احتجاب الصحفيين
الصحف في إجازة لمناسبة العيد، احتجبَتْ عن الناس اليوم، وستحتجب غدًا.
لماذا لا يحتجب الصحفيون أيضًا، كما احتجبت صحفهم؟ لماذا لا يريحون الناس منهم، يومًا أو يومين؟
أعجبتني هذه الفكرة، واعتزمتُ أن أنفِّذها، فقررتُ ملازمةَ البيت طول النهار والليل.
تناولتُ غدائي، واستلقيت على الفراش، أتمطى، وأتثاءب، أطرد اليقظة باصطناع النوم، وأطرد النوم باصطناع اليقظة، ولم أحاول أن أقرأ أو أكتب أو أفتح الراديو، أو أتحدث في التليفون، وفجأةً وجدتُني أنظر إلى غير اتجاه، شارد الفكر، مفتوح الفم، أشبه بمجنون أو مجذوب أو مليونير سفيه! ولم أطق الجنون ولا الانجذاب ولا المليون جنيه التي تسبِّب السفه، فارتديت القميص والبنطلون، وأخذت أتمشى في البيت؛ لأشعر بأني لا أزال إنسانًا عاقلًا متحركًا!
ودقَّ جرس الباب، وقبل أن أنبِّه مَن معي إلى أني لستُ هنا كانوا قد استقبلوا الزائر الذي دقَّ الجرس، وقالوا له إني هنا!
وكان الزائر كريمًا في تبذير وقته معي؛ فقد دامت زيارته أربع ساعات! كان يحدِّثني عن أشياءَ لا أفهمها؛ حدثني عن الزراعة وأثر تقلبات الجو في المحصول الزراعي، حدثني عن تربية المواشي وكيف يستطيع الإنسان بماشيةٍ واحدة أن يؤلف ثروةً طائلة، حدثني عن عظمة مأمور المركز الجديد، وما يمتاز به من أخلاقٍ كريمة، وأنه على عكس المأمور السابق الذي كان شرسًا، ويحب الأذى!
والزائر الكريم يمتُّ لي بصلة قرابة، وقد جاء القاهرة لتمضية يومين ابتهاجًا بالعيد، وسألته: أين أمضيْتَ اليومين؟
فقال: أنا جئتُ من القطار إليك، وسأبقى غدًا لأزور المشايخ وأقرأ الفاتحة لأولادنا وأحبابنا، وبعد غدٍ أعود إلى البلد بمشيئة الله.
وقلتُ له: أَلَمْ يكن في استطاعتك أن تقرأ الفاتحة وأنت في بلدك؟!
فقال: الحقيقة أن القاهرة أوحشتني، لي سنتان لم أرها، وكنتُ قبل ذلك أجيئها في العام مرتين.
وماذا كنت تصنع فيها؟
قال: كنت أزور المشايخ وأقرأ الفاتحة لأولادنا وأحبابنا.
وعقب قائلًا: سمعنا ونحن في البلد أن القاهرة تغيَّرَتْ كثيرًا عن زمان، فهل هذا صحيح؟
وقلت له: إن القاهرة التي تعنيها وتحنُّ إلى رؤيتها لا تزال كما هي، لم تتغير في شيء.
وحاولتُ أن أغريه بالانصراف، فأغمضت عيني وأطرقتُ برأسي إلى صدري كمَن يريد أن ينام، فقال لي: أنت راح تنام والا إيه؟ الساعة لا تزال ١٠، والمعروف عندنا أن الصحفيين تعوَّدوا أن يسهروا حتى الصباح.
وقلت له: إن الصحف في إجازة، ونحن نسهر لنعمل فيها، وما دامت الصحف لا تصدر، فإننا نمنح أنفسنا إجازة من السهر.
وفهمت منه أنه يريد أن يقضي معي أكثر فترة من الوقت، إلى أن يجيء موعد صلاة الفجر، فيؤدي الصلاة في سيدنا الحسين، ومن هناك يبحث عن سكن أحد أقربائه لينزل ضيفًا عليه، وسألته لماذا لا يبحث عن سكن قريبه هذا منذ الآن، فقال: الصباح رباح، والنهار له عيون!
وقلت له: لماذا لا تذهب إلى فندق نوم، وحالتك تسمح بهذا والحمد لله؟
فضحك وقال: بعدما شبنا عاوزنا ننام في اللوكاندات والعياذ بالله! اللى ما عملناها واحنا شباب!
وعدت فمثَّلْتُ دورَ النائم، فقال لي: أنت عامل نايم؟!
وقلت له: دانا عامل صاحي، أنا نايم فعلًا!
ولما غادر البيت، لزمت غرفتي، وحاولت أن أنام، ولكن أحاديث الرجل وزيارته الكريمة، أطارت النوم من جفني، وظللتُ أقرأ حتى الصباح، وهكذا لم أستطع أن أمنح نفسي إجازة يومًا واحدًا، لا من الناس ولا من الأرق!