ساعات معها وأيام معه!
اتصلَتْ بي في التليفون، ولو لم تبادر وتذكر اسمها لما تصوَّرْتُ أنها سيدة؛ ففي صوتها نبرة شابٍّ وبحة صبيٍّ!
قالت إنها تحمل لي رسالة من صديقٍ يقيم في دمشق، وسألتني كيف نتقابل لتسلمني الرسالة، وكنتُ قد سمعتُ عنها الكثيرَ مما يغري بلقائها، فلم أتردد في أن أضع يومي كله تحت أمرها، والتقينا!
لم تكن بعيدة كل البعد عن صورتها التي ارتسمت لها في ذهني قبل أن أراها، في الخامسة والعشرين، ذكية جذابة، البديهة حاضرة والعينان في غيبوبة، لسان فصيح، وقوام أكثر فصاحةً، وملامح مهذبة، وفكر سليط!
كانت في حديثها تدور حول نفسها، تتكلَّم عن أهلها وأصدقائها وزوجها وبنتها الوحيدة، وشِعرها الذي نظمته باللغة الفرنسية، وقصتها الجديدة التي كتبتها باللغة العربية، وهي تنطق الكلمات نطقًا صحيحًا، وتردِّد الأغاني الخفيفة، وتروي شعرًا جميلًا لنزار قباني، والمتنبي!
وأهدت لي قصتها الجديدة «أيام معه»، وقلتُ لها إني سأقرأ القصة بشغف؛ فإن بطلها صديقي، ورفعت يدها في وجهي احتجاجًا، وقالت: لا تظن أني أعني في قصتي فلانًا.
فقلت لها: أنا لا أظن، أنا أعتقد!
وانصرفنا على أن نلتقي مرة أخرى.
وقصة «أيام معه» تقع في ٤٠٠ صفحة من الحجم المتوسط، وقد طُبِعت بأناقة وذوق وترف، ووُضِعت بين دفتَيْ غلاف يثير شهوة القراءة!
بطلة القصة فتاة تمردت على تقاليد عتيقة تسلب المرأة حقها في حرية التفكير، وحرية العاطفة، فليس للمرأة رأي تعبِّر عنه، ليس لها أن تحبَّ أحدًا أو يحبها أحد، وهذه التقاليد لا تغفر للمرأة أن تعرف رجلًا تحبه علنًا، وتغفر لها أن تزلَّ في الخفاء؛ تطبيقًا للقاعدة المعروفة: «إذا بُلِيتم فاستتروا.»
وأحبت الفتاة كهلًا في حدود الأربعين، وكانت مخطوبة لشاب جميل يحبها ولا تحبه.
الكهل موسيقي — هكذا تقول القصة — والشاب طالب جامعي.
والفتاة تشبه المؤلفة نفسها، كوليت سهيل خوري، وهي تصور نفسيتها الثائرة المتمردة، عندما أرادت أن تكمل دراستها. إن العادات الصارمة تتعقبها؛ الأسرة تقف في وجهها بالمرصاد، وهي تسأل: لماذا يرفض أبي أن أتعلم؟
كيف؟ كيف أقبل أن أعيش حياة تافهة؟
كيف أرضى أن أعيش بين أربعة جدران، أقتل طموحي بالملل، وأدفن آمالي في انتظار العريس؟
لا، أنا لم أُوجَد فقط لأتعلم الطهي، ثم أتزوَّج فأنجب أطفالًا، ثم أموت.
إذا كانت هذه هي القاعدة في بلدي، فسأشذ أنا عنها، أنا لا أريد أن أتزوج!
أنا أريد أن أعيش حياتي، لا أن تُرسَم لي حياتي، أريد أن أحصل على شهادات عالية، أريد أن أدرس الموسيقى، أن أتعلم الغناء، أن أكتب الشعر، أن أرسم، أن أعمل، أن أشتغل، أن أسافر … أريد، أريد، أريد!
وكم وكم يريد طموح السابعة عشرة!
وتمضي كوليت فترسم جو الأسرة، وجو المجتمع، وترصد نظرات الاتهام التي ترهقها من الناس، وبخاصةٍ من عمها، فقد كان يُعلِن للجميع: إن هذه الفتاة ليست متزنة! لماذا تنشر أشعارها في المجلات؟ وماذا تفيدها كتابة الشعر؟ إنها فتاة غريبة الأطوار، منطلقة، تصرفاتها تخلق لنا مشاكل.
أَلِمجرد أنني شابة، وصريحة، وأكتب الشعر، يجب أن أُحاكَمَ في هذا البلد؟
وانطلقت الفتاة كما أرادت، استقلت وحدها في سكنٍ خاص هي وأختها الصغيرة، عرفت صديقها الفنان الكهل، أحَبَّتْه، وأحَبَّها، وكانت تعرف عنه أن قلبه أشبه بالمتحف، يضمُّ تُحَفًا من العشيقات، وأنه لا يحب المرأة، ولكن يحب فنَّه في أية امرأة.
كلُّ امرأة جديدة نغمةٌ يستغلها في وضع لحن جديد!
وقد أبدعَتِ المؤلفةُ في رسم شخصية البطلة، وشخصية البطل، وشخصية المجتمع.
ولكن هل «أيام معه» قصة؟
ربما كانت عناصر القصة متوافرة فيها؛ الجو، والشخصية، والتحليل النفسي، والتحليل الفكري، ولكن الشخصيات ثابتة، والأفكار محددة.
إن قصة «أيام معه» أشبه بالغدير الصافي، ولا ينبغي أن تكون القصة غديرًا، وإنما يجب أن تكون نهرًا يجري ويتجدد، القصة حياة تنمو وتكبر، وليست مناظر محدودة ووقائع مقررة.
ما أشبه كتاب «أيام معه» بمؤلفته؛ ليس للمؤلفة كل ملامح المرأة الجميلة، ولكن فيها كل جاذبية المرأة الجميلة، وكذلك «أيام معه» ليس فيها كل ملامح القصة، ولكن فيها كل جاذبية القصة!
وأسلوب كوليت خوري مثلها، أحيانًا يخلو من مساحيق الاستعارة والإغراق في التشبيه، وأحيانًا تتراكم عليه المساحيق وتغدو بعض فقراته كما لو كانت معطرة!
إن كتاب «أيام معه» ليس قصة، ولكن لوحات فنية، أشبه بالاعترافات، وقد استطاعت كوليت خوري أن تعترف بصدقٍ، وحرارة، وأنوثة!