خليل مطران
حرصتُ على أن أستمع إلى محاضرة الأستاذ موريس أرقش المحامي في النادي الشرقي، وكان موضوعها «خليل مطران شاعر الأقطار العربية»، وقد عرض لي ما عاقني عن الاستماع إلى هذه المحاضرة.
وأحسستُ أن شيئًا كثيرًا قد فاتني، فإني أحب خليل مطران، أحبه إنسانًا وأحبه شاعرًا.
والأستاذ أرقش في طليعة الذين يستطيعون أن يتحدثوا عن مطران، فيُطِيلوا الحديث ويُحسِنوه.
ولقد عرفتُ خليل مطران في عام ١٩٤٠، عرَّفني به أنطون الجميل (باشا) وجبرائيل تقلا (باشا).
وكان أنطون الجميل يحبُّ مطران الشاعر الإنسان، وكان جبرائيل تقلا يحبُّ مطران الكاتب الإنسان، وكنتُ إذ ذاك أشرف على الصفحة الأدبية في «الأهرام»، وكان أنطون (باشا) يشجعني على إفساح الصفحة لقصائد الشعراء، وكان تقلا (باشا) يقول لي إن الصحف اليومية لا ينبغي أن يكون فيها مجال للقصائد، واحتكمتُ إلى خليل مطران، وأنا واثقٌ من أنه سيكون في صف أنطون الجميل، وإذا هو يقول: جبرائيل تقلا عنده حق، ولم يكن تقلا (باشا) حاضرًا معنا، وسألته: كيف تقول ذلك وأنت أبو الشعر والشعراء؟
فقال: إن الشعر فنٌّ جميل، وإذا لم يُوضَع في الإطار اللائق به، ذهب رونقه وأصبح مادةً عاديةً، مثل بقية المواد التي تنشرها الصحف اليومية، وصار أشبه بباب الرياضة والبورصة والوفيات!
وخليل مطران كان معروفًا باسم شاعر القطرين، أي: القطر المصري وقطر الشام، وبعدما أصبحت الشام أقطارًا أُطلِق عليه اسم شاعر الأقطار العربية.
وهو في رأيي، أستاذ المدرسة الحديثة في الشعر العربي، فقد كان الشعر قبله ألفاظًا ومعانيَ، فجاء مطران ونظم قصائد كلٌّ منها تمثِّل بناء قائمًا بذاته، أو كائنًا حيًّا له رأس وقدمان ويدان ولسان، وفكر وشعور وهدف!
وقد بدأ محاولاته الشعرية الأصيلة في أواخر القرن الماضي.
وفضْلُ مطران على الشعر العربي من الناحية الفنية، لا يقل عن فضل محمود سامي البارودي من الناحية اللفظية.
ولقد نشأ شعراء كثيرون بعد مطران، وربما تفوَّقَ عليه شاعر أو أكثر، ولكنه تفوُّقُ التلميذ على الأستاذ.
ولقد شهد مطران تكريم الأدب له في أخريات حياته، فقد تألفت في عام ١٩٤٤ لجنة ضمَّتْ أدباء العروبة وعلماءها وفلاسفتها، وكان اسمها لجنة تكريم خليل مطران، وقامت اللجنة بطبع ديوانه في أربعة أجزاء كبيرة، وأقامت حفلة في دار الأوبرا تكلَّمَ فيها عشرون شاعرًا وخطيبًا، وحضرها الساسة والوزراء وأساتذة الجامعات، وقام خليل مطران وألقى أبياتًا بصوتٍ ضعيف خافت عبَّرَ فيها عن شكره، وبعد عام على ما أذكر، سكت هذا الطود ليدوي دائمًا في تاريخ الشعر العربي الحديث.