شاعر الثورة
رأت عيناه النور في أرض مصر حوالي عام ١٨٤٠، وكانت بيئته وأسرته والظروف السياسية والاجتماعية كفيلةً بأن تجعل منه أداة تعذب بها نفوسنا، التي قهرها الطغاة والظالمون والغزاة، الذين اغتصبوا حقنا في أن نعيش أحرارًا، فهذا الطفل الصغير، الناعم البشرة، الأبيض، الوسيم الملامح، يجري في عروقه دم تركي ودم شركسي، واللغة العربية غريبة في بيته، واللهجة المصرية لا يكاد يسمعها، فالخادم من الحبشة، ومربيته شركسية، والبواب أرناءوطي!
وقد دخل المدرسة العسكرية ليكون ضابطًا في الجيش الذي استأثر الشراكسة والأتراك بقيادته وأعلى مناصبه، وربما راوده الأمل في أن يصبح ذت يوم أحد أعوان الخديو في الجيش، ولِمَ لا؟ إنه مثل هؤلاء الضباط الأتراك والشراكسة أناقةً ورشاقةً وانتسابًا على نحو إلى الترك والشراكسة.
ولقد صار ضابطًا كبيرًا ووزيرًا للحربية ورئيسًا للوزارة، ولكنه لم يكن — كما ظنَّ الحاكمون — عدوًّا للشعب، وإنما كان واحدًا من الشعب، فإن ملامحه فقط كانت تركية شركسية، أما روحه فإنها مصرية عربية.
كان لسانه يرطن أحيانًا بلغة الأتراك، وينطق دائمًا باللغة العربية شعرًا ونثرًا.
وكانت كل الملابسات التي أحاطت به، توحي بأنه لن يكون مصريًّا بتفكيره وتعبيره، فقد عرفنا أن الجو العائلي الذي تنفَّسَ فيه كان جوًّا غير مصري.
ولم يكن الجو العام خيرًا من ذلك الجو الخاص؛ فقد كانت مصر ترزح في قيود سطوات أجنبية متعددة؛ سطوة المماليك، ثم الغزو الفرنسي بقيادة نابليون، ثم سيطرة الدولة العثمانية وحكم محمد علي وأسرته من بعده وامتلاكهم مصر، أرضًا وشعبًا وثروةً وعرشًا. وعندما كان محمد علي واليًا، تمَّتْ ولادة محمود سامي البارودي، وقد عاصر البارودي عباسًا الأول والخديو إسماعيل والخديو توفيقًا، ومات في عام ١٩٠٤، في عصر عباس الثاني.
ولكن البارودي — الذي تآمرت ظروفه الخاصة وظروفه العامة على تكوينه في صورة خائن للشعب — وقف إلى جانب الشعب وكان بطلًا، وخاض مع الزعيم العظيم أحمد عرابي، معركةَ الحرية والشرف والحياة ضد الخديو توفيق، أو ضد الإنجليز الذين استنجد بهم الخديو الخائن وغزوا بلادنا عام ١٨٨٢.
وقد دفع ثورته وبطولته عذابًا شديدًا في المنفى سبعة عشر عامًا، فعانَى في «سرنديب» المرضَ والحنينَ إلى وطنه وأبنائه، وبكى شريكة حياته التي ماتت وهو بعيدٌ عنها.
ولما أُصِيب بالعمى، سمحت الحكومة البريطانية بعودته إلى بلاده، فظل حوالي خمس سنوات قعيد بيته، وفي ١٢ ديسمبر سنة ١٩٠٤ لفظ آخِر أنفاسه.
وإذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية لا تسمح لمثل البارودي أن يكون ثائرًا، فإن الظروف الثقافية ما كانت لتسمح للبارودي بأن يكون شاعرًا عربيًّا من طراز الشعراء الفحول.
فقد كان عصر البارودي يمثِّل آخِر ما وصل إليه الشعر والأدب من هبوطٍ في الشكل والمضمون، فليس للشعر ولا للكتابة، والأسلوب السائد في الشعر والنثر معًا يعتمد على الجناس الرخيص، والتلاعب بالألفاظ والركاكة في التعبير، والزخارف التافهة التي تشبه ألوان الحناء والهباب!
وفجأةً، ظهر في مصر شاعرٌ فحل، يتحدَّى بجزالة لفظه ومتانة عبارته أشهرَ الشعراء القدامى، فمن أين له هذا؟! إنه لم يدرس الأدب في الأزهر، ولم يدرسه بطبيعة الحال في المدرسة الحربية، ولكنه كان موهوبًا، وقد صقل موهبته بذاكرته القوية، التي وعت عشرات الألوف من قصائد شعراء الجاهلية والإسلام، وكانت له أذنٌ موسيقية أثَّرَتْ في صفاء الديباجة ورنين الجملة الشعرية.
وأكثر شعر البارودي ينطوي على محاكاةِ قصائدِ مَن سبقوه من الشعراء، ولكن هذه المحاكاة اختَفَتْ في عدة قصائد تجلَّتْ فيها أصالةُ الشعر، وتحدَّدَتْ فيها شخصيته الفنية.
ويرى البارودي أن خير الكلام، ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلُّف، بعيدًا عن نزوة التعسُّف، غنيًّا عن مراجعة الفكرة؛ ويرى أن هذه هي صفة الشعر الجيد، وهذا الرأي يحتاج إلى تمحيصٍ شديد، ولكنه على كل حال يغري بتقدير الشاعر والإشادة بمكانته، وبخاصة إذا عرفنا أن الباوردي كان الجسر الذي يمرُّ عليه الشعر العربي من مرحلة التفاهة والهبوط إلى المراحل التي وصل إليها بعد ذلك.
وقد ذكر أستاذه الشيخ حسين المرصفي، أن الباوردي لم يقرأ كتابًا في فنٍ من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقُّل وجَدَ في طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، وكان يستمع لبعضِ مَن له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ وهو بحضرته، حتى تصوَّرَ في برهاتٍ يسيرة هيئاتِ التركيب العربية، فصار يقرأ وهو لا يكاد يلحن.
ويبدو ممَّا ذكره الأستاذ المرصفي أن البارودي كان موهوبًا في حفظ الشعر وفهمه ونظمه، وأنه لم يتعلم أصوله، بل لم يدرس كتابًا في الأدب، ونحن لا نستطيع أن نستهين برأي المرصفي؛ فهو أستاذ البارودي، ولكن لا ينبغي أن نسلِّمَ بهذا الرأي على إطلاقه، فإن شعر البارودي ينمُّ على تجاربَ ذاتية وتجارب ثقافية، ولعله اكتسب هذه التجارب الأخيرة من أساتذة غير أستاذه المرصفي، وقد أفاد ولا شك من احتكاكه بالمُصلِح الثائر جمال الدين الأفغاني، وتلامذته الذين كانوا يمثِّلون اليقظة الذهنية التي أشعلت الثورة السياسية والثورة الفكرية، وكان البارودي قبل الثورة العربية ينظم قصائد يحضُّ فيها على التخلُّص من الظلم، ويهدِّد المالكين بزوال ملكهم، يقول:
وشعره في المنفى ينبض بالحنين إلى زوجته وبيته وبلده، ومن شعره الرقيق وهو في المنفى هذه القصيدة:
ويصف أباريق الشاي وكئوس الشاي فيقول:
ويقول متغزلًا: