البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
البلبل الصغير!
هكذا كانوا يسمونه منذ ثلاثين عامًا، وقد ظلَّ خمس سنوات يحمل لقبَ بلبل، ثم لقب بلبل صغير ثم لقب مطرب الملوك والأمراء، وأخيرًا تنازَلَ عن جميع هذه الألقاب، واحتفَظَ منها بلقبٍ واحدٍ، هو لقب الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب!
لمع نجم عبد الوهاب لأول مرة خلال الفترة بين عامَيْ ١٩٢١ و١٩٢٦، وكان شوقي قد سمعه فأُعجِب به وتحمَّسَ له، وأخذ يمهِّد له طريقَ المجد، فلا يمر يوم دون أن يطالع القراء صورته في المجلات الفنية والأدبية مقترنة بكلمةٍ أو مقال أو قصيدة في التغنِّي بصوته، والإشادة بموسيقاه.
وكان شوقي يتراءى من خلال ما تكتبه الصحف عن عبد الوهاب، فقد أُعجِب بعبد الوهاب، وشغف بصوته حبًّا، وكانت المعركة على أشدها بين شوقي وخصومه، وظهر في ذلك الحين كتاب الديوان للكاتبين الكبيرين العقاد والمازني، وقد تناوَلَ هذا الكتابُ شعرَ شوقي وشخصه وتاريخه وحياته بالهجوم والنقد والتجريح، وانقسمت الصحف إلى معسكرين؛ أحدهما يدافع عن شوقي ويهاجم العقاد والمازني، والآخر يهاجم شوقي ويشيد بأدب العقاد والمازني.
وكان أنصار شوقي يتعصبون له ضد خصومه، فكل ما يصدر عن خصومه سخيف حقير مبتذل سواء كان أدبًا أو فنًّا أو مذهبًا سياسيًّا؛ وكان خصومه يتعصبون ضده، فالحَسَن عنده قبيح عندهم، وما يراه صوابًا يرونه خطأً، والبلبل الصغير ليس إلا غرابًا!
وأخذ المازني — رحمه الله — يهاجم عبد الوهاب في جلساته الخاصة، ويقول إن صدر عبد الوهاب ضيق، فهو لا يصلح أن يكون مغنيًا ولكن يصلح أن يكون مريضًا!
وكان المازني لم يسمع عبد الوهاب بعدُ، ورأى أحد أصدقاء عبد الوهاب أن يحميه من هجوم المازني عليه، فأقام حفلة في داره دعا إليها المازني والعقاد، وغنَّى عبد الوهاب في الحفلة، وأبدى العقاد إعجابه بصوت عبد الوهاب، وقال إنه لا عيبَ فيه إلا إعجاب شوقي به! ولما سُئِل عن رأيه في عبد الوهاب قال: صوته قوي عذب جذَّاب، واستعداده الفني عظيم، وقيل له: هل تمنعك خصومتك لشوقي من أن تقول كلمة عن عبد الوهاب؟
فقال: كلا، وسأنظم قصيدةً.
ونظم أبياتًا قال فيها:
ومن أمتع ما مرَّ بي في هذه الحياة — التي لا أراها ممتعة، ولا أحبُّ أن تطول أو تتكرر — ليلة قضيتها بين شرابٍ وسماع، فأما الشراب فلعل القارئ أدرى به! وأما السماع فقَلَّ مَن شجي به، كما شجيت في تلك الليلة، إي والله، وما زلتُ إلى الساعة — كلما خلوت بنفسي — أغمض عيني وأتسمع، وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع، الذي هاجني إلى ما بي كما لم يَهِجني صوتٌ سواه، وقد أعجب لما يصب في الأذن أين يذهب؟ وربما أثارني هذا العجز عن إحياء صوتٍ أكثر من تصوُّره في ضمير الفؤاد، وقد أغالي في إكبار هذه الثروة الصوتية، وأتمنَّى لو رُزِقت شيئًا منها بكل مالي — لو أن لي شيئًا! — ثم أعود فأسخر من نفسي، وأضحك من أمنية يستخفني إلى إنشائها الطرب العارض.
ثم أسخر من سخري وأقول لنفسي في حدةٍ: أَوَلَا يسرُّ الإسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلي عن نصف ما أحرزوا من مجدٍ، لو أنه وسعني أن أخول كلًّا منهم ليلة واحدة كهذه الليلة التي نعمت فيها!
كأني لم أكن أسمع بل أُسقى من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغًا من شجا القلوب، بل من شعاع العقول.
وهكذا أمتعنا عبد الوهاب بغبطته في ليلةٍ كانت كلها سحرًا، وردَّني بعدها بغير ذي أذن إلى كل نغمةٍ من سواه، وغير ذي صور إلا إلى فتنة مَن هوى فنه وشجاه، ولولا أن يُعَدَّ ذلك جحودًا ولؤمًا لَتجاوزْتُ عن ذكر اسمه، فإنه أحلى عندي وأوقع في نفسي أن أجرِّد غناءه من صورته الآدمية على حسها النرجسي، وأن أتصوَّرَه أبدًا هوًى سابحًا، وروحًا هائمًا، وصوتًا صافيًا.
هذا بعض ما كتبه المازني عن عبد الوهاب.
وقد فرح شوقي بما نظمه العقاد في عبد الوهاب، وما كتبه المازني عن عبد الوهاب، واعتبر ذلك نصرًا شخصيًّا له، فقد كان حبه لعبد الوهاب عنيفًا جارفًا.
وكان عبد الوهاب عاطفةً في قلبه، وفكرةً في رأسه، ونورًا في عينَيْه.
ولكن بعض أصدقاء شوقي أفهموه أن كتابة المازني والعقاد عن عبد الوهاب ستجعله ينضم إليهما، وأفهموه أن بلبله الصغير قد بنى له عشًّا في قلب المازني وقلب العقاد، واقتنع شوقي بذلك، وإذا به يسلط بعض الصحف على العقاد والمازني؛ لتجامعهما في موضوع عبد الوهاب بالذات، فكتب المرحوم حسين شفيق المصري مقالًا نقد فيه قصيدة العقاد، وقال: هل أراد العقاد أن يمدح عبد الوهاب أو أراد أن يذمه؟ إنه يقول:
إذن لم تكن ليلة طرب بل كانت ليلة شقاء، إن عبد الوهاب لم يُشْجِ الشاعرَ ولكن أشقاه، وسامه سوء العذاب!
وكيف يتفق هذا الشقاء والعذاب، مع وصف الشاعر للمغني بأنه أطرب السمع والحجا والفؤاد؟
سأل أعرابي أحد المغنين ما الغناء؟ فأراد المغني أن يُرِي الأعرابي كيف يكون الغناء، فأخذ يتغنى بأبياتٍ من الشعر، ويهتز، ويلقي برأسه إلى الوراء، ثم يعتدل، ويتجعد وجهه، وتلعب عيناه، فقال له الأعرابي: «والله يا أخي ما يفعل بنفسه هكذا عاقل!»
وقد صدق، ولم نَرَ مَن استملح هذه البشاعة من المغنين غير المازني، فقد كتب فصلًا عن المغني النابغة محمد أفندي عبد الوهاب، قال فيه إنه إذا تناوَلَ العود وأصلحه واستعَدَّ للضرب عليه، يرفع رأسه حتى يكاد يمس به ظهر الكرسي، ويرسل طرفه إلى الفضاء، وتلك أوصاف مفتراة، ظنها المازني ممَّا يُحمَد من المغنين، فوصف بها عبد الوهاب، وعبد الوهاب براء منها!
ولا نرى المازني أخزاه الله يصف مغنيًا، ولكنه يصف قردًا، وخُيِّلَ إليه أنه يمدح وهو يهجو، ولا شأن لنا به.
فَلْينظر عبد الوهاب كيف جزاء مَن يُطرب الحمقى والجهال، فلا يكافئونه إلا بإلحاقه بالقرود.
ولما ظهر الكشكول وفيه هذه الكلمة، أخذ شوقي يبدي إعجابه بالكاتب متسائلًا: يا ترى مَن يكون؟ إنه ليس أديبًا فقط، ولكنه أديب وموسيقي ويفهم في علم النفس. وكان يقول هذه الكلمات على مسمعٍ من عبد الوهاب.
كان كاتب هذه الكلمة هو شوقي نفسه، وقد نشرها غفلًا من الإمضاء!
وقد نجح شوقي في إقصاء عبد الوهاب عن العقاد والمازني، وظلَّ المازني حانقًا على عبد الوهاب إلى قُبَيْل وفاته بسنتين.
أما العقاد فقد نشر قصيدته عن عبد الوهاب في البلاغ، ولما تغيَّرَ رأيه في عبد الوهاب رفض تسجيل القصيدة في أي ديوانٍ من دواوين شعره.