لغة الأغاني
سمعت للأستاذ الدكتور طه حسين حديثًا في الراديو عن الشاعر المصري إسماعيل صبري، وقد أشار إلى ما في شعر صبري من رقةٍ وعذوبة وجمال، وتمنى لو أن الملحنين المصريين التفتوا إلى هذا الشعر، وجعلوا منه مقطوعاتٍ غنائية، تحل محلَّ السخف الذي نسمعه كثيرًا أو قليلًا في هذه الأيام!
وليس الدكتور طه وحده بالثائر الوحيد على لغة الأغاني، فكثيرون ثائرون على هذه اللغة، وهم يرمونها بالتبذُّل والإسفاف، وأحِبُّ — إنصافًا للتاريخ — أن أقول في غير تحفُّظٍ، إن لغة الأغاني اليوم، أرقى وأسمى من لغة أغاني الأمس، بل يمكن أن يقال إن الأغنية الشعبية بلغت من حيث الصناعة الفنية والمضمون وطريقة نقاوة الموضوع، ما لم يبلغه الشعر الفصيح في أزهى عصوره، وأنا أُطالِب الدكتور طه وجميعَ الثائرين على لغة الأغاني، أن يتابعوا تطوُّرَ الأغنية المصرية وكيف كانت تتضمن مثلًا: «شفتي بتاكلني أنا في عرضك»، و«ميلتي بختي في الحب يا أختي»، و«قدك أمير الأغصان» إلى غير ذلك من عباراتٍ سقيمة تافهة.
كانت هذه لغة أغانينا بالأمس، ولقد تطوَّرَتْ الأغاني حتى صارت مقطوعاتٍ شعرية، ترسم صورًا فنية كاملة، تمتاز بالجمال والعذوبة والوضوح.
لستُ أزعم أن الأغاني كلها أصبحَتْ كذلك، ولكني أقول — دون أن أتجاوز الحقيقة — إن تسعين في المائة من الأغاني التي تردِّدها مطرباتنا ومطربونا تمثِّل أرقى أسلوبٍ للأغنية العاطفية.
ولكن الثورة على الأغاني لا تقف عند حدِّ لغتها، بل هي تتجاوزها إلى الموضوع، وقد بدأ هذه الثورة الأستاذ سامي داود، وتابَعَها واستمر فيها الأستاذ حسن إمام عمر، وكلاهما يأخذ على الأغنية المصرية أنها لا تزال ترزح تحت عبء الذل والهوان، وتتحرك في إطار اللوعة والهوى، وأنا أوافق الصديقين على أن الأغنية المصرية يجب أن تعبر عن الحياة، وليس معقولًا أن حياتنا كلها صبابة، وشكوى، وبكاء على الأحباب، ففي حياتنا تمرد على الفقر والحرمان، وفي حياتنا كفاح في المصنع والمزرعة، وفي حياتنا مقاومة للحروب واستجابة للسلام، وفي حياتنا كما في كل حياةٍ، وفاءٌ وغدرٌ، وخير وشر، ونور وظلام، وأضواء وظلال، وثورة وهدوء.
ولكن من المسئول عن تقصير أغانينا؟ هل هم الشعراء؟ لا أظن؛ فنحن نقرأ لهم شعرًا يمثِّل الحياة من جميع جوانبها وزواياها، ولا نسمع هذا الشعر يُغنَّى إلا إذا كان يصوِّر جانب الحب وزاوية الألم.
هل المطربون هم المسئولون؟ ولكن هؤلاء — في الغالب — لا يؤدون الأغنية إلا إذا كان لها مكان في الفيلم، أو في برنامج الإذاعة؟
المسئولون في رأيي عن هذا التقصير هم مخرجو الأفلام ومنتجوها ولجنة اختيار الأغاني في الإذاعة.
وأبادر فأقول إني لا أريد أن تصبح كل أغانينا صورًا وَصْفيةً للمصانع والمزارع والشوارع، ولكني أريد أن تكون تعبيرًا صادقًا عن الكفاح في المصنع والمزرعة والشارع، وليس معنى ذلك أن تلغى الأغاني التي تعبِّر عن المشاعر الإنسانية الثابتة، مشاعر الألم والحب، فنحن في حاجةٍ إلى هذه الأغاني حاجتنا إلى المصنع نفسه، والمزرعة نفسها!