انفجار … في جزيرة «مايوركا»
كان الجو عاصفًا، والرياح القوية أثارت زوابع رملية ثقيلة، وكان الشياطين يقِفون خلف النوافذ الزجاجية السميكة، داخل المقر السري، ينظرون إلى ما يحدُث في الخارج. كانت ذرَّات الرمل تصطدم بالزجاج، غير أن صوتها لم يكن يصِل إلى الشياطين؛ فقد كان زجاج النوافذ عازلًا للصوت وللحرارة.
قالت «إلهام»: أتخيَّل أنني لو خرجتُ الآن، فإن سرعة الرياح يمكن أن تحملني بعيدًا.
ابتسمت «زبيدة» وقالت: إلى أين؟
قالت «إلهام» ضاحكة: إلى «القاهرة» مثلًا!
ثُم فجأة انهمرت الأمطار غزيرة، وكأن أبواب السماء قد فُتحت فجأة. ارتجف «قيس» وقال: إن منظر هذه الأمطار يجعل الإنسان يشعر بالبرد.
ظل الشياطين في وقفتهم، ينظرون إلى السيول التي ازدادت. كان منظر الشتاء مُثيرًا … وفجأة توقفت الرياح والزوابع الرملية، وبدأت مياه الأمطار تشقُّ لنفسها طرقًا، وتتعرَّج بين الرمال في سرعةٍ وكأن شيئًا يطاردها … وارتفع رنين جرس له وقع خاص يعرفه الشياطين، فنظروا إلى بعضهم وابتسموا. إن الرنين يعني أنَّ هناك اجتماعًا عاجلًا برقم «صفر».
بدأ الشياطين يتحركون في اتجاه قاعة الاجتماعات، ولم تمضِ لحظات، حتى كان كل واحدٍ منهم قد أخذ مكانه، وبدءوا ينتظرون سماع صوت خطوات رقم «صفر». طالت اللحظة، فقد كانوا يتوقعون مغامرة جديدة ويتعجَّلون معرفة تفاصيلها، وبعد قليل أضيئت الشاشة المُعلقة أمامهم وظهرت عليها أمطار غزيرة. ابتسم «أحمد» وقال: أين تنزل هذه الأمطار؟
لم يَرُد أحد من الشياطين.
ظل «أحمد» ينظر إلى الشياطين، فربما يَردُّ عليه أحد منهم، لكنهم ظلوا هم الآخرون ينظرون إليه صامتين. وفي النهاية قال: إن المنظر الموجود على الشاشة الآن، هو ما يحدث في الخارج. إنه نفس المطر الذي كنا نراه منذ ثوانٍ.
نظر الشياطين في دهشة لم يقطعها سوى صوت خطوات رقم «صفر» فتركز انتباه الشياطين جهة صوت الأقدام التي كانت تقترب، حتى توقفت تمامًا. كان المنظر الموجود على الشاشة لا يزال مُستمرًّا، وتحدَّث رقم «صفر»، وبعد أن رحَّب بهم قال: إن ما قاله «أحمد» صحيح، هذه صورة واقعية لما يحدُث الآن في الخارج. وقد يُدهشكم أنني أنقل لكم هذه الصورة المباشرة عن حالة الطقس في الخارج، لكن، لن تدوم دهشتكم طويلًا عندما تعرفون السبب.
توقف رقم «صفر» قليلًا عن الكلام، وكأنه يترك فرصة للشياطين، حتى يُفكروا فيما يقصده، ثم في النهاية قال: إن مُهمتكم هذه المرة، ترتبط بهذه الظواهر الطبيعية، أو بمعنى أصح، غير الطبيعية.
صمت رقم «صفر» مرة أخرى. كان الشياطين يفكرون في تلك الكلمات الأخيرة التي قالها رقم «صفر»، فما معنى كونها ظواهر طبيعية، ثم … هي ليست ظواهر طبيعية …
قال رقم «صفر»: قد يبدو هذا الكلام مُتناقضًا، أو قد يبدو كاللغز، لكن هذه هي الحقيقة. إن العالم الآن قد تَوصَّل لتحقيق هذه الظواهر الطبيعية بطريقة صناعية؛ فمن الممكن إسقاط مطر صناعي، أو إثارة الأمواج في البحار والمُحيطات، أو إنزال الثلج في شكل كُراتٍ صغيرة.
تذكر «أحمد» حالة الطقس في الخارج، وقال في نفسه: هل يمكن أن يكون هذا المطر صناعيًّا، والرياح التي ثارت قبله، وتلك الزوابع الرملية مصطنعة؟
ولم يستطع «أحمد» أن يسترسِل في أفكاره، فقد قطع رقم «صفر» ذلك بقوله: لقد قصدت أن أنقل لكم هذه الصورة الطبيعية من الخارج، حتى تدركوا جيدًا ما سوف أقوله لكم. تركزت أنظار الشياطين على الشاشة المضاءة. كانت لا تزال تنعكس عليها صورة للمطر الغزير الذي شاهدوه في خارج المقر السري.
قال رقم «صفر»: قد يبدو هذا مدهشًا فعلًا، أن يستطيع العلم مُحاكاة الطبيعة في ظواهرها الجغرافية، لكن العلم قد استطاع تحقيق أشياء أخرى كثيرة، غير أننا نعرف أن الظواهر الصناعية ظواهر محدودة التأثير، وليست مثل الظواهر الطبيعية، التي يمكن أن يستمر تأثيرها …
صمت رقم «صفر» قليلًا، بينما كان الشياطين يفكرون في طبيعة تلك المغامرة الجديدة التي سيقبلون عليها. كانوا يسبقون الأحداث، لكنهم كانوا مُتشوقين لها. فجأة … تغيرت الصورة فوق الشاشة المعلقة، وقال رقم «صفر»: الآن، كما ترون، لقد تغيرت الصورة. إن الخريطة التي أمامنا لمجموعة جزر «البليار»، التي تقع أمام الساحل الشرقي ﻟ «إسبانيا» بين خط عرض ٤٠، وخط طول ٥ … إن هذه المجموعة تتكوَّن من أربع جزر، أشهرها جزيرة «مايوركا». وهذه المجموعة كما ترون تقع في حوض البحر المتوسط، وهي تقع أمام الجزائر مباشرةً، أمام ساحلها الشمالي بالتحديد …
تغيرت الخريطة، وجاءت مفصلة أكثر، تُظهر جمهورية الجزائر كما تُظهر «إسبانيا» كلها. وأكمل رقم «صفر» حديثه: إن منطقة حوض البحر المتوسط، تشتهر بطقسها المعتدل، غير أن مجموعة الجزر هذه، تتعرض منذ شهور لموجات غريبة من المطر الشديد الذي يغطي جزيرة «مايوركا» بالذات أكبر جزر المجموعة. بالإضافة إلى أنها تتعرَّض لهجومٍ بحري من الأمواج العالية التي تكاد تُغرق الجزيرة … وبقية الجزر المجاورة لها.
أُضيئت اللمبة الصفراء، فعرف الشياطين أن هناك رسالة عاجلة إلى رقم «صفر» من أحد العملاء، وسمع الشياطين صوت أقدام رقم «صفر» تتحرك، ثم تبتعِد قليلًا قليلًا حتى تختفي.
نظر الشياطين إلى بعضهم، وقال «بو عمير»: نستطيع أن نتحرك من «بجاية» أو «الجزائر» العاصمة، أو «شرشال» وكلها مواجهة لمجموعة الجزر.
قالت «زبيدة» مبتسمة: هذه منطقة نفوذك إذن.
ابتسم «بو عمير» قائلًا: إنه وطننا العربي في النهاية، ولا نستطيع أن نقول إن هذه منطقة نفوذ هذا أو ذاك …
خالد: أظن أن الانطلاق من «إسبانيا» ذاتها، يكون أقرب …
أحمد: انتظروا حتى نعرف ما هو المطلوب منا بالضبط.
وعادت أقدام رقم «صفر» تقترب. صمت الشياطين وظلوا في انتظار حديثه إليهم.
وأخيرًا قال: إنها رسالة من أحد عملائنا في جزيرة «سردينيا» المقابِلة لمجموعة جزر «البليار». إن مغامرتكم الجديدة هي كشف سِرِّ هذه الظواهر غير الطبيعية، والتي تظهر بين حين وآخر. لقد ازدادت حدتها، حتى إن سكان الجزر اضطُرُّوا إلى مغادرتها نهائيًّا، وأصبحت مجموعة الجزر خالية من السكان. إلا أن التقارير الأولية التي وصلت إلينا تقول إن هناك أشباحًا تظهر في جزيرة «مايوركا» بالذات. كما ذكرت التقارير الأولية أيضًا أن هذه الظواهر الخطيرة لم تظهر إلا بعد محاولاتٍ لاكتشاف مادة اليورانيوم في الجزيرة الكبرى «مايوركا» وأنتم تعرفون قيمة هذه المادة.
سمع الشياطين صوت أوراق تقلب؛ كان واضحًا أن رقم «صفر» يقرأ تقريرًا جديدًا. قطع رقم «صفر» لحظة الصمت هذه قائلًا: إن آخر التقارير التي وصلتنا، تقول إن هناك بعض القوارب تقترب أثناء المطر الغزير من الجزيرة، ويظهر بها عدد من الأشباح تنزل إلى الشاطئ، ثم تختفي. ولقد وقعت حادثة اختطاف أخيرة لأحد العلماء الذين كانوا يقومون بعملية البحث عن «اليورانيوم».
أطبق الصمت مرةً أخرى عندما سكت رقم «صفر». كان الشياطين يشعرون بالرغبة في الانطلاق الآن. لقد بدأت على الأقل صورة جديدة لطبيعة المغامرة، غير أن رقم «صفر» قطع الصمت بقوله: باختصارٍ مُهمتكم الآن هي اكتشاف هذه العصابة الخطيرة والقضاء عليها؛ إنها تستعمل الأسلوب الجديد في تهديد أهل الجزيرة لهروب من يستطيع منهم أو القضاء على من يبقى من الأهالي، حتى يتمكنوا من الحصول على كميات اليورانيوم الموجودة في الجزيرة، ويبدو أنها كميات كبيرة، حتى إن العصابة تُخاطر بكل هذه الإمكانيات للحصول عليه … أما معلوماتنا عن هذه العصابة أو زعيمها أو أعضائها، فهذه مُهمتكم أنتم، لأننا لا نعرف أحدًا منهم حتى الآن، والأوامر محددة … القضاء على هذه العصابة سواء بالقبض عليهم أو بالموت … وإنقاذ اليورانيوم من أيديهم … فمادة اليورانيوم كما تعلمون تُستخدَم في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية، فإذا نجحتم في مُهمتكم، فسوف تُجنبون العالم كوارث خطيرة …
وصمت رقم «صفر» قليلًا ثم قال: الآن تستطيعون أن تنطلقوا، إنها مغامرة مُثيرة، تحت المطر، وتحت الأمواج أيضًا. أتمنى لكم التوفيق.
بعد لحظات، كانت أقدام رقم «صفر» تبتعِد قليلًا قليلًا، حتى تلاشت تمامًا. كان الشياطين لا يزالون في أماكنهم ولم يتحرَّكوا بعد، وتعلقت أعينهم بالخريطة التي كانت لا تزال مُضيئة أمامهم. لحظة ثُم تغيرت الخريطة لتعود من جديد تلك الصورة التي تنقل لهم الطقس الخارجي بذلك الشتاء الغزير، حتى إن «ريما» اهتزت في مكانها، ولمح «خالد» ذلك فابتسم قائلًا: إن المغامرة تبدأ من هنا، لقد شعرت «ريما» بالبرد.
نظر الشياطين إلى «ريما» التي ابتسمت قائلة: إن المطر غزير فعلًا، ومُخيف … فلا عجب إذا هربت الأهالي لو استمرَّ هكذا بلا انقطاع. وبعد قليل، اختفت الصورة من فوق الشاشة، وأضيئت القاعة بضوءٍ أزرق خافت، جعلهم جميعًا يبتسمون؛ فقد كان اللون يُشير إلى بداية المغامرة الجديدة بين الأمواج، والعواصف والشتاء.
قاموا، الواحد بعدَ الآخر، وغادروا القاعة التي كانت لا تزال تغرق في ذلك الضوء الأزرق البديع، غير أنهم لم يتَّجِهوا إلى حجراتهم مباشرةً؛ لقد توقفوا مرةً أخرى أمام الجدران الزجاجية السميكة التي لا يخترقها الرصاص، وأخذوا يُراقبون الأمطار. كان المطر يهدأ رويدًا رويدًا، حتى بدأت الشمس تُشرق من جديد، وتلمع أشعتها الواهنة على حبات الرمال والزلط المُتناثر على الأرض المُمتدَّة إلى مدى البصر.
قال «قيس»: إن الرمال تبدو كحبَّات الماس تحت أشعة الشمس …
فهد: إنه منظر لا يُنسى. أظن أن هذا الشتاء ليس صناعيًّا …
ابتسم «فهد» فابتسموا، وقال «أحمد»: إنه فعلًا منظر لا يُنسى؛ لقد غسل المطر كل شيء، حتى الهواء يبدو أنه اغتسل أيضًا …
ابتسم «مصباح» وقال: ونحن سوف نغتسل أيضًا
قال «رشيد» في هدوء، وهو يخفي ابتسامته: وقد نغرق! …
ابتسم «أحمد» وقال: الشياطين لا يغرقون …
أخذوا اتجاهاتهم، كلٌّ منهم إلى حجرته، وبدأت حركة نشيطة تمامًا داخل الحجرات. لقد كانوا يستعدون لمغامرتهم الجديدة بكل احتمالاتها، فجهَّزوا الملابس الخاصة بالمطر وملابس الغوص، ونظارات الماء والأسلحة الدقيقة التي يتسلَّحون بها، ولم تمضِ دقائق حتى كانوا خارج حجراتهم، وقد حمل كل منهم حقيبةً صغيرة، تحتوي على كل ما يحتاجه.
لكن صفارةً صغيرة، جعلتهم يسرعون إلى قاعة الاجتماعات؛ كان يبدو أنَّ هناك اجتماعًا طارئًا، فأخذوا أماكنهم في القاعة، ولم تمضِ لحظات، حتى كان صوت أقدام رقم «صفر» يقترب، وعندما استقر تمامًا، قال: إنه اجتماع عاجل وسريع. لقد وصلتنا معلومات الآن تقول إن جزيرة «مايوركا» قد حدث فيها انفجار، أعقبه مطر غزير، وأن هذا يؤكد كل المعلومات التي وصلتنا سابقًا. وفقكم الله …
قال «أحمد»: سوف أتَّصل بشركات الطيران، سأحجز في أول طائرة تتجه إلى إسبانيا …
قالت «إلهام»: سوف أساعدك في الاتصال بالشركات.
بعد قليل عاد الاثنان وعلى وجهيهما للأسف الشديد؛ فقد كان المطار مُغلقًا نظرًا لحالة الجو، وليست هناك أنباء أكيدة عن موعد إعادة افتتاحه …
قال «بو عمير»: ليس أمامنا إلا الطريق البري … ومن الجزائر يُمكننا السفر جوًّا أو بحرً …
وفي صمتٍ تحرك الجميع، وشهد المقر السري سيارة الشياطين تُقل خمسة منهم، وعندما تحركت الأبواب الصخرية انطلقت السيارة في سرعة البرق.