تاريخ الفرس ونهضتها
نهضة الأمة الإيرانية
لقد لفتت الفرس أنظار العالم المتحضر ولا سيما أهل الشرق في العصر الحديث، للمرة الأولى في أوائل القرن العشرين عندما منح الشاه الدستور لبلاده في سنة ١٩٠٧ ثم استخلف ولده محمد علي واستحلفه أن يحافظ على تلك الأمانة للأمة.
ولما كانت للفرس علاقة عظمى بتاريخ الإسلام منذ نشأته الأولى إلى الآن، فقد آثرنا أن ننظر قليلًا في تاريخ تلك البلاد معتمدين على جملة مراجع، منها ما كتبه ماكسمولر المستشرق الألماني وهيرودوت المؤرخ اليوناني والبارون جوبينو المؤرخ الفرنسي صاحب كتاب «الفلسفة والأديان في آسيا الوسطى» وما دونه الكاتب الأديب والشاعر الفاضل ميرزا رفيع مشكي والأستاذ العالم المغفور له إدوارد براون مؤلف كتاب «عام بين الفرس».
هاجرت القبائل الآرية التي كانت نازلة قبل التاريخ حول «البامير»، فنزح أكثرها إلى أطراف الهند وإيران، وكانت أكثر القبائل النازحة إلى إيران نفوذًا وقوةً قبيلة بارسيان فقد نزلت في جنوب إيران في القسم الذي يسمى الآن فارس أو بارس، واتخذت مدينة «استخر» مستقرًّا لها وعاصمة سلطانها. وجاء الميديون فانتشروا في الغرب والشمال الغربي لإيران واتخذوا مدينة هاكاماتانا وهي المعروفة الآن باسم «همدان» عاصمة لملكهم، وانتشرت قبائل أخرى على شواطئ بحر الخزر، ثم باخترا وبلخ ثم أفغانستان وخوارزم وما عداها، وسموا أنفسهم أريان، واتخذوا لهذه الممالك اسم إيريانا، ومن ذلك يأتي اسمها الآن وهو «إيران» واسم أهلها إيرانيان.
وقد بدأ نفوذ البارسيان يقوى على من عداهم من مجاوريهم منذ سنة ٥٥٠ق.م. حتى إن ملكهم كورش الأكبر تمكن من اجتياح بلاد الميديين فخلع سلطانهم إستياج وأسس سلطنة هخامنشي.
وقد انتشرت الديانة الزردشتية بين البارسيين أكثر من غيرهم، وقد عالجنا الزردشتية بإيجاز تحت عنوان «المجوسية والصابئة» في هذا الكتاب. وأحدث المعلومات تدل على أن زردشت كان من أهل آزربيجان وأن وفاته وقعت في أيام اجتياح البارسيين لبلاد الميديين، وقد انتشر مذهبه في بلخ عندما دخل كشتاسب في دينه، ومن بلخ انتشر هذا الدين في جميع أنحاء إيران وخصوصًا فارس في مهد السلاطين الهخامنشيين. وإذن تكون كلمة بارسي التي تطلق على الفرس المهاجرين إلى الهند (ومعظمهم في بومباي) ليس معناها زردشتي، وأما كلمة مجوس الشائعة فأصلها بالفارسية «مغ»، ومعناها الحرفي أو اللغوي «حارس النار المقدسة»، وهي تطلق على المبشرين بالدين الزردشتي، فليس البارسي مجوسيًّا، وإذا قلنا سلمان الفارسي أو البارسي فليس معناها المجوسي بل معناها سلمان الذي أصله من بارس، أي من تلك القبيلة التي نزلت إلى جنوب إيران عند رحلة القبائل التي ذكرناها آنفًا.
أما كلمة عجم فقد أطلقها العرب على كل أجنبي عرفوه، ولما كان احتكاكهم بالفرس أكثر من احتكاكهم بغيرهم من الأجانب فقد أُطلقت كلمة عجم على الفرس مجازًا من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء، ولا تزال كلمة العجمة معناها في العربية الإبهام أو الغرابة أو البعد عن العربية، وأهل الفرس لا يحبون أن يوصفوا بأنهم أعجام.
وكانت عرب الجاهلية مقسمة قبائل متنافرة متباغضة، فتمكنت الدول القوية من استعمار بعض بلاد العرب، فكان لليونان والرومان والفرس نصيب من بلاد العرب بالاستعمار والاستغلال والإذلال، وكانت دولة الأكاسرة تسوم بعض قبائلهم سوء العذاب فيما جاورها من شرقيِّ الجزيرة وشماليِّها وجنوبيِّها، وما زالت الحال كذلك حتى جاء محمد بن عبد الله ﷺ فانتصف العرب لأنفسهم وانتقموا ثم انتصروا في يوم ذي قار ويوم القادسية.
ولكن العرب والفرس كانوا أعقل من أن يتطاحنوا أو يتباغضوا بعد انتصار الإسلام على دولة الأكاسرة فحصل بينهم التآخي والامتزاج والمحبة، واستفاد الفرس من سلطة العرب ونفوذهم ودينهم وآدابهم الجديدة ومعتقدهم الذي جاء بالتوحيد وقضى على الوثنية الشمطاء، كما استفاد العرب من حضارة الفرس وتمدينهم وتنظيم جيوشهم ودواوينهم وأنظمة حياتهم ومؤسساتهم. وبقوة الإسلام العجيبة امتزجت الأمتان وصارتا أمة واحدة، وكان لأبناء فارس أوفر نصيب في خدمة الدولة الفتية، وكان لهم القدح المُعَلَّى في ترقية الحضارة الإسلامية والآداب العربية بنفس اللغة العربية، ومنهم ظهر الأئمة في التفسير والحديث والفقه واللغة.
الحضارة القديمة والدين
وإن كان الشعب الفارسي حديث العهد بالنهوض في الجيل الحاضر فقد كان من أوائل الشعوب التي تحفزت للنهوض، فقد تواطأ الروس في عهد القياصرة والإنجليز على اقتسام تلك البلاد الإيرانية، وقد وقَّع بعض رجالها الرسميين معاهدة لوندرة التي تقر هذا الاقتسام من غير إرادة البلاد وبدون علمها فهبَّت الأمة من رقدتها وقامت قومة الأسد الرئبال (الذي هو شعارها في علمها)، فاستجمعت صفوفها ووحَّدت جهودها ونقضت المعاهدة ومزقتها إربًا، وبذلك نفضت عن نفسها غبار العار وعادت إلى الحياة وضربت المثل لغيرها من أمم الشرق.
كان ناصر الدين شاه إمبراطورًا لفارس، وقد تولى في ذي الحجة سنة ١٢٦٤ھ ومات رغم أنفه في سنة ١٣١٦ھ. وقد قاسى أهل إيران في عهد هذا الملك كل أنواع الظلم والاستبداد، وكان كثير السياحة في أوروبا ولكن تلك السياحات بدلًا من أن تدله على طرق الخير والحضارة لبلاده كانت تزيده إكبابًا على الشهوات وبغضًا في رعيته، تلك الرعية التي كانت تدفع من أموالها ومن دمائها ما كان ينفقه الشاه عن سعة على شهواته وأغراضه في تلك الرحلات، وكان الشاه الذي يكثر من الرحلات إلى بلاد أوروبا ليتمتع يمنع شباب الأمة الإيرانية من السفر في سبيل العلم أو التجارة أو التنور، ولما لمح بريق الذكاء والنبوغ في بعض رجال الفرس عمد إلى القضاء عليهم بالنفي والسجن والقتل ليقضي على زهرة البلاد، وهم أمثال ميرزا تقي خان أمير كبير وهو الذي شاد بذكره الأستاذ إدوار براون في رسالة «تاريخ الدستور الإيراني» ١٩٠٩ والسيد جمال الدين الأسدآبادي المشهور بالأفغاني وميرزا حسين خان سباهسالار وغيرهم.
ولما قلَّت مصادر المال ونضب معينها وصار الشاه في احتياج واضطرار، أخذ يتاجر بحقوق أمته فباع للبارون يوليوس روتر في سنة ١٨٨٩ حق تأسيس بنك شاهاني إيراني وحق إصدار البنكنوت باسم الدولة، وباعه حق استخراج المعادن من جميع المناجم الإيرانية وحق إنشاء سكة حديدية بين طهران وأهواز. وأسرف الشاه في منح الامتيازات وبيع حقوق البلاد، وقد تشجع المستر تالبوت فأخذ احتكار التمباك في مارس سنة ١٨٩٠ لمدة خمسين سنة بشروط بخسة تعود كلها على المحتكر وعلى جلالة الشاه، فهاج الشعب وثار وتكاتف الأحرار على مقاومة ذلك الشاه المبذر المسرف المتهاون في حقوق الأمة.
وتقدم لفيف من الأحرار والعقلاء بالنصح والرجاء للشاه للعدول عن التفريط في حقوق البلاد، وعلى رأسهم الوزير الوطني العظيم أمين الدولة، فلم يسمع الشاه لهم نصحًا ولم يرعَ لهم جانبًا بل أخذ يعتقل الزعماء ويضطهدهم ويسجنهم، ومنهم ميرزا محمد رضا كرماني وكان من شيعة السيد جمال الدين الأفغاني. وبدأت المدن بالقيام فهاجت تبريز ثم أصفهان وشيراز ويزد، وأرسل حجة الإسلام المرحوم المبرور الحاج ميرزا حسن شيرازي المجتهد الأعظم إلى الشاه كتابًا فيه ما فيه من التحذير، وأن إعطاء الامتيازات وبيع حقوق الأمة للأجانب من الأمور التي يحرمها الدين وتأباها الشرائع والقوانين، واشتد سخطهم وازداد هياجهم.
ولما يئس المصلحون والأحرار من إصلاح الشاه أفتى حجة الإسلام الحاج ميرزا حسن شيرازي فتواه الشهيرة بتحريم التمباك وقد أصدرها من مقره وهي «سر من رأى»، فأجاب الإيرانيون جميعهم دعوة المجتهد الأعظم وفي طرفة عين أطاعوا أمره ولبوا نداءه ولم يترددوا لحظة على شدة تعلقهم بالتمباك وشغفهم الشديد بتدخينه في النارجيلة على عادتهم المعروفة والتي سرت من بلادهم إلى جميع العالم. والنارجيلة بتمباكها في إيران كالبيبة في بلاد الإنجليز والسيجارة في مصر والشبق عند الأتراك، فتخيل أن أسقف كانتربري يصدر أمرًا إلى جميع الإنجليز بالتخلي عن تدخين البيبة فيتركونها جميعًا في طرفة عين، وهكذا حصل في إيران فإن مخازن التمباك أقفلت أبوابها وأبى البائعون بيعه وامتنع الطالبون والمستهلكون عن شرائه، وعمد كل مدخن إلى نارجيلته فهشَّمها وإلى ما عنده من التمباك فنبذه قصيًّا (راجع مقال ميرزا رفيع مشكي في ٢٠ أكتوبر سنة ١٩٢٣ الأهرام)، وفي جميع البيوت والأكواخ وحتى في قصر الشاه نفسه لم تكن لترى مدخنًا واحدًا أميرًا كان أو حقيرًا، حتى إن الشاه نفسه طلب صباح اليوم التالي للفتوى التي صدرت بالتحريم وهو في مجلس من وزرائه نارجيلته فتقدم إليه رئيس الخدم مندهشًا معتذرًا وقال للشاه: لقد صدرت يا مولاي فتوى حجة الإسلام بالتحريم فلم نُبقِ في القصور الملكية نارجيلة ولا تمباكًا!
وفي أواخر ديسمبر سنة ١٨٩١ أنذرت الأمة حكومة الشاه بضرورة إلغاء امتياز التمباك وإلا فيقع بالأجانب أعظم ضرر، ولجأت الحكومة لسائر وسائل الحيلة والقوة والتهديد وإيذاء الزعماء فلم تفلح، وتهدد الشاه بنفسه مقام المجتهد الأعظم فلم يزدد المجتهد إلا تمسكًا بفتواه. وفي أوائل يناير سنة ١٨٩٢ أذعن الشاه وحكومته لرغبة الأمة وتم الاتفاق بين الشاه وشركة الاحتكار على بطلان الامتياز الممنوح للمستر تالبوت فكانت صدمة مؤلمة للنفوذ الإنجليزي في إيران.
لقد كان في حادثة احتكار التمباك الإيراني درس نافع عظيم لأوروبا ذات المطامع الأشعبية التي أطلقت لنفسها العنان في الشرق تسلب خيراته وتنتهب أطايبه وتدس بين أهله أسباب الشقاق والفراق والنفاق، لتتمكن من نصب شباكها ولتظفر بالصيد وتبطش بالفريسة والشرق عنها غافل لاهٍ بصغائر الأمور.
نعم، لقد كلف بطلان امتياز التمباك أهل إيران الشيء الكثير من النفوس والأموال ودفعت البلاد لشركة الاحتكار (تالبوت وشركاؤه) نصف مليون جنيه تعويضًا، ولكنهم مع ذلك كسبوا الحياة التي دبت في نفوسهم وهيأتهم للنهضة العظيمة التي قاموا بها في سبيل حريتهم.
احتكار التمباك وزعماء إيران
وقد حكم ناصر الدين (يا له من تهكم!) بلاد إيران خمسين عامًا وقضى نحبه رغم أنفه في ختام الخمسين عامًا وهو على وشك الاحتفال بمرور نصف قرن على عهده. وإن السلطان الذي يحكم الأمة خمسين عامًا لا ينصف فيها مظلومًا ولا يَزْجُر ظالمًا وتشتبه عليه الأمور فلا يطلب لها إيضاحًا ولا يعمل تحقيقًا؛ جدير بأن يخلد ذكره في التاريخ باللوم والتقريع. وقد أُعدم ميرزا رضا في ١٢ ربيع الثاني سنة ١٣١٤ھ، وكان أعظم المقاومين لحكم ناصر الدين شاه، وكذلك كان من زعماء الأمة في ذلك العهد الحاج شيخ هادي نجم آبادي وميرزا ملكم خان الذي أسس جريدة قانون، ومنهم الشيخ أحمد روحي كرماني وميرزا أقاخان كرماني وميرزا تقي خان. وهؤلاء مع من ذكرنا هم الأبطال الأمجاد الذين هيئوا الأمة الإيرانية للنهضة الحديثة، وربما كان أعظمهم شأنًا المرحوم ميرزا تقي خان أمير كبير فقد كان عصاميًّا وصل بجده واجتهاده وإخلاصه في العمل إلى أعظم المناصب، فقد كان من عامة الشعب وارتقى إلى الصدارة العظمى أو أن الصدارة العظمى قد صعدت إليه، فاتخذ من منصبه أداة لتحرير الأمة لا لانتهاك حرمتها فأنشأ فيها المدارس الكثيرة وأسس دارًا للفنون ونظم الجنود ورتب الأحكام، وأظهر غيرة خالصة على مصالح الشعب جعلت الشاه ناصر الدين يحنق عليه وكان جزاؤه على إخلاصه لوطنه أن يُقتل في حمام «فين» بكاشان، ولما وصل خبر قتله إلى قيصر الروس استبشر وقال: «لقد مات أكبر أعدائنا، وذهبت أشد العقبات من سبيلنا.»
وقد حكم مظفر الدين اثنتي عشرة سنة من ١٨٩٦ إلى ١٩٠٨ بعد أن حكم أبوه خمسين عامًا. وكان عهد ناصر الدين معاصرًا لعهد الملكة فيكتوريا، كما كان عهد مظفر الدين محاذيًا لعهد الملك إدوارد السابع تقريبًا، ولكن عهد فيكتوريا كان عهد حرية وإصلاح ورخاء ومجد وعظمة لدولتها وأمتها على عكس عهد ناصر الدين الذي كان عهد ظلم واستبداد وضيق وتعذيب واضطهاد وفتنة وانحطاط واستغلال. فلما جاء مظفر الدين حاول أن يحكم كأبيه ولكن الأمة كانت قد تنبهت، فما زالت تطالب بحقوقها حتى نالت بعضها في سنة ١٩٠٧ وأُعلن الدستور وتأسس البرلمان، ولما أدركته الوفاة أحضر ولده محمد علي وأخذ عليه العهود والمواثيق (فبراير سنة ١٩٠٨) بأن يحتفظ بالدستور والبرلمان، ولكن محمد علي كان رضيع الاستبداد الروسي فوعد أباه وعدًا كاذبًا، ولما مات أبوه نقض عهده وهدم البرلمان بالقنابل وشتَّت شمل أعضائه ومزق الدستور الإيراني وطرد الأحرار واعتقل من اعتقل وقتل من قتل، ولم يطُل عهده فطُرد من وطنه والتجأ إلى الأتراك ثم إلى الروس وتولى ولده بعده، ولكن عهد هذا الأخير لم يطل كعهد أبيه وعُزل وطُرد من وطنه وتولى المُلك الشاه الحالي جلالة بهلوي. ومن غرائب المصادفات أن محمد علي عاش إلى أن رأى زوال دولة القياصرة الروس وانهيار صروح مظالمهم وتحكُّم جماعة من العامة والدَّهْماء في الدولة، وكان القياصرة أعظم سند له، وكذلك لم يطل عهد ولده في الحياة وقد لقي حتفه في باريس وهو آخر أسرة كشغر التي حكمت بلاد الفرس جملة أجيال، وكانوا جميعًا ملوكًا محبين لأنفسهم يفضلون مصالحهم على مصالح الشعب ويبذرون في أموال الأمة على شهواتهم وغاياتهم التَّفِهَة الوضيعة. وتعد بلاد فارس الآن من أقوى ممالك الشرق الإسلامية المستقلة، وربما كان اتحادها مع تركيا والعراق وأفغانستان مما يحيي الآمال بوجود جبهة شرقية قوية في غرب آسيا قد تسترجع المجد القديم وتقاوم غوائل الاستعمار، ولكن يجب عليهم قبل ذلك حسن التفاهم وتوحيد الثقافة والمقاصد وتوجيه الهمم إلى مثل أعلى واحد وهو إحياء الشرق وانتشاله من وَهْدة السقوط والانحلال.