في الفن تقليد!
يبدو أن الحديث عن الشعر التقليدي، والشعر الجديد، لا يريد أن ينتهي، فما زلنا نجد كثيرًا من الذين يهتمون بالحركة الفكرية، يصرُّون على إسباغ ميزة التجديد على بعض مَن ينظمون الكلمة بشكلٍ خاص، وإطلاق صفة التقليد على مَن ينظمون الكلمة بشكلٍ آخَر، والشعر فن.
وليس في الفن تقليد، فالفن جديد دائمًا، وقد تعيش لوحة أو قصيدة أو معزوفة موسيقية مرت عليها آلاف الأعوام، في حين ماتت الأعمال التي حاول أصحابها أن يبتكروا لها قوالب وخطوطًا ومناهج حديثة. ولماذا؟ هل الفن ينفر من الجديد؟ كلا ولكن الذي يحدث هو أن الداعين إلى تجديد الأساليب ليسوا فنانين، وإنما هم علماء في الفن، ويغريهم علمهم بأن يتولوا التجربة الجديدة بأنفسهم، فيخفقوا، تخفق التجربة معهم، فالفن ليس علمًا، ولكنه موهبة يمتد منها العلم، وكل المحاولات الناجحة في مختلف الفنون، فرضت وجودها؛ لأن وراءها فنانًا، أما غير الناجحة فهي المحاولات التي قام بها علماءُ تعوزهم الموهبة الفنية الأصيلة.
والعملة الفنية إما أن تكون سهلةً فنتداولها، أو صعبةً فنشقى في الحصول عليها؛ أما إذا كانت عملة لا يتداولها أحد بسهولة أو صعوبة، فهي ليست فنًّا وإن ارتفعت مئات الأصوات مؤكدة أنها عملة جديدة؛ فمقياس صحة العملة أن نشتري بها شيئًا، فما الذي نشتريه بالفن الصادق؟ إننا نشتري الانفعال، ورعشة المشاعر، وإغراق الذهن في التأملات، فكل ما لا يثير انفعالنا وتأملاتنا، ويهزنا من أعماقنا، ليس بفن؛ قد يكون علمًا، مذهبًا فلسفيًّا، معادلة رياضية، ولا أن يكون كذلك، وإنما العيب أن يُصِرَّ صاحبُ النظرية العلمية على أن يسمِّي نظريته قصيدة، أو تمثالًا، أو لحنًا موسيقيًّا.
إن الفن فعل وصوت، ولا بد لكي نوقن بالفعل من أن يكون له واقع، ولا بد لكي نوقن بالصوت من أن يكون له صدًى.
والأشكال والأساليب الفنية لا يمكن أن تخضع للقواعد والمناهج، وإنما هي تنبع من ذات الفنان، فتعبِّر عن شخصيته.
والعمل الفني لا يعيش، إذا لم تكن له شخصية تميِّزه عن الأعمال الفنية الأخرى، وإن تقارب معها في اللون والنسق.
ولا ينبغي أن نقف في وجه المحاولات للتجديد في الأشكال الفنية جميعًا، وعندما يوجد الفنان الذي يرسم هذه الأشكال، فإنه سيفرض وجوده بأعماله الفنية، وليس بالمذكرات التفسيرية التي يشرح بها هذه الأعمال!