أمنا الهند
أكاذيب كاترين مايو
لم تقف محاربة الإنجليز للهند عند حد الاستعمار والاستثمار والتملك وغرس بذور الشقاق لتكون لها السيادة على تلك البلاد العظيمة، التي أثبت العلم الحديث أنها من أصل آري وأن شعوب أوروبا كلها تفرعت من القبائل التي نزحت منها في القرون الماضية؛ بل إنهم لجئوا في محاربتها وقتل نهضتها إلى كل سلاح.
فإنه عندما قامت حركة غاندي منذ سبع أو ثماني سنين وظهر في الهند كتَّاب وشعراء وعلماء اشتُهروا في الغرب وصارت لهم مكانة، مثل تاغور الذي نال جائزة نوبل والسير بوز الذي نبغ في العلوم الطبيعية واخترع أداة أثبت بها حياة النبات وخفوق قلبه ١٩٢٦، وانتشر الهنود في أوروبا وأمريكا يدافعون عن قضيتهم وينشرون ظُلَامتهم ليحسِّنوا سمعتهم في نظر العالم المتحضر، وألف بعض كتَّاب الإنجليز كتبًا في صالح الهنود مثل سير هنري كوتون (كتاب الهند الجديدة)، ونشر الهنود كتبًا قيمة مثل كتاب «حرب الاستقلال» عن ثورة ١٨٥٧ (تأليف ساڤار كار وطبع لندن سنة ١٩١٠)، ولما كانت أعمال المؤتمر الوطني منذ ١٩٠١ و١٩٠٢ قد بهرت ساسة الإنجليز وأقنعتهم برجاحة عقول الهنود وكفايتهم للاستقلال (راجع وصف مستر سويني للمؤتمر الوطني الذي عقد في أحمد آباد)؛ رأى الإنجليز أن يلجئوا إلى السلاح الذي نفعهم في الحرب العظمى وفي كل أدوار هجومهم على الشرق، فاستأجروا سيدة اسمها كاترين مايو أمريكية الوطن إنجليزية الأصل وسهلوا لها كل الوسائل ونقلوها إلى الهند حيث فتحوا لها كل باب مغلق ورفعوا أمامها كل ستار فألفت كتاب «أُمُّنا الهند»، وقد ظهرت الطبعة الأولى في يوليو سنة ١٩٢٧ وطُبع بعد ذلك خمس عشرة طبعة آخرها سنة ١٩٣٠، وقد صادف نجاحًا لم يسبق له مثيل لأن المرأة الكاتبة حشدت في هذا الكتاب من الفظائع والقبائح ما لم يُحشد مثله من قبل في عشرة كتب، فصورت الهند في أفظع صورة من حيث المعتقدات والأدب والحياة، ووصفت الزواج المبكر وقذارة الوالدات وإحراق الجثث وتعذيب الأرامل وأذاعت أمورًا عن العادات السرية لا يخطر ببال إنسان أن المرأة تكتبها أو تعرضها على قرائها كإعلان بعض الباعة عن عقاقير مقوية في العلاقات الجنسية «اثنان وثلاثون عمودًا من القوة تصلب عودك المتداعي وتعيد إليك قوة الغرام، ثمنها روبية واحدة.» وروت أن الهندي ابن الثلاثين يبدو في جلد الشيخ الذي جاوز الستين لشدة إفراطه في علاقة الزواج.
وغايتها من وراء ذلك أن تصور الشعب الهندي المطالب بالاستقلال في صورة الشعب المنحل المضمحل الذي ذهبت رجولته في سبيل شهواته البهيمية، وادَّعت أن حكومة بنجاب وحدها حاكمت إحدى عشرة صحيفة يومية لنشرها مثل هذه الإعلانات. وفات السيدة كاترين مايو أن الدكتورة ماري ستوبز الإنجليزية نشرت كتابًا بلغتها في لندن في بحث المسائل الخفية من الحياة الزوجية، وقد طُبع هذا الكتاب أكثر من سبعين مرة من سنة ١٩١٧ إلى يومنا هذا، وفعله في أذهان قارئيه أكثر من فعل الحبوب التي تشير إليها كاترين، ولم يقلل وجود هذا الكتاب وما يدعو إليه من الفسوق والتحريض على الشهوات من رجولة الشعب الإنجليزي الذي اشتُهر عن بعض رجاله في المستعمرات أمور يَنْدَى لها الجبين. وتدَّعي كاترين مايو أن أكابر البراهمة يبغضون إصلاح المرأة ويقولون: «إن الزوج للبنت البرهمية أعظم وأصدق وأعز من كل المصلحين الاجتماعيين في العالم.» ص٤٣ كتاب «أمنا الهند». فكأن الرجال ليسوا وحدهم المتردِّين في هُوَّة الشهوة، بل إن النساء أيضًا أكثر ميلًا من الرجال إلى التردِّي في تلك الهوة. وادعت أن في كل جيل تموت ٣٢٠٠٠٠٠ امرأة من آلام الوضع والولادات العسرة لصغر سن الزوجات الفتيات.
دعاية استعمارية ضد الهند
ووصفت في ص٥١ أن في مقاطعة مدراس يَنْذِر الوالدون أطفالهم للمعبد تقربًا إلى الآلهة وزلفى، فإذا ولدت إحدى الأمهات بنتًا سلَّمتها إلى سدنة الهيكل فتناولها النساء الخادمات للإله بتعليم الرقص والغناء، حتى إذا ترعرعت وبلغت ست سنين أو سبعًا يراها الكهنة صالحة للرجال فيتمكنون منها وفاءً للنذر وباسم الإلهة كالي أو الرب فشنو ويطلق على مثل هذه البنت اسم ديفاداسيس أو «عاهرة الأرباب»، وأن الأطفال الصغار قد تفشَّت بينهم الأمراض السرية المزمنة والحادة، وأن الرجل الذي بلغ الخمسين من عمره يجد من اللائق أن تُزَفَّ إليه بنت الخمس أو الست ولا يرى هو ولا أهلها في ذلك غضاضة (٥٧).
وروت عن طبيبة إنجليزية أن المرأة الهندية تبقَى حياتَها في حال خمول عقلي، لأنها دائمًا مصابة بأحد الأدواء السرية ومنهوكة القوى من تكرر العلاقة الجنسية التي يمارسها زوجها ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد (ص٦١).
الرجل والمرأة في الهند كانا من خمسين عامًا أقوى وأصح وأطول عمرًا مما هما عليه الآن:
وعادة الإنجليز في المستعمرات أن يعملوا جهدهم في إضعاف الشعوب المحكومة خُلُقيًّا وعقليًّا لتدوم سيادتهم، في حين أنهم في بلادهم وبين الإنجليز العائشين في المستعمرات يشرِّعون التشريع الذي يحفظ صحتهم وينمي قواهم العقلية ويطيل أعمارهم، وليست حرب الأفيون التي شنت غارتها على الصين لامتناع أهلها عن تعاطي ذلك المخدر القاتل ببعيدة، وقد سميت حرب غوردون لأن الجنرال شارل غوردون كان قائد تلك الحملة المشئومة، وهو نفسه الذي لقي حتفه بعد ذلك ببضع سنين في الخرطوم على أيدي الدراويش.
وادَّعت في (ص٧١) أن الهنود كانوا يئدون بناتهم، فقد ادَّعت أن أحد المهراجات قال لرجل إنجليزي: «صاحب! أنت تعرف عاداتنا، كانت البنات تولد حقًّا ولكن منذ جيل مضى لم يكن مسموحًا لهن بالبقاء على قيد الحياة …» وأكدت مايو في ص٧١ أن هذه العادة لا تزال سائدة في أنحاء كثيرة من الهند. وقالت — والعهدة عليها — في تعليل إحراق الأرامل عند البراهمة، وهي العادة التي أبطلها الإنجليز إن رجلًا هنديًّا اعترف للمؤلفة بأن الأزواج يسيئون معاملة الزوجات إلى درجة أنهم يخشون على حياتهم من القتل غِيلَةً بدس السم في الطعام فسنُّوا سنة إحراق الأرملة، حتى إذا فكرت في قتل زوجها تعلم أنها لن تعيش بعده طرفة عين فتُحْجِم عن الجريمة! وقررت أنها رأت في بعض السجون نساء مسجونات بتهمة قتل أزواجهن، ونسيت ما تنشره صحف الأخبار في أوروبا وأمريكا كل صباح ومساء عن ألوف النسوة اللواتي يتآمرن مع عشاقهن على قتل أزواجهن بالسم إذا أعوزهن المسدس ولم يضمنَّ صدور الحكم بالبراءة من محاكم نيويورك ولندن وباريس. وقالت إن الإحصاء الرسمي الأخير الصادر في سنة ١٩٢٥ أثبت أن في الهند ٢٦٨٣٤٨٣٨ أرملة، أي ضعف سكان القطر المصري من ذكور ونساء وصغار وكبار ومرضى وأصحاء!
الولادة العسرة في الهند
أما وصف عملية الوضع إذا جاء للمرأة الهندية المخاض الذي لطخت به كاترين مايو كتابها في الصفحات ٩٠ وما بعدها، فمما يحمرُّ له وجه الإنسانية خجلًا وتظهر فيه رغبة المؤلفة في التشنيع والفضيحة ولا يقصد منه إصلاح البتَّةَ، ولو افترضنا صحة بعض ما جاء فيه لأن الهنود يعتبرون كل ما له مساس بالوضع نجسًا، فماذا صنعت الإدارة الإنجليزية في هاتين المائتي سنة التي دامت خلالها السلطة البريطانية في الهند؟ وأين التمدين والحضارة والخدمة الإنسانية؟ وهل يعقل أن وضعًا يدوم خمسة أو ستة أيام وأن الداية (وهذا اسم القابلة باللغة الهندية) تمزق رحم الأم إرْبًا لتخرج الطفل حيًّا أو ميتًا (ص٩٣) بحيث يمسي الوضع أبشع وأفظع وأفجع من الموت نفسه؟ ثم إن المؤلفة لا تخجل بعد ذلك إذ تذكر أن نجاح الهند مطَّردٌ ومستمرٌّ، وأن الشعب في بُحْبُوحة من العيش وسَعَة من الرزق، ثم تعود فتنتقد نظام الحجاب «بوردا»، وتدَّعي بعد أن تكلمت عن «نجاح الهند المطرد وسعادة شعبها» أن الدكتور لانكستر ذكر ارتفاع نسبة الوفيات في النساء من السل الرئوي ارتفاعًا ذا خطورة، وأن انتشار ذلك الداء الوبيل راجع إلى عادة الحجاب «بوردا»، وأن نسبة الوفاة السنوية تتراوح بين تسعمائة ألف ومليون شخص يموتون مَسَانَاةً بداء الصدر (تقرير الدكتور أندرو بلفور وكتاب «صحة الإمبراطورية» ص٢٨٦ سنة ١٩٢٤).
وبمناسبة ذكر الدكتور بلفور أقول إن الطبيب المذكور انتُدب لفحص صحة سكان القطر المصري في سنة ١٩٢٠ أو ١٩٢١ (بوصف كونهم من رعايا الإمبراطورية البريطانية)، وقدم تقريرًا وافيًا فيه أبشع بيان عن حالة القطر الصحية، وذكره سير ڤالنتين شيرول في مقالاته وكتبه، ولعله محفوظ بين ثنايا «الدفترخانات» في مصلحة الصحة، ولم ينفذ منه شيء لأن السلطة القاهرة تمنع الأعمال التي تعود على هذه البلاد بشيء من الخير.
ولعل الإنجليز يرسلون البعثات من هذا القبيل لا لإصلاح الفاسد وتقويم المُعْوَجِّ من شئون الأمم التي بُلِيت بحكمهم، ولكن ليستشهدوا بانحطاطنا وتأخرنا وانتشار الأمراض في شعوبنا عند مطالبتنا بحقوقنا، وليظهروا أمام الأمم الأخرى بمظهر الضعفاء والمنهوكين غير الصالحين للحياة. ولذا ترى كاترين مايو تغترف اغترافًا من تقارير أطباء الإنجليز وطبيباتهم، وقد قالت: إن النساء اللواتي لا يرين الطريق منذ زواجهن إلى يوم وفاتهن يتراوحن في الهند بين ١١ مليونًا و١٧ مليونًا وثلاثمائة ألف نفس، قد قُضي عليهن بالسجن المؤبد بحكم العادات والزواج ١١٦.
الأخلاق والوطنية
إن مقاطعة بنغال هي مقر الهياج السياسي الشديد، ومحط العداوة المريرة بين الهنود والإنجليز. وتعد هذه الولاية مصدر الفوضيين وصناع القنابل ومنبت القتلة الذين يُقدمون على القتل السياسي، وهم قدوة أصحاب القلاقل ونموذج لناشري أعلام الفتنة. وقد دلت مباحثي على أن أهل مقاطعة بنغال هم أشد الناس رغبةً في الإفراط الجنسي (كيف علمت ذلك هذه المرأة؟!)، وقد لاحظ رجال الطب ورجال المباحث الجنائية العلاقة المتينة بين تلك الميول الشهوانية وبين تركيب العقول المشوهة التي تقترف الجرائم السياسية، فإن انهماك القوى البدنية والمعنوية في الشهوات البهيمية يُحدث ظمأً للدماء ورغبة في التعويض عن الكمية المفقودة بالجرائم وإهراق الدماء. وترى بنغال كذلك مركز التمسك الجديد بعادة الحجاب فترى المنازل في حالة الموت والعدم، فلا يجد الشبان الملتهبون غيرةً على وطنهم مجالًا لتصريف مواهبهم الاجتماعية، ويجتمع ذلك إلى المبادئ الأوروبية التي أساءوا هضمها فينتج الإجرام السياسي. ا.ﻫ. كلام كاترين مايو
وليس لنا كلام على هذه النبذة، والقارئ وحده يرى المجهود الشديد الذي بذلته تلك المرأة لترد الأعمال السياسية والثورات القومية التي ظهرت في الهند إلى الهياج التناسلي! وهذا أغرب تعليل قرأناه في حياتنا، فهل كان كل الأيرلنديين المطالبين بالحكم الذاتي، والفرنسيين في عهد الثورة، والإنجليز لدى محاكمة شارل الأول، والروس في الفتنة البُلْشفية، والبولونيين والإيطاليين، وأهل الولايات المتحدة في حرب الاستغلال والاستقلال عند أخذ الدستور، والصينيين في حركة الجمهورية، وقد قام كلهم بأضعاف ما قام به الهنود؛ هل كان كل هؤلاء مُفْرِطِين في العلاقة الجنسية؟ وهل كانت كل نسائهم الأوروبيات محجبات وبيوتهم مائتة لا تكفيهم ومبادئهم التي تعلموها أو التي اكتشفوها ببصائرهم القوية؛ كانت كلها مهضومة هضمًا سيئًا؟
ألا إن البنكنوت الإنجليزي يفعل أكثر من ذلك في مثل هذه المرأة.
هذا قليل من كثير مما جاء في كتاب كاترين مايو، وأنت ترى أن سادتها الإنجليز سواءً أكانوا في دوننج ستريت أم في سكوتلانديارد لم ينفقوا أموالهم عبثًا ولم يضيعوها على باب كاترين مايو، بل استوفوا ثمنهم وأخذوا «بحقهم حلفًا» وزيادة. وجاء كتاب كاترين مايو في وقته فنُشرت منه مئات ألوف النسخ في القارات الخمس، فكان أبشع صورة تُرسم للهند وأفظع دعاية تذاع ضدها في الوقت الذي قامت فيه قيامتها الكبرى.
وقد ألف كثيرون من الهنود والإنجليز أنفسهم كتبًا قيِّمة في الرد عليه وتفنيد ما جاء به، وكان في مقدمة الذين ردوا عليها المهاتما موهانداس كرمشند غاندي نفسه، وقد عاب عليها أنها شوهت النُّبَذ التي اقتبستها من كتبه ومقالاته ولامها على أنها طعنته من خلفه وهو راقد في سجنه في ص٣٨٧، إذ نسبت إليه أنه وقد أصيب بالزائدة الدودية طلب أن يعمل له العملية طبيب إنجليزي لا طبيب هندي، في حين أنه قد نشر مقالًا انتقد فيه الطب الغربي، فكانت عدم ثقته بالأطباء من أبناء وطنه أكبر دليل على عدم صدقه في نظر كاترين مايو.
وقد كذبها غاندي في مواطن كثيرة، منها ادعاؤها أنها طلبت إليه أن يبعث معها رسالة إلى أمريكا فقال لها: «أرسل إلى أمريكا صوت هذا المغزل!» ومنها ادعاؤها حدوث هتاف عظيم للبرنس دي غال في ٢٢ نوفمبر سنة ١٩١٢ إبان الثورة الهندية الأولى.