ إليه. تطلَّعوا جميعًا إليه، كلُّ اللاعبين الجالسين إلى الطاولة رفعوا أبصارهم نحوه، في استياءٍ، ثم سرعان ما خفضوا أبصارهم نحو أوراق اللعب من جديد، كأنهم يردُّون أي محاولةٍ للتطفُّل.
غير أن فيونا ابتسمت له، ابتسامتها ذاتها المائلة لأحد الجانبين، الخجولة، الماكرة، الفاتنة، ودفعت كرسيها للوراء ودارت مقتربةً منه، وهي تضع أصابعها على فمها.
«برديج!» هكذا همستْ. «مسألة خطيرة جدًّا. إنهم متشددون للغاية فيما يتعلَّق بلعب البرديج.» سحبته نحو طاولة القهوة، وهي تثرثر: «أستطيع أن أتذكر أنني كنت مثلهم هكذا لفترة من الوقت أيام الجامعة. كنتُ أنا وصديقاتي نفوت أحد الصفوف الدراسية ونجلس في الغرفة المشتركة لندخن ونلعب مثل سفاحين عتاة. كانت واحدة منهن اسمها فيبي، لا أذكر الأخريات.»
قال جرانت: «فيبي هارت.» تصوَّر الفتاة الضئيلة ذات الصدر الغائر والعينين السوداوين، التي من المرجح أن تكون قد تُوفيت الآن، ملفوفات بدخان السجائر، فيونا وفيبي والأخريات أولئك، مستغرقات مثل ساحرات شريرات.
قالت فيونا: «أكنتَ تعرفها أنت أيضًا؟» وهي توجِّه ابتسامتها الآن نحو المرأة ذات الوجه المتحجر، «هل أجلب لكَ أي شيء؟ قدحًا من الشاي؟ أخشى أن القهوة ليست طيبة للغاية هنا.»
جرانت لا يشرب الشاي بالمرة.
لم يستطع أن يطوِّقها بذراعَيْه؛ شيءٌ ما جعل ذلك غير ممكن، شيءٌ في صوتها وابتسامتها، المألوفَيْن له كما كانا، شيءٌ في الطريقة التي بدت بها تحرس منه لاعبي الورق وحتى امرأة القهوة، وكذلك تحول بينه وبين إزعاجهم.
قال لها: «أحضرتُ بعض الزهور، رأيت أنها قد تضفي البهجة على غرفتك. ذهبتُ إلى غرفتك ولكني لم أجدك هناك.»
قالت: «حسنًا، لستُ هناك، أنا هنا.»
قال جرانت: «لكِ صديقٌ جديد!» مومئًا نحو الرجل الذي كانت تجلس إلى جانبه. وفي هذه اللحظة تطلَّعَ ذلك الرجل نحو فيونا والتفتَتْ هي نحوه، إما بسبب ما قاله جرانت عنه، وإما لأنها استشعرَتْ نظرته إلى ظهرها.
قالت: «إنه أوبري. الشيء العجيب أنني كنتُ أعرفه منذ سنوات وسنوات مضت. كان يعمل في متجر يبيع الأدوات المعدنية والخردوات، اعتاد جدي أن يشتري منه لوازمه. أنا وهو كنا دائمًا نمزح ونضحك، لكنه لم يملك الجرأة على طلب مرافقتي لنخرج معًا، حتى عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة حين اصطحبني إلى مباراة كرة. ولكن حين انتهت المباراة ظهر جدي لِيُقلَّني إلى البيت. كنت أزورهم خلال الصيف، أزور جدي وجدتين كانا يعيشان في منزل ملحق بمزرعة.»
«فيونا. أنا أعرف أين كان جداكِ يعيشان. إنه نفس المكان الذي نعيش فيه معًا. أقصد كنا نعيش فيه.»
قالت: «حقًّا؟» من غير إبداء اهتمام تام لأن لاعب الورق كان يرسل إليها بنظراته، التي لم تكن نظرات مستجدية ولكن آمِرة. كان رجلًا في مثل سن جرانت، أو أكبر بدرجة هينة. يسقط على جبينه شعرٌ أبيض كثيف وخشن، وقد كانت بشرته مرنة ولكن شاحبة، ذات لون أبيض يميل للصفرة مثل قفاز طفل قديم ومجعد. يحمل وجهه سيماء الوقار والكآبة كذلك، وكان فيه شيء من جمال حصانٍ مُسِن، حصان قوي وخائر العزم، لكنه لم يكن بالمرة خائر العزم إذا تعلق الأمر بفيونا.
«من الأفضل أن أعود.» قالت فيونا، وقد تضرَّجَ وجهُها الذي اكتسب بدانةً حديثةَ العهد. «إنه يعتقد أنه لا يمكنه اللعب إن لم أكن جالسةً بجواره. أمر بائخ، أنا حتى لا أعرف اللعبة بعدُ كما يجب. اعذرني لكن عليَّ أن أذهب.»
«هل أوشكتم على إنهاء اللعبة؟»
«أوه، لا بد أن نفعل. بحسب الظروف. إذا ذهبتَ وطلبتَ بلطف من تلك السيدة العابسة بعض الشاي، فسوف تعدُّه لك.»
قال جرانت: «لا أريد شيئًا.»
«حسنًا سأتركك إذن، أيمكنك أن تسلي نفسك؟ لا بد أن كل ذلك يبدو غريبًا عليك، ولكنك سوف تُفاجَأ بالسرعة التي ستعتاد بها عليه. سوف تتعرَّف على كل الموجودين هنا، إلا أن بعضهم هائمون تمامًا بين السحاب، تعلم مقصدي؛ لا تنتظر منهم جميعًا أن يدركوا مَن تكون.»
انسلَّت عائدة وجلست في مقعدها وقالت شيئًا ما في أذن أوبري. مسَّدَتْ بأصابعها على مؤخرة رأسه.
ذهب جرانت ليبحث عن كريستي ووجدها في الرواق. كانت تدفع أمامَها عربةً صغيرة عليها أباريق من عصير التفاح وعصير العنب.
قالت له: «ثانية واحدة فقط!» وهي تُطل برأسها من مدخل الباب، «يوجد عصير تفاح هنا؟ وعصير عنب؟ وبسكويت؟»
انتظر حتى ملأت كوبين بلاستيكيين وأخذتهما إلى الغرفة، ثم عادت ووضعت قطعتين من بسكويت النشا على طبقين من ورق.
قالت له: «حسنًا، أَلَا يسرُّكَ أن تراها وهي تتفاعل مع الآخرين؟»
قال جرانت: «هل تعرف حتى مَن أكون؟»
•••
لم يستطع أن يقطع الشك باليقين. لعلها تمازحه، ولن يكون هذا بالشيء الغريب عليها. لقد فضحت نفسها بتلك التمثيلية الصغيرة في النهاية، متحدِّثةً إليه كما لو كانت تظنُّ أنه ربما كان نزيلًا جديدًا.
لو أن هذا ما تتظاهر به! إذا كان تظاهُرًا من الأساس!
ولكن أَمَا كانت ستركض خلفه وتضحك منه عندئذٍ، بمجرد أن تنتهي مزحتها؟ ما كانت ستعود هكذا إلى منضدة لعب الورق، بكل تأكيد، متظاهِرةً أنها نسيته تمامًا. كان تصرُّفًا أقسى ممَّا يحتمل.
قالت كريستي: «كل ما هنالك أنك أتيتَها في لحظة سيئة نوعًا ما. إنها مستغرِقة تمامًا في اللعب.»
قال: «إنها لا تلعب حتى.»
«حسنًا، ولكن صديقها يلعب؛ أوبري.»
«ومَن هو أوبري إذن؟»
«هذا هو اسمه، أوبري، صديقها. هل تريد عصيرًا؟»
هز جرانت رأسه رافضًا.
قالت كريستي: «أوه، انظر، إنهم يعقدون تلك الارتباطات فيما بينهم، ويسيطر عليهم ذلك لفترةٍ ما. نوع من أقرب الأصحاب لك. إنها مرحلة لا بد منها.»
«تقصدين أنها ربما لا تدري حقًّا مَن أكون؟»
«ربما لا تدري. ليس اليوم. ثم تعرفك غدًا، لا يمكن التأكد أبدًا، صحيح؟ تتغير الأمور جَيْئةً وذهابًا طوال الوقت، وليس هناك ما يمكنك أن تفعله إزاء ذلك. سوف ترى كيف تمضي الأحوال بمجرد أن تعتاد زيارتها لفترة. سوف تتعلَّم ألَّا تتعامل مع الوضع بجدية زائدة عن اللازم، ستتعلم أن تتعامل معه يومًا بيوم.»
•••
يومًا بيوم. غير أن الأمور لم تتغيَّر جَيْئة وذهابًا، ولم يعتَدْ على تلك الأحوال. بَدَا أن فيونا هي مَن اعتادت وجوده، ولكن فقط كزائرٍ مُثابر يُبدِي اهتمامًا خاصًّا بها، أو ربما حتى كمصدرٍ للإزعاج لا بد من منعه من إدراك أنه كذلك، وفقًا لقواعدها القديمة للمجاملة واللياقة. عاملته بنوعٍ اجتماعي وشارد اللب من المودة منعه من طرح السؤال الأشد وضوحًا والأشد إلحاحًا. لا يستطيع أن يسألها إن كانت تتذكَّره أم لا، بوصفه زوجها لقرابة خمسين عامًا. راوده انطباع أنها سوف تشعر بالحرج إزاء سؤالٍ كهذا؛ الحرج له وليس لها. وقد تضحك بطريقة مضطربة وتثير فيه الذعر بتهذيبها وارتباكها، وربما تنتهي بطريقةٍ ما إلى عدم ردها بشيء، لا نفيًا ولا إيجابًا. أو قد تجيب بأي من الجوابين بطريقةٍ لا تمنح القدر الأقل من الاقتناع.
كانت كريستي هي الممرضة الوحيدة التي يتحدَّث إليها. بعض الأخريات عاملن الأمر كله على أنه مجرد مزحة، بل إن واحدة شديدة البأس منهن اندفعت تضحك في وجهه، وهي تقول: «ذلك الرجل أوبري وتلك السيدة فيونا؟ لقد تورَّطَا معًا للغاية، أليس كذلك؟»
أخبرته كريستي بأن أوبري كان الممثل المحلي لشركة تبيع مبيدات الأعشاب الضارة — «وكل هذه الأنواع من الأشياء» — للمزارعين.
قالت له: «كان شخصًا رائعًا.» لم يعرف جرانت إن كانت تقصد بأن أوبري كان شخصًا أمينًا وسخيًّا وطيبًا مع الناس، أم أنها تقصد أنه كان حلو الحديث وأنيق المظهر ويقود سيارة جيدة. من الوارد أنها قصدت الأمرين معًا.
وبعد ذلك، وقبل أن تتقدَّم به السن للغاية أو حتى قبل أن يتقاعد عن العمل — قالت كريستي — عانى من تلفٍ غير مألوف.
«إن زوجته هي مَن ترعاه عادةً. ترعاه في المنزل. أودعته هنا بصفةٍ مؤقتة بحيث يمكنها أن تستريح. طلبتْ منها شقيقتها أن تسافر إلى فلوريدا. كما ترى فقد مرت بوقتٍ عصيب، كيف يمكن أن تتوقَّع حدوثَ هذا لرجلٍ مثله؛ فقد سافرا ببساطة لقضاء إجازة في مكانٍ ما وأصيب بشيءٍ ما، حشرةٍ أو جرثومةٍ ما، وأدى هذا لإصابته بحمى مرتفعة رهيبة؟ ثم دخل في غيبوبة تركته كما هو الآن.»
سألها عن تلك العواطف التي تنشأ ما بين النزلاء. هل تقطع شوطًا أبعد من اللازم؟ كان بمقدوره الآن أن يتكلم بنبرة من التسامح كان يأمل أن توفِّر عليه الاستماع إلى أي محاضرات.
قالت: «هذا يتوقَّف على ما تقصده.» وواصلت الكتابة في دفتر القيد بينما كانت تقرِّر كيف تجيب سؤاله. وحين أنهت ما كانت تكتبه تطلَّعت نحوه بابتسامة صريحة.
«أمرٌ مضحك، المشكلة التي نواجهها هنا غالبًا ما تكون مع أشخاص لم يعقدوا صداقة بعضهم مع بعض بالمرة. لعلهم ما كان ليعرف أحدهم الآخَر، فيما وراء التعرف السطحي من قبيل: هل هذا رجل أم امرأة؟ يظن المرء أن الرجال العجائز هم مَن يحاولون التسلُّل إلى فراش السيدات العجائز، ولكن الحقيقة أن ما يحدث هو العكس أغلب الوقت. السيدات العجائز هن مَن يسعين وراء الرجال العجائز؛ ربما لأنهن لم يفقدن كل رونقهن بعدُ، على ما أظن.»
توقَّفت عن الابتسام، كما لو كانت تخشى من أنها أفضت بما هو أكثر من اللازم، أو أنها لم تراعِ المشاعرَ في حديثها.
قالت: «لا تفهم كلامي خطأً. أنا لا أقصد فيونا، فيونا سيدة راقية حقيقية.»
حسنًا، ماذا عن أوبري؟ رغب جرانت في قول ذلك، لكنه تذكَّرَ أن أوبري على مقعد متحرك.
«إنها سيدة حقيقية.» قالت كريستي، بنبرة حاسمة ومُطَمْئِنة للغاية بحيث إنها لم تُطمئن جرانت. رسم في عقله صورة لفيونا، في واحد من قمصان نومها الطويلة ذات الشرائط الزرقاء والمطرزة بتخاريم الدانتيلا، وهي ترفع في إغراء أغطية فراش رجل عجوز.
قال: «حسنًا، أحيانًا ما أتساءل …»
فقالت كريستي بصرامة: «عمَّ تتساءل؟»
«أتساءل إذا لم تكن تلعب عليَّ تمثيليةً من نوعٍ ما.»
قالت كريستي: «ماذا؟»
•••
أغلب فترات ما بعد الظهيرة كان يمكن العثور عليهما معًا جالسَيْن إلى طاولة لعب الورق. كانت لأوبري يدان كبيرتان بأصابع ثخينة، فكان من الصعب عليه أن يتحكَّم في أوراقه. كانت فيونا ترتِّبها وتتعامل معها، وأحيانًا تتحرك بسرعة لتضبط وَضْع ورقةٍ بَدَا أنها سوف تنزلق من قبضته. كان جرانت يراقب من الطرف الآخر للغرفة حركتها المندفعة واعتذارها السريع الضاحك، كان يمكنه أن يرى عبوس أوبري على نحو ما يفعل الأزواج مع زوجاتهم إذا ما مسَّتْ خدَّه خصلةٌ شاردة من شعرها. مالَ أوبري إلى تجاهُلها ما دامت بالقرب منه.
ولكن بمجرد أن تبتسم لتحية جرانت، بمجرد أن تدفع مقعدها للوراء وتنهض لتقدِّم له الشاي — مُظهِرةً أنها قد تقبَّلت حقَّه في الوجود هنا، ومن الممكن أنها شعرت نحوه بمسئوليةٍ هشة — كان وجه أوبري يتخذ سمتًا من الارتياع الكئيب؛ كان يترك أوراق اللعب تنزلق من بين أصابعه وتسقط على الأرض، ليفسد اللعبة.
وهكذا كان يتوجَّب على فيونا أن تنشغل بتصحيح الأمور.
إذا لم يكونا جالسَيْن إلى طاولة البريدج، فربما يكونان سائرين على طول الأروقة، يقبض أوبري بإحدى يديه على حواجز القضبان الخشبية، وبالأخرى يتشبَّث بذراع فيونا أو كتفها. رأت الممرضات في ذلك معجزة؛ كيف أنها شجَّعته على النهوض عن مقعده المتحرك، على الرغم من أنه كان يميل لاستخدام المقعد للمشاوير الأطول، من قبيل الذهاب للمشتل الزجاجي لدى طرف المبنى أو إلى غرفة التليفزيون لدى الطرف الآخر.
بدا أن التليفزيون مفتوح دائمًا على قنوات رياضية، وكان أوبري يشاهد أي رياضة، لكن اتضح أن رياضته المفضلة هي الجولف. لم يمانع جرانت في مشاهدة ذلك معهما، جالسًا على بُعْد بضعة مقاعد. وعلى الشاشة الكبيرة كانت مجموعة صغيرة من المتفرجين والمعلقين يتبعون اللاعبين في أرجاء الخضرة الوديعة، وفي اللحظات الملائمة يندفعون في نوعٍ رسمي من التصفيق والاستحسان. غير أن الصمت كان يسود كل شيء كلما لوَّحَ اللاعب بعصاه وانطلقت الكرة في رحلتها الموجَّهة والمتوحدة عبر السماء. كان كلٌّ من أوبري وفيونا وجرانت، وربما آخَرون، يجلسون حابسين أنفاسهم، ثم يكون أوبري هو أول من يلتقط أنفاسه، معبِّرًا عن رضاه أو خيبته. وما هي إلا لحظة بعد ذلك حتى تردِّد فيونا صدى النغمة ذاتها.
لم يكن في مشتل النباتات مثل ذلك الصمت. كان الاثنان يجدان مقعدًا لهما بين النباتات الأشد كثافةً وخضرةً وذات المظهر الاستوائي — مكان ظليل مخبوء، إنْ صحَّ هذا — حيث امتلك جرانت ما يكفي من ضبط النفس بحيث يمنع نفسه من اختراق تلك الغصون الظليلة. كان يتناهى إلى سمعه صوت خشخشة أوراق الشجر ورشاش المياه، ممتزجًا بحديث فيونا الناعم وضحكاتها.
ثم نوع من الضحك المكتوم كأنه شقشقة. تُرَى لمَن منهما؟
ربما ليس لأيٍّ منهما، ربما يصدر الصوت عن الطيور الماجنة ذات المظهر المبهرج التي تعشِّش في أقفاص الركن.
كان أوبري قادرًا على التكلُّم، ولو أن صوته غالبًا فقدَ نبرته القديمة. بَدَا أنه يقول شيئًا ما الآن، بضعة مقاطع لفظية غليظة. خذي الحذر! إنه هنا، يا حبيبتي.
رأى بعض العملات المعدنية راكدةً في القاع الأزرق لحوض النافورة على سبيل التمنِّي. لم يسبق لجرانت أن رأى أي شخص يرمي نقودًا بالفعل بداخلها. راح يحدق في تلك العملات فئة الخمسة والعشرة سنتات والأرباع، متسائلًا إن كانوا قد ألصقوها هناك في بلاطات القاع؛ كملمح آخر من الديكور المبشر للمبنى.
•••
مُراهقان في مباراة للبيسبول، يجلسان في أعلى نقطة من مدرجات الجمهور، بعيدًا عن أعين أصدقاء الصبا، لا يفصل بينهما إلا بضع بوصات من الخشب غير المطلي، تحل الظلمة، قشعريرة برد سريعة في أمسية في أواخر فصل الصيف. تتلامس أيديهما، يتماس جسداهما، وأعينهما لا ترتفع عن الملعب. لو كان يرتدي سترة لكان خلعها من أجل أن يضعها حول كتفَيْها الضيقتين. ومن تحت السترة يمكنه أن يجذبها لتكون أقرب منه، وأن يضغط بأصابعه المنفرجة على ذراعها اللين.
ليس مثل أي صبيٍّ من صبية هذه الأيام الذي غالبًا ما سيتعجل وصالها من أول موعد يخرجان فيه معًا.
ذراع فيونا اللين. شهوة المراهقة تذهلها وتومض في جميع أعصاب جسدها الرقيق الغض، بينما تتكاثف ظلمة الليل وراء الغبار المضيء للمباراة.
•••
لم يكن هناك الكثير من المرايا في دار ميدو ليك؛ لذا لم يتمكَّن من أن يلمح صورة لنفسه وهو يهيم وراءهما متلصِّصًا متنصتًا، ولكن ما بين حين وآخَر كان يخطر له أنه بالتأكيد يبدو غبيًّا ومُحزنًا، وربما ممسوسًا في عقله، وهو يتتبع أثر فيونا وأوبري هنا وهناك، دون أن يحالفه أي حظ في مواجهتها، أو مواجهته. ويومًا بعد آخَر يتضاءل يقينه حول أحقيته في الوجود داخل هذا المشهد، ومع ذلك لا يقدر على الانسحاب منه. حتى في المنزل، بينما كان يعمل في مكتبه أو ينظف البيت أو يجرف الثلج عند الضرورة، يظل يسمعُ في رأسه دقات رتيبة الإيقاع مثبتة على ميدو ليك، على زيارته التالية. بدا أحيانًا لنفسه أنه صبي عنيد كالبغال يلاحق غرامًا لا أمل منه، وأحيانًا كأحد أولئك التعساء ممَّن يتتبعون النساء الشهيرات عبر الشوارع، وكلهم ثقة أن أولئك السيدات سوف يلتفتْنَ نحوهم ذات يوم معترفاتٍ بالحب.
بذل جهدًا هائلًا، وقصرَ زياراته على أيام الأحد والأربعاء، كما عقد عزمه على ملاحظة أشياء أخرى في المكان، كما لو كان زائرًا متجولًا، شخصًا أتى لإجراء تفتيش أو دراسة اجتماعية.
تتميز أيام الأحد بضجة وتوتر يوم الإجازة. تصل الأُسَر إلى المكان في عناقيد، حيث تمسك الأمهات غالبًا بزمام الأمور، كما لو كنَّ رعاةً مبتهجين وعنيدين يرقبون بانتباه قطيع الرجال والأطفال. أصغر الأطفال فقط هم مَن يكونون غير مستوعبين لطبيعة الزيارة، فيلاحظون على الفور المربعات البيضاء والخضراء على أرضية الرواق، وينتقون أحد اللونين للسير عليه، والآخر للقفز من فوقه. الأطفال الأكثر جرأةً قد يحاولون ركوب ظهور المقاعد المتحركة واللعب بها. إذا ما أصرَّ بعضهم على تلك الفِعَال على الرغم من التوبيخ، وصار لا بد من إعادته إلى السيارة، فإن طفلًا أكبر منه سنًّا أو حتى الأب نفسه يتطوَّع، على استعداد تام وعن طيب خاطر، للقيام بهذه المهمة، وهكذا يُفلت من وطأة الزيارة.
كانت النساء هنَّ مَن يحرصن على تدفُّق الحديث، بينما بَدَا أن الرجال يروعهم الموقف ككل، وبدا المراهقون مُستائِين. أما المقصودون بالزيارة أنفسهم، سواء أكانوا مستقرين على مقعد متحرك أم يخطون في تعثُّر متكئين على عصًا، أم يسيرون في تخشُّب دون مساعدة، فيكونون فخورين بهذا الجمع ولكنهم شاردو النظرات نوعًا ما، أو يثرثرون بِلَغْوِهم في استماتة، تحت وطأة هذا اللقاء. الآن وقد صاروا محاطين الآن بتشكيلة متنوعة من الدخلاء، فإن هؤلاء النزلاء قد تخلوا عن مظهرهم المعتاد على كل حال. تم نتف الشعيرات الصغيرة الخشنة من جذورها من ذقون الإناث، وربما أُخفيت بعض الأعين المصابة برقعٍ أو نظارات داكنة، أما صعوبات الحديث فقد تم التعامل معها ببعض العقاقير، ومع ذلك فقد تبقَّى شيءٌ من البريق القديم، من صلابةٍ مستردَّة لبعض الوقت، كما لو كانوا مُكْتَفين بأن يكوِّنوا ذكرياتٍ لأنفسهم، أو صورًا فوتوغرافية نهائية.
فهمَ جرانت الآن على نحوٍ أفضل ما كان يشعر به السيد فاركوار بالتأكيد. كان النزلاء هنا — حتى هؤلاء الذين لا يشاركون في أي أنشطة مُكْتَفين بالجلوس يراقبون الأبواب أو يتطلعون من النوافذ — يعيشون حياةً مزدحمة في رءوسهم (فضلًا عن الحياة الخاصة بأجسادهم، التغيرات المشئومة في أمعائهم، الطعنات والوخزات في كل موضعٍ آخر بهذا القدر أو ذاك)، وهي حياة ليس من الممكن في أغلب الحالات وصفها وصفًا حسنًا أو الإشارة إليها قبالة الزوار. كان كل ما يمكنهم القيام به هو دفع مقاعدهم أو حمل أجسادهم بطريقةٍ ما على أمل التوصُّل إلى شيءٍ ما يمكن لهم إظهاره للآخرين أو التحدث بشأنه.
كان هناك ما يمكن استعراضه في تباهٍ؛ كالمشتل الزجاجي وشاشة التليفزيون الكبيرة. ارتأى الآباء أن هذا شيءٌ جيدٌ حقًّا، وقالت الأمهات إن نباتات السرخس رائعة الجمال، وسرعان ما جلس الجميع حول موائد صغيرة لتناول الآيس كريم، لا يرفضه إلا المراهقون الذين يموتون اشمئزازًا. مسحت النساء ما سالَ على الذقون الهَرِمة المرتعشة، ونظر الرجال إلى الناحية الأخرى.
لا بد أن هناك قدرًا من الرضا في هذا الطقس، حتى المراهقون ربما سيشعرون بالسرور لأنهم قد أتوا هذا المكان، يومًا ما. لم يكن جرانت يملك خبرة في شئون العائلات.
لم يظهر لأوبري أبناء أو أحفاد ليزوروه، وبما أنهم لا يستطيعون لعب الورق — فالموائد مشغولة بحفلات تناول الآيس كريم — بقي هو وفيونا بعيدَيْن عن استعراض يوم الأحد. كما أن مشتل النباتات يؤمُّه الكثيرون عندئذٍ بما لا يسمح بتبادل أحاديثهما الحميمة.
تلك الأحاديث قد تجري، بالطبع، وراء باب غرفة فيونا المغلق. لم يتمكَّن جرانت من أن يطرقه، على الرغم من أنه لبث واقفًا أمامه لبعض الوقت يحدِّق بشدة في طيور ديزني المرسومة حول اسمها، ويساوره نفورٌ ناقِم بوضوح.
أو لعلهما في غرفة أوبري. لكنه لم يكن يعرف أين هي. كلما راح يستكشف هذا المكان تبيَّنَ له المزيد من الممرات ومنحدرات المقاعد المتحركة والمساحات المخصصة للجلوس، وكان لا يزال معرضًا لأن يفقد طريقه في جولاته تلك. كان يأخذ لوحةً معينة أو مقعدًا كعلامة يهتدي بها، ولكن في الأسبوع التالي وأيًّا ما كان الشيء الذي اتخذه علامةً، يبدو أنه صار في موضعٍ آخر. لم يحب أن يذكر هذا الأمر لكريستي، خشيةَ أن تظن أنه يعاني خللًا عقليًّا خاصًّا به. افترض أنه ربما يكون السببُ وراء هذا التغيير وإعادة الترتيب المتواصلَيْن مصلحةَ النزلاء، بحيث يكون تمرُّنهم اليومي على اكتشاف طريقهم أكثرَ إثارةً.
كما لم يذكر أيضًا أنه أحيانًا كان يرى امرأة من بعيد يظن أنها فيونا، ولكنه يقول لنفسه إن ذلك غير ممكن، نظرًا للثياب التي كانت ترتديها المرأة؛ فمتى كانت فيونا تميل إلى البلوزات ذات الزهور الساطعة والسراويل الزاهية الزُّرْقة؟ ذات يوم أحد تطلَّعَ خارج إحدى النوافذ فرأى فيونا — هي بلا شك — تدفع مقعد أوبري على طول الطرقات المعبَّدة، وقد خلت الآن من الثلوج والجليد، وكانت تضع فوق رأسها قبعة صوفية سخيفة، وترتدي جاكيت فيه دوامات من الأزرق والبنفسجي، ذلك النوع من الأشياء الذي قد يراه على جسد امرأةٍ من أهل البلدة المحليين في السوبر ماركت.
لا بد أن تفسير ذلك هو أنهم لا يكترثون لفرز قطع الثياب الخاصة بالسيدات اللاتي يشتركن في المقاس نفسه تقريبًا، ويعتمدون في ذلك على أن السيدات على كل حال لن يتعرفن على الثياب الخاصة بكلٍّ منهن.
قصوا شعرها أيضًا، أزالوا هالتها الملائكية. في أحد أيام الأربعاء، حين كان كل شيء يجري على عادته وكانت ألعاب الورق تدور مرة أخرى، والنساء في غرفة الأشغال اليدوية يصنعون أزهارًا حريرية أو دُمًى ذات ثياب مميزة، دون وجود لأي شخص من حولهن قد يضايقهن أو يبدي لهن إعجابه، وحين كان من الممكن رؤية كلٍّ من أوبري وفيونا واضحَيْن في مكانهما من جديدٍ، صار من المتاح له عندئذٍ أن يجرِّب حديثًا مع زوجته، حديثًا وجيزًا وحميمًا ودافعًا للجنون، قال لها: «لماذا جزوا لكِ شعرك على هذا النحو؟»
وضعتْ فيونا يديها على رأسها، تتفقَّد شعرها.
قالت: «عجبًا، أنا لم أفتقده بالمرة!»
•••
فكَّرَ أنه ينبغي عليه أن يكتشف كيف تجري الأمور في الطابق الثاني، حيث يحتفظون بالأشخاص الذين، على حد قول كريستي، قد فقدوا عقولهم حقًّا. أما هؤلاء الذين كانوا يسيرون في الأنحاء بالأسفل هنا، مستغرقين في التكلم إلى أنفسهم أو طارحين أسئلةً عجيبة على أي شخصٍ يمرُّ بهم (هل تركت سترتي في الكنيسة؟) فالظاهر أنهم لم يفقدوا إلا بعضًا من عقولهم.
غير كافٍ لتأهيلهم للصعود.
كانت ثمة سلالم، غير أن الأبواب في الأعلى كانت موصدة ومفاتيحها مع طاقم العمل فحسب. لا يمكن لأحدٍ أن يدخل إلى المصعد إلا بعد أن يفتحه له أحدهم بضغط زرٍّ محدَّد، من وراء المكتب.
ماذا كانوا يفعلون، بعد أن فقدوا عقولهم؟
قالت كريستي: «البعض يجلس فحسب، البعض يجلس ويبكي. البعض يحاول أن يصيح حتى يقلب الدار كلها. أنت لا تريد أن تعرف ذلك حقًّا.»
أحيانًا يستردون انتباههم ووعيهم.
«تظل تدخل عليهم غُرَفهم لمدة سنة ولا يتعرفون عليك أو يميِّزونك بالمرة. ثم يأتي يومٌ ما، وها هم ذا، يقولون مرحبًا، متى سنعود إلى البيت. فجأةً تمامًا يستردُّون حالتهم العادية تمامًا.»
ولكن ليس لوقتٍ طويل.
«يظن المرء أنها معجزة، لقد عادوا طبيعيين! ثم يذهبون من جديدٍ (فَرْقعتْ بإصبعَيْها) هكذا.»
•••
في البلدة التي كان يذهب فيها إلى عمله يوجد متجر لبيع الكتب كان هو وفيونا يترددان عليه مرة أو مرتين كل عام. عاد إلى ذلك المتجر بمفرده. لم يكن يشعر بالرغبة في شراء أي شيء، ولكنه كان قد أعَدَّ قائمةً ببعض العناوين وانتقى منها كتابين أو ثلاثة، ثم ابتاع كتابًا آخَر وقعت عليه عيناه بالمصادفة، كان عن أيسلندا. كتاب مزوَّد برسومٍ مائية من القرن التاسع عشر رسمتها سيدة حملَتْها أسفارها إلى أيسلندا.
لم تتعلم فيونا قطُّ لغة أمها، ولم تُبدِ من قبلُ اعتدادًا كبيرًا بكل الحكايات التي تحفظها تلك اللغة؛ الحكايات التي كان جرانت قد علَّمها للآخرين وكتب عنها، وما زال يكتب عنها في حياته البحثية. كانت تشير إلى أبطال هذه الحكايات بأسماء «العجوز نجال» أو «العجوز سنوري». لكنها في السنوات القليلة الأخيرة نما بداخلها اهتمامٌ بالبلد ذاته، وراحت تتصفَّح كتب الإرشاد السياحي الخاصة به. قرأت عن رحلة ويليام موريس إليه، وكذلك رحلة أودين، غير أنها لم تخطِّط للسفر إلى هناك فعليًّا. قالت إن الطقس هناك رهيب بما يفوق الاحتمال، كما قالت إنه لا بد أن يكون هناك مكان واحد فقط في حياة كل إنسان، يفكر فيه ويطَّلِع على ما يُكتَب حوله وربما يشتاق إليه كذلك، دون أن يكون قد رآه من قبلُ رأي العين.
•••
حين بدأ جرانت تدريس الأدب الأنجلوساكسوني والإسكندنافي، كان يتردَّد على فصوله النوعُ المعتاد من الطلاب، ولكن بعد بضع سنوات لاحَظَ تغييرًا. بدأت سيدات متزوِّجات يَعُدْن للدراسة، ليس انطلاقًا من فكرة التأهُّل من أجل وظيفةٍ أفضل أو أي وظيفة على الإطلاق، بل فقط لكي يمنحن أنفسهن شيئًا أكثر إثارةً لعقولهن من التفكير بشأن حياتهن المنزلية الرتيبة وهواياتهن. من أجل إثراء حياتهن. وربما ترتب على ذلك بطبيعة الحال أن الرجال الذين كانوا يدرِسون تلك الأشياء المثيرة للاهتمام صاروا جزءًا من هذا الإثراء، وأن هؤلاء الرجال يبدون لهؤلاء النساء على درجةٍ من الغموض والجاذبية أكثر من الرجال الذين ما زلن يطهين لهم طعامهم وينمن معهم.
كانت مجالات الدراسة التي يخترنها غالبًا هي علم النفس أو التاريخ الثقافي أو الأدب الإنجليزي. بعضهن اخترن علم الآثار والحفريات أو علم اللغويات ولكن سرعان ما ينسينَها حين تظهر لهن صعوبتها وثقلها. ربما كان لأولئك اللاتي كنَّ يسجِّلن في فصول جرانت أصولٌ إسكندنافية، مثل فيونا، أو لعلهن اطَّلعْنَ على طرف من الأساطير القديمة لبلاد الشمال تلك من خلال أعمال فاجنر، أو من الروايات التاريخية. كما كان هناك أيضًا قليلات اعتقدْنَ أنه كان يدرس اللغة السلتية القديمة، وبالنسبة إليهن فإن أي شيء سلتي يتسم بفتنة غامضة.
كان يقول لمثل هؤلاء الطموحات في شيءٍ من الخشونة وهو جالس إلى مكتبه:
«لو أردْتُنَّ تعلُّمَ لغة جميلة فاذهبن وادرسْنَ الإسبانية؛ يمكن لكُنَّ عندئذٍ الاستفادة منها إذا سافرتنَّ إلى المكسيك.»
بعضهن عملن بنصحه وأقلعن عن صفوفه، بينما بَدَا أن أخريات قد تأثَّرن على نحوٍ شخصي بنبرته المتشددة الآمِرة. فأخذن يكدحن بإرادة وترددْنَ على مكتبه، وعلى حياته المنضبطة المرضية، جالبات لها زهرة الدهشة الهائلة لإذعان أنوثتهن الناضجة، ورجائهن المرتجف في كسب الرضا والاعتراف.
من بينهن اختار امرأةً تُدعَى جاكي آدامز. كانت على النقيض من فيونا؛ قصيرة، ممتلئة وناعمة كالوسادة، بعينين داكنتين وغير متحفظة في الإعراب عن عواطفها. تجهل كلَّ ما يتعلَّق بالسخرية والتهكم. استمرت علاقتهما الغرامية عامًا، حتى اضطر زوجها إلى الانتقال إلى مدينة أخرى. حين كان يودِّع أحدهما الآخَر، في سيارتها، بدأت ترتجف بطريقةٍ خرجت عن السيطرة. بدت كما لو كانت أُصِيبت بهبوطٍ مفاجئ في درجة حرارة الجسد. كتبت إليه بضع مرات، ولكنه وجد أسلوبَ رسائلها مفرطًا في التنميق والتزويق، ولم يستطع أن يقرِّر كيف يرد عليها. وبينما ترك الوقت الملائم للرد عليها يتسرَّب، وجد نفسه بصورة ساحرة وبعيدة عن التوقُّع متورِّطًا مع فتاةٍ كانت صغيرة السن بما يكفي لأن تكون ابنة لها.
بينما كان منشغلًا مع جاكي جرى تطوُّر آخَر محيِّر بدرجة أكبر. كانت ثمة فتيات صغيرات السن بشعورٍ طويلة وسيقان ملفوفة ينتعلن صنادل مفتوحة، يأتين إلى مكتبه لا لشيءٍ إلا لإعلان أنهن مستعدات لممارسة الجنس. تبدَّدَتْ كل الطرق الحذرة كأن لم تكن، كما تبدَّدت الاعتبارات الحميمة للمشاعر التي كانت ضرورية مع جاكي. ضربته دوامة، كما ضربت كثيرين آخَرين، وفجأةً صارَ التمنِّي فعلًا مُجسدًا على نحوٍ دفعه للتساؤل إن لم يكن هناك شيءٌ ما خطأ. ولكن مَن كان لديه الوقت لمشاعر الندم؟ تناهَتْ إلى سمعه أحاديث عن تعدد العلاقات الغرامية في الوقت ذاته، وعن مصادمات وحشية وخطرة. راحت الفضائح تتفجَّر من حوله لأوسع مدًى، مع ما يحيط بها من دراما عالية النبرة ومؤلمة، بجانب شعورٍ ما بأن الأمور هكذا أفضل بطريقةٍ ما. كانت هناك انتقامات، كانت هناك حالات فصل من العمل، غير أن هؤلاء المفصولين ذهبوا للتدريس في كليات أصغر وأكثر تسامُحًا، أو في مراكز تعليمية مفتوحة، وكثير من الزوجات اللاتي تُرِكْنَ وراءهم استطعْنَ تجاوُز الصدمة وتبنَّيْنَ الزيَّ الجديد؛ أي الانطلاق الجنسي لنفس الفتيات اللاتي أغوين رجالهن. صارت الحفلات الأكاديمية، التي كانت شيئًا رتيبًا ومتوقَّعًا للغاية، حقلًا للألغام؛ اندلع الوباء في كل ركن، وأخذ ينتشر كأنه الإنفلونزا الإسبانية، مع الفرق أنه مع هذا الوباء كان الناس يركضون وراء الإصابة بالعدوى وليس منها، ولم يسلم منها إلا قليلون ممَّن كانوا بين السادسة عشرة والستين.
وعلى الرغم من ذلك فقد بدت فيونا راضية ومكتفية تمامًا. كانت أمها تُحتضر، وتجربتها في المستشفى قادتها إلى الانتقال من عملها الروتيني في مكتب تسجيل الوثائق إلى عملها الجديد. جرانت نفسه لم يتجاوز الحد، على الأقل مقارَنةً ببعض المحيطين به؛ لم يسمح بأن تقترب منه امرأة أخرى كما كان الحال مع جاكي. كان ما شعرَ به آنذاك ارتفاعًا هائلًا في درجة العافية، واستعاد ميله للبدانة التي كانت قد اختفت منذ أن كان في الثانية عشرة. صار يصعد السلم درجتين كل مرة، ويشاهد من نافذة مكتبه بإعجاب لم يعهده قطُّ موكبَ السحب الممزقة ساعةَ غروب شمس الشتاء، ويلحظ سحر المصابيح العتيقة تومض من بين ستائر غرف الجلوس في بيوت جيرانه، وحلقات الأطفال في المتنزه العام وقتَ الغسق، رافضين مغادرة التل الذي يتزلجون من فوقه. وبحلول الصيف، تعلَّم أسماء الأزهار. في صفه الدراسي، وبعد أن تدرَّب على يد حماته التي فقدت صوتها تقريبًا (كان دائها سرطان الحنجرة)، جازَفَ بتلاوة ثم ترجمة القصيدة الغنائية الجليلة والدموية «فدية الرأس» — التي نظمت تكريمًا للملك إيريك دموي البلطة (الذي حكم على الشاعر الذي نظمها بالموت، ثم عفا عنه وأطلق سراحه إذعانًا لسلطان الشعر) — فاستحسنوها مصفقين، حتى أولئك المناهضين للحروب والداعين للسلام من طلاب صفِّه الذين كان يبتهج فيما سبق بالسخرية منهم، سائلًا إياهم إن كانوا يحبون الانتظار في الرواق حتى ينتهي من تلاوة القصيدة.
«وهكذا كان يتقدَّم في الحكمة والقامة والنعمة …
عند الله والناس.»
(إشارة إلى نص من إنجيل لوقا عن السيد المسيح.)
كان ذلك يصيبه بالحرج آنذاك ويمنحه رعشةً خرافية، ولا يزال كذلك حتى الآن. ولكن ما دام لا أحد يعلم بشأن ذلك، فسيبدو أمرًا غير مجافٍ للطبيعة.
•••
في المرة التالية التي ذهب فيها إلى دار ميدو ليك أخذ معه الكتاب. كان يوم أربعاء. توجه للبحث عن فيونا عند موائد لعب الورق فلم يرها.
نادته إحدى النساء: «إنها ليستْ هنا، إنها مريضة.» وشى صوتها بإحساس بالأهمية والإثارة، كانت مسرورة من نفسها لأنها تعرَّفت عليه في حين أنه لم يكن يدري شيئًا عنها، أو لعلها مسرورة لكل ما كانت تعلمه عن فيونا، عن حياة فيونا هنا، ومعتقدة أنه ربما أكثر ممَّا كان يعرفه هو.
قالت: «وهو ليس هنا أيضًا.»
ذهب جرانت يبحث عن كريستي.
حين سألها أي بأسٍ أصاب فيونا، قالت له: «لا شيء، حقًّا، إنها تقضي اليوم في فراشها لا أكثر، مُستاءة قليلًا فقط.»
كانت فيونا تجلس منتصبة القامة في الفراش. لم يلحظ من قبلُ في المرات القليلة التي دخل فيها هذه الغرفة أنها مزوَّدة بسرير مستشفًى من الممكن رفعه بذراعٍ على هذا النحو. كانت ترتدي واحدًا من أثوابها العذرية الرقيقة الطويلة الرقبة، وعلى وجهها امتقاع لم يكن مثل براعم الكرز بل مثل عجين الطحين.
كان أوبري بجانبها في مقعده المتحرك، دافعًا إياه أقرب ما يمكنه من الفراش. وبدلًا من القمصان غير المميزة والمفتوحة الرقبة التي كان غالبًا ما يرتديها، كان الآن يرتدي سترة وربطة عنق، وقبعته الأنيقة من قماش التويد تستريح على السرير. بدا كما لو كان قد غادَرَ الدار في شأنٍ مهم.
ليرى محاميه؟ محاسبه المصرفي؟ ليضع بعض الترتيبات مع متعهد الجنازات؟
بدا مستنزَفًا من تلك المهمة أيًّا كانت. وهو أيضًا كان شاحب الوجه.
تطلَّعَا كلاهما ناظرَيْن نحو جرانت بتعبير حجري لمَن يتوقَّع السوء، تعبير مثقل بالأسى سرعان ما تحوَّل إلى ارتياح، إن لم يكن ترحيبًا، حين اكتشفا مَن الذي دخلَ عليهما.
لم يكن هو مَن كانا يتوقَّعانه.
كانت أيديهما متشبثةً بعضها ببعض ولم يُفلِتاها.
القبعة على الفراش. السُّترة وربطة العنق.
لم يكن الأمر أن أوبري قد خرج وعاد. لم يكن السؤال إلى أين ذهب ومَن الذي كان يتوجب عليه رؤيته، بل إلى أين سيذهب.
وضع جرانت الكتاب على الفراش بجانب يد فيونا الحرة.
قال: «إنه عن أيسلندا، فكَّرتُ أنك ربما تودِّين إلقاء نظرة عليه.»
قالت فيونا: «ولكن، شكرًا لك.» لم تنظر نحو الكتاب. وضعت يدها عليه.
قال: «أيسلندا.»
فقالت: «أيس-لندا.» بدا أن نصف الكلمة الأول حمل رنة اهتمام، ولكن سرعان ما وقع النصف الثاني مسطحًا خاويًا. على أي حال، كان من الضروري لها أن توجِّه انتباهها من جديد نحو أوبري، الذي كان يسحب يده الضخمة الغليظة من يدها.
قالت له: «ما الأمر؟ ما الأمر يا فؤادي؟»
لم يسبق لجرانت قطُّ أن سمعها تستخدِم هذا التعبير ببلاغته الزائدة الأناقة.
قالت: «آه، لا بأس. خذ!» وجذبت حفنة من مناديل ورقية من علبةٍ بجانب فراشها.
كانت مشكلة أوبري أنه شرع في البكاء. أخذ مخاط أنفه يسيل، وكان يخشى أن يتحوَّل إلى منظرٍ يدعو للأسف، خاصةً أنه على مرأًى من جرانت.
قالت فيونا: «خذ، أمسك.» كانت تودُّ أن تهتم بأمر أنفه بنفسها وتمسح دموعه، وربما لو كانا وحدهما لتركها تفعل ذلك، ولكن في حضور جرانت ما كان أوبري ليسمح بذلك. قبضَ بالمناديل الورقية بأفضل ما أمكنه وقام بمسح وجهه بضع مسحاتٍ غير متقنة وإنْ حالَفَها الحظ.
بينما كان منشغلًا بذلك التفتت فيونا نحو جرانت.
قالت له هامسةً: «هل لك أي سلطة هنا من أي نوع؟ لقد رأيتُك وأنت تتحدَّث معهم …»
أصدر أوبري صوتًا قد يوحي باعتراضٍ أو ضجر أو اشمئزاز. ثم اندفع نصف جسده الأعلى نحو الأمام كأنه أراد أن يرمي بنفسه عليها. زحفتْ بعيدًا عن الفراش قليلًا وأمسكته واحتضنَتْه. بدا من غير اللائق لجرانت أن يمد يد العون لها، على الرغم من أنه بالطبع كان سيفعل ذلك إذا اعتقد أن أوبري على وشك أن ينطرح أرضًا.
قالت فيونا: «صهٍ، آه يا حبيبي! سوف نعرف كيف نلتقي. لا بد أن نلتقي. سأذهب وأراك، وستأتي أنت وتراني.»
أصدر أوبري الصوت نفسه من جديد وهو يدفن وجهه في صدرها، ولم يكن هناك أي تصرُّف مهذب يمكن لجرانت أن يفعله سوى الخروج من الغرفة.
قالت له كريستي: «لعل زوجته تسرع بالمجيء إلى هنا. أتمنى أن تأخذه بعيدًا عن هنا وننتهي من هذا الكرب! كان علينا أن نقدِّم وجبة المساء منذ بعض الوقت، لكن كيف يفترض بنا أن نجعلها تبتلع أيَّ شيء وهو ما زال بالقرب منها؟»
قال جرانت: «هل عليَّ أن أبقى؟»
«لأي سبب؟ إنها ليست مريضة، كما تعلم.»
قال: «لأكون بجانبها.»
هزت كريستي رأسها نفيًا.
«لا بد أن يعتادوا على تجاوُز تلك الأمور بمفردهم. كما أن ذاكرتهم غالبًا قصيرة المدى، وهو ليس بالأمر السيئ دائمًا.»
لم تكن كريستي امرأة قاسية القلب. خلال الوقت الذي عرفها فيه جرانت اكتشف عن حياتها بعض الأمور. كان لديها أربعة أطفال. لم تكن تدري شيئًا عن المكان الذي ذهب إليه زوجها، ولكنها ظنت أنه ربما يكون في ألبرتا. كان أصغر الصبيان قد أُصِيب بأزمة صدرية سيئة للغاية بحيث أوشك على الموت ذات ليلة في يناير لولا تمكُّنها من إيداعه عنبر الطوارئ في اللحظة المناسبة. لم يكن يتناول أي عقاقير غير قانونية، لكنها ليست متأكدة تمامًا بشأن أخيه.
بالنسبة إليها، لا بد أن جرانت وفيونا وأوبري أيضًا أشخاص محظوظون؛ فقد قطعوا رحلة حياتهم دون متاعب أكثر من اللازم. وما يتوجَّب عليهم أن يقاسوه الآن من شيخوخة لا يُعَدُّ شيئًا يُذكَر.
غادر جرانت المكان دون أن يعود إلى غرفة فيونا. لاحَظَ أن الريح كانت دافئة حقًّا ذلك اليوم، وأن الغربان تثير ضجيجًا بنعيبها. في مساحة صفِّ السيارات كانت هناك امرأة ترتدي بدلة من القماش الصوفي المقلم، تُخرِج من صندوق سيارتها مقعدًا متحركًا مطويًّا.
•••
كان الشارع الذي يمضي فيه بالسيارة اسمه ممر الصقور السوداء. سُمِّيتْ جميع الشوارع في هذه المنطقة بأسماء فِرَق قومية قديمة للعبة الهوكي. كان هذا في جزءٍ بعيد عن مركز المدينة القريبة من ميدو ليك. تسوَّقَ هو وفيونا في المدينة بوتيرة منتظمة دون أن يتعرَّفوا على أي جزء منها سوى الشارع الرئيسي.
بدا له أن المنازل المحيطة قد بُنِيت جميعها في الوقت ذاته تقريبًا، ربما قبل ثلاثين أو أربعين عامًا. كانت الشوارع واسعة ومنحنية ولا يوجد فيها أرصفة للمشاة؛ مما يستحضر من جديد زمنًا كان من غير الوارد فيه فكرة أن يمارس أي شخص قدرًا كبيرًا من السير. انتقل بعض أصدقاء جرانت وفيونا إلى أماكن مثل هذه حين رُزِقوا بأطفال. كانوا يتحدثون عن انتقالهم بنبرة اعتذار وتبرير، ويسمونه «الخروج إلى مساحات مناسِبة لحفلات الشواء.»
ومع ذلك فثمة عائلات شابة كانت تعيش هنا. فوق أبواب الجراجات كانت حلقات لعب كرة السلة معلَّقة، وفي الممرات المؤدية للمنازل دراجات صغيرة بثلاث عجلات، غير أن بعض المنازل قد تدهورت حالتها عن صورة بيوت العائلة الكبيرة التي كانت مقصودة منها ولا شك. في الباحات علاماتٌ من عَجل السيارات، والنوافذ ملصوقة بالورق المفضض أو تتدلى منها أعلام حائلة اللون.
مساكن بالأجرة، يقيم فيها رجال صغار السن ما زالوا عزابًا، أو استعادوا عزوبتهم من جديد.
بدت بضعة عقارات في حالة لا بأس بها، وقد تعهَّدها بالصيانة قدرَ الإمكان مَن انتقلوا إليها وهي لا تزال جديدة، أو مَن لا يملكون المال الكافي للانتقال إلى مكانٍ أفضل أو ربما لا يشعرون بالحاجة لذلك. كبرت الشجيرات حتى حد النضج، تقشَّرت ألوان الفينيل الباهتة عن الألواح الخشبية للجدران وصارت بحاجةٍ إلى الطلاء من جديد. الأسيجة المنتظمة المهندمة، سواء الخشبية أم المتكونة من النباتات، كانت علامة على أن أطفال هذه المنازل قد كبروا جميعًا وارتحلوا عنها، وأن الآباء الموجودين فيها لم يعودوا يرون جدوى من ترك الباحة مفتوحة أمام أي أطفال جدد مُسَرَّحين في الحي.
كان المنزل المُدْرَج في دليل الهاتف بوصفه ملكًا لأوبري وزوجته واحدًا من تلك المنازل. كان الممشى المؤدِّي إلى الباب الأمامي مُعبَّدًا بأحجار التبليط تحفُّها نباتات خُزامى منتصبة بصلابة وكأنها أزهار صينية، تتبدَّل ألوانها بالتناوُب ما بين القرنفلي والأزرق.
•••
لم تكن فيونا قد تجاوزت محنة أساها بعدُ، لم تكن تتناول طعامها في أوقات الوجبات، على الرغم من تظاهُرها بذلك، فتخبئ الأكل في منديل المائدة. كانوا يقدِّمون لها شرابًا من مكملات غذائية مرتين يوميًّا، مع بقاء أحدهم بجوارها للتأكد من ابتلاعها له. كانت تنهض من فراشها وترتدي ثيابها، ولكن دون أن ترغب في فعل أي شيء إلا الجلوس في غرفتها. لم تكن تؤدِّي أي تمرينات مطلقًا، ما لم تقم كريستي أو إحدى الممرضات الأخريات، أو جرانت في أثناء ساعات الزيارة، بتمشيتها على طول ممرات وأروقة الدار أو اصطحابها للخارج.
كانت تجلس على أريكة خشبية مُسنَدة إلى أحد الجدران، في نور شمس الربيع، لتبكي بوهن. كانت لا تزال مهذبة، تعتذر عن دموعها، ولم تجادل اقتراحًا أو ترفض إجابة سؤالٍ قطُّ. جعل البكاء عينيها غائمتين وحوافهما باهتة. وأزرار ستراتها الصوفية — إن كانت تلك ستراتها حقًّا — كانت مُزرَّرة على نحو ملتوٍ غير صحيح. لم تكن قد بلغت بعدُ مرحلةَ ترك شعرها بلا تصفيفٍ أو أظافرها بلا تنظيفٍ، ولكن ذلك قد يكون وشيكًا.
قالت كريستي إن حالة عضلاتها تتدهور، وإنها إن لم تتحسن قريبًا فسوف يضعونها على مشاية تعتمد عليها في سيرها.
«ولكن المشكلة أنهم بمجرد أن يبدءوا الاعتماد عليها لا يعودون يسيرون كثيرًا بالمرة، يصلون إلى حيث يضطرهم الذهاب فحسب.»
قالت لجرانت: «سيكون عليك أن تشتغل معها أكثر، حاول وشجِّعْها.»
غير أن جرانت لم يحالفه أي حظ في ذلك. بدا أن فيونا تحمل نفورًا تجاهه، وإن حاولت التمويه على ذلك. ربما كانت تتذكر، في كل مرة تراه، دقائقها الأخيرة بصحبة أوبري، حين سألته عونًا لم يقدِّمه لها.
لم يَعُدْ يرى أي نفعٍ في أن يذكر لها أمر زواجهما، الآن.
ما عادت تقطع الرواق إلى حيث كان الأشخاص أنفسهم ما زالوا يلعبون الورق، وما عادت تذهب إلى غرفة التليفزيون أو المشتل الزجاجي.
قالت إنها لم تحب الشاشة الكبيرة، وإنها تؤلم عينيها، وإن ضجة الطيور تضايقها وتمنَّتْ لو أنهم يوقفوا مياه النافورة ولو مرة كل حين.
وبقدر علم جرانت، لم تلقِ نظرة على الكتاب حول أيسلندا، أو أي كتابٍ آخر من الكتب التي حملتها معها من البيت، والتي كانت قليلة على نحوٍ مفاجئ. كانت هناك غرفة للقراءة حيث تجلس هناك لتستريح، تختارها غالبًا لأنه نادرًا ما يدخلها أحد، وإذا ما تناول هو كتابًا من الأرفف كانت تتركه يقرأ لها. ساوره الشك في أنها تفعل ذلك فقط لأنه يجعل رفقته أيسر عليها، ويصير بوسعها أن تغمض عينيها لتغوص من جديد في بئر أحزانها؛ ذلك لأنها لو تخلَّت عن أحزانها، ولو لدقيقة واحدة، لكانت الصدمة أشد حين ترتطم بها مجددًا. وقد فكَّرَ أحيانًا أنها تغمض عينيها لتخفي نظرة يأسٍ واشٍ لن يكون من الطيب له أن يراها.
وهكذا كان يجلس ويقرأ عليها إحدى تلك الروايات العتيقة التي تدور حول الحب العفيف، والثروات التي تُفقَد وتستعاد؛ روايات لعلها انتهت إلى هنا بعد أن استغنت عنها قبلَ زمنٍ مكتبةٌ عامة في قريةٍ ما أو إحدى مدارس الأحد بالكنائس. كان واضحًا أنه لم تجرِ أي محاولة لتحديث محتويات غرفة القراءة كما جرى تحديث أغلب الأشياء في بقية المبنى.
كانت أغلفة الكتب ملساء، تكاد تكون مخملية، بتصميمات أوراق شجر وزهور مطبوعة بالحفر عليها، فكانت أشبه بصناديق الحُلي أو علب الشوكولاتة؛ بحيث يمكن للسيدات — افترض أنهن سيدات — بعد شرائها أن يحملنها للبيت كما يحملن كنزًا.
•••
استدعته مشرفة الدار إلى مكتبها، قالت إن حالة فيونا لا تتقدم على نحو ما كانوا يتمنون.
«وزنها يتناقص حتى مع تناول المكملات الغذائية. إننا نقدِّم كل ما في وسعنا من أجلها.»
قال جرانت إنه مدرك أنهم يفعلون ذلك.
«المسألة هي — وأنا واثقة أنك تعلم ذلك — أننا لا نقدِّم رعاية فراش ممتدة للنزلاء في الطابق الأول. نقوم بهذا فقط بصفة مؤقتة إذا كان أحدهم متوعكًا، أما إذا صاروا أضعف من أن يتحركوا ويسيروا ويعتمدوا على أنفسهم، فإن علينا أن نفكِّر في نقلهم إلى الطابق الأعلى.»
قال إنه لا يظن أن فيونا تمكث في فراشها لوقتٍ طويل إلى هذا الحد.
«لا. ولكن إن لم تستطع المحافظة على عافيتها ستنتهي إلى ذلك. في الوقت الراهن هي تقف على الخط الفاصل.»
قال إنه قد ظن أن الطابق الثاني كان مخصَّصًا للأشخاص المصابين بخلل عقلي.
فقالت: «هذا وذاك.»
•••
لم يكن يتذكَّر أي شيء عن زوجة أوبري عدا بدلتها التي رآها مرتدية إياها في ساحة صف السيارات. كان جناحَا سترتها منفتحَيْن على جانبَيْها وهي منحنية على صندوق السيارة. تركت لديه انطباعًا بأن لديها خصرًا هضيمًا وردفين عريضين.
لم تكن مرتدية البدلة ذاتها اليوم، بل بنطلونًا بنيًّا له حزام وكنزة صوفية وردية. كان محقًّا بشأن خصرها؛ فقد أظهر الحزام المحكم حرصها على تأكيد ذلك. ولعل من الأفضل لو أنها لم تفعل، بما أن جسدها مالَ للامتلاء بقدرٍ يُعتَدُّ به أعلى الخصر وأدناه.
لعلها كانت أصغر سنًّا من زوجها بعشرة أعوام أو اثني عشر عامًا. كان شعرها قصيرًا، متموج الخصلات، وحُمرته مصطنعة. عيناها زرقاوان، أفتح زُرْقةً من عيني فيونا، درجة من اللبني مثل بيض طيور أبي الحناء، أو زُرْقة التركواز، تميل للبروز بدرجةٍ طفيفة. وعدد لا بأس به من التجاعيد صارت مرئيةً على نحو أوضح بسبب بقعة من مساحيق الوجه بلون الجوز، أو ربما كانت تلك سُمرة الشمس التي اكتسبتها في فلوريدا.
قال إنه لا يعرف بالضبط كيف يقدِّم نفسه لها.
«اعتدْتُ أن أرى زوجك في دار ميدو ليك. أنا أحد الزوَّار المنتظمين هناك.»
«نعم.» قالت زوجة أوبري، مع حركة تتسم بالعدوانية بذقنها.
«كيف يمضي حال زوجك؟»
أضافَ كلمة «يمضي» في اللحظة الأخيرة، في المعتاد كان سيقول «كيف حال زوجك؟» فحسب.
قالت: «إنه بخير.»
«هو وزوجتي عقدا فيما بينهما صداقة وثيقة جدًّا.»
«سمعتُ بذلك.»
«إذن. أردتُ أن أتحدَّث إليك بشأن شيءٍ ما إن سمحَ وقتك بدقيقة.»
قالت: «زوجي لم يحاول أن يبدأ أي شيء مع زوجتك، إذا كان ذلك ما تحاول الوصول إليه. لم يتحرَّش بها على أي نحو؛ إنه غير قادر على ذلك، وهو لا يفعل ذلك حتى على كل حال. ومما سمعتُه كان العكس هو ما حدث.»
قال جرانت: «لا. ليس ذلك مقصدي بالمرة. لم آتِ إلى هنا لأشكو بخصوص أي شيء.»
قالت: «أوه، لا بأس، أنا آسفة! ظننتُك أتيتَ لذلك.»
كان ذلك كل ما يمكنها تقديمه من باب الاعتذار. ولم يبدُ عليها الأسف، بل بدت مُحبطة ومرتبكة.
قالت: «الأفضل أن تدخل إذن، البرد يهبُّ بشدة من الباب. لا يبدو أنه يومٌ دافئ.»
وهكذا كان مجرد دعوته للدخول أقرب إلى انتصارٍ بالنسبة إليه؛ إذ لم يُدرِك أن المسألة ستكون على هذا القدر من الصعوبة. لقد توقَّع زوجةً من نوعٍ مختلف؛ امرأة مرتبكة لا تغادر منزلها كثيرًا، تسرها زيارة غير متوقَّعة وتؤثِّر فيها الموضوعات ذات الصبغة الحميمة.
قادته متجاوزة المدخل إلى غرفة المعيشة، وقالت: «سنضطر إلى الجلوس في المطبخ حيث يمكنني أن أسمع أوبري.» لمحَ جرانت ستائر من طبقتين على النافذة الأمامية، كلتا الطبقتين زرقاء، ولكن إحداهما شفافة والأخرى حريرية، وتتوافق معهما أريكة زرقاء وسجادة حائلة اللون مُحبطة المظهر، والعديد من المرايا والزخارف البراقة.
كان لدى فيونا كلمة تصف بها مثل ذلك النوع من الستائر المبالغ فيها، كانت تقولها كمزحة، على الرغم من أن النساء اللاتي كُن يستمعن إليها تقولها حملنها محملَ الجدية التامة. أي غرفة أثَّثَتْها فيونا بنفسها كانت مكشوفة ومُشرقة، فكانت تصاب بالذهول عند رؤية كل ذلك القدر من الأشياء الثمينة تكتظ به مساحةٌ صغيرة كتلك. لم يستطع أن يتذكر الكلمة التي كانت تستخدمها فيونا.
كان يمكنه أن يسمع أصوات جهاز التليفزيون من الغرفة الملحقة بالمطبخ، وهي أقرب إلى شرفة مغلقة بالزجاج، على الرغم من أن شرائح الستائر كانت مسدلة أمام النور المبهر لوقت العصر.
أوبري، استجابة لصلوات فيونا، كان يجلس على بُعْد بضع أقدام، يشاهد ما بدا من صوته أنه مباراة كرة. ألقت زوجته نظرةً عليه، وقالت: «أنت بخير؟» ثم واربت الباب.
قالت لجرانت: «يمكنك أن تتناول قدح قهوة أيضًا.»
قال: «أشكرك.»
«قام ابني بالاشتراك له في القنوات الرياضية كهدية كريسماس منذ سنة، لا أدري ماذا كان بوسعنا أن نفعل دونها.»
على نضد المطبخ كان يوجد جميع أنواع الأدوات والأجهزة الحديثة، ماكينة إعداد القهوة، وأخرى لخلط وتقطيع الطعام، وشاحذ سكاكين، وبعض أشياء أخرى لم يكن جرانت يعرف لا أسماءها ولا استخداماتها. بدت كلها جديدة وغالية الثمن، كما لو أنها استُخرِجت للتو من عُلب تغليفها، أو يتم صقلها يوميًّا.
اعتقدَ أنها قد تكون فكرة جيدة لو أبدى إعجابه بتلك الأشياء. تأمل ماكينة القهوة التي كانت تستخدمها وقال إنه هو وفيونا انتويا دائمًا أن يشتريا واحدة مثلها. لم يكن هذا صحيحًا بالمرة؛ فطالما كانت فيونا مخلصة لذلك الجهاز الأوروبي الغريب الذي لا يَعدُّ أكثرَ من قدحي قهوة في المرة الواحدة.
قالت: «لقد أهديانا ذلك، أقصد ابني وزوجته. يعيشان في كاملوبس، في كولومبيا البريطانية. إنهما يرسلان أشياء تفوق قدرتنا على الاستخدام. لن يضرهما شيء إذا أنفقا هذه النقود للمجيء ورؤيتنا بدلًا من ذلك.»
قال جرانت متفلسفًا: «أفترض أنهما منشغلان بشئون حياتهما.»
«لم يمنعهما انشغالهما هذا من السفر إلى جزر هاواي في الشتاء الماضي. يمكن تفهُّم الأمر لو أن لدينا شخصًا آخَر في الأسرة، قريبًا منَّا يمكن اللجوء له. لكنه الابن الوحيد.»
جهزت القهوة، وصبتها في قدحين خزفيين لونهما بُني ممزوج في أخضر، التقطتهما من فروع غير كاملة لشجرةٍ خزفية موضوعة على المنضدة.
قال جرانت: «الوحدة تداهم الناس.» ظن أنه رأى فرصته السانحة الآن. «إذا ما حُرموا رؤية شخصٍ يهتمون به فإنهم يشعرون بالحزن. فيونا، على سبيل المثال. زوجتي.»
«ظننتُ أنك قلت إنك تذهب وتزورها.»
قال: «صحيح، لكن ليس هذا هو الأمر.»
عندئذٍ قرَّرَ أن يرمي بنفسه في المياه، مواصِلًا حديثه ليقدِّم الرجاء الذي أتى من أجله. أيمكنها التفكير في إعادة أوبري إلى دار ميدو ليك، ربما ليومٍ واحد فقط كل أسبوع، على سبيل الزيارة؟ إنها مسافة بضعة أميال بالسيارة لا أكثر، بالطبع هذا لا يمثل مشقة كبيرة. أو إن كانت تفضِّل أن تستغل هذا الوقت لراحتها — لم يفكر جرانت من قبلُ في هذا الاقتراح، وانتابه الذعر لمجرد سماع نفسه يتفوَّه به — فإنه هو نفسه يمكنه أن يأخذ أوبري إلى هناك، لا مانع لديه بالمرة. كان متأكدًا أنه يستطيع تدبُّر الأمر. ويمكنها أن تستريح في هذا اليوم.
بينما كان يتحدَّث أخذَتْ هي تحرك شفتَيْها المغلقتين ولسانها المخفي؛ كما لو كانت تحاول أن تميز مذاقًا مُريبًا في فمها. أحضرت حليبًا لقهوته، وصحنًا فيه بسكويت الزنجبيل.
«أعددتُه بنفسي.» هكذا قالت وهي تضع الصحن. كان صوتها يشي بالتحدي لا كرم الضيافة. لم تقل المزيد حتى اتخذت جلستها، وصبَّت الحليب إلى قهوته وقلَّبتها.
ثم قالت لا.
«لا. لا أستطيع أن أفعل ذلك. والسبب هو أنني لا أريد أن أزعجه.»
قال جرانت في جدية: «وهل سيزعجه هذا؟»
«نعم، سيزعجه أكيد. ما من طريقة للقيام بذلك. إعادته للبيت ثم أخذه إلى هناك من جديد، ومن ثم إعادته للبيت ثم أخذه إلى هناك مرة أخرى، كل ذلك سوف يشوشه فحسب.»
«ولكن ألن يفهم أنها ستكون مجرد زيارة؟ أَلَا يمكننا أن نجعله يعتاد هذا المنوال؟»
«إنه يفهم كل شيء على أفضل وجه! (قالت هذا كما لو كان قد أساء إلى أوبري) ولكن سيظل في هذا إرباك له. كما سيكون عليَّ أن أُعِدَّه للخروج وأن أضعه في السيارة، وهو رجل ضخم البنية، ليس من السهل القيام بهذا كما لعلك تظن؛ سيكون عليَّ أن أناور لمجرد أن أُجلِسه في السيارة ثم أحزم المقعد المتحرك بعد ذلك، وذلك كله من أجل ماذا؟ إذا كان ينبغي عليَّ أن أتجشم هذا العناء، فسأفضِّل أن آخذه إلى مكان أكثر إمتاعًا!»
«ولكن ماذا لو وافقتُ أنا على القيام بهذا كله؟» قال جرانت، محافِظًا على نبرته مفعمة بالرجاء والتعقل «هذا صحيح، لا ينبغي عليكِ تجشم هذا العناء.»
قالت في فتور: «لا يمكنك ذلك، أنت لا تعرف. لا يمكنك أن تتعامل معه. لن يتحمل أن تقوم بهذا من أجله. كل ذلك الإزعاج ما النفع المرجُوُّ منه له؟»
لم يعتقد جرانت أن عليه أن يذكر فيونا مرةً أخرى.
قالت: «سيكون من المعقول أكثر أن أصحبه إلى المركز التجاري؛ حيث يمكن له مشاهدة الأطفال وسائر الأشياء، إنْ لم يُحزِنه هذا لتذكُّره حفيدَيْه اللذين لم يتسنَّ له رؤيتهما. أو الآن وقد بدأت قوارب البحيرة تخرج في نزهات من جديد، قد يكون من المبهج له الذهاب ومشاهدة ذلك.»
نهضتْ وأحضرت سجائرها وقدَّاحة من حافة النافذة التي تعلو الحوض.
قالت: «تدخن؟»
رفضَ شاكرًا لها، على الرغم من أنه لم يدرِ إن كان سؤالها عرضًا لتدخين سيجارة.
«لم تكن مدخنًا قط أم أقلعت؟»
قال: «أقلعت.»
«منذ كم من الوقت؟»
فكَّرَ في ذلك.
«منذ ثلاثين عامًا. لا، بل أكثر من ذلك.»
كان قد قرَّرَ أن يقلع عن التدخين في الوقت نفسه تقريبًا الذي بدأ فيه علاقته مع جاكي، لكنه لا يستطيع أن يتذكر إن كان قد أقلع أولًا، معتقدًا أنه سوف يحصل على مكافأة كبيرة لإقلاعه، أم أنه قد ظن أن الوقت قد حان ليتوقف عن التدخين، آنئذٍ وقد صار في حوزته وسيلة إلهاء قوية.
قالت: «أنا أقلعت عن محاولات الإقلاع (وأشعلتْ سيجارة)، اتخذتُ قرارًا أن أقلع عن الإقلاع، هكذا فحسب.»
لعل ذلك هو سبب التجاعيد. شخصٌ ما — امرأة — كان قد أخبره بأن النساء المدخنات تظهر لديهن مجموعة رقيقة من تجاعيد الوجه. ولكن ربما يكون ذلك من تأثير الشمس، أو هي طبيعة جلدها فحسب. رقبة جعداء، وصدران ريانان بالشباب وناهضان لأعلى؛ مثل تلك التناقضات ليست شيئًا غريبًا على النساء في سنها. المزايا والعيوب، جينات وراثية سعيدة الحظ أو غير ذلك، واختلاط ذلك كله معًا. نساء قليلات للغاية هن مَن يحتفظن بجمالهن كاملًا، ولو على نحوٍ مُبهم، كما هو الحال مع فيونا.
ولعل ذلك لم يكن صحيحًا حتى، ربما اعتقد ذلك فقط لأنه قد عرف فيونا منذ أن كانت شابة. ربما عليك أن تعرف امرأة منذ شبابها حتى تُكوِّن عنها هذا الانطباع.
وهكذا هل كان أوبري حين ينظرُ إلى زوجته يرى فتاة المدرسة الثانوية المفعمة بالتعالي والوقاحة، مع المَيَلان المغوي لعينيها الفاتحتي الزرقة، وهي تزم شفتيها الممتلئتين كثمرتين حول سيجارةٍ محظورة؟
قالت زوجة أوبري: «إذن فزوجتك أصابها الاكتئاب؟ ما اسم زوجتك؟ نسيت.»
«اسمها فيونا.»
«فيونا. وما اسمك أنت؟ لا أظن أنك قد قلتَه لي على الإطلاق.»
قال: «اسمي جرانت.»
مدت يدها عبر المائدة على غير توقُّع.
«مرحبًا يا جرانت. أنا ماريان.»
ثم قالت: «أما وقد صار كلٌّ منَّا الآن يعرف اسم الآخَر، فلا أرى معنًى لعدم إطلاعك مباشَرةً على ما أفكِّر فيه. لا أدري إن كان لا يزال مولعًا برؤية زو … برؤية فيونا، أم أنه غير كذلك. لا أسأله ولا يخبرني. لعله كان مجرد ولع عابر. لكني لا أشعر بالرغبة في أخذه إلى هناك إن اتضح أن الأمر أكثر من ذلك. لا يمكنني تحمُّل تكلفة المجازفة بذلك. لا أريده أن يصير صعب المراس بحيث أعجز عن التعامُل معه، لا أريده أن يستاء ويضطرب. العناية به والحال هكذا تشغل كل وقتي تمامًا، وما من أحد يعينني. لا أحد سواي هنا. أنا فقط.»
قال جرانت: «هل سبق وأن فكَّرْتِ — هذا أمر عسير عليكِ — هل سبقَ أن فكرت في ذهابه إلى هناك بصفةٍ دائمة؟»
خفض صوته إلى ما يقارب الهمس، ولكنها لم تشعر بضرورةٍ لتخفض صوتها.
قالت: «لا، أنا أبقيه ها هنا.»
قال جرانت: «حسنًا، هذه طِيبة شديدة ونُبْل منكِ.»
تمنى ألا تبدو كلمة «نبل» موحية بالتهكم، فهو لم يقصد ذلك.
قالت: «أتعتقد هذا؟ ليس النبل هو ما أفكِّر فيه.»
«ومع ذلك، فالأمر ليس يسيرًا.»
«كلا، ليس يسيرًا. ولكنها طريقتي الخاصة، ليس أمامي خيارات كثيرة. إذا ما أودعتُه هناك فأنا لا أملك النقود اللازمة لذلك إلا إذا قمتُ ببيع البيت. المنزل هو كل ما نملكه ملكيةً تامة، عدا ذلك لا أملك أي شيء من ناحية الموارد المالية، سوف أحال إلى التقاعد في العام التالي، ولديَّ راتب تقاعُده وراتبي، ولكن حتى مع ذلك لا يسعني أن أوفِّر نفقةَ إقامته هناك مع بقائي في المنزل. كما أنه يعني الكثير لي، منزلي هذا.»
قال جرانت: «إنه لطيف جدًّا.»
«حسنًا، لا بأس به. لقد استثمرت الكثير فيه، من أجل إصلاحه وصيانته.»
«أنا واثق أنكِ فعلتِ هذا، وما زلتِ تفعلينه.»
«لا أريد أن أفقده.»
«لا.»
«ولن أفقده.»
«أفهمُ مقصدَك.»
قالت: «لقد تركتنا الشركة مفلسين تمامًا بلا عون. لا أعلم كل التفاصيل الدقيقة للأمر، ولكنهم تخلَّوْا عنه تمامًا. انتهى بهم الأمر للقول إنه مدين لهم بالمال، وحين حاولت أن أتبيَّن حقيقة ذلك، أخذ يقول لي إن هذا ليس من شأني. ما أعتقده أنه قد فعل شيئًا غبيًّا جدًّا. ولكن لا يفترض بي أن أسال؛ لذلك أغلقتُ فمي. لقد مررتَ بتجربة الزواج، بل أنت زوج، وتعرف ماذا يعنيه هذا كله. وفي قلب اكتشافي لهذه المسألة مع الشركة كان من المفترض أن نقوم بتلك الرحلة مع بعض الأشخاص ولم نستطع التهرُّب منها. وفي أثناء الرحلة يسقط مريضًا بهذا الفيروس الذي لم يسبق لنا أن سمعنا به ويدخل في غيبوبة. كان هذا كافيًا لأن يتحرَّر من مشكلته كلها.»
قال جرانت: «حظ سيئ!»
«لا أقصد بالضبط أنه سقط مريضًا عن عمد. كان هذا هو ما حدث فحسب. لم يَعُدْ غاضبًا مني ولم أَعُدْ غاضبةً منه. إنها الحياة فحسب.»
«ذلك صحيح.»
«لا أحد يهزم الحياة.»
مرت بلسانها على شفتها العليا كما تفعل القطط، لتلعق فتات البسكويت. «إنني أبدو مثل مَن يلعب دور الفيلسوف هنا، أليس كذلك؟ لقد أخبروني في الدار أنكَ كنتَ أستاذًا في الجامعة.»
قال جرانت: «كان هذا منذ فترة.»
قالت: «لا أعتبر نفسي مثقَّفةً للغاية.»
«وأنا أيضًا، لا أدري إلى أي مدًى يمكن أن أعتبر نفسي كذلك.»
«ولكني أعرف متى أستقر على رأي. وقد استقررت على رأي. لن أتخلَّى عن المنزل. وهو ما يعني أنني سوف أرعاه هنا، ولا أريد أن أُدخِل في رأسه فكرة أنه يريد الانتقال إلى أي مكانٍ آخَر. الأغلب أنه كان من الخطأ إيداعه هناك بحيث يمكنني أن أستريح لفترةٍ، ولكن ما كانت لتتاح لي فرصة أخرى، وهكذا انتهزتها. لكنني أعرف الصواب الآن.»
تناولت سيجارة أخرى.
قالت: «أراهن أنني أعرف فيما تفكِّر. لا بد أنك تقول لنفسك إنها من نوعية الأشخاص المرتزقة.»
«أنا لا أصدر أي أحكام من ذلك النوع. إنها حياتك أنتِ.»
«بالطبع هي حياتي.»
فكَّرَ أن عليهما إنهاء الحديث بنبرةٍ أكثر حياديةً. سألها إن كان زوجها قد سبق له أن اشتغل في متجر أدوات خلال فصول الصيف، خلال سنوات ذهابه إلى المدرسة.
قالت: «لم أسمع بذلك بالمرة، فأنا لم أنشأ هنا.»
•••
بينما كان يقود سيارته عائدًا إلى البيت، لاحظَ أن فجوة المستنقع التي كانت ممتلئة بالجليد والظلال الرسمية لجزوع الشجار أضاءت الآن بزنابق ثملة، كانت أوراقها النضرة بمظهرها الشهي في حجم الأطباق. امتدت الزهور للأعلى كأنها لهيب شموع، وكان هناك الكثير للغاية منها، بصُفرة نقية للغاية بحيث إنها تكاد تضيء الأرض في هذا اليوم الكثير الغيوم. كانت فيونا قد أخبرته بأنها تولد أيضًا حرارة خاصة بها. وبعد أن نقبت في أحد جيوبها الخفية الممتلئة بالمعلومات قالت إنه يُفترَض بك أن تضع يدك داخل البتلة المطوية لتشعر بالحرارة. قالت إنها جرَّبَتْ هذا ولكنها لم تكن متأكِّدة إن كانت قد شعرت بالحرارة حقًّا أم صوَّرَ لها خيالها ذلك. تلك الحرارة تجذب الحشرات.
«الطبيعة لا تمزح، ولا تتزين لمجرد الزينة.»
لقد أخفق مع زوجة أوبري؛ ماريان. توقَّعَ أنه قد يخفق، ولكنه لم يفلح في توقُّع أي شيء حول السبب الحقيقي لذلك. ظنَّ أنَّ كل ما ستكون عليه مناقشته معها هو الغيرة الجنسية الطبيعية للمرأة، أو نقمتها واستياؤها، البقايا العنيدة لغيرتها الجنسية.
لم يكن يملك أدنى فكرة عن طريقة نظرها إلى الأمور. ومع ذلك، وبطريقةٍ محبطة لم يبدُ الحديث معها غريبًا تمامًا؛ كان ذلك لأنه ذكَّره بأحاديث كان قد أجراها مع أشخاصٍ في أسرته. ثمة أعمام له، أقارب آخرون، بل حتى والدته، كانوا يفكرون كما تفكر ماريان؛ كانوا يعتقدون أنه حين لا يتبع أشخاصٌ آخرون هذا النهج نفسه في التفكير فذلك لأنهم يخدعون أنفسهم، حالمين وغير عمليين، أو حمقى؛ نظرًا لأنهم عاشوا حياةً سهلة ومحمية، أو بسبب التعليم الذي تلقَّوْه. فقدوا اتصالهم بالعالم الواقعي. الناس المتعلمون، القارئون للأدب، بعض الأشخاص الأثرياء مثل أسرة فيونا الاشتراكيين قد فقدوا اتصالهم بالواقع؛ بسبب حظٍّ طيب غير مكتسب بجهدهم أو بسبب سخافة فطرية فيهم. في حالة جرانت، على ما يشك، سيظنون أنه يجمع السببين معًا.
هذه هي الكيفية التي ستنظر بها ماريان إليه دون شك. شخص سخيف، محتشد بمعرفة مملة ويحميه بعض الحظ من مواجهة حقيقة الحياة. شخص لا يشغل باله الاحتفاظ بمنزله، ويمكنه أن يمضي هنا وهناك متأمِّلًا في أفكار معقَّدة. له مطلق الحرية في أن يحلم بوضع خطط أنيقة وسخية يعتقد أنها سوف تجعل شخصًا آخَر سعيدًا.
أي مغفلٍ هذا! لا بد أنها تقول لنفسها هذا الآن.
مواجهة شخصٍ من نوعها هذا جعلته يشعر بقلة الحيلة، والسُّخط، وأخيرًا بالبؤس والعزلة تقريبًا. لماذا؟ ألأنه ليس واثقًا من قدرته على إثبات نفسه أمام ذلك الشخص؟ ألأنه كان يخشى أنه سيتضح له في النهاية أنه على حق؟ لم تكن تساور فيونا أي وساوس أو شكوك كتلك. وهي شابة صغيرة لم يضربها أحد، أو يضيِّق عليها. استمتعت بالطريقة التي نشأت عليها، وكانت قادرة على التعامل مع الأفكار المتطرفة لهذه الطريقة كوسيلةٍ للتسلية.
ومع ذلك، فإن لهم وجهة نظرهم، أولئك الأشخاص. (كان بوسعه أن يسمع نفسه الآن يتجادل مع شخصٍ ما. فيونا؟) ثمة ميزة ما في التركيز العملي. لعل ماريان ستكون بارعةً في اجتياز أزمةٍ ما، بارعةً في النجاة، قادرةً على السرقة لتأكل، قادرةً على نزع حذاء من جثة في الشارع.
دائمًا ما كانت محاولته لاكتشاف فيونا وفهمها تصيبه بالإحباط. قد يكون الأمر أقرب إلى تتبع سراب. لا، بل أقرب إلى العيش في سراب. أما الاقتراب من ماريان فسوف يمثل مشكلة مختلفة؛ كأنه قضم بندقة. إغراؤها المصطنع الغريب، المذاق الكيميائي له وعطرها، فراغٌ حول البذرة الممتدة، النواة.
•••
ربما كان قد تزوَّجها. فكر في هذا. ربما كان سيتزوج فتاةً مثل تلك إذا كان قد واصل البقاء حيث كان ينتمي. كانت لتبدو شهيةً بما فيه الكفاية له، بثدييها الفاخرين. وربما نزوة عابرة. الطريقة النشطة التي تحرك بها ردفيها على مقعد المطبخ، والفم المزموم، والروح المفتعلة قليلًا من التهديد؛ ذلك ما تبقى من السوقية البريئة لمغازلات المدن الصغيرة.
لا بد أنه كان لديها بعض الآمال، حين اختارت أوبري. مظهره الجيد، ووظيفته كمندوب مبيعات، والتوقعات التي تنتظره كموظف مكتبي. لا بد أنها آمنت أن مآلها سيكون خيرًا مما تعيشه الآن. وهذا ما يجري للأشخاص ذوي الطبيعة العملية؛ فبالرغم من حساباتهم، وغرائز النجاة والبقاء بداخلهم، فربما لا يقطعون شوطًا بعيدًا كما كانوا يتوقَّعون بمنتهى العقلانية. لا شك أن هذا لم يَبْدُ إنصافًا.
كان أول ما رآه في المطبخ هو الضوء الوامض في آلة الرد الآلي على الهاتف. فكَّر في الشيء نفسه الذي دائمًا ما يلازم أفكاره حاليًّا. فيونا.
ضغط زر المجيب الآلي قبل أن يخلع عنه معطفه.
«مرحبًا يا جرانت. أرجو أنني لم أخطئ الاتصال بالشخص المقصود. لقد فكَّرْتُ في شيءٍ ما؛ ثمة حفل راقص هنا في البلدة في قاعة مجلس المدينة ليلة السبت، يُفترض أنه مُعَدٌّ من أجل الأشخاص غير المتزوجين، وأنا في اللجنة المشرفة على إعداد العشاء، وهو ما يعني أنني أستطيع أن أحضر شخصًا مجانًا؛ لذا تساءلتُ إن كنتَ مهتمًّا بالذهاب؟ اتصل بي حين تستطيع.»
صوت امرأة ورقم محلي. كانت هناك صافرة، ثم عاود الصوت نفسه الحديث من جديد.
«أدركتُ حالًا أنني نسيتُ أن أقول مَن أنا. أغلب الظن أنك قد تعرَّفْتَ على الصوت. أنا ماريان. ما زلتُ غير معتادة على استعمال تلك الماكينات، وأريد أن أقول إنني أدرك أنك لست أعزب ولا أقصد أن أقول هذا، ولا أنا عزباء، لكن الخروج من وقتٍ إلى آخَر لا يضرُّ أحدًا. على كل حال، الآن وبعد أن قلتُ كلَّ هذا أتمنَّى حقًّا أن يكون أنت هو مَن أتحدَّث إليه وليس شخصًا آخَر. يبدو الصوت المسجل على الآلة مثل صوتك حقًّا. إذا كنتَ مهتمًّا يمكنك الاتصال بي، وإن لم تكن كذلك فلا ترهق نفسك بالاتصال. فكَّرْتُ فقط أنه قد تروق لك هذه الفرصة للخروج. إنها ماريان مَن تتحدَّث إليك. أظن أنني قلتُ ذلك من قبلُ. لا بأس إذن. مع السلامة.»
كان صوتها على الآلة مختلفًا عن صوتها الذي سمعه منذ وقت قصير في منزلها، مختلفًا اختلافًا طفيفًا في الرسالة الأولى، ومختلفًا بدرجة أكبر في الثانية. شابته رعشة من التوتر، لا مبالاة متكلفة، تسرُّع في الإفضاء بما لديها وتردُّد في إنهاء حديثها.
لقد حدث لها شيءٌ ما. ولكن متى حدث ذلك؟ إذا كان قد حدث لها فور رؤيتها له، فقد نجحت في إخفائه تمامًا طوال الوقت الذي قضاه معها. الأغلب أنه وقع لها تدريجيًّا، ربما بعد أن انصرف. ليس بالضرورة كعاصفة انجذاب؛ مجرد الإدراك أنه كان احتمالًا ما، رجلًا يعيش بمفرده، بمفرده بدرجةٍ أو بأخرى، احتمالًا يمكنها هي أيضًا أن تجرب تتبُّعه.
لكنها توترت بعد أن أخذت الخطوة الأولى نحوه. لقد جازفت بنفسها، ولا يمكنه حتى الآن أن يعرف بكم جازفَتْ من نفسها. على وجه العموم تتزايد قابلية النساء للتأذي مع مرور الوقت، مع نضج العلاقة، وكل ما يمكنك أن تعرف في البداية، إن كانا يقفان الآن على حافة البداية، هو أنه سيكون هناك المزيد من هذا الاستعداد للتأذِّي فيما بعدُ.
حمل له شعورًا بالرضا عن النفس — ولِمَ يُنكره؟ — أن يستحثَّ ذلك بداخلها، أن يكون بوسعه استثارة شيءٍ ما على سطح شخصيتها، شيءٍ مثل بريق واهن، غشاوة غير واضحة. أن يسمع طريقتها الشكسة في نطق حروف العلة وهي تخبره بهذه الحجة الواهية.
أخرج البيض وعش الغراب ليعدَّ لنفسه طبق أومليت، ثم فكَّرَ أنه قد يصبُّ لنفسه شرابًا أيضًا.
كان أي شيء ممكنًا. أذلك حقيقي، أكل شيء ممكن؟ على سبيل المثال: إذا أرادَ ذلك، فهل يكون بمقدوره أن يجعلها تخضع لرأيه، أن يجعلها تصل إلى النقطة حيث ربما تنصت إليه في شأن أخذ أوبري إلى فيونا؟ وليس فقط لمجرد زيارات منتظمة، بل لبقية حياة أوبري. أين يمكن لتلك الرعشة أن تقودهما؟ نحو بلبلة وتكدير، أم نحو حمايتها وحرصها على ذاتها؟ أم إلى سعادة فيونا؟
سيكون تحديًا، تحدِّيًا وعملًا فذًّا يُعتَدُّ به، بل مزحة أيضًا لا يمكن ائتمان أي شخص عليها؛ أن يفكر أنه بشكله اللعوب يمكنه أن يصنع معروفًا لفيونا.
لكنه لم يكن قادرًا حقًّا على التفكير في الأمر. فإذا ما تأمَّله جيدًا فسيتعيَّن عليه أن يتصوَّر ما ستصير إليه حاله هو وماريان، بعد أن يرسل أوبري إلى فيونا. لن يُفلح الأمر؛ إلا إذا نال من الرضا والإشباع ما يفوق توقُّعه، أن يعثر على نواة الاهتمام البريء بالذات بداخل لُبابها الغليظ.
لا يمكن للإنسان أن يكون واثقًا أبدًا كيف يمكن لتلك الأمور أن تمضي وتتحوَّل. يكاد المرء يعرف، لكن لا سبيل لليقين أبدًا.
قد تكون جالسةً في بيتها الآن، تنتظر اتصالًا منه، أو إنها في الأغلب ليست جالسة، تشغل نفسها بفعل هذا وذاك. بدتِ امرأةً تميل لأن تكون منشغلة؛ فإن منزلها يُظهِر ولا شك مزايا الاهتمام المتواصِل. ثم إن هناك أوبري، الذي يجب أن تستمر في رعايتها له كالمعتاد. ربما تقدِّم له عشاءً مبكرًا، بما يتناسب مع وجباته في دار ميدو ليك من أجل أن تجعله يستعد لليلته في وقتٍ أبكر، وتحرِّر نفسها من روتينه لهذا اليوم. (ما الذي ستفعله بشأنه حين ستذهب إلى حفل الرقص؟ أيمكنه أن يبقى بمفرده أم أنها ستجلب له جليسًا بالأجرة؟ هل ستخبر هذا الجليس إلى أين ستذهب، وتقدِّم له رفيقها للحفل؟ هل سيقوم رفيقها بدفع أجرة الجليس؟)
ربما كانت تُطعِم أوبري حين كان جرانت يشتري عيش الغراب ويقود سيارته للمنزل. ربما تحضره الآن للنوم، ولكنها طوال الوقت ستكون منتبهة للهاتف، لصمت الهاتف. وربما تكون قد راحت تحسب كم من الوقت سوف يستغرقه جرانت للعودة إلى البيت. عنوانه المدوَّن في دليل التليفونات سيعطيها فكرة عامة عن المكان الذي يقيم فيه. ستحسب الوقت اللازم للمسافة، ثم تضيف إليه الوقت المحتمل لشراء عشاء ما (مستنتجة أن رجلًا وحيدًا سيخرج لشراء ما يلزمه يوميًّا)، ثم تضيف مقدارًا محدَّدًا من الوقت بما يسمح له بالدخول والاستماع إلى رسائله. وإذ يتواصل الصمت معاندًا، سوف تفكِّر في أشياء أخرى، مشاوير أخرى عليه أن يقضيها قبل أن يعود للبيت، أو ربما يتناول عشاءه بالخارج، أو لديه اجتماعٌ ما ممَّا يعني أنه لن يكون في البيت على وقت العَشاء إطلاقًا.
سوف تظل ساهرةً حتى وقتٍ متأخر، تنظف خزانات مطبخها، وتشاهد التليفزيون، وهي تجادل نفسها إن كان لا يزال هناك احتمالٌ ما.
أي غرورٍ من جانبه! إنها امرأة عاقلة فوق كل اعتبارٍ آخر، ستخلد إلى فراشها في موعدها المعتاد وهي تقول لنفسها إنه على كل حال لم يبدُ لها كشخصٍ لا يزال قادرًا على الرقص جيدًا. صارمة تمامًا، عملية تمامًا.
ظل بالقرب من الهاتف، يتصفَّح المجلات، لكنه لم يلتقط السماعة حين رنَّ الجرس مرةً أخرى.
«جرانت، أنا ماريان. كنتُ في القبو أضع الغسيل في المجفف فسمعتُ صوت الهاتف، وحين صعدت كان المتصل المجهول قد وضع السماعة؛ لذا فكَّرْتُ أن عليَّ أن أقول إنني هنا، إذا كنتَ أنت المتصل أو إذا كنتَ حتى في البيت؛ لأنني لا امتلك ماكينةَ ردٍّ آلي كما هو واضح، فلا يمكنك أن تترك لي رسالة. أردتُ فقط أن … أن أدعك تعرف هذا.
سلام.»
كانت الساعة حينئذٍ العاشرة وخمس وعشرين دقيقة.
سلام.
يمكنه أن يقول إنه قد عاد للبيت للتوِّ؛ فلا جدوى من أن يرسم في رأسها صورةً له وهو جالس هنا يزن المزايا والعيوب.
أجواخ. تلك كانت مفردتها للستائر الزرقاء، أجواخ. ولِمَ لا؟ فكَّرَ في كعكات الزنجبيل التامة الاستدارة التي قد أعلنَتْ أنها أعَدَّتْها بنفسها، وأقداح الخزف لشرب القهوة على شجرتها الخزفية أيضًا. وغلاف من البلاستيك، كان واثقًا من هذا، لحماية سجادة الصالة. قدر عالٍ من الدقة والحس العملي لم تستطع أمه أن تحقِّقه قطُّ، ولكن طالما أعجبت به، ألهذا السبب كان يشعر بهذه الوخزة من عاطفةٍ غريبة لا يعول عليها؟ أم لأنه تناول كأسَيْن إضافيتَيْن بعد الأولى؟ سُمرة بلون الجوز — استقر الآن على أنها سُمرة مكتسبة من الشمس — لوجهها وعنقها سوف تمتدُّ غالبًا حتى الشق ما بين نهديها، الذي سيكون عميقًا، مجعَّد الجلد، فوَّاح الرائحة وحارًّا. كان يفكر في ذلك وهو يطلب الرقم الذي كتبه من قبلُ. في ذلك وأيضًا في الحسية العملية لحركة لسانها كالقطط وهي تلعقُ شفتها. عيناها بلون الأحجار الكريمة.
•••
كانت فيونا في غرفتها ولكن ليست في الفراش. كانت جالسة بجوار النافذة المفتوحة، ترتدي ثوبًا ملائمًا زاهيًا ولكنه قصير على نحو غريب. عبر النافذة تنبعث نفحة ذكية ودافئة من زهور الليلك المزدهرة وسماد الربيع المنتشر خلال الحقول.
كانت تمسك بكتابٍ مفتوح في حِجرها.
قالت: «انظر إلى هذا الكتاب الجميل الذي عثرتُ عليه، إنه عن أيسلندا. من الغريب أن يتركوا كتبًا قيمة مرمية في أنحاء الغرف هكذا. ليس بالضرورة أن يتصف الأشخاص المقيمون هنا بالأمانة. وأعتقد أنهم يخلطون قِطَعَ الثياب. أنا لا أرتدي اللون الأصفر أبدًا.»
قال: «فيونا …»
«لقد كنتَ غائبًا لفترة طويلة. هل سنترك هذا المكان تمامًا الآن؟»
«فيونا، لقد أحضرتُ لكِ مفاجأةً. أتذكرين أوبري؟»
حدَّقتْ فيه للحظةٍ، كما لو كان ثمة أمواج من الهواء تصفع وجهها. نحو وجهها، ونحو رأسها، هواء يمزق كل شيء خرقًا مهلهلة.
قالت في حدة: «الأسماء تروغُ مني.»
ثم عبرت بها نظرةٌ ما، كما لو كانت قد استعادت، بشيءٍ من الجهد، جمالًا مازحًا. وضعت الكتاب في حرصٍ ونهضت ورفعت ذراعَيْها لتحتويه بينهما. كان لبشرتها على أنفاسه رائحة واهنة جديدة، رائحة بدت له كأنها سيقان زهور مقصوصة تُرِكت في المياه لوقتٍ أطول ممَّا يجب.
«أنا سعيدة لرؤيتك!» قالت وهي تجذب شحمتي أذنَيْه.
قالت: «كان يمكنك أن تأخذ سيارتك وتبتعد وكفى. أن تبتعد وكفى دون أن تكترث لأي شيءٍ في العالم، وتهجروني. أقصد تهجراني. تهجرني.»
أبقى وجهه ملتصقًا بشعرها الأبيض، وفروة رأسها الوردية، برأسها ذي التكوين العذب الأنيق. ثم قال إن هذا لن يحدث أبدًا.