مصر بلد أغنته الطبيعة والمصريون قوم أفقروا أنفسهم
مصر بلد أغنته الطبيعة
وإنهم يعللون هذه الحال بأن أرض مصر هي مخلوقة النيل وهبته وصنيعته، فلا حياة لها إلا بالزراعة فإن النيل جعل من الفلاح زارعًا، وكان نجاح مصر وتفوقها راجعًا إلى استثمار الأرض، فلم تستطع مصر الخروج عن هذه الدائرة دائرة الطين والزرع، وأن انحطاطها العقلي راجع بلا ريب إلى أسباب اقتصادية، فإن الطبقات الحاكمة استولت على ثروة البلاد لمصلحة أفراد متمايزين يعدون على الأصابع، وأن هؤلاء الأفراد لم تكن لهم إلا غاية واحدة وهي أن يستبقوا الفلاحين في العمل الدائم، ليجلبوا لهم خيرات الأرض فينفقوها هم في شهواتهم وصنوف تمتعهم، في حين أن الفلاح يبقى طول حياته عاملًا كالرقيق. أما أرباب الصناعات فقد قسَّموهم فرقًا ولم يجعلوا لهم أفقًا من المطامع ولم يفسحوا لهم مجال التقدم والنجاح، فسرعان ما سقطوا إلى مستوى منحطٍّ بين البلادة والكسل وفقد الرجاء في المستقبل. أما الكتابة والتدوين وصنعة القلم فقد أمست رهن إرادة الأمراء يستخدمون أربابها في مقاصدهم ويسخرونهم في أعمالهم، ككتابة السر وتقييد أرقام الدَّخْل والخَرْج ومخاطبة الفراعنة العظماء وكتابة الأحجبة والتمائم.
وكانت غاية المصري أن يعيش لشهواته في هذه الحياة وأن تستمر تلك الشهوات مع ما يحيط بها من التمتع حتى بعد الموت وما وراء القبور، فانصرفت همة الفراعنة والمهندسين ورجال العمارة إلى تشييد تلك الآثار من أهرام وغيرها وتزيينها في سبيل الموت وبقاء الجسد، وما غايتهم من تلك المباني المشيدة والحصون التي تناطح السماء وتحارب الدهور إلا الاحتفاظ بالأجساد المحنطة وصيانة الحلي والجواهر والتحف التي أودعوها قبورهم.
ولم يَغِب عن ذهن الناقدين لتاريخنا أن الأمم التي تغنيها الطبيعة وتوفر لها جميع مطالبها المادية هيهات أن تتطلع إلى شيء من صنوف المجد الذي تتطلع إليه الأمم الفقيرة المدفوعة بحكم الطبيعة إلى الجهاد والعمل.
فإن الطبيعة السخية في قطر من الأقطار تمنع أبناءه عن البذل وتوفر عليهم الجهود، لأن الفرد الإنساني إنما يبتكر ويتحايل ويتفنن في حالة الحاجة والعوز، إنما إذا لم يكن مُعْوَزًا ولم يكن تنقصه مطالبه المادية فهو بمثابة رب المال الذي يعيش من إيراده، فما عليه إلا أن يمد يده ليقتطف ثمار الأرض الغنية. وترى الرجل الذي لا يؤمِّل ربحًا سريعًا مباشرًا في بلاد أرضها خصبة لا يمد يده للعمل، أما الرجل الذي يعيش في وادٍ غير خصيب أو في أرض جبلية فهو يرى صعوبة العمل ولا يرجو النتيجة إلا في المستقبل فيبدأ بالاجتهاد، فلذا كان غنى الأقطار من البلاء على أهليها في بعض الأحيان.
لقد خلق الرجل ليجدد ويخلق ويبتكر ويوجِد مُثُلًا عليا حيث لا توجد، فإذا ما كانت الطبيعة سخية خصبة يمسي الرجل الذي هو الزعيم والمقدَّم بين مخلوقاتها وهو لا يزيد عن أحد خدامها وكأنه جزء ضئيل في آلة صناعية مهولة لا رأي له ولا إرادة، وبالتدريج تبطل مواهبه وتتعطل فيعود فردًا عاديًّا عاملًا كالرقيق.
ولا يقتصر الجمود والعقم على ذكاء الاستثمار المادي بل يتعداه إلى الفنون فتَجْدُب أرضها أيضًا وتفتقر العقول فلا يظهر شاعر ولا كاتب ولا مصور، وتبقى تلك الفنون النفيسة وقفًا على فريق صغير من الأغنياء الذين لديهم من المال والأرزاق ما يضمن لهم فرص الفراغ يتلهَّوْن فيها بالفنون، ولكن هؤلاء مهما بلغت ثروتهم ومهما أنفقوا من ملايين فلا يصلون إلى شيء ذي قيمة من الفنون فإن العبقرية الأدبية والفنية لا تبيع نفسها بالمال.
غير أن زيادة الغنى ليست وحدها هي التي تقضي على العقول والمواهب، بل إن الفقر أيضًا يقضي على العقول والمواهب ويقبرها، وأن بقاء الحكم في أيدي فرد أو جماعة يُرهقون الشعب إرهاقًا مستمرًا في سبيل الحصول على المال سوف يعقبه العقم العقلي.
ولقد كانت المدن المصرية ملكًا للأغنياء ولا يؤمُّها الشعب الذي انقطع لخدمة سادته في الحقول، فكانت المدن المصرية أو المكسيكية (لشدة الشبه بين المدنيتين) مظهرًا للثراء والأبهة، ولم تكن فيها طبقات من الفقراء إلا مسخرين في خدمة مواليهم.
أما المدن التي تأسست في ممالك أخرى ولم تكن الطبيعة قد حبتها من الخصب ما تمتعت به بعض المدن الشرقية في التاريخ القديم، فقد كانت على فقرها السابق مصدرًا للنور في العصور الحديثة، لأن فقرها وفقر سكانها أعدهم للنجاح في الجهاد وجعلهم مصدرًا للأفكار الوهَّاجة التي دفعت بالإنسانية إلى الأمام، لأن الجهاد والكفاح قد دربا أهل تلك المدن وفتحا لهم الطريق فكانت تلك المدن مصدر المدنية الحديثة سواءً مباشرةً أو بالواسطة، وإليك أمثلة: أثينا ورومة وأورشليم ومكة وفلورنس وباريس.
الكفاح الاقتصادي والاجتهاد
وإنك إذا رجعت إلى حقارة الأجور التي يتناولها العامل المصري وقارنتها بالأجر الذي يتقاضاه العامل الإفرنجي في مصر ذاتها وفي العمل نفسه؛ سمعت من يقول لك، وقد يكون المجيب مصريًّا: «كيف تنتظر أن يستوي المصري والأجنبي في الأجور؟ هل غاب عن فطنتك أن العامل المصري يأكل الفول والطعمية ويلبس الخلقان ويعيش في كوخ أشبه بقِنِّ الدجاج، في حين أن العامل الإفرنجي يأكل اللحم والبقول ويشرب النبيذ ويلبس السراويل والقبعة، ويعيش في بيت محترم وله زوجة وأولاد؟»
وقد صدق المعترض، فإننا قد رضينا من شَظَف العيش وقَشَف الطعام وقنعنا بأقذر الثياب وأحقرها وأدنى السكنى وأرذلها، فقيمتنا لا تتجاوز مظاهر حياتنا. وقد فرط العامل المصري في أشد الأشياء مساسًا بكيانه وهي القوت والثوب والسكن التي من أجلها يعمل، فإن لم تتوافر له على أسلوب مقبول فبئست الحياة وبئس العمل وبئس الوجود! ولعمرك ماذا يرغمه على الصبر على هذه الحال والبقاء عليها أجيالًا بعد أجيال، ثم هو ينشئ أولاده عليها ويلقنهم الرضوخ لها ظنًّا منه أو زعمًا أنه لا يجد أفضل منها؟ ثم ماذا تنتظر من ذلك العامل التعس الحقير الذي يتناول نَزْر الأجور ويعيش العيش الشظف ويأكل الطعام القشف؟ ألا تراه يغدو بعد ذلك ضعيف البنية قليل العزم فاتر الهمة نادر الإنتاج مهما أمعن في العمل ومهما قضى من ساعات الليل والنهار؟ لقد رأيت منذ عشرين عامًا عمالًا في بعض مصانع الحرير في مدينة د … يعملون في بناء متهدم وقد جلسوا صفوفًا رجالًا ونساءً وأطفالًا وهم نحال الأبدان صفر الوجوه قد دب إلى أبدانهم داء السل وفشت فيهم الأنيميا والبلهارسيا، وهم يعملون صابرين طوال النهار لمصلحة رجل يعيش بجوارهم في قصر منيف محاطًا بأفخر الأثاث والرياش ويلبس أفخر الثياب ويأكل أشهى الطعام وله أولاد كالخنانيص وكلهم من الجهل على أعظم نصيب، فتخيلت أن الشيطان قد أوصل أنبوبة من هؤلاء الفقراء إلى شرايين هذا الغني حتى أفرغ دماءهم القوية في جسمه وجسم أولاده وترك العمال كما تُترك دودة القز بعد إخراج خيوطها. وقد علمت أن مصنعًا فخمًا قد شيِّد وتحسنت حال العمال.
وفي سنة ١٩٢٠ رأيت في القاهرة في جهة «السبع قيعان» خرائب يسمونها معامل يعمل فيها رجال على هذه الطريقة عينها لحساب أرباب الأموال من تجار الشاهي والقطني، فعلمت أن الأمر ليس قاصرًا على الأرياف بل إنه أيضًا في قلب العاصمة وبين سمعها وبصرها، وهؤلاء العمال مسئولون عن حالتهم لعدم استقامتهم في أمورهم.
وليست طبقة العمال في مصر في عهدها الحاضر بصالحة للاستفادة من الأنظمة الحديثة، لأن معظمهم من حثالة الطبقة العاملة ولا يدخلون في حظيرة المعمل إلا بعد أن يطرقوا جميع سبل الرزق فيجدوها منسدَّة في وجوههم، فينقلبون إلى تلك الخرائب التي لا تحسن إلا للحشرات ويقنعون بما فيها لأنها ملجؤهم الأخير، وهمهم أن يخطفوا أجورهم لينفقوها في طعام قليل وشر كثير. وقد رأيت في مصنع حاطون الذي يصنع التحف الشرقية عاملًا يعمل في حفر النحاس ويتقاضى جنيهًا في اليوم، ولكن هذا العامل الحاذق الماهر الهادئ ينفق كل ربحه في تدخين الحشيش، فالعامل وحده هو المخطئ والمسئول عن فقره.
وعلمت من بعض أرباب الأعمال أن معظم العمال المصريين إذا تحسنت حالتهم قليلًا أسرعوا إلى ترك العمل لينفقوا ما ادَّخروه في الكسل والرقاد والملاهي الدنيئة حتى إذا جفَّ مَعِينهم عادوا يتلكئون ويتوسلون إلى صاحب العمل ليقبلهم، وإما يزايلون العمل بتاتًا لينتظروا عملًا أفضل من الأول فلا يعودون إلى مصنعهم الأول بتاتًا. وإنك إذا غشيت محاكم الجنح والجنايات رأيت فريق المتهمين بالسرقة والنشل والتخدير والاحتيال كلهم من طبقة هؤلاء العمال الذين أتْقنوا صنعة من الصناعات ثم تركوها إلى الإجرام بحكم سوء التربية أو رفقاء السوء أو العدوى الخلقية من السجون وسواها. وقد يفضِّل أحدهم بعض الأعمال السهلة كأن يكون كمساريًّا في الترام أو في السيارات الحافلة لأن العمل فيها أهون وربحها أوفر، ولأن الصناعات المصرية قد اضمحلَّت وماتت ولم يعد لها شأن يُذكر، فسُدَّت في وجوههم أبواب الرزق وأمسَوْا عاطلين. فالعامل هو الملوم وهو وحده المسئول.
ولو كان العامل من هذه الطبقة يعيش بمفرده لَهَان الخطب وعلمنا أنه فرد يذهب ضحية أخلاقه وكسله وتهاون الأمة في شأنه وضحية الاستعمار الأوروبي، ولكن قد يكون أحدهم رب أسرة وله زوجة وأولاد بل قد يكون له زوجتان أو ثلاث، وله من كل منهم سلسلة من الأطفال. وقد اشتُهر المصري بأنه إذا كان أعزب ووجد في جيبه قليلًا من المال لجأ إلى الزواج، وقد تطول فترة الزواج أو لا تطول لأن باب الطلاق مفتوح، وإن هو لم يطلق امرأته تركها أشهرًا بغير نفقة ولا قوت ولا كسوة، وربما أنفق ما يربحه في زيجة أخرى أو في حب امرأة فاسدة من طبقته. ولو اتبعوا الدين ومكارم الأخلاق حسنت حالهم.
فكيف السبيل إلى النهوض من تلك العثرة والخروج من تلك الورطة والنجاة من ذلك المأزق، ونحن نيام وخصومنا متيقظون، وكلما خطا الشرق خطوة (على افتراض أنه يخطو مع أنه ساكن لا يتحرك) خطا الغرب خطوتين، وعندما شرعنا في ركوب الدراجات والسيارات تكون أوروبا قد وُفِّقت إلى صنع الطائرة والمنطاد وبلغ فن الطيران غاية الكمال كما حدث فعلًا بعد الحرب العظمى، فإن أوروبا استفادت من الكارثة ببعض الفنون فخلقت الطيران المدني للنقل والبريد، وسار المقيم في القاهرة يستطيع الوصول إلى بغداد عاصمة هارون الرشيد في ثماني ساعات! بعد أن كان يقطع المسافة في الصحراء في خمسين يومًا مستهدَفًا لأخطار البر والبحر والسماء وقطاع الطريق، وذلك لعمري نجاح لم يحلم به سليمان ولا عفاريت سليمان؟!
والأدهى أننا وإن كنا نركب الدراجة والسيارة فإننا حتى الساعة لا نملك صنعهما ولا تصليحهما كما يجب، وقد قال لي أحد أصحاب ملاجئ السيارات بالقاهرة: «ليس يا سيدي في مصر ميكانيكي واحد يمكنه أن يصلح مانيتوه فضلًا عن صنعه.»
المرحوم فريد بك يلبس طربوشًا وطنيًّا
وإذا تركت حالة العمال قليلًا وما هم عليه من الكذب وعدم الوفاء والإهمال والفقر وانتهاز الفرص وسوء معاملة عملائهم سواء في النجارة والحدادة والتنجيد وصنع الأحذية، حيث تجد أسوأ الخلق وأردأ السلوك، ورجعت بنظرك إلى جهود بعض المصريين الأغنياء في إنقاذ بني وطنهم دُهشت حقًّا.
وإليك مأساة صنع الطرابيش في مصر، فإنه عندما نشبت حرب البلقان الأولى وصمم المصريون على مقاطعة الطرابيش النمسوية ولبس المرحوم محمد فريد بك طاقية من الصوف الأبيض من صنع شمال أفريقيا ودخل على حسين رشدي باشا؛ قابله الباشا المذكور بالسخرية وقال له: «سلامة عقلك يا فريد بك!» ونالت منه جرائد الاحتلال إذ ذاك حتى لم يقوَ الرجل على الاستمرار واضمحلَّت حركة المقاطعة شيئًا فشيئًا، فرأى إسماعيل باشا عاصم وهو أحد أبناء الأعيان الأغنياء أن الفرصة سانحة لإيجاد صناعة رائجة في القطر المصري، فتقدم بشجاعة وشَمَم وبذل جزءًا كبيرًا من ثروته في تأسيس مصنع للطرابيش في بلدة قها، وقد رأينا هذا المصنع فإذا هو لا يقل عن مصانع أوروبا في شيء، وقد أوجد الطربوش المصري الوطني حقيقة واستخدم عمالًا من المصريين وأوجد حركة نشاط لم يسبق لها مثيل في تجارة الصوف وصناعة الأصباغ، وكانت ظروف الحرب ملائمة لانقطاع ورود الطرابيش من أوروبا. وكل أعمى وجاهل وأحمق يرى بعينيه عماه أو جهله أو حماقته أن صناعة كهذه لا بد أن تنجح في مصر أعظم نجاح لأن كل مصري يلبس الطربوش، ولو كان متوسط عدد اللابسين في مصر خمسة أو ستة ملايين وأحدهم يشتري طربوشين في كل عام، فلا أقل من صنع اثني عشر مليون طربوش، وكان من الممكن تصدير مثلها على الأقل أو ضعفها للأقطار الشرقية العربية كسوريا والعراق وشمال أفريقيا والهند وبعض ممالك أفريقيا الوسطى والشرقية.
وقد سار العمل في طريق النجاح واستبشرنا خيرًا وكانت فاتحة لا يستهان بها، فماذا جرى؟
كنت تذهب إلى الطرابيشي المصري وتطلب إليه أن يصنع لك طربوشًا وطنيًّا من وارد قها، فيقنعك ذلك المأفون اللئيم بأن طربوش قها رديء ولا يعيش وقابل للقذارة بسرعة، فإذا ألححت زاد في لجاجه، وإن لم تباشر صنع الطربوش بشخصك فهو يغشك ويدس عليك طربوشًا آخر وارد إيطاليا ماركة الفلة أو طربوشًا إنجليزيًّا وارد موروم! وكنت إذا بحثت في علة هذه المحاربة الدنيئة، تجد أن ربح الطربوش المصري يقل عن ربح الطربوش الأجنبي لمصلحة الطرابيشي قرشًا أو قرشين، ولأن وسطاء النمسا وإيطاليا كانوا يَرْشُون الطرابيشي ليطعن في الطربوش الوطني وينفر منه العميل وهذا نوع من الدعاية التجارية، وربما يبيع الطرابيشي المصري ذمته ببضع ليرات ويحارب الطربوش الوطني حتى قضى على سمعته في السوق.
ليس هذا فحسب بل إن الحكومة المصرية التي كانت تشتري عشرات الألوف من الطرابيش للجيش المصري أعرضت عنه تحت تأثير الضغط الأجنبي! وهكذا تضافرت الظروف السيئة على المشروع حتى دب دبيب اليأس إلى قلب صاحب المصنع بعد أن كان أدخل من ضروب التحسين على الطربوش ما جعله يضارع طربوش النسر.
وفجأة وبدون إنذار سابق قرأنا أن إسماعيل عاصم باشا باع مصنع قها لأرباب مصانع الطرابيش بالنمسا، وأن هؤلاء جاءوا إلى المصنع وخربوه وأتلفوا عدده وأغلقوا أبوابه بعد أن دفعوا ثمنه، وقد ذاع في تلك الأيام أن شريكًا سوريًّا هو الذي أتم تلك الصفقة غدرًا مقابل مبلغ من المال وذاع غير ذلك، وأنا لا أعلم مقدارها من الصحة. ولكنني عذرت الباشا في ذلك الحين ولم أرَ على مسلكه غبارًا، فهذا رجل كاد يخرب نفسه في سبيل خدمتهم وهم يخذلونه كأن بينه وبينهم ثأرًا قديمًا! وهكذا خرج ذلك البطل القدير من ميدان المزاحمة الأوروبية مكسورًا مهيض الجناح، والفضل في ذلك راجع إلى أبناء وطنه وملته وعمالهم.
والآن وبمناسبة المعرض الزراعي (فبراير سنة ١٩٣١) قام فريق من الرقعاء يلبون دعوة تشجيع الصناعات الوطنية (مرحى! مرحى!) ويطوفون وعلى رءوسهم الفارغة طاقية من اللباد مصبوغة بالتفتاء الحمراء، ويعرضونها للبيع بخمسة قروش وهي لا تساوي نصف قرش، ويلومون أرباب رءوس الأموال من المصريين لأنهم لا يريدون أن يؤسسوا مصنعًا للطرابيش ليعيدوا تمثيل الفاجعة الأولى! والأدخل من هذا كله في باب العجب أن الطرابيشي الذي عرض عليَّ هذه القذارة وشكا لي من الأغنياء كان يحارب الطربوش الوطني ويروج للطربوش الإيطالي والنمسوي.
القرية المصرية هجرها ذووها
وإذا اتجهت قليلًا شطر القرية المصرية وجدتها خرابًا يبابًا، فإن بضعة مساكن من الطين لا يدخلها النور ولا الهواء وما عرف ساكنوها النظافة قط، يمر بها مجرى من الماء الآسن العكر المملوء بالديدان وجراثيم البلهارسيا والتيفوئيد، محاطة بأكوام من الطين مملوءة بميكروب الأنكلستوما، وفي كل ناحية مستنقع يمرح فيه بعوض الملاريا، والدواب تعيش جنبًا إلى جنب بجوار صاحبها، والرَّوَث يمتزج بالغذاء، وأعين الأطفال قلما تنجو من العمى والرمد الحبيبي! هذه صورة صادقة للوسط الذي يعيش فيه الفلاح المصري الذي يخرج خيرات مصر من قطن وقمح وقصب وحبوب وفاكهة، وحالة المسجد والكتَّاب مما يرثى له، ودوار العمدة نفسه مهما بلغ من الغنى لا يختلف كثيرًا عن هذا الوصف. فكانت نتيجة ظهور المدن وتراكم الثروة الزراعية أن الأعيان والأغنياء يهجرون ذلك الجحيم الذي لا تستطيع فيه أن تشرب قطرة ماء نظيفة إلى المدن والعواصم، حيث يبنون القصور أو يشترونها ويتزوجون من النساء «البيض السمان» ويركبون السيارات الفخمة ويلبسون الثياب الحديثة ويحصلون على الرتب والأوسمة من رتبة ميرميران الرفيعة الشأن (وكانت في العهود السابقة تباع نهارًا جهارًا بقيمة معلومة) ثم يغشون المجالس ولا يلبثون أن يتعودوا شرب الخمر ولعب القمار فيطلقون بلادهم رويدًا رويدًا، وإذا فني المال الموروث والمدَّخر انقلبوا إلى سماسرة الرهون فيرهنون أراضيهم في المصارف التي تعاملهم بالربح المركب، ومن تلك اللحظة يصبحون نهبًا للوسطاء والمرابين ومصاريف العقود والمحاكم ويعجزون عن تسديد الأقساط ثم ينقرضون واحدًا فواحدًا، وهذه مأساة تتكرر عامًا فعامًا وشهرًا فشهرًا، وتباع تلك الأطيان الخصبة بأبخس الأثمان في المحكمة المختلطة.
وقد خربت القرى وضعفت الزراعة وفسدت الأخلاق، وأخذ صغار الفلاحين يقلدون سادتهم من كبار الملاك وأخذوا يزايلون أراضيهم التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فأصبحت القرى وقد امتُصَّت دماؤها وجفَّت عروقها خربةً منحطة حتى العدم. فكانت تلك الهجرة من الريف أفظع من الهجوم الأجنبي، وقد جرَّت الفلاحين إلى انتحال الخدمة حتى صاروا لها عبدانًا وقتلت روح استقلال الفلاح حتى سلبته جميع قوته وعرقلت الأسباب والوسائل التي تُجنى بها أقواتنا وثروتنا، وقد قضت القضاء المبرم على حياة الزراعة والريف.
وإن هذه الحال التي وصفتها عن خبرة في مصر حيث أرى وأسمع، هي بعينها الشائعة في كل أنحاء الشرق العربي، فقد وصفها كتَّاب الهنود عن الهند أمثال المستر بوز وموكرجي، ووصفها الثعالبي في كتاب «تونس الشهيدة»، وهي الحادثة في سورية والعراق وفي كل قطر حط الأوروبي فيه رحاله.