الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
كانت حياة عبد الحميد الديب ثورة على الحياة، وكان لهذه الثورة الفردية كل ما للثورات الجماعية من خصائص ومقومات.
أحَسَّ عبد الحميد الديب أنه مظلوم، فقد كان شاعرًا، فنانًا، مرهف الحس، ومع ذلك لم يستطع أن ينال حظه من العمل، كان يظل ليله ونهاره يبحث عن لقمة العيش، فإذا عثر عليها لم يجدها في وظيفة، أو صحيفة، أو مصنع يُقدِّمها إليه لا تكريمًا لشعره، ولا إعجابًا بمواهبه، ولكن شفقة على ما يعانيه من فقرٍ وفاقة.
وجد المجتمع قد أغلق دونه الأبواب، فإذا طلبه يومًا فمن الباب الخلفي، باب البؤس والشقاء والمرض.
كان بلا مأوًى، بلا أهل، بلا عمل، كان — كما قلت يوم وفاته — يعيش في الزمان لا في المكان. كان ينام في الليل لا في فندق ولا في بيت، كان يعمل في النهار لا في مكتب أو مصنع!
وكما تتحول الثورة الجماعية من شعورٍ إلى تمردٍ ومقاومة، تحوَّلَتْ ثورةُ عبد الحميد الديب إلى تمردٍ على المجتمع، ومقاومة له، فكان هذا الجنوح في عواطفه، وكانت هذه النظرة القاسية إلى الإنسانية كلها؛ لقد أحس أنفاسه تختنق بين براثنها ومخالبها.
وكان يحزُّ في نفسه أن الناس لا يعطفون عليه لأنه شاعر، وإنما هم يعطفون عليه لأنه بائس، فقير مريض؛ ومن هنا كان يشعر بالمرارة إزاء الناس جميعًا، سواء منهم مَن يبسطون أيديهم ليعينوه، ومَن يبسطون أيديهم ليقتلوه.
وقد علَّلَ علماء النفس هذه الظاهرة الاجتماعية، ظاهرة العطف على الفقراء والمرضى، بأن النفس البشرية تفزع مما تعرض له، فهي تبذل البر والرحمة للفقير والمريض، فزعًا من أن يصيبها الفقر والمرض.
وقديمًا سُئِل أحد حكماء اليونان: لماذا نعطف على الفقراء، ولا نعطف على أصحاب المواهب؟!
فقال: لأن الفقر مرض تنتقل عدواه إلى الناس، أما الموهبة فهي مرض لا تنتقل عدواه إلى أحد!
وهكذا كان الديب يشعر بأن الناس لا يعترفون بشعره أو مواهبه، وأنهم يعترفون فقط ببؤسه وشقائه.
وهم بين شامتٍ به، ومُشفِق عليه، وهو ثائر على الشامت والمشفق معًا.
وقد صوَّرَ في إحدى قصائده، كيف دخل المسجد لينام لا ليصلي، وكيف غادره بعد صلاة الفجر إلى الشارع ومَرَّ بالمقهى، فأخذ الجالسون يرمقونه بنظراتهم، بعضهم يقول: عربيد، والآخر يقول: مسكين!
وهو ينطلق ليلًا ونهارًا يسعى إلى تحقيق أمله ورجائه، فيجد في كل طريق مصرعًا لآماله وخيبة لرجائه فيصرخ:
وينتهي به سعيه إلى غرفةٍ يسكنها، وإذا هو وحده كل ما فيها من أثاث، ويناجي ربه بأبياتٍ تنبض مرارةً وثورةً:
وهو ينظر إلى أمته فيراها قد احتضنت الجاهل والدعي والمغرور، وتركته كمًّا مهملًا، بل وجدها لم تحسه ولم تشعر به، فيثور:
وتتتابع الأيام وتجري وتركض، وهو واقف مكانه، يلهث إعياءً وشظفًا سواء عنده المواسم والمآتم، ويذهب في عيد الأضحى إلى بلدته في مديرية الغربية، وينزل في بيته القديم فيجده قد لقي المصير الذي لقيه الشاعر، لا شيء فيه إلا البؤس والشقاء والحرمان وذكريات غابرة، وظنَّ مَن في القرية أن الديب المغترب قد عاد إلى بيته بالعز الغارب، وإذا هو يبكي، وإذا الدار تبكي معه:
وقد قال في مثل هذه المناسبة يخاطب أهله:
وظلَّ عبد الحميد ثائرًا على المجتمع يناصبه العداء، ويواجهه نقمة بنقمة.
وكانت ثورته تهدف إلى خلق مجتمع يحني رأسه للفنان، لا لصاحب السلطان، ويحنو على صاحب الموهبة، لا على صاحب العاهة!