قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
كنتُ في طريقي إلى دار أحد أصدقائي في الزمالك، وكان معي الفنان محمد عبد الوهاب، فأشار إلى «فيلا» أنيقة وقال لي: هذه هي «الفيلا» التي كان المرحوم أنور وجدي قد اشتراها قبيل وفاته وأعَدَّها لمسكنه، وقد مات — رحمه الله — قبل أن تطأها قدماه!
وفي المساء قابلتُ الأستاذَ جليل البنداري أمام وزارة الأوقاف، وكان يحمل ورقة وقلمًا، فلما رآني أخفَى الورقةَ في جيبه وصافحني بيده، وسألته عن الورق الذي أخفاه، وهل يتضمن أغنية جديدة، أو قصة سينمائية، أو عقدًا بينه وبين فنانين أو مقالًا صحفيًّا؟ فجليل البنداري مؤلِّف أغاني وقصصي ومنتج سينمائي ومحرر في دار «أخبار اليوم»، وانفتح فم جليل عن ابتسامةٍ أو تكشيرة، لا أدري! فمن العسير أن تعرف تكشيرة جليل من ابتسامته، إلا إذا قال لك بصراحة: هذه تكشيرة، وهذه ابتسامة!
وفهمتُ ممَّا قاله جليل أنه حزين، وروى لي أنه كان يُسجِّل في الورقة التي دسَّها في جيبه معلوماتٍ عن أنور وجدي.
وأردتُ أن أضيف إلى معلوماته أن الفيلا التي بناها أنور ليسكنها لم يدخل بابها، فقال لي: بل إن هذه العمارة التي دفع فيها معظم ثروته، والتي جذبت إليه عيون الحاسدين لم يدخلها وهي كاملة البناء، ثم قال: هل تعلم أن أنور صاحب هذه العمارة وصاحب فيلا الزمالك، لم يجد بعد موته غرفةً يبيت فيها جثمانه إلى الصباح؟! لقد ظلَّ جثمان أنور فوق الرصيف في حراسة موظف عنده يُدعَى «ليون».
واستطرد يروي القصة: على إثر وصول الطائرة التي تقلُّ جثمان أنور وجدي، وتقلُّ قرينته السيدة ليلى فوزي تجمَّعَ الناس حول ليلى، وتركوا الجثمان في حراسة الخواجة «ليون»، وجاء أهل أنور وصحبوا ليلى معهم في عربة، وأخذوا يتحسَّسون جسدها بأيديهم للاطمئنان على صحتها الغالية، وأكدت لهم ليلى أنها لا تحمل مرضًا، ولا تحمل لهم حقدًا، ولا تحمل أي شيء!
وذهب ليون بالجثمان إلى مكتب أنور فوجده مغلقًا، وذهب إلى البيت فوجده مغلقًا، فبقي مع الجثمان فوق الرصيف حتى الصباح، ثم استقلَّ عربةً إلى المقابر، ولم يكد أهل الفقيد يصلون إلى المقبرة، حتى جاءهم مَن يقول إن مندوب إدارة التركات قد وصل إلى مكتب أنور، فترك أهلُه المقابِرَ وعادوا إلى المكتب ليقابلوا مندوبَ التركات!
وتولَّى ليون وحده دفْنَ الجثة هو وبعض أصدقاء أنور ممَّن ليس لهم في تركتِه أدنى نصيب!
كم لقي أنور وجدي من قسوة الحرمان! عاش يكافح الفقر والإخفاق، فلما أثرى ونجح أخذ يكافح المرض والموت إلى أن مات محرومًا.
العمارة التي شيَّدَها لم يستمتع بها، والفيلا التي اشتراها لم يسكنها، والمال الذي جمعه بصحته وحياته لم ينفق منه إلا على مرضه وموته.
ما أعجب حكمة القدر! عندما نستطيع الحياة لا نجدها، وعندما نجدها لا نستطيعها!