العراق قديمًا وحديثًا
العراق من العباسيين إلى العثمانيين
إن شعب العراق شعب مسلم شرقي، وهو قريب الشبه إلى المصريين من حيث الأخلاق، ولكن فيه علماء وأدباء من أهل المكانة السامية في العالم الإسلامي.
وربما كانت حياتهم العقلية كذلك على الفطرة، فإن الحكم العثماني لم يعمل شيئًا في سبيل تعليم هذا الشعب الذي كان يبلغ ثلاثة ملايين ونصف مليون، وكانت بلاده ووديانه مقر مدنيتين من أعظم مدنيات العالم وهما المدنية البابلية الآشورية والمدنية الإسلامية.
بل تركه الأتراك يسير سيرًا حثيثًا في سبيل الخراب ولم يفتحوا به مدارس ولا معاهد للعلم ولم يُصلحوا من أموره شيئًا، وكانوا يحتقرون العرب ويحاربون اللغة العربية ويرسلون إلى البلاد ولاة من الترك دأْبهم إذلال العربي مهما بلغت مكانته، وكان في البلاد علماء أعلام أمثال آل بيت الألوسي يصح أن يتولوا القضاء فلم يعيروهم التفاتًا، وأرسلوا إليهم قاضيًا تركيًّا ليقضي بينهم بما يعلم وهو أقل مما يعلم هؤلاء العلماء من أهل البلاد، وكان من بينهم رجال يصلحون للاستعمال ولكن الترك لم يعينوا منهم واليًا. وقد سرى على العراق ما سرى على جميع أجزاء الدولة العثمانية من الإهمال والتأخر، فكانت البلاد مقضيًّا عليها حتمًا أن تقع في يد الأجنبي (راجع كتاب «ولاية بغداد» تأليف نجيب شيحة بالفرنسية، طبع مصر ١٩٠٨).
بيد أن هؤلاء العراقيين حاربوا في سبيل استقلالهم وحريتهم حروبًا شهدت لهم بعلوِّ الكعب وسموِّ الأخلاق وحب الوطن والشجاعة الفائقة.
ومما يكتب بمداد الحسرة أن الأتراك أهملوا استثمار البلاد لمصلحتهم أنفسهم ولمصلحة أهليها، فإن بلاد العراق من أغنى بلاد العالم وثروتها مزدوجة، فمن حيث الزراعة يوجد بها ستون مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة وقد أُهملت جميعها ما عدا بضعة آلاف من الأفدنة، ولما جاء الاتحاديون شرعوا في الإصلاح الاقتصادي فكلفوا سير ويليام ويلكوكس ببحث مشروعات الري في العراق، فأقام هناك عامًا وبعض عام وعرض عليهم مشروع إصلاح واسع النطاق يقتضي خمسة عشر مليونًا من الجنيهات ليعيد العراق إلى حالته الأولى ولكن خزانة الأتراك كانت شبه خالية، ثم إنهم لم يرغبوا في تحسين حال العراق ليجعلوا منه مقر دولة إسلامية جديدة ربما تزاحمهم بثروتها وقوتها، فأنفقوا مليونًا واحدًا تمكن ويلكوكس بواسطته من تصليح مليون فدان، وقد علمت من بعض العارفين أنه قبض المبلغ قبيل إعلان الحرب الكبرى. والأراضي الزراعية في غاية القوة لأنه قد مضى عليها أكثر من سبعة قرون بغير زرع فتجددت قوتها وأصبحت في حكم البكر، حتى إن القمح والشعير قد تعلو سنابلهما على الفرس والفارس. وهناك ثروة أخرى منحتها الطبيعة للعراق وهي الزيت أو البترول، ومنه يخرج البنزين وغاز الاستصباح وغيرهما من العناصر النافعة للصناعة، وشهرة آبار الموصل قد طبَّقت الخافقَين. وهذه الثروة العظيمة كانت في زمن الترك وكانوا يرونها بأعينهم، لأن البترول طافح على الأرض وقد كوَّن بركًا وبحيرات فلا يمكن أن تخفى رؤيته على أحد، وفيه ثروة تقدر بملايين الملايين من الجنيهات مما كان يعود على الدولة العثمانية كلها بخير لا حد له، ومع ذلك فإنهم لم يوجهوا أقل عناية نحو استثمار تلك المنابع الطبيعية العظيمة إلى أن جاء الأجنبي بخيله ورَجِله ووضع يده على تلك الآبار واستغلها وسلمها إلى شركة تجارية أجنبية ومدوا الأنابيب من بغداد إلى حيفا لينقل البترول بسهولة عظيمة من منابعه إلى شاطئ البحر فالبواخر النقالة.
وفي العراق معادن أخرى لا تحصى وكلها مصادر ثروة طائلة، وقد روى لي ثقة أن بها مناجم للفحم لم تُفتح.
هذه بلاد العراق التي بلغ الجهل ببعض أهلها إلى درجة أنهم منشقون على أنفسهم سنِّيِّين وشيعة، وبعضهم لا يزالون بحالة وحشية يسفكون دماء أنفسهم ويقيمون المآتم في سبيل تشيُّعهم لأمر قد مضى وانقضى عليه ألف وأربعمائة عام. ولا تزال في تلك المملكة مدن مقدسة هي كربلاء مدفن الحسين والنجف مدفن الإمام علي والكاظمية مدفن الحسن، وتجرى في تلك المدن أمور تشبه ما كان يجري في الهياكل الوثنية. وقد اتصف رجال الشيعة بأخلاق غريبة لا تتفق مع الشرع ولا غيره في شيء، وهم يعللونها بأنها «تَقِيَّة» ينجون بها من كيد السنيين وهو وهم باطل لا حقيقة له. وكل هذه تقاليد وثنية دخلت على الإسلام ودسائس سياسية اتُّخذ الإسلام ستارًا لها لتتم دعوة أبي مسلم الخراساني للعباسيين، فلما نال العباسيون مأربهم تخلَّوْا عن شيعتهم وقاتلوهم.
ولكن القوم تركوا الجوهر وتمسكوا بهذا العَرَض الذي كان سببًا في هلاكهم، لأن العباسيين لم يستطيعوا إلا أن يُبْقوا على السنة.
وفي العراق غير المسلمين نحو مائة ألف كلداني، يقومون على الصناعات الدقيقة مثل الصياغة والحياكة والنجارة والنقش في المعادن وما إليها، وهم بقايا الكلدانيين الأصليين ولكنهم نصارى ولا يزالون يشبهون في مجموع خلقتهم وجوه أجدادهم الأولين، وإن كان بين العراقيين أنفسهم كثيرون لا يزالون محتفظين بتلك السِّحْنة القديمة.
وقد كان هذا دأب الأتراك في جميع أملاكهم العربية، فإنهم لم يحصِّنوها ولم يعدوا لها جيشًا ولم يعلِّموا أهلها ولم يحترموهم وكأنهم كانوا تاركيها ليعتدي عليها أجنبي فاتح.
وقد شهد الكثيرون من العقلاء الذين زاروا الأستانة احتقار الترك للعرب وازدراءهم بهم وعدم عنايتهم بتحسين حالتهم في بلادهم، مما هاج سخط العرب في جميع أنحاء السلطنة. وروى لي ثقة من الشبان الذين عاشوا في تركيا وفي ألمانيا قبيل الحرب العظمى وفي أثنائها أن شبان العرب الذين كانوا في المدارس العليا الألمانية موفَدِين بعثات على نفقة الحكومة العثمانية كانوا يحسدون المصريين على احتلال الإنجليز بلادهم ويتمنَّوْن أن يحكم الإنجليز بلادهم هم كالعراق وسوريا، والغريب أنه لم يخطر ببالهم أن يستقلوا في أوطانهم، بل كانت غاية آمالهم أن يحكمهم شعب أوروبي راقٍ مثل إنجلترا! وسبب ذلك ظلم الأتراك لهم في أوطانهم وتركهم بغير تعليم ولا حضارة. وكانوا يَعجبون من حب المصريين للترك وتعلقهم بهم، ويدهشون لأن المصريين يريدون الاستقلال والخلاص من الحكم الإنجليزي. ولم ينكر محدثي أن الأتراك كلهم لم يكونوا سواء في كره العرب واضطهادهم، بل كان منهم رجال يحبون الشعوب الشرقية كلها على السواء مثل أنور فإنه كان ينظر إلى الجنس دون العصبية كان يحب كل شرقي. وكان الألمان لا يثقون بالأجانب ولم يقبلوا أجنبيًّا واحدًا في جيوشهم، ولكن الشرقيين من غفلتهم يثقون بكل أجنبي.
بيد أن الشرقيين الذين يُولُون الأجنبي ثقتهم يكرهون بعضهم بعضًا وهم أبدًا متقاطعون متدابرون.
وقد وقفت على حقيقة الحال في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وما كان للمصريين والشرقيين سواءً أكانوا سَرَاة أو سوادًا من المخازي والفضائح ما يحرق الأكباد ويلين من هوله الجماد! فقد كانت بين الشرقيين معارك وحروب في سبيل النفوذ والمال، ولم يكن سلاحها إلا الدسائس التي اشتغل بها لفيف من الأذكياء الذين وقفوا فطنتهم ودهاءهم على إلحاق الأذى بأوطانهم. وكان بعضهم يتجسس للأجانب وينقل إليهم أنباء بني وطنه ويعاكس أعمالهم ليعكسها، وقد اضطهدوا كل مخلص وحرضوا عليه أولي الشأن فكان نصيبه الطرد والنفي حتى مات بعض الزعماء جوعًا واضطر بعضهم للاقتراض وسجن البعض في سبيل القوت، وكان البعض يغتال المال المرسل للطلاب ويشتري لأهله مصوغًا وحُليًّا ولنفسه كساءً من الفرو وما إليه، ويدخر الأموال ويتقلد المناصب وأصدقاؤه وأحبابه وأبناء وطنه من المجاهدين يتضورون جوعًا ويشكون ألم الفقر والمسغبة.
وكان بعض هؤلاء الأذكياء المجرمين يستعملون ذكاءهم كما تستعمل المعاول للهدم والتخريب ولم يستعملوه للبناء والتعمير، وكان المشاهد لتلك المناظر يدهش لحصولها ويحاول البحث عن أسبابها فلا يهديه العقل إلى أكثر من أنها ثمرة الحسد والطمع وميل غريزي إلى الخيانة والغدر والنميمة، وقد تأصلت تلك الرذائل في النفوس فلم يكن من السهل اقتلاعها، بل إن هؤلاء الأشخاص لم يكن يحلو لهم عيش بدونها كأنها عنصرهم الذي خُلِقوا منه وبه يعيشون، وقد كانت نتيجة ذلك ما رأينا من خيبة الجميع إلا واحدًا تمكن بالحيلة من الوصول إلى مكانة عالية ولم يكن بلوغه إياها إلا بالدسائس والفتن ثم ظهر خُلُقه الفطري فهوى.
العراق بين ويلسون وكوكس
تعوَّد الإنجليز أنهم إذا حكموا بلادًا شرقية قلَّبوا عليها صنوف الحكام من عمالهم الحربيين والملكيين بين قاسٍ وليِّن وفظٍّ وظريف ومتكبر ومتواضع، فيصحح أحدهم أغلاط الآخر ويستغفر الخلف للسلف، والأمم المظلومة المغلوبة على أمرها تلعن الجميع.
ولم تكن العراق لِتشذَّ عن هذه القاعدة، فقد عينوا لها ويلسون الذي عرف بالشدة وقوة الشكيمة والرياء حتى يبطش بها في الفترة الأولى بعد أن يَعْجِم عُودها.
ثم رموها ببرسي كوكس وهو داهية البحرين، الذي جاس خلال تلك الأقطار وعرف لغة القوم ولهجاتهم ووقف على تاريخ أمرائهم ودسائس الحكومات المختلفة من عجم وعرب. وقد عينته وزارة الخارجية بعد أن أدركت أن الثورة قد ضعفت ودخلت العراق الجريحة الغضوب في دور الاستكانة والاستسلام، وهي فترة لم يعد يصلح لها ويلسون رجل الشدة والاصطدام، وبعبارة أخرى جاء برسي كوكس في الوقت الذي بدأ الإنجليز فيه يشتغلون بتأليف الوزارات القومية، أي المكونة من رجال من أهل العراق يعملون بأوامر الاحتلال أو قل الانتداب وهو الاسم الأخير الذي وضعوه للاستعمار. وبعد أن كان ويلسون يدعو شيخ الشريعة للمفاوضة وهي إحدى طرق التسوية في الثورات التي تعد نوعًا من الحرب، طلب كوكس من مشايخ العشائر أن يبلغوا ما في أذهانهم من سوء التفاهم إلى أقرب حاكم سياسي في ناحيتهم.
وشتان بين الحالتين! ولذا يرى بعض المؤرخين لقضية العراق أن الثوار وعلى رأسهم شيخ الشريعة قد فرَّطوا في الفرصة التي منحهم إياها ويلسون، والحقيقة أن شيخ الشريعة لم يفرط في شيء، لأن ويلسون لم يكن أشد إخلاصًا من كوكس، غير أن شيخ الشريعة أحسن في التمسك بموقف الكرامة والشمم.
وعلى كل فإن الثورة كانت قد قطعت شوطها فسلَّم معظم زعماء العرب بعد هذا المنشور الذي نشره كوكس في ٢٦ تشرين الأول سنة ١٩٢٠، ومن بقي من الثوار استعملت معه بريطانيا سياسة الطيارات ومن كان يسلم تُلزمه بتقديم السلاح والذخيرة، ولا غرابة فإن إنجلترا فقدت ألوفًا مؤلفة من ضباطها وجنودها الإنجليز والهنود بين قتلى وجرحى وأسرى ومفقودين، وكان العرب يعاملون الأسرى والجرحى بغاية الشفقة والحنان.
كان الملك فيصل قد خرج من سورية بعد موقعة ميسلون أو أثناءها طاعةً لأمر الحلفاء، وهو مبغوض من الفرنسويين ومحبوب من الإنجليز أو على الأقل والإنجليز يغضون عنه الطرف ويتمنون بقاءه في سورية، وإن كانوا في الظاهر قد اشتركوا مع فرنسا في التصريح باعتبار قرارات مؤتمر دمشق باطلة، ولكن السياسة الإنجليزية كعادتها تعمل بوجهين فكانت وزارة الخارجية تمالئ فرنسا في عدم الاعتراف بصحة اختيار فيصل ملكًا على سورية وبعض كبار الساسة البريطانيين يُوعزون إلى نوري السعيد باشا الذي أوفده فيصل ليجس نبض السياسة الأوروبية أن إنجلترا تعطف على حكومة دمشق وتنوي أن تمد لها يد المساعدة، وليس على هذا القول غبار بعد أن عركت إنجلترا بعض الأمراء وعجمت عوده وعرفته هادئًا وديعًا مطيعًا إبان تلك الثورة التي كان بطلها لورنس، وكان مثل هذا الأمير بلا ريب يكوِّن سدًّا منيعًا بمملكته بين إنجلترا وبين مطامع فرنسا في الشرق.
فلما برح فيصل دمشق على ما فصلناه في بضعة أماكن من هذا الكتاب، كان معه لفيف من حاشيته من أهل العراق وأهل سورية وبعضهم لا يزال معه حتى الآن ١٩٣١، ولكنهم في تلك الساعة كانوا الباشوات جعفر العسكري ونوري السعيد وعبد الرحمن شهبندر وساطع الحصري، وهو الذي ذكرنا خبر سفره إلى الأستانة بخصوص مسألة الحلف العربي في ربيع سنة ١٩٣١. وسافر فيصل إلى إيطاليا وسويسرا ولندن وتفاوض مع حكومتها في أمر توليه عرش العراق ما دامت مغامرة دمشق لم تفلح، ولا بد أن لورنس وأنصار لورنس لا سيما تشرشل الذي كان يعوِّل على لورنس كل التعويل وجورج لويد وهو صديق الاثنين قد بذلوا قصارى جهدهم في إبلاغ فيصل غاية ما يتمنى بعد إساءة كلمنصو إليه، فإن هذا الرجل رفض مقابلة فيصل واعتبره عدوًّا وخارجًا على حكومة الجمهورية.
ولكن هذه «الثُّلَّة» أو الكليك من الإنجليز الشبان الاستعماريين يعتبرون فيصلًا رجلهم الذي ساعدهم في ثورة العرب فلا يجوز أن يتخلوا عنه، وهم يعلمون أن إنجلترا قد نقضت عهودها لأبيه المنقذ الأعظم، وضربتان في رأس تشُجَّانها، فيكفي نقض العهود وضياع حلم دولة العرب المستقلة من حدود البحرين إلى المحيط الأطلنطي، وقد أسفر هذا الحلم عن كونه سرابًا.
كلمة جامعة للملك فيصل
وكانت الأسرة الشريفية قد اقتسمت ممالك العالم العربي، وكان الأمير عبد الله يتمنى عرش العباسيين ويطمع أن يجلس في موضع الرشيد والمأمون، وقد قويت الفكرة في رأسه بعد أن قنع فيصل بالشام، ولكن بعد زوال ملك الشام من يد الأسرة تغير المركز نوعًا ما فهل يليق تزاحم الأخين على عرش العراق؟
ولا سيما وأن الملك حسين يحب الأمير عبد الله ويفضله ويثق به ويكثر من استشارته، ولهذا كان من واجبات نوري السعيد باشا أن يكتب من مصر إلى حسين صاحب القبلة والنهضة بما جرى في لندن وأن يطلب موافقته وموافقة الأمير عبد الله على قبول فيصل عرش العراق، لأن فيصلًا وهو يعلم حلم أخيه ومكانة أخيه عند أبيهما صرح بأنه ليس في إمكانه أن يتقلد تاج المملكة العراقية ما لم يقترن ذلك بموافقة أبيه وأخيه.
ولما اطمأن نوري باشا من هذه الجهة أو كاد، سافر إلى بغداد ليقوم بدعاية واسعة النطاق لمصلحة الأمير أو الملك فيصل الذي صار في نظر القوم مواليًا للحلفاء بحيث يولُّونه أو يتولى من قبلهم الإمارة أو الملك الذي يرغبون (جمادى الأولى سنة ١٣٣٩).
وفي تلك المدة عقد في لندن مؤتمر اسمه مؤتمر شرق الأردن أرسل إليه فيصل احتجاجًا باسم أبيه وأسرته، وطلب فيه من الحلفاء أن يبروا بوعودهم وذكَّرهم بأن أباه خاض الحرب تنفيذًا للوعود والعهود، ولكن حلول عصر السلام خيب آمال العرب تخييبًا لم يذق مثله سواهم من الحلفاء، وأن العرب لم ينالوا الاستقلال بل «أضاعوا ما كان لهم من الوحدة النسبية لما كانوا تابعين للأستانة، وليس بين الاعتبارات الصحيحة ما يسوغ التفريق بين الولايات العربية …» وقد أصاب فيصل حفظه الله كبد الحقيقة ودلَّ على سمو الإدراك.
والمذكرة التي اقتطفنا منها هذه النبذة كُتبت في الظاهر باسم العرب والوحدة العربية ووعود الحلفاء لهم، ولكن حقيقتها ترمي إلى ترويج الدعوة عند الحلفاء لمصلحة الحكم والمبادرة بتعيين ملك على العراق، فهو أقل ما يمكن أن يرضى به العرب بعد أن خابت آمالهم وأقل نذر يعد وفاء ويقبل. وقد نالت المذكرة بغيتها وكانت ذات أثر بليغ في سير المداولات في القضية العراقية بصفة خاصة، وهذه المذكرة تعد في نظرنا عملًا سياسيًّا موفقًا لمصلحة الملك فيصل، ومثله كمثل من يقول: «أنت وعدتني بألف دينار وقصر وحديقة وكذا من الجياد، وأن ترد لي أملاكي المغتصبة وكذا وكذا، والآن وقد نكثت بوعدك وحنثت في يمينك فلا أقل من أن تعطيني القصر أو الحديقة.»
هذا كلام وجيه ولا يمكن لمغتصب مهما كان سيئ النية قاسي القلب أن يهمله، لأجل هذا عقد مؤتمر خطير في القاهرة في آذار سنة١٩٢١، ونحن نذكر أن تشرشل عندما وصل مصر أنزلوه في محطة شبرا وأدخلوه القاهرة خفية خوفًا عليه من الانزعاج بالمظاهرات، وكان تشرشل وزيرًا للمستعمرات في تلك السنة وكان مستشاره المقرب إليه لورنس صديق فيصل الحميم الذي صاحبه في ثورة العرب، وهو يعرفه معرفة جيدة ويحبه منذ التقيا في سنة ١٩١٦ على ما وصفناه في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد استُدعي سير برسي كوكس وجعفر باشا العسكري وساسون أفندي أحد وزراء العراق اليهود وميس جرترود بيل أفعى العراق العانس وجنرال أتكنسون وآخرون، وعقد هذا المؤتمر في فندق سميراميس وطرحت فيه مسألة العراق على بساط البحث، وهو المؤتمر الذي ذكره دكتور شهبندر في إحدى مقالاته على لورنس في مجلة المقتطف، وقال إن لورنس خدعه وأظهر له في أثنائه غير ما يبطن. وقد تم في هذا المؤتمر مشروع تمليك فيصل على العراق وإعلان العفو الشامل ونفي السيد طالب النقيب لأنه كان يطالب بالعرش أو يدَّعي أنه أحق من في العراق بالسيادة، وكان الإنجليز والعرب يخشون دسائسه، ولكن هذا العفو الشامل لم يكن ليشمل أمثال الشيخ ضاري الذي أمر ولده خميس وأتباعه بقتل الكولونيل ليتشمان.
وكان طالب النقيب قد أفسد على نفسه باتصاله بسير ويلسون اتصالًا أظهر اتفاقه مع الإنجليز على وطنه، وقد نُفي النقيب من العراق إلى الهند وأوروبا. أما الشيخ ضاري الذي استُثني من العفو العام هو وولداه خميس وسليمان وسرب وأسلوبي ولدا مجباس ودهان بن فرحان وكلهم من عشيرة الزَّوْبع، وتهمتهم قتل ليتشمان أو التحريض على قتله؛ فلم يقع منهم في قبضة الحكومة سوى الشيخ ضاري، فقد فر من العراق وجعلت الحكومة مكافأة كبيرة لمن يقبض عليه، فتعقبه أرمني صاحب سيارة وصار يتقرب إليه ويدَّعي الإخلاص له وينقله من مكان إلى مكان إلى أن ركب معه يومًا فساق به إلى بغداد وسلَّمه وقبض المكافأة، وبذلك أضاف صفحة جديدة لسجل أعمال بني جلدته الأرمن الذين جُبِلت نفوسهم على الغدر والخيانة وامتزجت دماؤهم باللؤم والدناءة وكراهية الإسلام والعرب والترك، وعاقبهم الله على ذلك بتبديد دولتهم وتشتت ملكهم وصاروا كاليهودي التائه في أنحاء العالم يربحون من أقبح الأعمال وأدنسها وأحطها ويُزجون في أعماق السجون لاقترافهم أنواع الجرائم التي ننزه القلم عنها، وكان الدور الذي مثلوه في تركيا ومصر وسوريا ولبنان وبلاد الفرس يدل على صدق فراسة السلطان عبد الحميد في طباعهم.
وقد وصل الشيخ ضاري إلى بغداد وهو في مرض الموت، ولكن الأطباء الإنجليز الشرعيين أصحاب الذمم الطاهرة قرروا قدرته على احتمال المحاكمة، وفعلًا حاكموه وحكموا عليه بالإعدام، وكان يوم تشييع جنازته يومًا خطيرًا في بغداد.
وجاءت الصحف بوصف المظاهرات التي لازمت المشهد والأناشيد التي كانت تُنْشد واسمها «هوسة» وفيها بعض عبارات الوعيد للندن، وهو وعيد لا يتلوه لحسن الحظ تنفيذ فأين بغداد من لندن؟!
ومما يلاحظ في هذه المسألة أن الإنجليز تعودوا أن يتساهلوا في إسداء العفو الشامل عقيب الثورات في البلاد المحتلة أو المغتصبة، ولكنهم لا يتساهلون في توقيع القصاص على من قتلوا فعلًا ضباطًا أو موظفين إنجليز مهما كلفهم ذلك من استمرار الخصومة أو الاشتهار بالقسوة.
وقد شاهدنا ذلك في حوادث ديروط في مصر سنة ١٩١٩ وفي العراق بشأن الشيخ ضاري الذي حرض على قتل ليتشمان وفي قضية جميل وحميد دبوني المتهمين بقتل بارلو وستيوارد في تل عفر وقاسم المويلي وبسبوس بن محاوبس وغيرهم، وكلهم متهمون بقتل ضباط إنجليز وثبتت عليهم التهمة. أما الأفراد الذين كانت لهم علاقة بتهم سياسية أخرى وكانوا معتقلين أو منفيين فإن الإنجليز شملوهم بعفو عام.
وحدث كذلك في الهند في سنة ١٩٣١، فإن الصلح الذي تم بين لورد إروين وبين غاندي كاد تنفصم عروته لتنفيذ الإنجليز عقوبة الإعدام في بهجت سنغ وآخر لثبوت تهمة قتل بعض ضباط الإنجليز عليهما، ولم يكن أحد في العالم يعرف مقدار بهجت سنغ في الهند حتى نفِّذ الحكم فيه فدوَّت التلغرافات بذكره وبوصف الهياج الذي حدث في الهند عقيب ذلك ونصوص الخطب العنيفة التي ألقيت ضد إروين وغاندي، وأنذر أحد الزعماء بأن جو التفاهم قد تعكر بين الهنود والإنجليز إلى الأبد ولن تعود المياه إلى مجاريها، وأقيمت مآتم وحفلات دينية وقومية في سائر أنحاء الهند تكريمًا لذكرى بهجت سنغ، ولكن الزوبعة مرت في النهاية.
وهذه المسألة تدل على أن الإنجليز يقدرون حياتهم حق قدرها ويجعلون لشخص البريطاني شأنًا فوق كل شأن، وعندهم أن من اعتدى على إنجليزي من الشعوب المحكومة لا بد أن يُعاقب بما يستحقه.
اجتماع مَلكين
نرجع إلى ما كنا بصدده بخصوص العراق فنقول في الوقت الذي نُفي فيه طالب النقيب من العراق عاد الأمير فيصل من إنجلترا ومر بمصر فأقام في القاهرة أيامًا ثم سافر إلى الحجاز، وكان وجوده في مصر جزءًا من الخطة المرسومة ففيها أذيع أولًا تفكير «العراق» في ترشيح الأمير لعرش بغداد، وكان الأمير إذا سئل في ذلك ارتسمت على فمه ابتسامة ذات معنى وأجاب أن بلوغه ذلك العرش يرجع إلى إرادة الله ومشيئة الشعب العراقي، وأن كلمة بريطانيا العظمى تقيدها، وكل هذا صحيح وكأنه كلام حكيم ماهر ينبئ بالمستقبل القريب. وكانت الخطوة الثانية انتقاله إلى الحجاز فوصل إلى وطنه وركب الهجين من جدة إلى مكة ليقدم بين يدي والده واجب الاحترام والطاعة البنوية، فنسي الولد غضب والده واستيقظت في صدر صاحب الجلالة الهاشمية عواطف الرحمة والحنان وأخذ بعض الأصدقاء والساسة العراقيين يطلبون بالبرق من الحسين أن يختار أحد أولاده لعرش العراق، ومن هؤلاء محمد مهدي صدر الدين وناجي السويدي والباجه جي وزين الدين. ومما هو جدير بالذكر أن كلًّا من جمعية العهد والحرس انضم في هذا الطلب، وقد وقع اختيار الحسين على نجله فيصل مع أن روح عبد الله كان معلقًا بالعراق، وذلك في عهد الأحلام العذبة أحلام الدولة العربية العظمى واقتسام تراث الدولة العثمانية بين الملك حسين وأولاده الأربعة.
فغادر فيصل الحجاز محفوفًا بوفد من أهل العراق كأنه عرس يُزف إلى عروس فيؤنسه في طريقه لفيف من الأهل والخلان، فاختار تشرشل ذلك الوقت المناسب وألقى خطابًا ذا شأن في البرلمان عن العراق ومستقبله، وهذا الخطاب خليط من الأسف على التفريط في الاستبداد بالعراق وحكمه حكمًا مطلقًا بواسطة حاكم عام، وتبرير لهذا التفريط بما سبق وقطعته إنجلترا للعرب من العهود والوعود، وفي الفقرة الأولى ترى روح تشرشل الاستعمارية ثم روح لورنس وتأثيره واعترافه باضطرار إنجلترا حيال ثورة ١٩٢٠ إلى تنصيب حاكم عربي على البلاد. وأراد أن يطمئن قلوب الذين يظنون فيصلًا كغيره من أمراء الشرق وحكامه الأتراك فقال: «من المحال السماح بعودة العراق أو أي قطر من الأقطار المحررة إلى سلطان الحكم السابق.»
وليعلم كل واحد جليًّا أن درجة رقي العراق تجعله غير صالح لإنشاء جمهورية، كما أن حكومة جلالته لا يمكن أن تتساهل فتقبل حاكمًا تركيًّا.
إن اتباع سياسة شريفية في العراق وفي عبر الأردن يؤثر حتمًا في علاقاتنا بأمراء العرب الآخرين، وكل مساعدة ودية نسديها لبعضهم تحتم عليهم مسالمة جيرانهم.
ونذكر في هذا الصدد أن جلالة الملك حسين قد أفصح مؤخرًا عن رغبته في فتح باب المفاوضة مع ابن سعود، فنرجو أنهما يتوصلان بذلك إلى اتفاق دائم بينهما، ولا مشاحَّة إننا نرغب في توطيد عرى الصداقة مع كلا الزعيمين.
والغريب أن المستر تشرشل لم يصف الأمير فيصل بصفة الملك، بل كان من أول الخطاب إلى آخره يعبر عنه بالحاكم (جريدة العراق عدد ١٢ شوال ١٣٣٩).
ودخل فيصل بعد عيد الفطر من سنة ١٣٣٩ بعشرين يومًا فاستقبلته استقبال الفاتحين، وألقى الزهاوي — شاعر السير برسي كوكس وغيره من الحكام — قصيدة بليغة مطلعها:
وعلى الرغم من قول تشرشل: «وليس في النية إكراه الشعب على قبول حاكم مخصوص، وستطلق الحرية التامة في البحث والإفصاح عن الرأي في أمر انتخاب الحاكم.»
إن حكومة جلالة الملك ترغب في أن تبين بوضوح كما سبق وتبين تكرارًا بأن ليس لها قصد أو رغبة ما في إكراه الشعب على قبول حاكم معين، بل الأمر بالعكس فإنها ترغب في وجود الحرية التامة في الاختيار وإبداء الرأي.
وكان الرأي في العراق منقسمًا فبعضهم يرغب في الجمهورية وبعضهم يرغب في حكم العراق بواسطة إنجلترا مباشرةً، وتطرف بعض أصحاب هذا الرأي فاقترح تعيين كوكس ملكًا عليهم.
وقال بعضهم بتعيين حاكم تركي تحت إشراف إنجلترا.
وكان السيد النقيب يرى نفسه أجدر الناس بتولي الحكم.
أما عن الرأي الجمهوري فقد رأينا صاحبه يقتل اغتيالًا والوزير الإنجليزي يصرح بأن العراق لا تصلح لهذا النظام.
نعلم بحركة حديثة العهد ترمي إلى طلب الاستمرار على الحكم البريطاني مباشرةً، وجُلُّ هذا التغير في موقف الشعب دليل ناصع على ثقته بالسير برسي كوكس ولكن لا أمل لنا أن نتمكن من الاستمرار على حمل التبعة مباشرةً.
أما السيد النقيب فقد أفسد على نفسه، فقد حاول نشر الدعوة لنفسه في العراق، ثم أَدَبَ مأدبة لبعض رجال الصحافة من الإنجليز وحضرها عدد من الوجهاء الوطنيين ورؤساء العشائر، وبعد أن دارت الكئوس وقف خطيبًا فقال ما معناه:
«إن في دار الانتداب من لا نحبهم، لأنهم يتدخلون في شئون الأمة التي لها الحق ولها وحدها أن تؤمِّر أو تملِّك عليها من تشاء، وقد صرحت حكومة الانتداب بأنها ستحترم إرادة الشعب العراقي ونحن نحترمها إذا فعلت … أما إذا أخلفت فها هنا عليها … ونظر إذ ذاك إلى رؤساء العشائر … عشرون ألف بندقية.»
وبعد المأدبة، دعت اللادي كوكس طالب النقيب للشاي وعند خروجه أركبوه سيارة سابقت الرياح حتى خرجت به عن حدود العراق وبات النقيب منفيًّا.
ولما كان تعيين أمير تركي غير ممكن لمخالفته لتقاليد بريطانيا فأصبحت الأمة العراقية المطلقة الحرية نظريًّا في اختيار من تشاء من الحكام مقيدة بانتخاب الأمير فيصل بعد أن سُدَّت في وجهها أبواب من عداه لا سيما وأن تشرشل وكوكس بعد أن وعدا خفيةً بأنه إذا تم انتخاب فيصل تعتقد حكومة جلالة الملك أن الشعب العراقي يكون قد وصل بذلك إلى حل ينطوي على أكبر الآمال في مستقبل سعيد لهذه البلاد، وهذا ما نتمناه للعراق ولجلالته.
تتويج الملك ونبأ المعاهدة
وكان تتويجه في ٢٣ أغسطس ١٩٢١، وبلغت نسبة منتخبيه على حسب ما قاله سير كوكس ٩٦ في المائة من السكان.
وإني لواثق بأن المعاهدة التي ستُعقد بيننا قريبًا ستمكنني من توثيق عرى المحالفة التي ارتبطنا بها أيام الحرب المظلمة، من القيام بتعهدي المقدس بافتتاح عهد سلام وإقبال مجيد للعراق.
لا أشك بأن المعاهدة التي ستعقد قريبًا بيننا ستؤكد صلات التحالف التي شيدتها في ميادين الحرب الضروس دماء الإنجليز والعرب، وستكون مؤسسة على دعائم لا تتزلزل.» والشعب في حماسته والأمة في ابتهاجها والصحف في اندفاعها والملك فيصل في فرحه ببلوغ أمنيته بعد سفره من سورية، فلم يدرك أحد أهمية هاتين البرقيتين ولعلهم أدركوا ولم يكترثوا، وظنوا أن الانتداب قد زال والاستقلال التام قد أُعلن، ولكن وزارة الخارجية في لندن لم تكن هائجة الأعصاب عند تبادل الرسالتين ولم تخطئ في تقديرها لدى اختيار زمان الإرسال ومكانه. لقد ارتبط الملكان والحكومتان، والملك فيصل يعلم مكانة إنجلترا وقوتها وبُعْد مراميها وهو يعلم بأمر مَن وبرضا مَن حُلَّت مسألة عرش العراق.
ولا يزال لغز المعاهدة معقدًا لا يُرجى له حل.
ففي السنة الأولى من الحكم الفيصلي بدأت المفاوضات لعقد المعاهدة وأرسلت إنجلترا الميجور يونج فحضر إلى بغداد، وفي أثناء المفاوضات التي هُدِّدت مرات عدة بالانقطاع هجم بعض رعايا ابن سعود من «الإخوان» على بعض عشائر العراق في أبو الغار وقتلت ونهبت كثيرًا، وانتهت هذه الحادثة باستقالة خمسة من وزراء العراق، وتمكن سير كوكس من تنفيذ خطته وحل مسألة الحدود وفقًا لسياسته بمؤتمر المحمرة، ثم أخذت العراق تفكر في تأليف حزب سياسي وطلبت ذلك من الحكومة فماطلتها ثم سمحت لها بتأسيس الحزب الوطني العراقي وغايته المحافظة على استقلال العراق ثم تأسس حزب النهضة والحزب الحر. وتقدم الحزب الوطني إلى الملك بمطالب ثلاثة، أولها: الكف عن التدخل الإنجليزي في إدارة الحكومة، وتأليف وزارة حرة، وتأجيل المفاوضة والمعاهدة إلى ما بعد تأليف المجلس التأسيسي.
وأوفد جلالة فيصل الأستاذ فهمي المدرس كبير أمنائه ليشرف على سماع الخطبة الوطنية، وكان الجمع حافلًا والزحام شديدًا وألقى الشيخ مهدي البصير خطبة الحزب الوطني وفيها المطالبة بتعيين وزارة حرة وعقد المجلس التأسيسي والوفاء للعراق بعهود الملك فيصل وكلام إنجلترا … وفي أثناء الزحام والخطاب جاء سير كوكس للتهنئة فتعذر عليه المرور وسط الزحام، ولَذَعَه أحد العوام بكلمة جارحة اعتبرها المندوب السامي صادرة من الاجتماع كله وموجهة إلى حكومته في ذلك اليوم السعيد وهو ذكرى عيد التتويج وطلب إقالة الأستاذ فهمي المدرس لشبهة أنه مسئول عن هذا الهياج.
وذهب ذلك الرجل الفاضل ضحية هذا الحادث مع أنه لم يفعل أكثر من طاعة أمر مولاه بحضور الاجتماع وسماع الخطاب، ولم تكن له يد في الاجتماع ولا في الكلمة المؤلمة التي جرحت عواطف سير برسي كوكس.
وعقيب ذلك مرض الملك فيصل بالزائدة الدودية واعتكف وتولى سير كوكس حكم العراق بالإرهاب فنفى وطرد من شاء من الزعماء وصادر الأحزاب السياسية، وشاع أن عرش العراق قد بات خاليًا بعد العملية الجراحية وتلا ذلك تعطيل بعض الصحف الحرة والقبض على أصحابها ونفي بعض الخطباء والرجال العموميين إلى جزيرة هنجام القاحلة في الخليج الفارسي، ثم أُفرج عنهم بعد بضعة أشهر وبعد أن وقَّعوا على قسم باتباع سياسة الملك فيصل ما عدا الشيخ مهدي البصير الذي تردد وكان آخر من وقع وقد وصف توقيعه بأنه «لطَّخ صورة العهد بإمضائه وهاجر هنجام».
خطة الاستعمار في الشرق واحدة
وهذه الحادثة السياسية التي انتهت بفشل القائمين بها تبين سياسة الإنجليز في الشرق الإسلامي وغير الإسلامي أفضل بيان، فإنه بعد الثورة المسلحة التي تركوها تأخذ شوطها حتى فنيت قوتها وشَالَتْ كفتها حيال ازدياد قوة الإنجليز ورجحان كفتهم؛ حولوا الحاكم العام الذي عاصر الثورة وأتوا بحاكم آخر هو السير كوكس وهو رجل قضى خمسًا وأربعين عامًا من عمره في الخليج الفارسي وجزيرة العرب والبصرة وبعض ناحيات العراق، ويفهم العربية ويعرف معقولية البلاد وأهلها وله اتصال بالأعيان والأذكياء والزعماء ورؤساء العشائر، وهذا الرجل يكاد يكون مُلك العراق قد عُرض عليه فأبى، ولكنه نصح للإنجليز أن يجعلوا عليه ملكًا عربيًّا، وهو يظهر اللين تارةً والشدة طورًا، وقد وعد أهل العراق باسم حكومته بالحرية والاستقلال والمجلس التأسيسي والبرلمان والشعب العراقي يصدق ويؤمن حتى ظنوا أن الانتداب قد زال وأن الاستقلال قد حل، ولكن الوعود لم تُنْجز فألَّفوا الأحزاب وكتبوا في الصحف وعقدوا الاجتماعات — صمامة الأمان — فلما زاد الغليان أظهر سير كوكس يده القاتمة واختفى الملك بفعل الزائدة الدودية واستقالت الوزارة وأعلن كوكس أنه انفرد للأسف بحكم العراق. لو غيرنا الأسماء والتواريخ لانطبقت هذه الخطة بعينها على أي بلد وأي قطر من أقطار الشرق، فإنه بعد الثورة المسلحة تتطلع الأمة للعمل السياسي فتؤلف الأحزاب وتنشئ الصحف وتكتب المقالات وتذيع الاحتجاجات، فتمد إنجلترا يدها بهدوء وهي جالسة على «شيزلونج» وتغلق باب الأحزاب وتعطل الصحف وتلتقط بعض الرجال لتسجنهم أو تنفيهم ولا تعيدهم إلا بعد أخذ العهود والوعود بأن لا يعودوا إلى ما كانوا عليه من المطالبة بالوفاء … ويستريح دماغ إنجلترا بعد ذلك بضع سنين، فإذا عادت الحركة من جديد عادت ومدت يدها، وهكذا.
وفي تلك الفترة أي بعد هدوء عاصفة الأحزاب قام أحمد باشا الصانع وعبد اللطيف باشا المنديل وناجي بك السويدي بطلب انفصال ولاية البصرة عن ولايتي الموصل وبغداد وإلحاق البصرة بالهند وقدموا بذلك مذكرة للسير كوكس.
والإنجليز ينظرون من زمن طويل إلى البصرة بعين الشراهة والاغتصاب، لأنها رأس الخليج الفارسي ورأس العراق، وقد فصلنا أهمية الخليج الفارسي في نظر السياسة الإنجليزية ولهم فيها تاريخ حافل بالدسائس، ولم يستميلوا جانب خزعل ومبارك الصباح إلا لأجل الاستيلاء على البصرة، وكانت الفكرة تجول في صدر تشرشل فأشار إليها في خطبة البرلمان التي جعلها مفتاحًا لسياسة إنجلترا في العراق قُبَيْل تتويج فيصل بأيام، حيث قال: «وكذلك قد طلب البعض فصل البصرة عن العراق ووضعها تحت إدارة بريطانية تامة، ولا نرى أن هذا الأمر أيضًا ممكن لأنه يخالف مصلحة الحكومة الوطنية إجمالًا.»
وكانت هذه الحركة الانفصالية بلا ريب حركة تهديدية أوعزت بها دار الانتداب لتخويف أحرار العراق، كما أن هجوم الوهابيين كان المقصود به إرهاب القبائل العراقية من الإخوان، ولكن هذين الحادثين لم يَفُتَّا في عضد العراقيين المطالبين بالاستقلال وإلغاء الانتداب.
وقد أُمضيت المعاهدة في ١٠ تشرين ١٩٢٢، والمعاهدة يمكن تلخيصها في كلمتين وهما: «إن إنجلترا تمد حكومة العراق بالمال والسلاح والمساعدة الفنية والنصيحة الحسنة في الإدارة، وفي مقابل ذلك تقبل العراق نصيحة إنجلترا وتطيع أوامرها» وبعبارة أخرى تستقل العراق عن كل دولة في العالم ما عدا إنجلترا، وهذه بعينها كانت سياسة الاحتلال في مصر.
واللذان وقعا على المعاهدة هما سير زكريا كوكس المعتمد السامي وسير عبد الرحمن النقيب رئيس وزراء العراق، وهي في ثمانية عشر بندًا.
وصدر الأمر بالانتخابات ووُضع قانون مجلس التأسيس الذي تألف من مائة نائب، ودعت الحكومة أهالي العراق لقيد أسمائهم في دفاتر الانتخاب فقام علماء النجف والكاظمية وأفتوا بمقاطعة الانتخابات وعلقوا دخول الانتخابات على شروط، منها إلغاء الحكم العرفي وإطلاق حرية الاجتماع والنشر وعقد الجمعيات السياسية، فلم تذعن الحكومة لهذه الشروط، وكذلك لم تُقبل الأمة على الانتخاب، وضاقت الحكومة ذرعًا بالحال فاستقالت وزارة النقيب وتألفت وزارة عبد المحسن السعدون فنشر هذا الوزير منهاج وزارته وهو منهاج حر، ولكن قول الوزارة أكثر من فعالها فاستمرت حركة المقاطعة لا سيما وأن الحكومة لم تسحب المستشارين الفنيين من الألوية ولم تستدعهم إلى بغداد، فسنت الحكومة نظام التفتيش الإداري ولكن هذا لم يغير شيئًا من نظام الإدارة في الألوية.
ثم حُدِّد زمن المعاهدة بدلًا من عشرين سنة كنص البند ١٨ بدخول العراق في عصبة الأمم (٣ أيار ١٩٢٣) أو على أثر انتهاء أربع سنين تبدأ من تاريخ إبرام الصلح مع تركيا وأخذت الحكومة تستعطف رؤساء العشائر في دخول الانتخاب فأبوْا فنفت بعضهم.
وفي ربيع سنة ١٩٢٤ أيقنت الحكومة الإنجليزية أن سير زكريا قد أتى غاية جهده، وأنه وإن لم يوفق في نهاية الأمر إلى ما كان يظن أنه ناجح فيه فقد كفاه فخرًا أنه ألف حكومة مؤقتة ونُصِّب لعهده على العراق ملك، وعقد المعاهدة بين الحكومتين … وحل محله دوبس وهو أضيق من ناب عن الإنجليز في العراق عطنًا، وقد ضايق كل من احتكَّ به من الملك فنازلًا.
أما أهل العراق فقد أكرموا زكريا كوكس عند سفره كعادتهم وأهدوا إليه تمثالًا لمنارة السيدة زبيدة من الذهب الخالص ونخلة من الفضة عليها تسعة عذوق من الذهب إشارة إلى السنوات التسع التي عالج أثناءها شئون العراق.
أما دوبس فقد خدم هو أيضًا في الهند من سنة ١٨٩٦ وتنقَّل بين ميسور وإيران وسيستان وبلوخستان وهيرات.
اعتراف أهل العراق بالجميل لسير زكريا
وفي عهد دوبس انشقت الأحزاب على بعضها ودخل بعضها في الانتخاب وتنحى البعض الآخر وممن قاطعوه الحزب الحر العراقي. وفي تلك الفترة وبينا تذيع وزارة السعدون عزمها على تعيين موعد لانتخاب النواب فاجأتها أزمة قضت بسقوطها ولعلها أسباب مالية. وحل جعفر العسكري محل السعدون ونشر جعفر باشا برنامجًا ضخمًا ولكنه تقليدي ويصعب تنفيذه ولم توفق الوزارة إلى تنفيذ أكثر من أربعة شروط، أهمها تنفيذ المعاهدة الإنجليزية العراقية فيما يختص بالموظفين الإنجليز بالعراق وانتخاب أعضاء مجلس التأسيس والاتفاقية العسكرية والاتفاقية العدلية المتعلقة بحقوق رعايا الدول الأجنبية.