الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
مكارم انقلبت مغارم
لو تنبأ خليفة أو سلطان بأن مظاهر الإكرام وحسن الضيافة التي منحها كبار الأجانب الذين حلوا بلاد الشرق في سبيل التجارة أو الاستكشاف ستنقلب بعد بضعة قرون أنواعًا شتى من البلاء على تلك الأمم الشرقية ما كان منحها، ولعله ما كان يفتح أبواب مملكته للقادمين الذين تمكنوا على مر السنين من قلب المجاملة الودية سيفًا مصلتًا على أعناق تلك الأمم التي استُضْعفت في الأرض بعد العظمة والقوة.
ولكن أي خير في ممالك الشرق عامةً والإسلام خاصةً لم ينقلب شرًّا؟ وأي مسالمة لم تَصِر على كَرِّ الأعوام بيننا وبينهم محاربة؟ إن تلك الشوكة التي ما فتئت تخُزُّنا في جنوبنا كيفما تقلبنا هي بلا ريب من أشد النكبات وقعًا. وقد فرَّت فرصة الحرب الكبرى ولم ننل من إلغائها أَرَبًا، وتمكنت أمم شرقية مثل الصين والفرس والترك من محوها من سجل حياتها القومية، ولا نزال نحن ننظر بعين المريض إلى صفحتها في سجل حياتنا كما ينظر المقضيُّ عليه في كتاب يشمل الحكم عليه بالعذاب المؤبد، وقد تحركت تلك المسألة بضع مرات في العهد الأخير بمناسبات خطيرة وتحفزت الجهات المختصة نحو العمل ولكن على أية خطة؟
كانت السياسة المصرية منذ ثلاثين عامًا ذات صبغتين: صبغة قومية وصبغة حكومية من حيث الامتيازات، وقد ألف في ذلك الحين الأستاذ بلسييه دوروزاس مدير مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة كتابًا قيمًا في الموضوع فالتفَّت الآراء المصرية حول بعض نظرياته، فنشأت لدى الوطنيين في عهد من العهود الوسطى فكرة تحبيذ الامتيازات والاحتفاظ بها، بوصف كونها سياجًا دوليًّا ذا لون قانوني يقضي بشبه المساواة بين إنجلترا وغيرها من الدول الأجنبية، وقالوا لو أن تلك الامتيازات زالت فقد نمسي مع إنجلترا وجهًا لوجه دون حسيب أو رقيب، وإذن تفقد المسألة المصرية صبغتها الدولية ولعلها تسعى لنشر حمايتها دون منازع من الدول الأخرى، وكان المرحوم مصطفى كامل من أنصار هذه الفكرة لاعتماده على فرنسا في إبَّان نزعته الأولى، وما زالت هذه عقيدته إلى أن حلت سنة ١٩٠٤ وتوثقت علاقة إنجلترا بفرنسا وظهر في الوجود «الاتفاق الودي» الذي سبق الحرب العظمى بعشر سنين ومهد لها السبيل، وحينئذ دب اليأس إلى قلبه.
وندب حظ مصر في رسائل بليغة، أرسل بها إلى صديقته ومعينته الأولى مدام جوليت آدم، وتزعزعت ثقتنا في نظرية التفضيل ولكننا كتمنا أمرنا.
أما الوجهة الحكومية منذ ثلاثين عامًا فكان يمثلها لورد كرومر، وكان هذا السياسي المحنك يظهر آراءه ولا يخفيها ويكتبها ولا يكتمها ويبغض الكتمان في الأمور العامة، كما كان نصيرًا لحرية الصحافة ويعتبرها صمامة أمان للتنفيس عن الكروب التي تعانيها الشعوب المحكومة، وكان يطلع على العالم في كل عام بتقرير مدبَّج بأسلوب خاص يعدُّ من أعلى الأساليب في المدوَّنات السياسية، فماذا كانت خطة هذا النابغة في الامتيازات؟ كان يميل إلى إلغائها ويوالي الحملات عليها في صفحات تقريره السنوي، وينسب إليها تعطيل أعمال الإصلاح، ولكن حيرته — على شدة حذقه وبراعة حيلته — كانت ظاهرة في الوصول إلى حل يوفق بين رضاء الدول وحسن التخلص ومجاملة أرباب الأموال وتنفيذ السياسة الإنجليزية في وادي النيل، إلى أن دلَّته التجارب وهدَتْه أَنَاته الطويلة على فكرة وسط تخفِّف ويلات الامتيازات ولا تمحوها تمام المحو، وهي فكرة لا شك مكيافيلية فكرة إشراك الأجانب معنا في مجلس تشريعي تكون قوانينه نافذة على جميع سكان مصر. وهذا المشروع نفسه الذي جمع كرومر شجاعته للبروز به بين ظهرانَيْنا هو النواة لمشروع سير برونيت الذي قامت له مصر وقعدت، صاغه كرومر بصورة مخففة ملطفة ولكن برونيت أراده كاملًا شاملًا قاضيًا على كياننا القومي، فضلًا عن الفرق بين العهدين عهد كرومر وعهد برونيت، فقد كان كرومر يستمد قوته من نفوذه الذاتي ومن شخصيته القوية ومن تاريخ أعماله في مصر، وكانت تلك الخطوة الجريئة منه بمثابة إعلان للعالم بأن إنجلترا تنوي البقاء عملًا بالمبدأ القائل «سأبقى حيث أنا».
وكان قبول الأجانب نظرية الاشتراك في التشريع بمثابة رضاء ضمني بشرعية الاحتلال فلم يلقَ كرومر تشجيعًا في مصر ولا في الخارج، في مصر قامت عليه قيامة الوطنيين الذين تشبثوا بأهداب الامتيازات للنظرية التي شرحتها، والدول الأجنبية لأنها أدركت مغزى الخطة الكرومرية التي تحولت فيما بعد إلى نظرية حماية الأجانب. ولم تكن أمة شرقية قد اجترأت بعد على إلغاء الامتيازات، بل كانت الدولة العثمانية غارقة من أخمصها إلى قمة رأسها في بلوى الامتيازات، بل كانت اليابان زعيمة الشرق الأقصى خارجة من حرب الروس الدامية التي انتصرت فيها أمة وثنية على أمة مسيحية، فمدت لها دول أوروبا التي تعرف كيف تحترم الحديد والنار يد المودة وصافحتها على أشلاء الجيوش القيصرية المحطمة، فلما نطق أقزام طوكيو الأذكياء الأقوياء بكلمة المساواة بين الشرق الأقصى والغرب وطلبوا إلغاء الامتيازات وقالوا إننا نحسن الطعن والضرب ونتقن تدبير خطة الحرب فإذن نستطيع إحسان الحكم بين الجميع ونلغي الامتيازات الأجنبية! فطأطأ الغرب رأسه وأجاب: نعم! فلما جاءت الحرب العظمى وأعلنت إنجلترا الحماية ألغت امتيازات الأمم المعادية لها، ولما تبلشفت روسيا أسقطت امتيازاتها ولكنها لم تمس امتيازات الأمم الموالية على ما في هذا العمل من التناقض الظاهر فإن الحماية معناها تحمل مسئولية الحكم، فلم يكن هناك معنى للتفرقة في المعاملة بين الدول.
وعُقدت المؤتمرات وسوِّيت المسائل بين الدول ومصر صامتة ساكنة ولم تحرك ساكنًا بصفة جدية نحو إلغاء تلك الامتيازات والخلاص من أغلالها.
أما الخطوة الثانية (ومن غرائب المصادفات أنها خاصة بالمادة الخامسة عشرة أيضًا، ولكن من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) فخاصة بوضع حد للأقضية التي سارت عليها المحاكم المختلطة حين بسطت اختصاصها على الأجانب من غير ذوي الامتيازات استنادًا إلى المادة التاسعة من لائحة ترتيبها، وكانت تلك المحاكم وهي جهات قضائية أولى برجع الحق إلى نصابه وحسن تفهم النصوص. والآن لقد تغير الزمن وأُلغيت الامتيازات من سائر أمم الشرق، ولم تعد مصر في حاجة إلى الالتجاء إلى نظرية الامتيازات الأجنبية لحماية الفكرة السياسية بفكرة قانونية، فقد كشفت أوروبا قناعها ومدت يدها الحديدية وظهرت نياتها واضحة صريحة في جميع أنحاء العالم، وإن لم نكن حاربنا الحلفاء وانتصرنا لنحوز الاحترام في نظرهم فقد حاربنا في صفوفهم، وقد أظهر القضاء المصري في خلال الأربعين سنة الماضية قدرته واستقلاله، فالأولى بنا أن نصارح الدول الممثلة لدينا والتي لنا شرف التمثيل السياسي لديها بحقيقة أفكارنا، وهي أن الامتيازات الأجنبية أصبحت أنظمة غير لائقة وغير جديرة بكرامة الطرفين.
تدرج مصر في الحضارة
لا ريب في أن مصر الآن في فترة سكون ومراقبة، ومثلها كمثل الجالس في برج عالٍ يشرف على ما حوله من الأمم القريبة والبعيدة، ولا يمكن من كان في مثل موقفها أن لا يتأثر بما يقع أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله من الحوادث الكبار، وقديمًا تأثرت مصر بأوروبا في السياسة والتجارة والتعليم والصناعة والصحافة واتخاذ المخترعات الحديثة والانتفاع بالمفيد منها، ولا يخلو الأمر من أنها أوذيت في هذا السبيل بالتقليد أو باتخاذ الضار من الأخلاق والعادات.
فلا تستطيع مصر أن تجهل ذلك أو تتعامى عنه أو تغفله، بل ينبغي لها أن تسلك عين السبل التي سلكتها جمهورية الولايات المتحدة للتقدم بالعلم والصناعة والاجتهاد، وأن تسعى للتقدم والإصلاح في جميع ناحيات الحياة، فإن الأمريكيين المشهورين بالعجلة والتقليد والاكتفاء بمظاهر الأشياء، إنما هم في الحقيقة رجال عمليون وتبدو حياتهم للجاهل بطبيعتهم بتلك الحالة السطحية. وليس أمام أمريكا ما يعوقها عن سيادة العالم كسيادة الرومان ولكنها لا تريد، وقد أسفت على دخولها في مأزق الحرب العالمية، ويؤكد ساستهم وعلماؤهم أنه لو ظهرت حرب أخرى فلن يكون لهم شأن فيها، وكفاهم ما أصابهم من ضياع الرجال والمال ومماطلة الدول المدينة. وظهور مبادئ ويلسون الذي كان يمثلهم بمظهر الرجل العالق بالمثل الأعلى المندفع وراء الخيال اندفاعًا أفقده ميزان الحقائق الجارية بين الدول.
ولعل من أعظم ما ننتفع به من أمريكا طرق التعليم فيها وتأسيس المدارس الحديثة القائمة على مبادئ علم النفس ودرس معقولية التلاميذ والطلاب، وقد كان أعظم فلاسفتهم في العصر الحديث وهو ويليام جيمس أستاذًا مدرسًا. ثم نقل مصر من الزراعة إلى الصناعة.
ولا يمكن مصر أن تجهل ما هو حادث في أوروبا ذاتها وفي أحضان جمعية الأمم التي عجزت عن تطبيق نصوص نزع السلاح أو تخفيضه في العالم إلى الحد الأدنى الذي يتفق مع سلامة كل دولة. وهذه النصوص المنقولة عن عهد جمعية الأمم مطاطة وقابلة للتأويل والتفسير على هوى كل دولة، وكل دولة تستطيع أن تتملص من أي تخفيض حقيقي في سلاحها، وستبقى هذه المسألة من المشاكل الأوروبية المعقدة التي يصعب حلها. وقد ثبت لمن يرقب حالة العالم السياسية أن الدول الأوروبية تستخدم العصبة لتبرير مقاصدها الخاصة ولتصبغ سياستها بصبغة قانونية لتبريرها أمام الشعوب، أما أمريكا فليست في حاجة إلى الدخول في هذا المأزق ولا يهمها البرنامج البري أو البرنامج البحري … كما رأينا فعلًا. وإليك إيطاليا وإسبانيا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وتركيا، وكل منهن تعيش تحت نظام حكومة مطلقة يتصرف في شئونها رجل واحد تميز بمحو النظم الدستورية وجعلها أثرًا بعد عين، في حين أن أمريكا مع نموها وتقدمها وتطورها لم تحتجْ لتغيير نظام حكومتها ولا للقضاء على دستورها. وهذا النظام المطلق معلق بحياة شخص واحد أو بضعة أشخاص، ولا يعلم مستقبله ومآله بعد حياته إلا الله الذي يعلم السر وأخفى!
أما ألمانيا وفرنسا فهما الدولتان المنهوكتان اللتان تعيشان بين الرجاء والخوف، وقد حدثت في ألمانيا عين الظاهرة السياسية التي حدثت في فرنسا بعد الهزيمة، فإن فرنسا انقلبت من إمبراطورية إلى جمهورية بعد حرب السبعين، وكذلك ألمانيا انقلبت إلى جمهورية بعد حرب ١٩١٤، وكلتاهما في كفتي الميزان، وترقبان إنجلترا (التي استفادت وحدها من الحرب) بعين الحذر وتحسدانها على ما أفادت من مستعمرات وانتدابات وآبار للزيت والنفط في الشرق ونفوذ خارق في الغرب، على حساب برتا وماريان الداميتين.
وكل هذه الدول الغالبة المغلوبة الخادعة المخدوعة تشرئب بأعناقها في ثياب الوجل والحيرة وتحارب بكل قواها منفردة ومجتمعة الدولة الروسية التي غامرت في مجهولة تاريخية تشبه معادلة جبرية معقدة الحروف والأعداد، وعندنا أن روسيا لا تزال في دور التكوين الاجتماعي وهي أشبه الأشياء بطهي ينضج في مرقه الدسم الكريه الرائحة، فإن المشاعية، حسب مبادئ الدولية الثالثة، تجربة شديدة الخطورة، ومجازفة غير مأمونة العاقبة. وليس لدى الروس ما يمكن مصر أن تستفيد منه أو تقتدي به لمخالفة مبادئها لعقائدنا ومدنيتنا وآدابنا، فلنتركها «تستوي في صلصتها» على حد قول السياسي العتيق كرومر عن السودان في عهد المهدي، ولنتجه قليلًا نحو الشرق فإذا هو أيضًا قدر تغلي على نار متأججة، فمن ثورة وحرب يعقبهما فتور وخمود في سورية إلى حرب الجوريلا في شرقي الأردن وحدود العراق، وهذا الحجاز ونجد والربع المعمور والربع الخراب لا تزال كالبوتقة المصهورة في يد صائغ ماهر تعوزه المادة اللازمة لصنع الذهب.
أما الهند فقد تنازعتها الانقسامات القومية وبددت أوصالها خناجر التعصب.
وهذه الصين التي لم يكن يرجى لها تنبه من سباتها العميق الذي جعلها أشبه شيء بأهل الكهف، قد تنبهت وهي تحارب بعضها بعضًا كما كانت تفعل إحدى الدول الأوروبية في القرون المظلمة، ولكنها حروب تعقبها الحياة والسلامة والسير إلى الأمام إذا استطاعت أن تتخلص من المؤثرات الأجنبية المضرة بها، والتي لا يقبلها عقلها ولا تندمج في مدنيتها.
ومصر الناهضة الرابضة الساكنة المراقبة ترى كل ذلك وتفهم وتدرك ولكنها صامتة، لأنها تتعلم وتتنور وتنتظر وترجو أن تنتفع بالدروس التي تتلقاها من الداخل والخارج، وما يراه البعض كبيرًا خطيرًا قد تراه مصر صغيرًا دقيقًا عديم الشأن في نظر التاريخ وفي حياة الأمم، لأنها هي الأخرى التي حلت فيها روح أبي الهول العظيم صابرة ترمق بعين الهدوء والألم ظهور شمس الحياة والأمل من وراء الأفق.
مصر الاجتماعية
إن الأنظمة النيابية نعمة الأمم الحديثة ولكن يجب أن يحسن تكوينها وانتخابها، فإن إنجلترا وهي سيدة الأمم النيابية وبرلمانها شيخ البرلمانات واقعة في خطأ واضح، فإن تسعة أعشار الأمة الإنجليزية عمال ولا يملكون شيئًا إلا تعب أيديهم، وتجد تسعة أعشار البرلمان من المُلَّاك الذين لم يعرفوا هم وآباؤهم عمل اليمين ولا عرق الجبين، حتى في عهد سيادة العمال فإن حزب العمال في الحقيقة اسم ومنهاج ليس إلَّا، ومن أعضائه لوردات وسيرات ومسترات من أغنى متموِّلي الدنيا. فلا يعقل أن برلمانًا كهذا يسد حاجات شعبه، وإلا فأين أعماله في مقاومة تكويم الثروات الفردية غير الالتجاء إلى التشريع الاستثنائي مثل الضريبة على الدخل وغيرها؟ وإنك إذا حولت نظرك إلى البرلمان الفرنسي وهو وليد الثورة الفرنسية العظمى، فإن منظرًا محزنًا يقابل نظرك من تعدد الأحزاب ذلك التعدد المهلك وتهافت الأعضاء على اقتناء الثروات بطرق غير مشروعة، فكانت فضيحة بناما الشهيرة التي سُجن بسببها دي لسبس، وفضيحة أوستريك وغيرها، بل إن بعض أعضائه بعد أن تولوا الوزارة وهي أرفع منصب في الأمة اتُّهموا بالخيانة العظمى وثبتت عليهم وحُكم عليهم بالنفي وغيره. وقد ظهر ضعف النظام البرلماني المقرون بسوء الانتخاب، إذ تغلَّب عليه فريق من الرجال الذين صاروا ديكتاتورية، مثل موسوليني في إيطاليا وبريمودي رافيرا في إسبانيا وغيرهما في بعض بلاد الشرق. فظهر وجوب تشريع حازم يحمي النظام النيابي ويصونه لدى عواصف الاستبداد الفردي، وحسن الانتخاب حتى يمكن الانتفاع به، وإلا فيصير حلمًا مزعجًا للأمة وداعيًا للسخرية من الأقوياء الذين يريدون الاستئثار بالسلطة. إلا أن حالة الفلاح والعامل لمما يدعو إلى الحنان والشفقة، فإن انتشار الفقر في تلك الطبقة مع سيادة الجهل مما يفتت الأكباد، فإنهما فريسة للشقاء وللأمراض الفتاكة وظروف حياتهما اليومية تكاد تكون من آثار القرون المظلمة. ولم أدرك حالة الفلاح والعامل قبل التسلط الأجنبي، ولكنني لا أظن أنها وصلت إلى ما هي عليه الآن في الشرق، فإن أوروبا لم تكتفِ بالفتح الحربي والسياسي، بل فتحت البلاد فتحًا اقتصاديًّا وكان ذلك الفتح أوسع نطاقًا من الحرب السياسية وأرسخ قدمًا، فإن أوروبا التي انتقلت في القرن الماضي من عهد الزراعة إلى عهد الصناعة والتجارة تراكمت لديها المصنوعات وأرادت أن تجد لتصريفها أسواقًا فلم تجد أروج من أسواق الشرق.
وإذا رجعنا إلى تلك الصناعات نجد أنها من نتائج الاختراعات والاكتشافات العجيبة التي وفِّق إليها الأوروبيون بمحض اجتهادهم وذكائهم، وليس لشرقي واحد أي فضل في اختراع منها، فحيث حولت نظرك وجدت اختراعًا أوروبيًّا أو أمريكيًّا، أي صادرًا عن الأمم الغربية.
وقد حضرت مرة مناقشة حادة بين رجل مثقف على الطريقة الحديثة وأحد علماء الرسوم، فكان العالم يقول: إن الإسلام هو دين الله وأممه هي الشعوب المختارة وهي أحب الأمم إليه — سبحانه وتعالى — لأنه وفقها إلى عبادته على أفضل الطرق وأسماها. فاعترض عليه المثقف قائلًا: كيف تقول ذلك يا سيدي مع أن الله — سبحانه وتعالى — لم يفتح على واحد … واحد فقط من أبناء هذه الأمم باختراع واحد نافع مثل الكهرباء أو البخار أو ما اشتُقَّ عنهما منذ ستين أو سبعين عامًا كالبرق واللاسلكي والتليفون والمحرك الكهربائي والطيارة؟ فسكت العالم قليلًا ثم قال: وهل نسيت علماء العرب وما أحدثوه في الفلك والكيميا والرياضيات؟
فقال المثقف: كلا! لم أنسَ، ولكن هذه كانت أعمال بُدائية، ولو أنني سلمت جدلًا بأن الأوروبيين اتخذوا ثمار قرائح العرب أو غيرهم من الشرقيين كالصينيين، فإن هذا لا ينفي أنهم طبقوها تطبيقًا عمليًّا في كل ما أنتجوه وعاد على الإنسانية بالخير العميم.
على أن الذي يريده الرجل المثقف على الطريقة الإفرنجية هو أن الدين المسيحي لم يكن عائقًا لأهل أوروبا عن الاختراع والإنتاج المجدي وكذلك لا يجوز أن يكون الدين الإسلامي عقبة في هذا السبيل، وحينئذ لا دخل للدين في ترقية العقول وتقوية الأخلاق وتربية الرجال تربية صالحة تؤدي بهم إلى الأعمال الجليلة. وماذا يجدينا الآن أن يقال إن أول من اكتشف أمريكا رجال مطوِّحون من العرب وصلوا إلى المكسيك أو البرازيل وعادوا إلى ثغر «واأسفاه» بشمال أفريقيا، في حين أن الذي اكتشف أمريكا حقيقةً هو خريستوف كولومبوس وفريق من البحارة الإسبان؟ فيجب إذن أن نعترف أن كل الاختراعات الحديثة التي بُنيت عليها الصناعات هي ثمرة عقول أهل أوروبا دون سواهم ونتيجة اجتهادهم ودأبهم.
ويصح أن يقال في حقهم: «كلٌّ ميسَّر لما خُلق له»، لأننا رأينا أشخاصًا منهم يقضون عشرات السنين في سبيل إتمام جزء بسيط من اختراع مهم، وأمامنا أمثلة واضحة في أديسون وماركوني وأينشتين وهم من الأحياء، وباستور وكوخ وروتنجن وفارادي وڤولتيرا وهم من الموتى …
لماذا انحصر الاختراع والاكتشاف في أوروبا؟
وقد هجم الأوروبيون بصناعاتهم وبضائعهم على الشرق الذي لا يزال حتى اليوم في دور الزراعة وهو الدور الأول في حياة الأمم، وكان الفلاح الشرقي منذ خمسين عامًا ولا يزال إلى الآن يحرث بالمحراث الخشبي ويسقي الأرض بالناعورة والشادوف.
وبديهي أن الكثرة الساحقة من شعب زراعي تكون مستغرقة في الفقر والجهل فلا يتمكن أحدهم من الظهور بعمل نافع، حتى إن المرحوم محمد علي باشا كان يأمر بخطف الأولاد من الحقول لتعليمهم في المدارس، ومن هؤلاء المخطوفين والمساقين إلى التعليم رغم أنوفهم خرجت فئات النوابغ الذين كانوا فخر مصر في مستهل القرن التاسع عشر وأواسطه. أما الفئة القليلة التي اشتملت على الأشداء أهل الجراءة والإقدام الذين كانوا من الهمة والنشاط بحيث لا يبالون بنسخ العادات العتيقة والأوضاع القديمة البالية ويريدون الخروج من القيود التي قيدتهم بها الأجيال السالفة؛ فكانوا من الفقر بحيث تعوقهم قلة رءوس الأموال عن الأعمال الجليلة.
وإنني لا أنكر أن في الشرق أموالًا مكدسة، ولكن الشرقي مفطور على دفن المال وتخبئته في بطن الأرض.
وقد روى خصمنا اللدود إيڤلين بارنج المسمى لورد كرومر في أحد تقاريره أن رجلًا في صعيد مصر اشترى ألف فدان ودفع ثمنها ذهبًا صفقة واحدة، وجاء المال من جهة مجهولة محملًا على قطيع من الحمير التي تستعمل في نقل السماد! وقد شهدت في العهد الأخير ١٩٣٠ حادثة وقعت في قرية الكلح من مديرية قنا خلاصتها أن رجلًا كان يخفي تسعة وعشرين ألف جنيه في بيته المبني بالطين، فاتفق ابنه مع آخرين على سرقتها وسرقوها ثم اكتُشفت ورُدَّت إلى صاحبها، وهذا الرجل لم يفكر في استثمارها في أي عمل نافع. وغيره مئات بل ألوف في الشرق عامةً وفي مصر خاصةً يكومون الثروة النقدية ويضنون بها على الأعمال ويحبسونها حبسًا قبيحًا ويبخلون حتى على أنفسهم وأولادهم كأنهم حراس عليها لمن يبددها بعدهم أو يسرقها، ومن هذا النوع نظام الوقف المنحوس الذي يحبس عقار الواقف ليضمن أرزاق أولاده وأحفاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها … وهذا الحبس نفسه دليل على عدم تمسك المسلمين بالقضاء والقدر وضمان الأرزاق، إذ لو آمنوا بذلك لعلموا أولادهم وتركوهم يسعون في الأرض في سبيل معايشهم كما يصنع أغنياء الأوروبيين والأمريكان. وكأني بالشرقي والمصري لا يحسب المال وسيلة للكسب والربح أو ذريعة لتبادل المنافع، بل كان يحسبه كنزًا يجب على صاحبه أن يحرص على إخفائه ودفنه ليوم عبوس قَمْطَرِير، ومن أمثالهم «القرش الأبيض ينفع في النهار الأسود»!
فكان استجلاب البضائع الأوروبية وسيلة لاستخراج تلك الكنوز بحيلة شيطانية، فإن الأوروبي عمل على تعطيل نهضة الشرق وانتقاله من طور الزراعة إلى طور الصناعة فتراكمت الأموال لديه والشرقي محتاج إلى تلك الصناعات، فأقبل مضطرًّا في أول الأمر على شراء منتوجات أوروبا حتى النسيج الذي يصنع منه ثيابه. والعجيب أن القطن المصري الذي كان يباع بأقل الأثمان يذهب إلى أوروبا ويعود في شكل قماش فيباع بأغلى الأثمان، وربما كان قنطار القطن الذي ثمنه أربعة أو خمسة جنيهات يُباع لنا بمائة أو مائتين من الجنيهات، فالفرق بين ثمن الخام وبين المصنوع يقع في جيوب الأجانب فينتفع به عمالهم وأرباب المصانع وذوو رءوس الأموال وشركات النقل والملاحة. وكان الجدير بنا أن تكون لنا كل تلك الثمرة، والأدهى أن الجيد من محصولاتنا لا يصل إلى أيدينا، فالقطن الجيد تصنع منه أقمشة لا نراها ولا يرد إلينا إلا المصنوع من القطن الوسط والرديء. وكان رجال فضلاء أمثال المرحوم الجمال يسافر في كل عام إلى إنجلترا ليطلب «طلبية» من المصانع ويتفنن في اختيار الرسوم والألوان ويشدد في عدد الخيوط التي تدخل في النسيج سَدًى ولُحْمة، ولكنه لم يفكر يومًا في أن يصنع بنفسه نسيجًا لمتاجره، ولعله لجأ إلى بعض الأغنياء فخذلوه أو حسدوه وأبوْا أن يكون له الفضل في مثل هذا الابتكار. وفي حين أن أكابر السائحين كانوا يقبلون على شراء منسوجاتنا الجميلة من الحرير والقصب والمخمل ويدفعون الألوف ثمنًا للسجاجيد الشرقية أو الأواني النحاسية المنقوشة أو للخشب المطعَّم بالصدف والعاج، كنت ترانا مرغمين بحكم الاستعجال والفقر والاضطرار مقبلين على شراء أحقر الأقمشة التي ترد إلينا من فبريقاتهم. وقد كان للمرأة المصرية الجاهلة أعظم نصيب في خراب المصري الوسط والغني، لأن جهلها وبذخها وغرورها وبغضها للبساطة والجمال الطبيعي أغرتها جميعًا على الإقبال على المتاجر الإفرنجية لتشتري منها صنوف الحرير والمخمل والكريب دي شين والكريب جورجيت والفايلا والمانيلا والباتستا والحرير الهندي (اسمًا فقط) والدنتلات والشرائط والخروجات والخرز ومئات الأصناف من حاجات لبسها وزينتها. فكانت المرأة المصرية الآخذة بأهداب المُودَة تنهب أموال أسرتها المصرية لتصبها في جيوب الأجانب بإسراف لم يسبق له مثيل، دع عنك ما تنفقه في أسباب الزينة والتواليت الخداعة من دهون ومساحيق وكحل وعطور بعد أن أعرضت عن «حسن يوسف» و«خضاب الميدان» وصنوف الطيب والعطور التي تملأ حوانيت التربيعة، وإن كان معظمها مستجلَبًا واأسفاه من أوروبا! ولم يكن الرجل الشرقي بأقل إقبالًا على خراب نفسه من هذه الجهة، فإنه إذا كان يلبس الملابس الإفرنجية فهو من رأسه إلى أخمص قدمه مجهز من أوروبا، فطربوشه من النمسا، وزِرُّه من تركيا، وقميصه من فرنسا، وربطة عنقه من إيطاليا، وزرايره من تشيكوسلوڤاكيا، وقماش بدلته من شفيلد أو برمنجهام أو ولڤرهامبتون، وجواربه من أمريكا أو لندن، وحذاؤه من إنجلترا أو سويسرا، وثيابه التحتانية الصوفية منها والقطنية من ألمانيا أو اليابان، ولم يبق بعد ذلك إلا صورة اللحم والدم، والله أعلم كم من الأمم اشتركت في تكوينها! دع عنك عاداته الأخرى اليومية فهو يركب في سيارة إنجليزية أو فرنسية ويشرب مشروبًا أسكتلنديًّا ويدخن سجاير من هولندا ويقبض على عصا مصنوعة في يوجوسلافيا.
الحاجات الجديدة خلقت عادات جديدة
إن الاطلاع على المخترعات العصرية وأنواع الأغذية والآنية الحديثة مما لم يكن موجودًا من قبل قد دعا إلى ظهور حاجات جديدة ما لبثت أن ساقت المنازع النفسية حتى رسخت واستقرت فيها.
لقد أتممت دراستي الثانوية والعليا على نور مصباح البترول، ولكنني منذ تعودت القراءة على نور الكهرباء لا أستطيع الرجوع إلى غاز الاستصباح إلا مضطرًّا وفي ظروف قاهرة، وكنت أنام قبل سفري إلى أوروبا على سرير من الحديد (صنع فيلبس من فضلك!) فلما رأيت في أوروبا أسرَّة الخشب ونمت عليها واستطبتها لم تعد أسرَّة الحديد تحلو لي. وكنت قبل سفري إلى أوروبا آكل مع أهلي على «الطابلية» أو الخوان وأجلس متربعًا، والآن لا أملك الأكل إلا جالسًا على كرسي أمام مائدة أوروبية … وقس على ذلك تلمس داءنا الدفين الذي تواطأنا بجهلنا مع أوروبا على تمكينه من أفئدتنا وعقولنا، لقد رأيت عمالًا من اليابان في إحدى البواخر الأوروبية إذا حان وقت الطعام ينتحون جانبًا ويأخذون في الأكل من أوعية ملئت أرزًا وفي أيديهم قضبان صغيرة من الخشب يلتقفون بها حبات الأرز بسرعة مدهشة تدعو إلى العجب ثم يشربون الشاي الذي صنعوه في آنية يابانية فعجبت لهم، وعجبت كيف أنهم وهم يخالطون الأوروبيين ويعملون في خدمتهم قد أعرضوا عن الموائد الحافلة بصحاف اللحم والمرق والأسماك والخضر والبقول واكتفوا بطعامهم هذا على طريقتهم الوطنية. وقد اقتنعت أن تمسكهم بعاداتهم (حتى إنني رأيت بعض النبيلات منهن على ظهر تلك الباخرة يحملن وراء ظهورهن وسائد هي رمز الشرف ولم يتخلين عنها)، لم يكن ذلك التمسك عائقًا لهم عن مجاراة الأوروبيين في المدنية المادية والقوة الحربية وحشد الجيوش وتجهيز الأساطيل وإطلاق المدافع.
هذا هو المصرف الأكبر الذي ذهبت إليه ثروة الشرق المخزونة. على أن الأوروبيين الذين أرسلوا إلينا بضائعهم لم يقتصروا على ذلك، بل إنهم أرسلوا إلينا رءوس أموالهم لغايتين؛ الأولى: رهن الأراضي العقارية وامتلاكها بالتدريج وسلب أموالنا أرباحًا مركبة وفوائد باهظة، وهذا عمل المصارف العقارية في مصر وسواها. والثانية: استثمار موارد ثروتنا المعدنية التي لا تزال بكرًا، سواءً بصنع السكك الحديدية أو مد خطوط الترام أو تسيير سيارات حافلة (كشركة ثورنيكروفث) أو استخراج البترول أو تأسيس المدن التي صارت آهلة بالسكان منا وقد شادها عمالنا والثروة للأجانب (هليوبوليس) وآلاف من المشروعات الأخرى، ووظيفة المصري فيها وظيفة العامل الأجير والعبد الحقير الذي يعمل بقوت يومه ويُطْرد في أي وقت وعند شيخوخته يلقى به ليموت في الطريق أو في أحضان عيلة هي من الفقر بحيث لا تملك ثمن أكفانه، والأوروبي هو الرئيس والمدير العام، والمتسلط على كل صغيرة وكبيرة، حتى إن النور في عاصمة القطر المصري في يد شركة أجنبية، والماء الماء الذي نشربه من النيل السعيد أو الشقي بنا في يد شركة أجنبية، والنقل العام والخاص في أيدي شركات أجنبية، وأعظم الفنادق والمطاعم ومشارب القهوة والحانات كل ذلك في أيدي الأجانب. فالمصري في بلاده بل الشرقي في أنحاء شرقه عامل حقير ووسيط ينقل المال ويتعب فيه بعمله وجده وكده ليعطيه هينًا لينًا عفوًا صفوًا للسيد الأجنبي، وليس الأجنبي هنا هو الإنجليزي المحتل للبلاد بجيشه وقوته، بل الأجنبي هنا هو كل من هبَّ ودبَّ ودرج من بلاد الغرب كالرومي والبلقاني (أماكن بيع الفول المدمس ومطاعم الفقراء في أيدي جماعة من البلغار، وقد أحسنوا إدارتها أيما إحسان) والمالطي والطلياني والإسباني والألماني وغيرهم. والإنجليز قد تهاونوا مع هؤلاء الأجانب وسهَّلوا لهم العيش مع تمتعهم بالامتيازات الأجنبية، ليكونوا لهم سندًا عند قيام الحركات الوطنية، فإن الأوروبي غير الإنجليزي يعلم يقينًا أنه لولا الإنجليز ما كان له أن يتحكم في مصر هذا التحكم الجائر، ربما كان له حق الضيافة والارتزاق في حدود المعقول، ولكن التملك والصولة لم تكونا له إن لم يشد أزره البريطاني الذي يحلب البقرة ويسمح لغيره بحلبها أيضًا …
وبعد أن كان اليهودي والأرمني هما وحدهما المشهورين بتعاطي الربا والرهون في المنقول، أصبحت جميع الطوائف تستغلنا من هذا السبيل أيضًا وتنسف أموال الأسر الكريمة بالاستيلاء على أفئدة السفهاء من أبنائها وأحفادها.
المخدرات ثالثة الأثافيِّ
وكانت ثالثة الأثافيِّ أن أخرجت لنا أوروبا منذ عشرين عامًا صنوف المخدرات والسموم البيضاء، فجاء الكوكايين والهيرويين قاضيَيْن على البقية الباقية من أموالنا وعقولنا وأخلاقنا. وعليك أن تقرأ تقرير رسل باشا حكمدار القاهرة لتعلم مقدار تفشِّي هذا الوباء بين ظهرانَيْنا، وهو وباء لم تصل إلى عشر معشار أذاه صنوف المخدرات التي تعوَّد عليها الشرقي قديمًا كالقِنَّب الهندي والأفيون والمعجون المصنوع من حشيشة الدينار وأشباهها. وعليك أن تدخل إلى إحدى جلسات المحاكم الجنائية في أنحاء القطر المصري لا سيما محاكم العواصم لترى أن تسعين من مائة من القضايا هي قضايا المخدرات وإحرازها وتعاطيها والاتجار بها، حتى تظن أن الجرائم الأخرى المنصوص عليها في قانون العقوبات قد اختفت وتلاشت، ونُسخت من الوجود جرائم السرقة والاحتيال والتعدي على المال والعِرض وأصبح العقل المصري مشغولًا بالتخدير … وحتى إن بعض القنصليات الأجنبية، بواسطة بعض موظفيها المتمايزين، كانت لهم أيد في تهريب تلك المخدرات، دع عنك بعض قباطنة البواخر وضباطها وبحارتها وبعض ضباط الجيوش الأجنبية وجنودهم، كل هؤلاء قد اشتركوا في القضاء علينا وعلى أموالنا وأخلاقنا وقد أعلنوا علينا حربًا عَوَانًا سوف تنتهي إن لم نتيقظ في اللحظة الأخيرة بهلاكنا وإبادتنا عن آخرنا، كما فَنِي أهل أستراليا وأهل أمريكا الأصلاء.
ومعظم البلاء في كل ما تقدم واقع على الشرقي والعربي والمصري، فهم الذين يذهبون ضحية أولى، ومثلهم كمثل الجنود العاديين في الميدان.
أما الطبقة الوسطى والطبقة المتعلمة فربما كان لديهما شيء من المقاومة بفضل قشور العلم وبفضل البقية الباقية من المال والنَّشَب، ولاعتماد أفرادهما في الغالب على مرتبات الحكومة التي يتقاضاها الموظفون وكادت تستغرق نصف ميزانية الدولة أو ثلثيها.
وقد ادعى بعضهم أن مصر خالية من العمال لأن ليس بها مصانع وأن معظم سكانها زرَّاع يعيشون في الحقول، وقد كان هذا صحيحًا إلى أواخر القرن التاسع عشر، أما من بداية القرن العشرين فقد أخذ جيش من الفلاحين يتدفق على العواصم والبنادر للسعي على القوت أو لانجذابهم نحو المدنية البراقة الخلابة بفعل الميل إلى كل جديد، وكانوا يترامَوْن على المدن كما يترامى الفَرَاش على النار.
وقصة هؤلاء التعساء محزنة للغاية، فإن قراهم في الصعيد أو في الوجه البحري قد وصلت إلى أسفل درك من الفقر والقذارة، وقل العمال فيها لأن معظم سادتها وأرباب الأملاك فيها هجروها، والناس على دين سادتهم فقلدوهم أو تعلم بعضهم تعليمًا أوليًّا فأصبحت الحياة في القرية لا تروقه، فجاءوا إلى المدن زَرَافَاتٍ ووُحْدَانًا. ومن هؤلاء تجد في شوارع القاهرة ألوفًا مؤلفة، وبعضهم يعملون في العمارات والمباني أُجَرَاء يربحون عيشهم مُيَاوَمَةً، وبعضهم يرتزقون ببيع الخردوات القليلة الثمن، وبعضهم يبيعون أوراق النصيب، والبعض يرتزقون ببيع الفول السوداني والحمص والحلوى والصحف … وإنك لتدهش إذ ترى أمامك جيشًا من العمالقة الأصحاء الأبدان والأبصار الأقوياء البنية يحومون حول المارة والراكبين يعرضون بضائعهم الحقيرة ويبيعونها بأبخس الأثمان مما تتخيل أنه لا يكفي لقُوتهم في وجبة واحدة وتنحي على الأمة باللائمة لأنها لا تستثمر قوة هؤلاء الأشخاص في الأعمال النافعة المنتجة وتحدثك نفسك أن حكومة رشيدة تستطيع أن تحشد منهم جيشًا يفتح أفريقيا، لأنهم لا يقلون في طول القامة وتقسيم البدن وقوة الجَلَد عن حرس الإمبراطور فردريك الأكبر. وهذا هو الذي حدث فعلًا في أثناء الحرب العظمى، فإن إنجلترا جندت منهم فرق العمال الذين كان لهم نصيب في نصرة الحلفاء كما قال بذلك لورد اللنبي في خطبة ألقاها بمصر الجديدة، ولكن مصر في زمن السلم ليست بحاجة إلى جيش والمعاهدات الدولية تعوقها عن تكوينه.
وإنك إذا سرت متغلغلًا في الأحياء الوطنية التي يسكنها هؤلاء الناس في خط الزهار أو عشش الترجمان أو ضواحي بولاق وناحية العطوف وطولون؛ رأيت مظهرًا آخر من مظاهر الحياة، فإن هؤلاء الأشخاص يعيشون في غرف ضيقة مظلمة، وقد يُحشد عشرون منهم في غرفة واحدة ويعرضون أنفسهم لفساد الأخلاق، ومنهم يُحشد جيش الجريمة: فمنهم تجار المخدرات بالقطَّاعي، ومنهم الذين يؤجَّرون على القتل والضرب وشي الوجوه بحامض الكبريتيك، ومنهم حماة الدعارة، ومنهم من يأوي اللصوص ويؤلف العصابات لقطع الطريق وسرقة المنازل ليلًا ونهارًا. وهم ليسوا في القاهرة وحدها بل في جميع أنحاء القطر المصري، سبب لخلل الأمن وذهاب الطمأنينة من النفوس وعاملٌ من أقوى العوامل في الشر والأذى. وقد اتخذ بعضهم أماكن لتعاطي المخدرات بالحَقْن تحت الجلد يسمونها «عيادات»، وهي مغاور تحت الأرض ينتشر فيها الموت والقتل وبذل النفس والعِرض في سبيل ملاذِّ التخدير بالسموم البيضاء، وقد ذهب الكثيرون ضحية هذه المغاور التي لم تصل إليها جحور الأفيون التي وصفها مؤلف قصة روكامبول.
بيد أن هؤلاء الناس لو نظرت إلى حقيقة أمرهم وهم يستحقون في نظرك الإعدام شنقًا أو على الأقل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة؛ لرأيتهم في نهاية الأمر يستحقون الحنان والشفقة، لأنهم ضحايا الجهل والفقر، وقد أُلقي حبلهم على غاربهم، فتراهم يهيمون على وجوههم كبهيمة الأنعام، وكأنهم بُعثوا قصدًا لِيَعِيثوا في الأرض فسادًا ولِيُهلكوا أنفسهم بأيديهم ويهلكوا سواهم، وهم قُصَّر لا وليَّ لهم ومضيَّعون ليس لهم من يرشدهم.
ولو عرفت أن هؤلاء هم خيرة الرجولة المصرية الحقة، وأن سواعدهم القوية يمكنها أن تعمل في الحقول وفي المصانع وفي الجندية، ولو أنك علمتهم ربما ظهر منهم نوابغ؛ لو علمت ذلك لأدركت أن الداء دفين وأن الجرح أبعد غورًا مما تظن، وأن الشر المنتظر أكثر مما يصل إليه حساب حاسب.
ليس في مصر قانون للعمال لأنه لم يكن بها مصانع، وأغلبية الشعب تعمل في الحقول، ولكن في مصر محالج للقطن يعمل بها العمال ثلث العام أو نصفه وهم يعدون القطن للشحن والتصدير بعد حلجه وتخليصه من البذور، ويعمل في هذه المحالج أطفال ونساء ورجال، فأجرة البالغ تتراوح بين ثلاثة قروش وأربعة وأجرة الصغير من قرشين إلى قرشين ونصف إن كان ماهرًا، أما ساعات العمل فلا قيد لها فقد يعمل الكبير والصغير اثنتي عشرة ساعة أو خمس عشرة ساعة بدون رقيب ولا حسيب، وعند ازدياد العمل قد يعمل الأطفال اثنتي عشرة ساعة ليلًا فضلًا عن النهار.
فأين بربك يوم الثماني ساعات؟ وأين الرحمة بالأطفال؟ وقد قامت كاتبة إنجليزية في ١٩٣١ تنعي على بعض المصانع سوء معاملة الأطفال، وذكرت أنهم يعملون في مصر ووراءهم قائد يسوقهم بالسياط كما لو كانوا في عهد الفراعنة أو كأنهم محكوم عليهم بالأشغال الشاقة. وقد قامت بشأنهم ضجة ثم خَفَتَ صوت الاحتجاج، فكأننا من سنة ١٩٠٨ إلى ١٩٣٠ لم تتغير الأحوال من حيث عمل الأطفال في المصانع المصرية.
من الأقوال الشائعة عن مصر أنها لم تغير أدوات الزرع والحرث والري التي أَلِفَتْها منذ آلاف السنين، وقد أُخذ هذا دليلًا على الجمود، والتمسك بالقديم، والإعراض عن الابتكار والتجديد. وعندما اختُرعت أدوات حديثة لاستخراج الحجارة من المقالع قعد المصريون عن الانتفاع بتلك الأدوات وبقيت مبانيهم على ما كانت عليه، وما ذلك إلا لانطباع المصريين بطابَع الجمود، فهم أسرى العادات والنظم المتفق عليها، حتى في أروع المواقف وأفجعها تراهم على حال من الفتور تُدهش اللبيب ذا الحساسة.
ولا يقف نقد الناقدين عند هذا الحد، فقد ادعى أحدهم أننا ينقصنا المثل الأعلى، وأن تاريخنا القديم كله لم يُخرج شخصية قوية ولم يُغْنِ العالم بشرارة عبقرية واحدة، لأن التقليد دَيْدَنُنا ولأن مواهبنا محدودة بالمحافظة على كل عتيق. وقد استشهدوا بآثارنا فادَّعَوْا أن تماثيلنا كلها تصور الشخص الإنساني في وضع واحد لا يتغير وهو وضع مصطنع مستحيل فترى الشخص جالسًا أو واقفًا مُطْبقًا يديه ومحدِّقًا بك، كأن التمثال الحجري منقول عن شخص من جماد، وليس بين الآثار المصرية ما يدل على نبوغ المثَّال سوى تمثال الكاتب في متحف اللوفر وهو من أعمال الأسرة الرابعة.