المرأة المصرية والسياسة وخطة دنلوب في التعليم وكيف نجحت؟
مصر الاجتماعية
لقد بدأ البحث في المسائل الاجتماعية في مصر منذ ألف المرحوم قاسم أمين كتابه في تحرير المرأة، لأن المرأة هي قوام الحياة الاجتماعية في كل بقعة وقطر، فالمرأة الإنجليزية اشتُهرت بتدبير الدار والدأب على العمل في سبيل إسعاد الأسرة وتوفير وسائل الهناء حول الموقد والخوان، والمرأة الفرنسية معروفة بذكائها وفطنتها وحضور بديهتها وحسن بِزَّتها والمبالغة في صنوف التجمل والزينة، والمرأة الألمانية وفية لزوجها تحبه الحب كله، وتودعه كما تستقبله في كل صباح ومساء بدموع الفرح أو الأسى وهي بعد تجيد الطبخ وصنع الفطائر والمرقَّقات وتحب الموسيقى وتشارك زوجها في حمل أعباء الحياة، والمرأة البولونية لا تصلح للزواج بقدر ما تصلح للعشق فهي شديدة الشغف بالمغازلة، والمرأة الروسية عاقلة عليمة صبور على الشدائد تعين زوجها وتساعده وإعجابها بالذكاء والشجاعة أعظم من إعجابها بالجمال أو بالقوة، وقد كان لها أوفر نصيب في الثورات الروسية والاستقتال في سبيل الفكرة التي بها تحيا ولأجلها تموت.
أما المرأة الشرقية ولا سيما المسلمة فيندر أن يكون لها مشاركة في أعمال الحياة الخارجة عن بيتها. إن اليابانية شاركت رجلها في الحرب والتجارة والسياسة، والمرأة الهندية التي كانت خاملة قد نهضت في العشرين سنة الأخيرة وأخذت تعمل مع الرجل، وذلك بفضل تعلمهن تعليمًا حديثًا في أوروبا.
إنني قد أصبحت أشهد العجائب والغرائب في هذه البلاد! إن مثلي ممن عرف مصر في عهد توفيق ليَهُوله كلَّ الهول ما يشهد بعينه من تطور شأن المرأة المصرية في هذه الأعوام الأخيرة، هذا التطور الأشد غرابة من كل ما حدث من أنواع الانقلاب في وادي النيل. إن من كان يعرف تاريخ حياة المرأة المصرية، حياة الإهمال والانقباع في كسر بيتها بمعزل عن أي شأن تُشْتمُّ منه رائحة سياسية أو اجتماعية؛ ليدهش دهشًا كبيرًا حيال ما قد حدث من التطور في هذه الأشهر الأخيرة، فقد قامت في مصر مظاهرات كبرى في صيف العام الماضي (سنة ١٩١٩)، فاحتشد النساء في القاهرة في مواكب جليلة فهُرعت الجنود البريطانية للحال واصطفَّت نطاقًا من حول الموكب مصوِّبة نحو النساء البنادق وفي رءوسها الحراب المسدَّدة اللامعة، وإذا هدد جندي سيدة لَسرعان ما دارت إليه زائرة زَأْرَة أنثى الأسد تحمي أشبالها وكشفت عن صدرها وصاحت به: «اغرس أيها الجندي حربتك في صدري، فيعرف العالم أن هناك واحدة من النساء أمثال الآنسة كافل.» ا.ھ كلام زوجة الطبيب.
وقد حدثت هذه الحادثة في شهر أبريل سنة ١٩١٩، فإن السلطة العسكرية كانت صرحت بمظاهرة نِسْوية ثم منعتها، ومنشؤها رغبة السيدات المصريات في تقديم احتجاج لقناصل الدول، فلما صدر الأمر بمنعها أحاطت بالمظاهرة صفوف من الجند الإنجليز الذين أخذوا يطاردون الجماهير في شوارع قصر العيني وشارع سعد زغلول وما حولهما، وقد حاصر الجنود هؤلى السيدات ومنعوهن عن التقدم نحو غايتهن ومن العودة إلى منازلهن فتقدمت واحدة منهن، وقد قيل إنها السيدة أستير ويصا ابنة المرحوم أخنوخ فانوس الذي كان أخطب الأقباط، وأثبت محمد صبري المؤرخ المصري في ص٤٣ من كتابه «الثورة المصرية» أنها السيدة هدى هانم شعراوي؛ فقد تقدمت تلك السيدة وكشفت عن صدرها كما كانت تفعل إحدى الرومانيات أو العربيات، وقالت: «اقتلني ليكون في العالم ميس كافل أخرى.» وقد رأيت بنفسي هذه المظاهرة بصحبة قاض مصري (الآن مستشار بالاستئناف) كانت زوجته بين هؤلاء السيدات، وقد بقيْنَ ساعتين تحت وهج الشمس، ولولا تدخل قنصل أمريكا وقنصل إيطاليا اللذين لجأت إليهما صفية هانم زغلول ما تمكن السيدات من العودة إلى منازلهن. وأثبت المؤلف السالف الذكر أن فتاة مصرية خطبت بالفرنسية أمام حفل من الأجانب على شرفة فندق شبرد، فقالت: «إنني لن أتزوج لئلَّا ألد ولدًا يكون عبدًا للإنجليز.» وأنا أرجح أن صاحبة الحادثة الأولى هي أستير.
ورأينا عشرات المرات طوائف من النساء المصريات العامِّيَّات راكبات على مركبات النقل، يطفن بالشوارع مهلِّلات فرحات، وحولهن الأعلام الخافقة «كانت حملة وانشالت يا سيد!» يقصدن بذلك إلى زوال الاحتلال الإنجليزي. وقد كانت هذه النداءات والهتافات والأغاني صادرة عن إخلاص وسلامة فطرة فحركت في نفوس كل من رآها أسمى العواطف واستمطرت الدموع من العيون، ولكنها كانت سابقة لأوانها واأسفاه!
فحق للسيدة جان ديفراي أن تدهش مما لم تكن تحلم به قبل اليوم.
المصرية بين الثورة والتبرج
غير أن المرأة المصرية مزيج من المرأة العربية والمرأة المصرية والمرأة التركية، وهي سريعة الانفعال والتأثر وجديرة بأن تشعر بما شعرت به إبَّان الثورة المصرية، وقد ثابر بعضهن على العمل في صفوف المجاهدين في سبيل الإصلاح السياسي أو الإصلاح الاجتماعي. ولكن حب النفس والغيرة قد تؤثر في بعضهن فتختط كلٌّ منهن خطة تورثها الظهور والشهرة ولا تود أن تعمل هادئة في الصفوف، وذلك لمجرد شعورها بمكانتها أو ثروتها أو طيبة أرومتها، فهي لا تريد أن تخضع لأحد ولا أن تكون مرءوسة لأحد.
ولكن الدور الذي مثلته المرأة المصرية في الثورة المصرية لم يغْنِ شيئًا في ميدان المعترك الاجتماعي فحياة البيت المصري لا تزال كما وصفنا، والمرأة المصرية الغنية المتعلمة المتزوجة تنهب زوجها وتبدد ثروته في تجميل نفسها وتجميل منزلها لجعله على النمط الأوروبي.
ولم تعمل واحدة منهن ما عملته أم محمد علي الهندي ولا ما عملته مدام كاما أو السيدة سارجويني نايدو ولا ما قامت به السيدة خالدة أديب في النهضة التركية الحديثة.
وكان العهد الأخير على مصر عهد إسراف وتبذير وبلاء ولا سيما منذ تهتَّكت المرأة في لبس الثياب ورفع الحجاب وركبت رأسها بغير رقيب ولا حسيب، وعذرهن وعذر من يدافع عنهن إنما هو وجودنا في طور الانتقال أو التحول. ودور التحول هو بحكم الضرورة دور فساد في الآداب وانحطاط في الأخلاق وعبث بالدين، مما قد يظنونه عرضًا يزول أو مرضًا يبرأ، ولكنه في الحقيقة داء مزمن لا يشفى إلا بكرِّ الأعوام.
فكل من يرى المرأة المصرية ولا شغل لها إلا زينتها وحليها وتجميل شخصها الفاني وإعجابها بكواكب السينما وغشيانها أماكن الملاهي وسماع الغناء وترتيب الحفلات اليومية لشرب الشاي وتبادل الأفكار في مستحدَث الأزياء؛ لَيرتاب في مستقبلها من حيث قبولها الإصلاح، وقد يثبت في نفس المفكر الحزين أن أظهر نتيجة لهذا الدور أو هذا التطور، البادئ بالتواليت والمنتهي بقيادة السيارات، هي تزلزُل نظامنا القديم الكريم القائمة عليه حياتنا البيتية وعاداتنا الاجتماعية وتضعضُع المعتقدات الدينية وتزعزُع حياتنا القومية، فإن النظم العتيقة على ما بها من عيوب كانت مشتملة على فضائل جمة. وإنني وإن ذكرت الدين فلا أقصد العبادات فحسب، لأنه من المعلوم والمسلم به أن المرأة المصرية المسلمة لا تمارس شعائرها الدينية وربما كانت الصلاة أو الصيام موضع السخرية في نفسها.
المرأة المصرية بين الدين والأخلاق
وربما كانت المرأة المصرية معذورة في الخطة التي تسير عليها، لأنها لا ترى أمامها قدوة حسنة لا في زوجها ولا في أبيها بعد أن انقرض جيل أمها وجدتها، وكانت الصورة التي تراها من الأخلاق صورة بشعة مؤلمة، فإن المصريين المستجَدِّين تحت ستار النهضة الحديثة والتجدد واستقلال الفكر والشخصية البارزة وما إليها من الألفاظ والتعبيرات العقيمة؛ قد قضوْا على صفات الاحترام الماضي وإكرام الكبار والشيوخ واعتبار الحِكَم والنصائح الصادرة عن المجربين من الأهل والأقارب. وبعد أن كان الوالد رب الأسرة وولي العِتْرة ورئيس العشيرة وكانت كلمته فيها هي المطاعة وأمره النافذ المقضي، وكان حارس مقامها وراعي حرمتها كما هو مصدر رزقها؛ فقد أصبح مجردًا من تلك الصفات وصار أصغر فرد من أفراد العيلة يبغي أن يستوي معه في كل شأن من الشئون وينازعه السيادة في كل أمر من الأمور، وقد روى لي والد أنه أصبح لا يستطيع أن يصدر لابنه الناشئ أمرًا لأنه واثق من مخالفته، وإن أراد الولد طاعته لبقية احترام أو خوف تعضده الأم وتنصُره على أبيه، فتفسد النظام وتحدث النَّفْرة بين الوالد والولد التي تتلوها الهوَّة التي تفرق بينهما إلى الأبد. وما قضية البنت إلا كقضية الولد في هذا السبيل، وقد صارت الفتاة في الثالثة عشرة مثل أمها في الثياب والزينة، وربما كانت موضع سرها ومحل ائتمانها وكاتمة أمورها في شئون لا يطَّلع الوالد عليها. وقد صار الطلاب في المدارس في العقد الثاني من أعمارهم يعرفون من خفايا الحياة وأسرارها ما لم يكن ابن الأربعين يعرفه منذ خمسين عامًا، فبعضهم يشرب الخمر ويلعب المَيْسِر ويُخَاصِر النساء وهو بعدُ لم يتم دراسته ولم يتخطَّ دُور العلم. وقد رأيت بعينَيْ رأسي والدًا وولده على شرفة فندق كنتننتال وكلاهما من موظفي الحكومة وأحدهما برتبة الباشوية يعاقران الخمر ويغازلان غادة واحدة، فلما ذكرت ذلك لأحد أصدقائي قال لي: ليسا وحيدين في هذا المجال وأمثالهما كثيرون! وقد صار الولد والبنت كلاهما مرهِقَيْن لوالدهما في طلب المال للإنفاق منه لا في الثياب والمأكل والنزهة البريئة بل فيما لا يستطيع القلم تدوينه وتسطيره.
ولا أنكر أن بعض الآباء قد يشجعون هذا السلوك بتغاضيهم أو رضاهم عنه رضًا تامًّا، وقد يعرف عن بيته الانحراف عن جادَّة الاستقامة وهو صابر صامت إما لحاجة اقتصادية وإما لبلادة في الخُلق وإما لضعف الإرادة وانطباع نفوسهم على الذل والفساد، وقد ترى رجلًا عظيمًا مستقل الرأي يشغل منصبًا كبيرًا ويبدو للناس كالأسد في العرين أو كالنخلة العالية، وإذا هو في بيته كالقط أو كالكلب يُبَصْبِص ويَخْنَع لمولاته وهي زوجة شابة تغلق عليه الباب من الخارج ولا تنبئه بموعد خروجها ولا عودتها، والأولاد بين هذا وذاك ضائعون، وقد يكون الآخر أثناء تغيب زوجته غيبة شبه منقطعة قد ألِف مجالس الشراب والغزل ولا يعود إلى منزله إلا في مطلع الفجر فيلتقي هو وهي على عتبة الدار بمشهد من الجيران والأولاد والخدم.
وماذا تنتظر من أمة طلَّقت كل جليل جميل في ماضيها واتخذت أزياء الإفرنج وأقمشتهم وأساليبهم في معيشتهم، ولم تكتفِ بذلك بل جاوزته إلى عادات شرب الخمر وإدمان المخدرات والمقامرة وحفلات سباق الخيل التي يتزاحم فيها كبارنا وصغارنا كما لو كانت حفلات دينية أو وطنية، وتنشر الصحف صور بعض أعياننا وشباننا وتقول في وصفهم: هذا فلان بك وقد ربح بضع مئات من النقود وحوله ثلاث غوانٍ أوروبيات في حفلة السباق الفلانية؟ أي تحريض على الفجور والنَّزَق بعد هذا التمجيد والتخليد على صفحات الجرائد اليومية؟!
بيد أننا لم نتخذ شيئًا من الفضائل الأوروبية كالاتحاد والمناصرة والتضحية وبذل المال في سبيل الخير وشد أَزْر المشروعات الوطنية، وازدرينا ديننا وآدابنا القومية وتاريخنا وتقاليدنا، ولم ندرس ماضينا ولم نطَّلع على صفحات حضارتنا، ولم نبْنِ ركنًا جديدًا كما كانت أوائلنا تبني ولم نفعل كالذي فعلوا، بل هدمنا وعشنا بين الأنقاض وسترنا أنفسنا بأَسْمال من بضائع أوروبا وزيَّنا أدمغتنا ببعض قشور من علومهم، ولم نشيِّد لمجتمعنا قوامًا قويًّا حديثًا بدل الذي تهدَّم فأفسدنا حياتنا فسادًا يبدو كأنه لا صلاح له. فوجب علينا إذن مداواة العلة قبل استفحالها وعلاج الداء قبل الإعضال.
هل كان قاسم أمين يحلم بكل هذا؟ هل كان يتمنى أن تصل المرأة المصرية إلى هذا الدَّرك من الانحطاط في سبيل السُّفور؟ إن دعاة السفور الآن لَيخجلون من دعوتهم بعد أن جرت المرأة المصرية شوطًا بعيدًا في ما هو عكس الحرية المقصودة. لقد كان قاسم — رحمه الله — يرمي إلى تحرير عقلها من قيود الجهل وتحريرها من قيود الأَسْر المنزلي واسترجاع حقوقها التي شرعتها الشريعة المحمدية السمحاء، ولم يكن يقصد إلى الابتذال والتردِّي الذي صارت إليه المرأة المصرية بفهم الحرية المعكوس …
كتينة الباشا الوزير … والمستشار
أما الأفندي المصري وهو الطبقة السائدة في المدن، فهو مثال محزن من الخليط الإفرنجي والشرقي، وتعليمه بحكم الضرورة عاجز عن ترشيده، وقد قضى كرومر أربعين عامًا في تعليم المصريين تعليمًا يؤهلهم ليكونوا موظفين في الحكومة وخدَّامًا للإنجليز، وقد رأيت رجلًا صار فيما بعد وزيرًا وكان إذ ذاك وكيلًا لإحدى الوزارات ينتظر مستشار الداخلية في محطة العاصمة، فلما وصل المستشار أهوى الرجل على يده يريد تقبيلها ثم قبَّل يد زوجته ثم ذهب الرجل في أمر إعداد المتاع للنقل، فالتفت المستشار فلم يجده فناداه بأعلى صوته «يا فلان» فجاء المسكين يعدو ويشق صفوف الناس وهو يجأر: ييس سير، بالإنجليزية!
وقد تمثَّل لي في هذا المنظر ليس فقط الذل الذي وصل إليه المصري، وليس الثمن البخس الذي بيعت به الكرامة الشرقية (ووكيل الوزارة هذا عالم فاضل، وشاب نبيه، ومن سلالة تركية عالية)، بل تمثَّل لي نجاح سياسة كرومر ودنلوب في نصف قرن. وقد بلغ من تركز المهابة الإنجليزية في قلوب هذه الطبقة من الحكام أن رجلًا شغل مناصب القضاء عشرات السنين ثم عيِّن وزيرًا لإحدى الوزارات، وحالما كان يباشر أعماله في غرفته علم أن سير برونيات، مستشار العدل السابق في مصر وعدوها اللدود الذي شبَّه الثورة المصرية بشرارة نار تطفئها بصقة إنجليزية؛ قد وصل إلى باب الوزارة ليزوره، وكان برونيات قد خرج من الحكومة المصرية من زمن وعُيِّن رئيسًا لجامعة شنجاهاي وكان يسافر في مصر سائحًا لا أكثر ولا أقل، وقد رأى من المجاملة أن يطوف بالوزارات ليتعرف إلى وزراء العهد الجديد، فلما علم المستوزَر بمقدمه وقبل وصوله إلى درج السلم الموصل إلى غرفته نهض ولم يلاحظ أن مفتاح أحد الأدراج مشتبك بسلسلته الذهبية فانقطعت السلسلة، وكان المستشار لم يصل بعد وبقي في انتظاره بباب غرفته بضع دقائق ولم ينل من تحيته واستقباله غير قطع «الكتينة» الذهبية! وقد روى لي هذه الحادثة كاتب سره وكل منهما لا يزال حيًّا يرزق.
طبعًا إننا لا ننكر قيمة التعليم الأوروبي وقد استفدنا به أعظم الفوائد، وأنا لا أتصور ماذا تكون حالة أحدنا إن لم نتفقه بآدابهم ولم نقرأ كتبهم ولم نطَّلع على مجلاتهم وصحفهم.
ولكن قد عرفنا بالابتلاء وتقرر لدينا بالاختبار منذ شَرَعْنا نقوم بذلك أن التعليم مع كونه الدواء الشافي لأمراض عديدة وكونه ضروريًّا لا بد منه لإتمام الارتقاء الاجتماعي الصحيح؛ فإنه إذا لم نحسن إدارته كلَّ الإحسان وتُوَفَّى وسائل تدبيره القسط الأكبر من الإجادة والإحكام انقلب بقوة فعله وعمله سُمًّا قاتلًا تتولد منه جراثيم الفساد والاضطراب، لأن شأنه أن ينقُض ما ينقض ويجرِف ما يجرف ويهيِّج ضعاف الأدمغة ويستثير مساريع الأطماع وبعيدي الآمال مما لا يستطيع تحقيقه في الحال، فيحمل الإخفاق أهل البلاد على السخط والغضب فتضطرم نار ذلك اضطرامًا.
خطة كرومر ودوجلس دنلوب
وقد كانت هذه خطة كرومر في التعليم في مصر، وبقينا عشرات السنين نصرخ ضد دنلوب وزير المعارف المقنَّع ونحتج على سياسته ولا من يجيب نداءنا، وكان وزير يذهب وآخر يجيء ودنلوب رابض في كرسيه لا يتزحزح كأنه ورثه عن أجداده الاسكتلنديين، ومنحه الإنجليز لقب دكتور على جهله، وقد كان حقًّا دكتورًا في الاستعمار وخنق الآمال القومية وقتل اللغة العربية ودراسة الدين، وفي عهده انقلبت المشيخة إلى أفندية بطرابيش كالطراطير وكانت لهم هيئة مضحكة ومحزنة وهم يلقنون دروس النحو والصرف والبيان والبديع، وعادوا بعد بضع سنين يلبسون العمائم والقفاطين فكانوا كالغربان في تقليد الطاووس.
وعلى الرغم من كل جهود الإنجليز ونجاحهم في صبغنا بالصبغة الإفرنجية مع نقص التعليم وحقارة شأنه وقلة العلوم التي تلقيناها واختصار المناهج وتلقيننا التاريخ والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات بالإنجليزية، ولم يكن ينقصهم إلا أن يعلمونا اللغة العربية بالإنجليزية، على الرغم من هذا لم يفوزوا بمأربهم فقد تعلق بعضنا بالمثل الأعلى وتعلمنا اللغة الإنجليزية لزيادة ثقافتنا. وقد لَمَح كرومر من خلال الرماد وميض نار فعاد يقول في تقاريره إنه يرتاب شديد الارتياب في شأن المصريين الذين تلقوا العلوم الغربية. والحقيقة أن المستعمرين بعد أن رأوا في الحي رجالًا أمثال مصطفى كامل وقاسم أمين بدءوا يعزُون السبب في انتشار روح المقاومة للاستعمار إلى التعليم الذي جاءوا بمناهجه وأساليبه، وكان أول البادئين بهذا لورد ماكولي ثم كرومر وغيرهما من رجال السياسة، فأخذوا يحذرون حكوماتهم من إتقان التعليم في المستعمرات بحجة أن الغالب على الناشئين هو النزوع إلى الثورة، إذ كانوا يقرءون أمورًا تسيء عقولهم هضمها ويقيسون أقيسة فاسدة فيَتعبون ويُتعبون، فهم يرغبون قلع العلوم الشرقية من بين الشرقيين ولكنهم يضنون أن يجعلوا مكانها العلوم العصرية لئلا تحيا بها نفوس هذه الأمم، إذ يعلمون أنه لا يجتمع العلم والذل في محيط واحد سواء كان علمًا شرعيًّا إسلاميًّا أو علمًا أوروبيًّا عصريًّا أو علمًا جامعًا بين الأمرين.