مولد ووفاة!
كان رأسي يدور حول لا غاية ولا هدف، وأنا أمشي في فناء محطة القاهرة بين مئاتٍ دارَتْ رءوسهم مثلي، كنَّا نودِّع صديقًا من عالمنا ونشيعه إلى عالَمٍ آخَر!
وانهالت انفعالات الحزن والحيرة والتساؤل على نفسي.
وتذكرت كيف احتفلنا منذ سنواتٍ بعيد ميلاد صديقنا، وكيف نحتفل اليوم بوفاته؟
كان احتفالنا بعيد ميلاد حسن الأعور في الباخرة «أريبيا» عام ١٩٤٦ أو ٤٧ لا أذكر بالضبط، وكان قد أقام في الباخرة بضعة أيام، يلتمس الراحة والبعد عن جو البيت، وحلَّ عيد ميلاده وهو في الباخرة، واقترح عليه أحد أصدقائه أن يقيم احتفالًا، فقال: نحن صعايدة ولا نعرف مثل هذه العادات. وأقسم الصديق أن يقيم في الباخرة حفلة، لم يعرف مثلها أحد قبل حسن الأعور، وبرَّ الصديق بقسمه؛ فقد حضر الحفلة عشرون من أصدقاء حسن بينهم الدكتور عبد الوهاب مورو، والدكتور حسين عرفان، والأساتذة توفيق الحكيم، وعبد الوهاب الشريعي، وقاسم الشريعي، والسيدة أم كلثوم، والأستاذ محمد عبد الوهاب، والمرحومة الآنسة كاميليا، وأشاع حسن الأعور بين الموجودين أني معجب بجمال كاميليا، وأخذ يداعبني بقفشاته، ويسخر من ذوقي، وأخرجني جو السهرة عن هدوئي، فنظمت أبياتًا من الشعر وجَّهْتُها إلى كاميليا أذكر منها هذا البيت:
وتطوَّعَ توفيق الحكيم بترجمة أبيات الشعر إلى اللغة الفرنسية؛ لتتمكَّنَ كاميليا من فهمها وتذوُّقها، وتولَّى عبد الوهاب تلحين الأبيات وقد حفظتها أم كلثوم في الحال وغَنَّتْها، وظلَّ عبد الوهاب مُمسِكًا العود لأم كلثوم، وظلَّتْ أم كلثوم تغنِّي حتى مطلع الفجر!
ما أكثر الابتسامات والضحكات، وانتفاضات المرح والنشوة التي بعثها فينا احتفالنا بعيد ميلاد صديقنا!
واليوم — بعد ثماني سنوات أو أكثر — استحالت هذه الابتسامات والضحكات دموعًا حارقة، واستحالت انتفاضاتنا المَرِحة النشوانة صواعق انقَضَّتْ على نفوسنا، ونحن نستقبل جثمان الصديق من القطار العائد من الإسكندرية، ونضعه في القطار الذاهب إلى المنيا؛ إلى العدم!