عندما غنَّى الشعب
الشارع يموج بالزحام والأنوار، وبأصواتٍ متباينة يختلط فيها الزعيق والغناء والهتاف، وعزف الموسيقى، وتسمع من خلال الأصوات المدوية أبواق السيارات ورنين أجراس بسكليت أو عربة «حنطور» خاصة، وفرقعة السياط في أيدي سائقي عربات الحنطور العامة، أحيانًا يُلهِبون بها ظهورَ الجياد، وأحيانًا يُلهِبون بها ظهورَ الصبية المتعلِّقين بمؤخرة عرباتهم، وأحيانًا أخرى يُلهِبون الهواء بسياطهم ليشقوا لهم طريقًا للمرور!
إن الجماهير في هذا الشارع لا تمشي، ولكنها تدور وتتجمع، كلُّ مَن في الشارع يترنح؛ الناس، المقاهي، الفنادق، دور السينما، الأضواء الملونة التي تغدقها المسارح والكباريهات على واجهاتها بكرمٍ وحماقة.
إن الكلمات والقهقهات هي الأخرى تترنح، الذين يزعقون تخرج الكلمات من أفواههم مبتورة كالسيرة المعوجة أو السلوك السيئ، والذين يقهقهون تعلو قهقهاتهم وتهبط وتتقطع وتتمايل كسكران شرب زجاجة كاملة من خمر رديء! والشارع يبدو كما لو كان متدثرًا في غطاءٍ فضاؤه تغطيه البالونات، يمسك بخيوطها الصبيان والباعة الجائلون، وجدرانه تغطيها إعلانات الملاهي وصور المطربات والراقصات والمطربين. النساء والفتيات والشبان والكهول غطوا الرصيف والطريق. أزياء الرجال متعدِّدة الأشكال؛ عمائم وطرابيش وقبعات وقفاطين وبذلات ومعاطف وجلابيب عادية، وجلابيب من الصوف أو الحرير تولَّى حياكتها أشهر الخياطين. النساء يرتدين الفستان أو الحبرة أو المعطف أو الملاءة اللف، أكثرهن سافرات الوجوه والأقلية منهن احتفظن باليشمك التركي، أو البرقع البلدي!
لا يوجد مقعد خالٍ في مسرحٍ أو في مقهًى أو دار سينما أو كباريه، وعلى أبواب المقاهي يعرض الحواة ألعابهم العجيبة، يحشون صدورهم بالثعابين، ويأكلون النار، ويبلعون المسامير، وإلى جانبهم فرقة بمصاحبة البيانولا، بين أعضاء الفرقة مَن تخصَّصَ في المشي على يدَيْه، ومَن تخصَّص في حمل بقية أعضاء الفرقة فوق قدمَيْه! وعند أبواب الكباريهات وقفت أكثر من غانية تعرض مفاتنها الرخيصة؛ وجه ملطَّخ بالأحمر والأبيض تحملق منه عين خائنة، وابتسامة وقحة، وذراعان تعرَّتَا حتى الإبطين، وساقان عاريتان، وفستان قصير ضيق النطاق على الردفين، فتمرد الردفان على الفستان! ومن ناحية تنطلق أغانٍ وألحانٌ ينشدها المطربون والمطربات في المسرح، وتردِّدها معهم الجماهير في الشارع الكبير.
هكذا كان شارع عماد الدين مساء يوم ٣١ ديسمبر من عام ١٩٢٢، وكان صاحب هذه الألحان والأغاني يمشي في الشارع، ويستمع إلى الناس وهم يبدون إعجابهم به، فيأخذه الزهو، وتتملَّكه نشوة النجاح؛ لقد سبق زمنه في الكشف عن حقيقة الأغنية، ووظيفتها، ومفهومها، وسبق زمنه أيضًا في الكشف عن مكانته وموهبته وعبقريته.
لقد أصبح صوت مصر، صوت عاطفتها ومرحها وألمها ونضالها، إنه صاحب كل هذه الألحان التي تعبِّر عن الحب، والحزن، والأمل، والتمرد على الظلم والاستغلال والاحتلال.
إنه الرجل الذي انفعل بآلام الشيالين والسقايين، وغنَّى في وقتٍ واحد: «ضيعت مستقبل حياتي»، و«شفتي بتاكلني أنا في عرضك»، و«فلفل فلفل اهري يا مهري»، و«زوروني كل سنة مرة»، و«بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، و«قوم يا مصري مصر أمك بتناديك»، و«اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم» …
إنه سيد درويش، وكان في هذا العام قد بلغ من عمره الثلاثين، وبلغ في فنه قمة المجد والشهرة، إنه ابن كل شارع في مصر، واحد من غمار الناس، عاش مشاعرهم وتجاوَبَ معهم، فجعل من فنه رئة يتنفسون بها.
وهو في هذا الشارع «شارع عماد الدين» سيده الأوحد؛ فهذا شارع المسارح والملاهي، وكل ملهًى وكل مسرح يجري وراء سيد درويش؛ ليستأثر بإنتاجه الفني في الأغنية والأوبريت، وهو يرفض العروض ويقبلها، دون أن يعرف أحد لماذا يرفض ولماذا يقبل؟ اتفق مع علي الكسار، ونجيب الريحاني، ومُنيرة المهدية، لم يَنشِب خلاف بينه وبين الكسار، ومع ذلك آثر عليه منيرة المهدية برغم اختلافه معها قبل اتفاقهما وبعد اتفاقهما. ولقد آثر نجيب الريحاني على الجميع، مع أن حدة الخلاف بينه وبين الريحاني لم تهدأ منذ أن عرفه إلى أن ترك الحياة؛ فهو يحب الريحاني ويؤمن بأنه فنان عبقري، ومن أجل ذلك غفر له ما لم يغفره لعلي الكسار أو لمنيرة المهدية، غفر له أن ينتقد بعض ألحانه! وكان سيد درويش يتهاون في أي شيء، إلا في المساس بلحنٍ انتهى من صياغته.
كان يغار على تراثه الفني أكثر من غيرته على حياته؛ إنه يسمح لك أن تسرق ماله، ولكنه يقتلك إذا حاولت أن تسرق ألحانه!
ذات ليلة ذهب إلى مسرح الكسار وسمع أحد الألحان، ووجد اللحن مسروقًا منه، فغادر صالة المسرح واتجه إلى الكواليس، واستدعى مؤلِّف اللحن المسروق ورحَّب به المؤلف، وكان اسمه «إبراهيم فوزي»، ومَدَّ ذراعَيْه في الهواء ليحتضن الشيخ سيد درويش، وإذا سيد درويش ينهال عليه بأقذع الشتائم، ويهدِّده بالقتل إذا لم يقلع عن السطو على ألحانه.
وفي شارع عماد الدين في ليلة رأس السنة، ٣١ ديسمبر سنة ١٩٢٢ سار سيد درويش ومعه أصدقاؤه؛ زكريا أحمد وبديع خيري ويونس القاضي، وكان في طريقه إلى معهد الموسيقى الشرقي، وسأله زكريا ماذا ستصنع هناك؟ وقال سيد درويش: لقد اتصل بي مصطفى بك رضا، ورجاني أن أنضم إلى المعهد. وقال الشيخ زكريا: مصطفى بك رجل طيب ولكن …
وقال الشيخ سيد: ماذا تعني؟
الشيخ زكريا: أعضاء المعهد لا يعترفون بموسيقاك، ومصطفى رضا أيضًا لا يعترف بها.
وصاح سيد درويش: إذن، سأذهب إليهم وأتحداهم.
الشيخ زكريا: سأجيء معك.
الشيخ سيد: دعني وحدي.
وانطلق سيد درويش بأقصى سرعته حتى وصل إلى المعهد وحده، وهناك استقبل المعهدُ لأول مرة شابًّا رأسه متوسط الحجم، وشعره مبعثر نافر غزير خشن، متمرد على كل تسريحة، جبهته عريضة، وعيناه يمتزج فيهما الحنان بالقسوة والشهوة، الأنف يبدو كما لو كان مضغوطًا، والفم واسع رقيق مطبق، والأذنان مرهفتان.
وكان قوامه فارعًا طويلًا، عريض المنكبين، رحب الصدر، نصفه الأعلى يميل إلى البدانة، وينتهي إلى بطنٍ منتفخ. أما النصف الثاني فكان نحيلًا، وكانت ساقاه اللتان تحملان جسده أشبه بساقي طائر، فهما رفيعتان نحيلتان.
ودخل الشيخ سيد مكتب مصطفى بك رضا، فاستقبله مصطفى بك بالترحاب هو ومَن معه، ودار الحديث عن الموسيقى وتطوُّرها.
وقال مصطفى رضا: إذا كان التجديد هو تقليد الموسيقى الغربية فما أسهله!
وثار الشيخ سيد وردَّ عليه: إنني لا أقلِّد أحدًا، إنني أعزف مشاعري، أعبر عن انفعالي بأنغامٍ لها وحدة وجود وهدف.
وسأله مصطفى رضا: هل سمعت شيئًا من الموسيقى الغربية؟
وقال الشيخ سيد: سمعت.
وأخذ مصطفى رضا يعزف على القانون لحنًا من أوبريت «كارمن» للموسيقار «بيزيه»، وقال للشيخ سيد: ما الفرق بين هذه الموسيقى وبين موسيقاك؟
فقال الشيخ سيد: هذه موسيقى «بيزيه»، أما موسيقاي فهي موسيقى سيد درويش.
فضحك مصطفى رضا، وفي هذه اللحظة كان الساعي يضع أمام الشيخ سيد فنجان قهوة، فتناول سيد درويش الفنجان بيده ورمى به فوق المائدة، احتجاجًا على سخرية مصطفى رضا به، وقعت القهوة الساخنة على ركبة فتًى صغير، كان يجلس بجوار مصطفى رضا فصرخ من الألم.
وكان هذا الفتى هو محمد عبد الوهاب!
وغادر الشيخ سيد معهد الموسيقى الشرقي غاضبًا، وجرى خلفه محمد عبد الوهاب حتى لحق به وأخذ يسترضيه، وأقبل مصطفى رضا وحسن أنور وبعض أصدقاء المعهد، ووقفوا مع الشيخ سيد واعتذروا له، وعادوا به إلى المعهد ليناقشوه في هدوء.
ولم تُجْدِ المناقشة، قال لهم الشيخ سيد: أنتم تعيشون في الماضي، وتنظرون إلى الوراء، وأنا أعيش عصري وأنظر إلى المستقبل.
وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة مساء، فاستأذن الشيخ سيد في الانصراف، وذهب إلى مقهًى في ميدان الأوبرا، ووجد الشيخ زكريا في انتظاره، فقال له: قم بنا نذهب إلى مسرح الأوبرا لنسمع أوبريت «كارمن»، ولما وصلَا إلى باب المسرح وجدَا المقاعد مشغولة كلها فعاد إلى المقهى، وتلفت الشيخ زكريا فوجد سيد درويش يرهف أذنه، وهو في حالة إصغاءٍ تام.
فسأله: ماذا تصنع؟
فقال: أحاول أن أسمع، ثم قال: آه! هذه هي الموسيقى! إن الموسيقى ليست موهبة فقط، إنها موهبة وعلم، لا بد من أن أتعلم الموسيقى، سأسافر إلى إيطاليا في العام القادم، سأتلقَّى فنَّ الموسيقى في بلد الموسيقى وأساتذة الموسيقى، وأخذ يبكي وينتحب.
وجذبه الشيخ زكريا من يده، وسارَا معًا إلى بيتٍ في شارع محمد علي، كان يحلو للشيخ سيد درويش أن يمضي فيه سهرته.
إن سيد درويش شخصية فذة في تفكيرِه وشعورِه والتصاقِه بأرضه وتطلُّعِه إلى التحليق في آفاقٍ عالية سامية، إنه يبدو في تصرفاته وديعًا إلى حد الضعف قاسيًا إلى حد الضراوة! وهو يألف الناس بلا سبب، وينفر منهم بلا سبب! وربما كان مرجع ذلك إلى طبيعته «المينائية»، فأبناء البلاد ذات الموانئ يقيمون علاقاتهم بالناس، على أساس الشعور المفاجئ؛ لأنهم يعرفون الناس فجأةً، يُفاجَئُون بهم وهم قادمون، ويُفاجَئُون وهم راحلون.
كان سيد درويش يميل بقلبه إلى صديقٍ لا يستحق الصداقة! ويهرب بقلبه وعقله من إنسانٍ جدير بالصداقة! إنه في علاقاته مع الأصدقاء والصديقات لا يسير وراء المنطق ولكن يسير وراء الشعور.
ولقد خانه شعوره في صداقاته وعلاقات حبه، فكان يصادق بلا تمييز، ويحب نساء تافهات بنهمٍ وحرارة، حتى إنه يَهبهنَّ قلبه وفنه أيضًا. ولقد انحرف بمزاجه في تيار البيئة التي كان يريح فيها تفكيره ويرهق نزوته. عرف الحشيش والكوكايين، وجميع ألوان الكحول، ولكن هذا التيار لم يَنَلْ منه كإنسانٍ يحب وطنه، وكفنَّان يؤدِّي رسالته بفهمٍ وإيمان.
إنه في هذا العام ١٩٢٢ يرتدي البذلة كاملة، وقد علق في رقبته «بابيون»، ووضع فوق رأسه طربوشًا طويلًا؛ ولكي ترى سيد درويش قبل هذه السنة اخلع بذلته، واضغط قامته قليلًا، ثم دعه يرتدي الجبة والقفطان والعمامة ذات الشال الأبيض الملفوف حول طربوش أحمر. لقد كان هكذا في الإسكندرية والقاهرة بضع سنوات، ولكن ماذا كان قبل ذلك؟ اخلع عنه الجبة والقفطان، ودَعِ العمامة فوق رأسه وأَبْقِ على جلبابه الواسع، وهو طالب في المعهد الديني بالإسكندرية؛ حيث أمضى سنتين إحداهما في المسجد العباسي، والأخرى في جامع الشوربجي.
ولكن ما لنا نتراجع مع حياة الشيخ سيد إلى الوراء تراجعًا متقطعًا؟ لماذا لا نسير معه منذ ولادته في عام ١٨٩٢، إلى أن مات في عام ١٩٢٣.
تمَّتْ ولادة سيد درويش في حي كوم الدكة بالإسكندرية، وكان أبوه نجارًا بسيطًا، وكان برغم فقره موضع احترام أهل الحي، ومات الرجل الفقير وترك ابنه في السابعة من عمره فكفلته أمه، وكان إذ ذاك يتردَّد على كتَّاب يحفظ فيه القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة حسن حلاوة، ثم إلى مدرسة شمس المدارس، وكان بين مدرِّسِي هاتين المدرستين الأستاذُ سامي، وهو يهوى الموسيقى، فأنشأ فيهما فرقةً للإنشاد، وخصَّ الشيخ سيد برعايته بعدما أدرَكَ مواهبه الفنية الفطرية، وتولَّى الشيخ سيد قيادة الفرقة عندما كان طالبًا في مدرسة حسن حلاوة، وعندما صار طالبًا في مدرسة شمس المدارس.
عرضحال بتاريخ ٢٧ مارس سنة ١٩٠٥ حضرة شيخ علماء إسكندرية فضيلتو أفندم، مقدمه لفضيلتكم سيد درويش البحر، من أهالي إسكندرية، ومقيم بكوم الدكة شياخة أحمد الضوي، وما نعرض عنه أفندم.
بحيث إني مشتغل بحفظ القرآن الشريف، وأروم من فضيلتكم بدرج اسمي مع الطَّلَبَة الموجودين تحت رياسة فضيلتكم، وعندي من العمر ١٣ سنة ثلاث عشرة، ومذهبي مالكي (وهنا حذف كلمة مالكي ووضع مكانه كلمة «حنفي»)، وإنْ قبلتم طلبي هذا أدعو لفضيلتكم بالعز والبقاء أفندم.
وأصبح سيد درويش طالبًا بالمعهد، ووقَّعَ التعهُّد الذي يتحتَّم على الطالب الأزهري توقيعه، وينص البند الخامس من هذا التعهُّد على أن يحافظ الطالب على شرف العلم والدين، وأن يسير سيرةً مرضيةً، وأن يتخلَّق بالأخلاق الكريمة، وأن يحافظ على جميع الواجبات المفروضة عليه بمقتضى الشريعة الإسلامية.
ومكث سيد درويش في المعهد الديني سنتين لم يستطع خلالهما أن ينفِّذَ أيَّ بندٍ من بنود التعهُّد المطلوب من المنتسبين إلى المعهد؛ فقد أخذ يحفظ الألحان وينشد الأغاني، ويسهر في الحفلات التي يُحيِيها المطربون والصبية والمقرئون المعروفون، كالشيخ أحمد ندا والشيخ حسن الأزهري، بل إنه لم يستطع خلال هذين العامين أن يرتدي الجبة والقفطان؛ فقد كان لا يملك ثمن الملابس الدينية، وفي إحدى الليالي كان الشيخ حسن غميض يُحيِي حفلةً، وأخذ يرتِّل التواشيح الدينية، وبعده وقف الشيخ سيد وأنشد بعض الموشحات والأغاني بطريقةٍ استهوَتِ الآذان، واستخف الطرب بالموجودين، فجمعوا له نقطة اشترى بها عمامةً وقفطانًا وجبةً.
وكان هذا أول عهد الشيخ سيد بالزي الديني، وآخِر عهده بالمعهد الديني؛ فعقب ذلك قرَّرَ المعهد فصله لعدم مواظبته على حضور الدروس واشتغاله بقراءة الموالد في الأفراح.
وقرَّرَ الشيخ سيد أن يحترف الغناء والإنشاد، ولكنه اصطدم بعقباتٍ شديدة؛ كانت أغلبية الجماهير لا تستسيغ أداءه، وكم أقام حفلات فلم تصادف أي إقبالٍ من الجمهور.
وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، تزوَّجَ وصار مسئولًا عن زوجته وأمه وطفله محمد البحر، فاشتغل في فرقة «جورج دخول» المعروفة بفرقة «كامل الأصلي»، وكانت تعمل في أحد المقاهي بكوم الناضورة، ولم ينجح في عمله، فترك الفرقة وأخذ يطوف بالمقاهي ينشد الأغاني، وكان ما يجمعه طول الليل والنهار، لا يزيد على بضعة قروش.
واضطر إلى أن يشتغل عامل بناء، فخلع عمامته وجبته وقفطانه، وارتدى جلبابًا أبيض، وكان يعمل في إحدى العمارات مناولًا، يصعد فوق السقالة ويناول البنَّائين المونةَ والبياض، وكان في أثناء صعوده وهبوطه يرفع عقيرته بالغناء، ويثير إعجاب العمَّال! وكان بجوار العمارة مقهًى يتردَّد عليه أمين عطا الله وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل الصغير من مزايا فنية، واتفقَا معه على أن يصاحبهما في رحلتهما إلى سوريا، وألحقاه بفرقتهما عام ١٩٠٩، وقد أفاد سيد درويش من هذه الرحلة علمًا وثقافة وإلمامًا بالموسيقى الشرقية، ولكنه أخفق في عمله، وفي عام ١٩١٢ سافَرَ مرة أخرى إلى سوريا مع فرقة عطا الله، ونجح في هذه المرة نجاحًا نسبيًّا، ولما عاد إلى الإسكندرية بدأ يحدِّد اتجاهه الموسيقي، ويتجه إلى المفهوم الصحيح للأغنية، وأخذ يصارع الظروف المادية والفنية بقوةٍ وصلابة، حتى ذاع اسمه وصار حديث الناس كفنان مجدد، وصاحب مدرسة في الأغنية المصرية.
في عام ١٩١٧ انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ومنذ ذلك التاريخ وقف تحت الأضواء العالية، وما أشد خوفه من هذه الأضواء! إنها ستظهره على حقيقته، وقد ينفر الناس من هذه الحقيقة، وقد يُقبِلون عليها، ولكن لا بد من أن تظهر حقيقة سيد درويش، إنه نفسه يريد ذلك، كان في هذا التاريخ قد اطمأنَّ إلى موهبته، وكان إنتاجه الفني غزيرًا، كانت الفكرة تنبض في رأسه وتخرج فورًا؛ لأنها ترتطم بأفكارٍ أخرى؛ فإن موهبته أكثر من معلوماته.
وفي القاهرة لازَمَ الشيخَ سلامة حجازي، والتحَقَ بفرقته، وغنَّى بين فصول المسرحيات، ولكن الجمهور انصرف عنه.
ولم ييئس سيد درويش من فنه، بل لم ييئس من صوته، كان يؤمن بأن فنه قيِّم، وأن صوته إذا لم يكن جميلًا، فهو قادر على الأداء الصحيح، وأجرى جراحة في أنفه لاستئصال «اللحمية»، ولكن صوته ظلَّ كما كان قبل هذه الجراحة.
اتجه إلى التنويع في الألحان، إنه لا يلحن للحناجر الجميلة، إنه يلحن للشعب، يريد من الشعب أن يغني بجميع الأصوات ومن جميع الطبقات.
وانتشرت ألحانه على ألسنة الناس ودوت في آذانهم، وهمست مشاعرهم.
واهتدى سيد درويش إلى نفسه، إنه يُعبِّر عن مشاعره كإنسان ومشاعره كمواطن، فقد تمَّتْ ولادته بعد أن احتلت بريطانيا مصر بعشر سنوات، وكان يرى في كوم الدكة طابية محطمة، وسأل عن تاريخها وعلم أن الإنجليز ضربوها بالمدافع عندما دخلوا الإسكندرية في أثناء ثورة عرابي.
وعرف أن لبلده عدوًّا مقيمًا، وشعر بالنقمة على هذا العدو، أراد أن يعبئ الشعور ضد العدو بالكلمة، فوجد أروع الكلمات تنطلق من فم مصطفى كامل، ثم من فم سعد زغلول، أراد أن يعبر بالصوت الحلو؛ فوجد أحلى الأصوات تخرج من حناجر أخرى جميلة، فاتجه إلى تنقية موسيقاه من البطء والفضول والتكرار، وحوَّلها من وسيلة لتزجية الفراغ والانجذاب والتطريب إلى حافزٍ يهز المشاعر ويلهب العواطف، وهو يُحدِّد مفهومه للألحان، ويحاول أن يضع كتابًا عن الموسيقى، ويبدأ في تأليف الكتاب، وينشر منه أربعة فصول في مجلة النيل عام ١٩٢١، وفي رأيه أن الموسيقى أصوات متآلفة تحدث أنغامًا بوساطة اهتزازات تنجذب لها الأفئدة كما ينجذب الحديد للمغناطيس، وكان يوقِّع هذه الفصول بإمضاء: «خادم الموسيقى سيد درويش.»
ظلَّ سيد درويش موضع اهتمام مصر والعالم العربي طيلة السنوات الخمس التي سبقت وفاته، ثم أصبح مادة وموضوعًا عقب وفاته، وقد سمعت عن سيرته الفنية وسيرته الشخصية قصصًا كاملة من شاعرنا الخالد أحمد شوقي، وحدثني عنه عندما لحن له سيد درويش النشيد القومي: «بني مصر مكانكُمُو تهيَّا.»
وسمعت مئات القصص من بيرم التونسي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، واطَّلَعت على ما نشرته الصحف عنه من آراء النقاد والأدباء؛ أمثال الأستاذ الكبير عباس العقاد، والدكتور حسين فوزي، والأستاذ محمد علي حماد، وقرأت كتابين عن سيد درويش؛ أحدهما للأستاذ محمد إبراهيم، والآخَر للأستاذ محمد محمود دوارة، وكل ما قرأته وما سمعته لم يهزني كما هزني أن سيد درويش الذي صنع أكثر من مائتَيْ لحن وأوبريت مات في الثلاثين من عمره!
وفي شهر سبتمبر من عام ١٩٢٣ أعَدَّ سيد درويش نشيدًا وطنيًّا، ليغنيه مع المجموعة في حفل استقبال الزعيم سعد زغلول لمناسبة عودته من الخارج، وسافَرَ سيد درويش إلى الإسكندرية، وأقام مع شيقيقته في حي محرم بك، وفي اليوم المحدد للاحتفال وهو يوم ١٥ سبتمبر كانت المجموعة قد حفظت النشيد في الصباح، وانتظرت سيد درويش، ولكنه لم يحضر، ولم يعجب أحد لذلك؛ فقد كان الشيخ سيد لا يلتزم بأي موعد!
وظهر سعد زغلول في الاحتفالات وعزفت المجموعة نشيد: «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، ورددت الجماهير هذا النشيد بقوةٍ وحماسة، وأبدى سعد زغلول إعجابه باللحن الشعبي العظيم، وسأل مَن الذي وضع هذا اللحن؟
وقيل له: سيد درويش.
فقال: أين هو لأحييه؟
وقيل لسعد زغلول: لقد مات.
اليوم مات سيد درويش!