الفصل الرابع والعشرون

العرب والعراق والمندوبون الساميون وجلالة الملك فيصل

حكم العراق من عهد العباسيين

خفق العلم العثماني على بلاد العراق من أواسط القرن الحادي عشر الهجري (حوالي ١٠٥٠ھ) مذ استردها السلطان مراد الرابع من دولة العجم، وما زال خافقًا من أعلى الموصل شمالًا إلى الخليج الفارسي جنوبًا ثلاثة قرون حتى أنزلته يد الحلفاء المحاربين للدولة والجنود المرتزقة الذين أعانوهم من عرب الجزيرة وغيرهم.

وفي خلال تلك الأعوام الثلاثمائة حكم الأتراك بلاد العراق تارةً حكمًا عسكريًّا وطورًا حكمًا مدنيًّا، وكان من حسن حظ البلاد أن استُعمل عليها مدحت باشا، ولولا إصلاح هذا الرجل ما كان في البلاد شيء يُذكر فقد أَنْبَت جماعة من المنوَّرين في بغداد الذين يعدون خميرة الإصلاح والحياة القومية.

لقد شقي العراق من عهد العباسيين الأخير ومضى عليه أكثر من سبعة قرون في انحطاط وخراب، ولم يستطع الأتراك في الثلاثة قرون الأخيرة أن يعيدوا إليه مجده أو حياته لأسباب يطول شرحها، ولكنه بلا ريب أكثر بلاد الإسلام تماسكًا وأخلاق أهله أقل أخلاق أهل الشرق الإسلامي تدهورًا، فيه ضعف وملاينة وتساهل في الحقوق ولكن ليس فيه جبن ونفاق وخيانة على الصورة المخزية التي نراها في بلاد الشرق الأخرى، وذلك لأن عصبية العرب وحياة القبائل وتضامن الطبقات لا تزال مصدرًا لقوته أمام الأجنبي. نعم، فيه انشقاق الشيعة والسنة، وفيه مبدأ «التقية» المذموم، ولكن الشيعيين أظهروا أنفسهم على أكبر نصيب من الشجاعة وحب الوطن والإخلاص له وقد انضموا إلى أهل السنة في النزاع القومي وقاموا بنصيب وافر من الكفاح الوطني، وكانوا أشبه الناس في نهضة العراق بالدروز في ثورة سورية من حيث الثبات والتمسك بالمبادئ، وكان منهم زعماء يكادون يقودون الحركة بأسرها، وقد ضحَّوْا بكل شيء في سبيل نصرة القضية العراقية.

وللأسف كانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وهذا من علائم الانحلال، نهبًا بين العنصرين العربي والتركي، وقد ظهر هذا الانقسام في جميع أنحائها، وقد شهدت هذا الانقسام على أشده في سنة ١٩١٠ وسنة ١٩١١ في الأستانة، فكان العربي يريد أن يزاحم التركي على مناصب الحكم ويريد التركي أن يسيطر على الجيش والسياسة والإدارة ويكون العنصر السائد على جميع العناصر التي تتكون منها السلطنة.

وكان شبان الترك لا يحترمون العرب، وأول من لفت الأنظار لهذا الأمر ع. ع. بك المصري (وهو الآن مقيم بأحد بلاد القطر المصري)، فقد وصفه الاتحاديون بأنه مصدر الفكرة العربية في الجيش، وكان «ع» بك ذا مكانة سامية بين العرب والترك ولكنه كان بعد ظهور الدستور العثماني يبث فكرة الثورة وإشعال نارها في جزيرة العرب، وغايتها إنشاء دولة عربية في مكة يُقَلَّد صولجانها وتاجها للأسرة الشريفية (الحسين بن علي وأولاده)، وذلك لمقاومة فكرة الاتحاديين التي ترمي لسيادة العنصر التركي في أنحاء الدولة، وأسس العرب بإرشاد «ع» بك جمعية الإخاء العربي في سنة ١٣٢٦ وكانت جمعية رسمية سياسية، ولكن كان وراءها جمعيات سرية كثيرة.

وهذه الجمعية لم تقم بعمل يُذكر للدولة ولا لأعضائها ولكنها حُلَّت وأُعدم رئيسها الصوري شفيق بك المؤيد، الذي رأيناه في الأستانة سنة ١٩١٠ وكان من أعضاء مجلس الأعيان، وتألفت بعدها الجمعية القحطانية في ١٩٠٩ وترأسها حمادة باشا. وهاتان الجمعيتان اللتان ربما كانتا حسنتي النية نحو الدولة قد سبَّبتا ظهور جمعيات أخرى أثبتت خيانتها ومنها حزب اللامركزية الإدارية العثماني، وانتشر منهاج هذا الحزب في الأقطار العربية بسرعة البرق وذلك بفعل الدعاية الاستعمارية، لأن بعض هؤلاء الأعضاء الذين ادَّعَوْا حب العرب وإحياء مجد العرب كانوا جميعًا متصلين بالسلطات الإنجليزية في الشرق وفي أوروبا.

فقد قامت في البصرة جمعية على هذا النمط تحت رئاسة طالب النقيب بك وهو وجميع أسرته مشهورون بممالأة السياسة الإنجليزية في الشرق العربي.

ومن أعمال حزب اللامركزية المؤتمرُ العربيُّ الأول الذي عُقد في باريس سنة ١٩١٣ الذي كان رئيسه المسكين عبد الحميد الزهراوي وقد أُعدم هو أيضًا. وكان للحزب وللمؤتمر قرارات ترمي إلى تفكيك أجزاء الدولة وتؤدي إلى الحكم الذاتي وتشتيت شمل الإمبراطورية العثمانية بغير حرب ولا قتال، وهذا ما كان يرمي إليه المستعمرون، وقد أسهبنا القول على مؤتمر باريس في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد اتصل طالب النقيب من البصرة بمؤتمر باريس ووافق على قراراته، و«تشرف» رئيس المؤتمر وبعض أعضائه بمقابلة وزير خارجية فرنسا وإبلاغها القرارات وتوسلوا إليها في أن تساعدهم وأفصحوا عن ميولهم نحو فرنسا وطلب حكمها في بلاد سورية، وكانت وزارة خارجية إنجلترا ووزارة خارجية فرنسا على علم بما يجري وعلى اتصال بالأعضاء، وهذه هي الأسباب التي دعت الأتراك للحكم على بعض هؤلاء الناس بالإعدام فقد اقترفوا جناية الخيانة العظمى نحو حكومتهم ووطنهم.

الحركة العربية خدمةً للاستعمار

كان الحلفاء قبل الحرب ولا سيما من سنة ١٩١١ إلى أوائل سنة ١٩١٤ يعتقدون بحدوث حرب عظمى في أوروبا وينتظرون أن تنضم تركيا إلى ألمانيا، وكانوا يعلمون قوة الأتراك الحربية لا سيما إذا وجدوا مدربين من الألمان، ولهذا أخذوا يعملون بشدة في سبيل تفكيك روابط الألفة بين الترك والعرب حتى يدب الفشل في عناصر الدولة فإذا جاءت الحرب يكون العرب قد خرجوا على الدولة، فلجئوا إلى الطرق السياسية بشراء ذمم بعض الخونة الذين لبسوا ثياب النعرة العربية، ووحدة العرب، والدولة العربية المستقلة، ومبدأ العروبة وغير ذلك من التُّرَّهات، وأنفقوا عليهم الأموال الطائلة وجعلوهم في كل مكان في الشرق والغرب، ومعظمهم من السوريين المسلمين وغيرهم لأنهم أقدر الناس على العمل في مثل هذه الدسائس وأَشْرَهُ خلق الله في حب المال، ولم يَفُتْ هؤلاء الخونة أن يستروا مقاصدهم الحقيقية بثوب الرياء السياسي فجعلوا للبرنامج أسلوبًا خلابًا يرمي إلى تبديد أوصال الدولة العثمانية فإنهم لم يطالبوا فقط بحكم ذاتي لا مركزي للعرب، بل طالبوا بمثله لكل العناصر التي تتألف منها الدولة، فقد جاء في المادة الثانية:

القصد من تأليف هذا الحزب بيان محسِّنات الإدارة اللامركزية في السلطنة العثمانية للشعب العثماني المؤلَّف من عناصر ذات أجناس ولغات وأديان وعادات مختلفة، والمطالبة بكل الوسائل المشروعة بحكومة تؤسَّس على قواعد اللامركزية الإدارية في جميع ولايات الدولة العثمانية.

ولما كان المريب يكاد يقول خذوني، وكانت هذه الطُّغْمة تعلم أن الحزب مظهر كاذب لأعمال سرية خطيرة، فقد جاء في المادة الثانية ما ينفي تهمة لم يوجهها إليهم أحدٌ غير ضمائرهم:

ليس هذا الحزب خفيًّا وليس فيه ما يعد من الأسرار، فهو ينشر مقصده المبني على المطالبة باللامركزية الواسعة جهرًا وعلانيةً دون الخشية من أحد (؟!) لاعتقاده يقينًا أن الدولة لا تبقى في العالم السياسي إلا إذا بُنيت حكومتها على أساس اللامركزية الإدارية.

وكان «ع» بك قد أسس جمعية العهد التي تعد أكبر حزب عربي عسكري ألفه ضباط العرب في الجيش العثماني لإصلاح أحوال العرب السياسية والاجتماعية، و«ع» بك مؤسس هذا الحزب بطل من أبطال الجيش العثماني ويسمى بطل برقة، وقد أبلى بلاءً حسنًا في مقدونيا وألبانيا وبلاد البلغار وفي طرابلس حيث انتصر في ١٦ يوليو سنة ١٩١١ في موقعة «كان»، ولما عاد إلى طرابلس اعتقلوه برهة قصيرة وذلك في سنة ١٩١٤ وحاكموه عسكريًّا ثم أُفرج عنه بناء على وساطة الخديو عباس وتدخل سفير إنجلترا في الأستانة إكرامًا لأسرة «ع» بك، وقد اتهموه بالرغبة في تأسيس دولة عربية في طرابلس يتولى هو سيادتها.

وقد أذيعت عبارات كثيرة في أثناء الاعتقال والمحاكمة كانت يُشْتَمُّ منها التحامل لأنه يحوم حولها، ولكن لم تثبت على الرجل تهمة معينة كما هي عادة الزعماء أهل الذكاء والحذر، فقد قيل عنه إن فكرته تناقض المصلحة العثمانية فقد سعى وهو في طرابلس الغرب في بث الفكرة العربية بين الأهلين وفي إنشاء دولة عربية مستقلة يتولى إدارة شئونها وكاد ينجح لولا معارضة بعض ضباط الترك، وقيل إنه اجتمع بالإيطاليين أثناء الحرب (حرب طرابلس) اجتماعًا مهمًّا ولكن لم يعرف أحد ما دار في هذا الاجتماع من الكلام، وقيل إنه عدو لأنور ولتركيا، وقيل إنه اتفق مع الإمام يحيى على ضم اليمن إلى مصر وكان يسعى وهو في بنغازي إلى تنفيذ هذه الفكرة وجعل بنغازي واليمن دولة عربية واحدة، وقال آخر إن الإيطاليين دفعوا له مالًا كبيرًا وإنه اتصل بخديو مصر واتفق معه على خطة لمصلحة الطليان، وقيل إنه احتفظ بثلاثين ألف ليرة من أموال الحكومة سلمها إليه أنور باشا. وقد حكم على «ع» بك بالإعدام ولم يثبت مطلقًا أنه اختلس مالًا أو خان الوطن لمصلحة الطليان، ولكن أنور — رحمه الله — أظهر شَمَمًا في قبول وساطة إنجلترا والخديو في حق صديقه القديم فأطلق سراحه وعاد البيك إلى مصر، ولما قامت الثورة العربية في الحجاز في سنة ١٩١٧ تولى قيادة جيوشها وقتًا قصيرًا، وسافر إلى بلاد الأفغان وبلاد الفرس وحاول تنظيم الجيوش هناك ولكن إقامته لم تطل وعاد إلى مصر، وبقي مدة طويلة في راحة واعتزال إلى أن اختير لرياسة عمل مفيد، وليس ع. ي. بك ضابطًا شجاعًا حاذقًا فقط بل هو من ذوي الرءوس المدبرة في السياسة فقد أسس جمعية العهد كما أسلفنا وجعلها جمعية سرية وغايتها السعي وراء الاستقلال الداخلي للبلاد العربية على أن تكون متحدة مع حكومة الأستانة اتحادَ المجر مع النمسا، وهو يرى ضرورة بقاء الخلافة الإسلامية في ملوك العثمانيين والاحتفاظ بالقسطنطينية.

وكان حزب اللامركزية مصادقًا لحزب العهد ثم حصل بينهما شقاق، وسبب ذلك قبول عبد الحميد الزهراوي منصبه بمجلس الأعيان بعد أن أنذره «ع» بك برفضه، وقد وصف البيك صديقه الزهراوي بإحدى خلتين البَلَه والسَّذاجة أو الخيانة، والأولى في نظرنا أصح وذلك لأن الزهراوي ومن كانوا على شاكلته قبلوا إصلاحات تافهة لا تكفل سوى المنافع الذاتية لأشخاصهم.

وكان الترك في أثناء انعقاد المؤتمر العربي بباريس قد استدرجوا الزهراوي واستمالوه وصالحوه فقبل وعودهم وعاد إلى الأستانة (بعد أن تورط مع فرنسا وإنجلترا) وقبل المنصب المشار إليه فأغضب الناحيتين، وكان هذا محض بَلَه وسُخْف منه، لأنه — رحمه الله — لم يكن سياسيًّا ولا مفكرًا.

وكان في مصر رفيق العظم وأحد أصحاب المجلات الدينية الإسلامية وهو سوري مسلم، وكان في البصرة طالب النقيب مطالبًا بالإصلاح على شاكلة هؤلاء، وله علاقة متينة بقنصل إنجلترا في البصرة فسهل في سنة ١٩١٩ لقنصل المحمرة الإنجليزي وقنصل بندر بوشهر الإنجليز التوغُّل سرًّا بين الفاو والسبيليان ووضعا خريطة لسياحتهما، وأراد أن يسمح لضباط إنجليز بمثلها في «قرمه علي» فلم يفلح.

وكان كل فريق من هؤلاء المطالبين بالإصلاح واللامركزية والثورة العربية سواء كانوا في مصر أو في سورية أو في بغداد أو في البصرة يظهر بمظاهر تخالف الحقيقة، فإن بذخهم وإسرافهم كانا يدلان على اتصالهم بمصادر غنية تنفق الذهب جزافًا ومن غير حساب، فكنت ترى بعض هؤلاء من المقيمين في مصر يقتنون الأملاك وليس لهم مصادر ثروة معروفة وتراهم أبدًا يعملون في الخفاء وفي غموض يشبه أحوال المتآمرين وهم أبدًا في انتقال بين ممالك الشرق، وتراهم إذا كتبوا لم يقصدوا إلا الدفاع عن فكرة الاستعمار ولكنهم يحاولون إخفاء فكرتهم، ولم يتصلوا بأحد من ذوي النفوذ والجاه إلا وابتزوا منه الأموال باسم الدين أو باسم الإصلاح. وكان أحدهم وهو المقيم في البصرة يكثر من الاجتماع بخزعل ومبارك الصباح وهما ثعبانان من ثعابين الشرق العتيقة السامة، وقد قضى أحدهما بعد أن لدغ الإسلام وكان على وشك أن يقضي عليه ابن سعود وقد تربى في حجره في خبر يطول شرحه، ولا يزال الثاني أسيرًا في قبضة الفرس. وكما فاز الترك في استدراج الزهراوي لقاء منصب مجلس الأعيان كذلك فازوا بفضل دهاء المغفور له المرحوم طلعت باشا في إسكات طالب النقيب، فأعلن في ٧ ربيع أول سنة ١٣٣٢ أنه تنازل عن مطالبته بالإصلاح «وصرنا مع الحكومة السنية العثمانية كتلة واحدة نعمل على سعادة دولتنا الأبدية ونسعى في المحافظة على وحدتنا العثمانية بكل قوانا حتى لا يبقى منا فرد واحد» …

من تونزند إلى مود

ولما أعلنت الحرب العظمى كان طالب النقيب أول من فر من السلطة العسكرية العثمانية فحج وقصد نجدًا ثم نُفِي إلى الهند.

ولما اشتعلت نار الحرب بالعراق احتلت إنجلترا البصرة بمعونة مبارك الصباح وخزعل وخيانتهما التي لا شك فيها، ولكنها هزمت في موقعة الإيوان وسلمت كوت الإمارة ووقع تونزند أسيرًا في يد الجيوش العثمانية، وقد ألف كتابًا ضخمًا في خواطره في حوادث تلك الحرب، وقد حاول فيها تبرير مسلكه الحربي واتباعه قواعد الحرب الفنية مقتديًا بآراء نابوليون ولدندورف والكتاب مترجم إلى العربية ومطبوع في بغداد، وقد مات تونزند بعد ذلك، قيل من شدة الحزن والندم، ولأم المخطئ الهبل. وفي ١١ آذار ١٩١٧ سقطت بغداد في أيدي الجنرال مود الذي ذهب ضحية مروءته، لأنه دُعي إلى خيمة أحد شيوخ القبائل وحذروه من شرب القهوة لانتشار الوباء فعزَّ عليه أن يأبى كرامة العربي وشرب قهوته وهو يعلم أن فيها الموت الزؤام، ومرض ومات فعلًا بعد ذلك ببضعة أيام فأقاموا له في عاصمة العباسيين تمثالًا! وقد اتبع مود بعد دخول بغداد ما اتبعه كل غزاة الإنجليز من تخدير الأعصاب فنشر منشورًا مثل الذي نشره الجنرال ولزلي الإنجليزي الذي دخل مصر فكلاهما جاء البلاد منقذًا محررًا لا غازيًا ولا فاتحًا، وما ذلك إلا ليأمنوا عاقبة هياج الشعب المغلوب. حتى إذا بردت تلك الهمة وأُطْفئت نار النخوة التي تتأجج في صدور الشعب المغلوب، أظهروا لنا إن كانوا جاءوا منقذين ومحررين أم غزاة وفاتحين وسالبين ومغتصبين أم أصدقاء كرماء وحلفاء يستحقون المُصَافاة والوفاء.

عمل مود عمله، وحل محله ويلسون الذي أراد تنفيذ فكرة المجالس البلدية، وهو أشبه الناس باللورد دوفرين الذي جاء مصر بعد موقعة التل الكبير مباشرةً ووضع دستورًا يقوم على إيجاد المجالس البلدية ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولكن مود الذي كان قائدًا مَجْدُودًا في الحرب لم يكن هو الآخر إلا منفذًا لخطة مرسومة، فإنه أخذ يذكِّر أهل العراق بمظالم الأتراك (إحنا في إيه ولَّا في إيه؟!) فذكَّرهم بهولاكو الذي هزم الدولة العباسية وخرَّب القصور والحدائق والحقول وقتل الناس وأغرق الكتب (تلميح إلى أن احمدوا الله على أننا لم نفعل فعله)، وذكر لهم وعود مدحت بالإصلاح وعجزه عن الوفاء وبشَّر العراق بالارتباط بدولة جلالة جورج الخامس، ولم ينس في هذا المنشور أن يذكر جلالة الحسين بن علي الذي طرد الترك والألمان من الجزيرة.

«وإن بريطانيا العظمى مصممة هي وحلفاؤها العظام على أن لا يذهب ما قاساه هؤلاء الأعراب الشرفاء هباءً منثورًا …»

وقد جاءت حوادث التاريخ اللاحقة بما يدل على مكانة هذا الوعد من الصدق والوفاء أو ضدهما.

ولم يقصِّر الإنجليز في إيهام العراق بما أوهموا به كل الممالك العربية من أنهم والحلفاء يحاربون لتحرير الشعوب المستضعفة ولتشجيع تلك الأمم التي كانت تحكمها تركيا بالظلم والاستبداد في إنشاء حكومات وإدارات وطنية في كلٍّ من سورية والعراق وفي الأقطار العربية التي يسعى الحلفاء في تحريرها والاعتراف بهذه الأقطار بمجرد تأسيس حكوماتها تأسيسًا فعليًّا. (راجع جريدة العرب عدد ١٤٠).

وبدأ الإنجليز يحكمون العراق بموظفين ملكيين جعلوا البلاد على عادتهم ميدانًا للتجارب الحكومية، لأنهم لا يعرفون الشعب الذي قُدِّر لهم أن يحكموه ويستفيدون يومًا فيومًا أمورًا جديدة. ومثل ذلك حدث في الهند وفي مصر وفي السودان، فالإنجليز يعتقدون أن الفرد منهم قادر على كل شيء وقليل من التعليمات وكثير من الاختبار الشخصي يكفيانه لحكم العالم، وذلك بفضل الغرور والكبرياء وفكرة الترفع عن الشعوب المحكومة والوقوف منها بموقف الأرباب والآلهة، وكان من نتائج تلك الحال أن الشعب العراقي لم يَقْنَع بفكرة المجالس البلدية التي أدرك أنها حيلة وقتية. وبدأ الإنجليز يصادرون حرية الفكر والقول والكتابة في الصحف، وقربت الحكومة إلى حظيرتها جماعة الأعيان الذين يشبهون باشوات مصر وجعلتهم المرجع الأعلى في حكم الأمة، وهم أرباب مصالح تتنافى مع الوطنية وكلهم أهل تزلُّف وتمليق حتى إن سبعة من هؤلاء الأشراف والأعيان اجتمعوا وقرروا طلب تعيين السير برسي كوكس ملكًا على العراق مع إعلان حماية بريطانيا عليه.

ثورة العراق في رأي جرترود بل

كان العراق يعاني ما يعاني في الداخل وهو متصل بالأقطار العربية اتصالًا فعليًّا سواءً بالصحافة أو بالأخبار المنقولة في البريد والبرق، فعلم بما جرى في سورية وفي مصر وتأثر العراقيون بالثورة المصرية تأثرًا شديدًا، وما زالت مراجل الوطنية تغلي فيه حتى هب بثورته. وكان في العراق امرأة إنجليزية اسمها الآنسة جرترود بل وصفها بعضهم بأنها أفعى العراق وقد قضت نحبها منذ بضع سنين، كانت هذه المرأة المسترجلة كاتبة أسرار المندوب السامي وتعمل عمل الرجال وتكاد لا تعد امرأة، وكانت رئيسة القلم الشرقي في دار الانتداب وكانت عالمة نشيطة حصيفة وفيها نزعة إلى الشرق والعرب تغلبت على كل مطامعها وأمانيها، جاءت إلى الشرق طالبة علم وسائحة فآخت العربان مثل ما فعلت قبلها لادي ستانهوب، ولكن اختلاف الأجيال والأزمان يغير الأوضاع. وقد حطَّت رحالها في بغداد فكانت معينة لرجال الحرب والسياسة، وكانت تعلم عن العراق ما لا يعلمه سواها، وهي تجيد الكلام بالعربية ويغلب عليها الميل السياسي وهي تعتمد على عقلها ومنطقها، وطريقتها في الإيقاع بالزعماء طريقة ماكياڤيلية قديمة وذلك أنها تقدم الهدية فإذا رُفضت الهدية قدمت السجل وفيه تاريخ حياتك منذ دَبَبْت ودَرَجْت إلى يومنا هذا! وفي هذا من التهديد والبطش ما فيه.

تقول ميس جرترود بل إن الثورة العراقية ترجع إلى أسباب عدة، منها: وعود الحلفاء، وقيام الحكومة العربية في سورية، ووعود ويلسون، والثورة المصرية.

وأراد جمهور العراقيين في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وفيهم المفكرون وعلماء الدين أن ينشئوا حكومة عربية مستقلة يرأسها أحد أنجال الملك حسين وكان الأمير عبد الله هو المقصود بالذات، وبدأ العراقيون يرفعون العرائض ويصدرون الفتاوى وبدأ الإنجليز يعتقلون بعض الأحرار وينفون البعض الآخر. ومن هؤلاء جماعة لم تنطلِ عليهم حيلة المجالس البلدية، لأن هذه الحيلة تنطوي على ما هو أشد فتكًا بالحرية فإن الإنجليز يلحقونها بنظرية إعداد الأمم للحكم الذاتي وأن البلاد في حاجة إلى رجال من ذوي الخبرة والمعونة من الأجانب، ويحتاجون إلى زمن طويل لتدريب الوطنيين على أصول الإدارة الحديثة، والمعلوم لدى الشعوب المستقلة أن الحصول على الاستقلال التام والحكم النيابي منوط بتربية الشعب وتدرجه في مراقي الحكم الذاتي والاستقلال الإداري.

وهذا يا عمُّ أمور يطول شرحها وقد عاناها أهل الهند وأهل مصر.

وقد تأسست جمعية العهد العراقي وكان ياسين باشا الهاشمي يدير دفتها لمدة عام، وياسين باشا يعد من أبطال الشرق العربي وقد يعد بحق زعيم العراق، وكان تارةً في الحكم وطورًا في المعارضة، وقد ألَّف في سنة ١٩٣١ حزب الإخاء لمعارضة وزارة نوري السعيد باشا واستقال من عضوية مجلس النواب مع لفيف من أنصاره ليحرج مركز الحكومة. وقد تخرج في المدارس الحربية العثمانية واشترك في الحرب العظمى وأبلى فيها بلاءً حسنًا، وكان يجهر بآرائه ضد الانتداب، فدعته يومًا زوجة أحد قواد الإنجليز إلى حفلة شاي ومن هناك ساقوه إلى المنفى في فلسطين، أي إنهم خطفوه غدرًا باسم دعوة من سيدة، فأقيمت المظاهرات في دمشق ورُفعت الاحتجاجات إلى بلاد الإنجليز وانتهى الأمر بإطلاقه فاستُقبل استقبالًا فخمًا، وقد تولى الوزارة في بغداد مرات بعضها رئيسًا وبعضها وزيرًا، وهو بلا ريب من أكبر رجال العراق إن لم يكن أكبرهم.

وفي ٨ آذار ١٩٢٠ أعلن المؤتمر العراقي استقلال العراق في دار بلدية دمشق وتعيين الأمير عبد الله ملكًا عليه، وأُعلن سمو الأمير زيد نائبًا عن أخيه الملك عبد الله.

وتألفت جمعية حرس الاستقلال العراقي السرية، وغايتها الاستقلال المطلق بأقصى ما يمكن من التدابير مشتركة مع الجمعيات والأحزاب الأخرى، ولا يجوز للجمعية الاعتماد على إنجلترا في طلب المعونة الفنية. وحدث انشقاق في بغداد بين رجال جمعية العهد ورجال جمعية الحرس، ومن أهم رجال هذه الأخيرة علي البزركان ورفعت الجادرجي وجميل المدفعي وغيرهم، ومما يؤسف له أن بعض هؤلاء قبلوا وظائف حكومية وتخلوا عن العمل السياسي بسببها وقنعوا بالمنصب والمرتب كأنهما الغاية التي كانوا يسعون إليها.

وعندئذ بدأت السلطة الإنجليزية تتعرض لحرية الاجتماع، فنشر القائد ساندر وهو القائد العام للجيوش المحتلة بالعراق منشورًا ختمه بقوله: «فلهذا وجب علينا أن نعلن أن انعقاد المواليد ممنوع، وأن انعقاد الاجتماعات لمقاصد سياسية يعرض القائمين بها لأشد العقاب.»

ثم بدأ المفاوضات فدعا السير ويلسون ومعه وزير العدلية السير بونهام كارتر (صهر ونسيب اسكويث) والكولونيل بلفور لفيفًا من الأحرار والوطنيين العراقيين، وأخذ سير ويلسون «يبلفهم» البلف الإنجليزي المشهور فذكر عصبة الأمم وتحرير الشعوب الرازحة تحت نِير الاستبداد التركي، وأن حكومة جلالة مولاه الملك تريد تأسيس حكومة وطنية في العراق بأقرب فرصة، وأن العراق كان تحت حكم أجنبي أكثر من ٢٠٠ سنة، ومهما سلمت النيات فلا يمكن تأسيس حكومة وطنية في لحظة، واحمدوا الله على أن العراق لم يتأثر بويلات الحرب. فلما ذكَّروه بمؤتمر سان ريمو أجاب:

إن مؤتمر سان ريمو قرر استقلال سورية والعراق، على أن تكون الأولى تحت وصاية فرنسا والأخيرة تحت وصاية إنجلترا. (راجع جريدة العراق ١٥ رمضان ١٣٣٨).

ثم بدأ عهد الإرهاب، لأن أكابر حكام العراق من الإنجليز تنازلوا بهذه المفاوضة وكانوا يظنونها كافية لتهدئة الخواطر وتسكين ثائرة الشعب، وظنوا أن هذا التفاهم عن قرب مع الزعماء يلقي على نيران الثورة بردًا وسلامًا، فلما رأوا الأمر على العكس أخذوا يعتقلون ويفتشون المنازل ويحكمون بالسجن والإعدام في مجالس عسكرية وينفذون الإعدام فعلًا، وشنقوا عبد المجيد كنه في محرم سنة ١٣٣٩، ونفوا أخاه حميد أفندي كنه إلى جزيرة هنجام.

ومن أبطال تلك الفترة الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي قوى روابط المودة بين السنيين والشيعيين، وقبضت الحكومة على نجل الإمام الشيرازي وهو ميرزا محمد رضا ونفته إلى جزيرة هنجام فتدخلت حكومة إيران في الأمر وأفرجت حكومة العراق عنه وأمرته بالإقامة في إيران.

وأخذت السلطة تعتقل مشايخ القبائل فينقذهم رجالهم من السجون بالقوة، ثم بدأت الثورة في البادية بين القبائل وأطرى بعض ضباط الإنجليز ولا سيما هولدن بسالة الثوار ومهارتهم وقال: إنهم كانوا سريعي الحركة واسعي الحيلة وخططهم المرسومة للدفاع منطوية على مهارة حربية. وقد نكَّل الثوار بالجيوش المحتلة في أماكن كثيرة تنكيلًا عظيمًا، والمدهش في أمرهم أنهم كانوا فقراء في السلاح والذخيرة ولم يُعلم عن أحدهم مكابدة الحروب بمثل هذه المهارة الفائقة، وقد دُهش الفريق هولدن من حسن اختيارهم للزمان والمكان.

وعاد ويلسون إلى المفاوضات والتهديد فأرسل إلى شيخ الشريعة الأصبهاني في ٢٧ أغسطس سنة ١٩٢٠ خطابًا مطولًا جاء فيه أن الحكومة الإنجليزية المعظمة قد اعتمدت دائمًا على الأركان الثلاثة وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني، وأن «جيشنا الإنجليزي كان قبل الحرب صغيرًا، والآن صار عدده خمسة ملايين» وأن ثروة إنجلترا لا تقدر، وأن الثوار لم يمكنهم أن يعملوا فوق ما عملوا، ولو استمروا هلكوا من الجوع لتلف الزراعة، وأن قوتهم قد مالت إلى الزوال … إلخ.

فكان رد شيخ الشريعة بليغًا قويًّا مقنعًا جاء فيه:

أخذتم بعد الوعود بالوعيد وبعد التأميل بالتضليل، واستعملتم الشدة والغلظة فنفيتم وقتلتم وسجنتم وأخفتم وأضمرتم العداء الذي أظهرتم آثاره. وتعريف الفساد عندكم هو المطالبة بالحق، فمن طالبوا بحقوق الوطن صاروا في نظركم من المفسدين.» في ٢ محرم ١٣٣٩.

وكان كتاب شيخ الشريعة خير رد على كتاب ويلسون الذي رأيناه يتلون كالحِرباء في مفاوضته وكتبه، يعطيك تارةً حلاوة وطورًا سمًّا زُعافًا، وهو صورة طبق الأصل من رجال السياسة في وطنه.

وكانت النجدات قد وردت على الإنجليز من حكومة الهند، وبنى الإنجليز حصونًا ملئوها بالجنود، وكان معظم الشبان وبعض زعماء القبائل يرغبون في مفاوضة الحكومة بالصلح غير أن أقلية محدودة هي التي رفضت المفاوضة ودفعت شيخ الشريعة إلى إرسال هذا الكتاب الذي يعد بمثابة رفض المفاوضة.

وقد ضحى العراقيون بأرواحهم وأموالهم في سبيل الحرية واستُشهد منهم من استُشهد، فضعفت قوتهم قليلًا من تخاذل بعض القبائل ومن ورود النجدات المتوالية على الإنجليز. وفي هذه الظروف التعسة سقطت الحكومة العربية في سورية (موقعة ميسلون)، وحدثت في ٢٣ حزيران ١٩٢٠ في مجلس العموم مناقشة حادَّة جدًّا وفيها تبرم اسكويث رئيس المعارضة بفداحة نفقات الاحتلال في العراق وأنها أثقلت كاهل ميزانية الدولة، وأشار إلى ضرورة الجلاء عن العراق والاحتفاظ بالبصرة.

ولكن لورنس وهو مستشار تشرشل في مسائل الشرق، بعد أن أتم غزو بلاد العرب وسورية وهو صديق العرب الحميم، التفت إلى العراق وقال إنه لا يفتي بالجلاء، لأن الدولة الإنجليزية ليست وحدها التي تتحمل عبء الحملة والاحتلال، بل إن أهل العراق أنفسهم سوف يشعرون بالضيق والغلاء من وجود الجيش الإنجليزي بين ظهرانَيْهم ما داموا ينزعون إلى الثورة، فإن عدد الجيش ٨٣ ألف جندي ونفقاته ٣٠٠ ألف ليرة. وأشار بإيجاد رجل صالح في العراق يشبه كرومر عندما كان في مصر، فعينت الحكومة الإنجليزية برسي كوكس بدلًا من ويلسون. ولم يكن في البلد من يكرم ويلسون قبل رحيله سوى طالب النقيب، فكان ويلسون رجل الشدة الذي حدثت في عهده الثورة، وجاء بعده كوكس الذي تسلم زمام الأمور بعد أن هدأت الزوبعة، فخطب ويلسون في ذلك الاجتماع خطبة دافع بها عن نفسه وعن حكومته بكل قواه وتحامل على الثوار تحاملًا شديدًا مع أن الثورة العراقية كانت نتيجة طبيعية للسياسة التي جرى عليها مدة تقلده زمام الحكم الملكي في العراق. وهو من حيث مسلكه وكلامه وخططه أشبه الناس بلورد لويد الذي عزلته حكومة العمال بعد أن استعمله شامبرلين على مصر مندوبًا ساميًّا، فكلاهما يحب «الرغي» وكلاهما استعماري متطرف يؤمن بالقوة المادية ويختفي وراءها ويتوعد بها الشعوب الشرقية، وكلاهما ناعم الملمس يخفي يده الحديدية في قفاز من المخمل، وكلاهما سقط سقطة شنعاء من حيث لا يحتسب، ولعله في خطبته الأخيرة ثاب إلى رشده برهة فنطق في بعض المواطن بالحق حيث قال:

إن الحقيقة التي أعتقدها هي أن العوامل الأدبية كانت منذ القدم تؤثر في العالم أكثر من القوى المادية، فاشتد تأثيرها في الأعصر الحديثة إلى درجة أصبحت معها المعنويات والنظريات تفعل في النفوس أكثر مما تفعل فيها الحقائق الحسية وعوامل الحكومات.

إن العوامل الفكرية التي امتاز بها الغربيون على الشرقيين في عصورنا الحديثة أحدثت بين الشرقيين انقلابًا فكريًّا، ومن ذلك أن روح الوطنية أو الجنسية دبَّ مرة أخرى في نفوس الشرقيين والآسيويين.

وفي يوم ٢٢ أيلول سنة ١٩٢٠ وصل سير برسي كوكس، وقد كان في حضوره مظهر من مظاهر النفاق بين أهل الشرق، فإن شاعرًا عراقيًّا شهيرًا معروفًا بين إخوانه بشذوذه وإلحاده استقبل سير كوكس بقصيدة جاء منها:

عد للعراق وأصلح منه ما فسدا
وابثث به العدل وامنح أهله الرَّغَدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد
فيما يكون كما قد كان معتمدا

وتكلم عن الثورة فقال: «إنها حركة ذمَّها المفكرون في إبَّانها.» مع أن هذا الشاعر نفسه كان قد عطف على شهداء الثورة فرثى أبطالها بقصيدة مطلعها:

ماذا بكثبان الرُّمَيْثَةَ من غَطَارِفةٍ جَحَاجِح؟

وتكلم سير كوكس عن استقلال العراق بإشراف إنجلترا.

وعضَّده الشيخ إبراهيم الراوي فقال: إن العراق لا يستغني عن الوصاية البريطانية.

وكانت الوزارة الأولى التي ألفها سير كوكس مكونة من رجال ميالين للإنجليز وهم اثنان من آل النقيب والعسكري والألوسي وساسون.

كلام الملوك ملك الكلام

قالوا في الأمثال: «كلام الملوك ملك الكلام»، يقصدون أنه أرقاه وأصدقه وأحكمه وأمتعه وأنفعه.

ولما كان جلالة الملك فيصل بن الحسين من ملوك الشرق الإسلامي المعدودين على الأصابع، ولجلالته في نفوس المصريين منزلة خاصة؛ كان من حقنا ومن واجبنا أن ننظر إلى أقواله بمنظار الاكتراث والاهتمام، وأن نتحرى التدقيق في معانيه لننتفع بها، إذ لا يمكن أن يصدر عن هذا الملك الجليل الذي تقلَّب في عرشين وأبوه ملك وأخوه ملك قولٌ خالٍ من الحكمة والموعظة الحسنة.

سافر جلالة الملك فيصل منذ نحو عام من بغداد عاصمة ملكه التي كانت عاصمة ملك العباسيين ومر في طريقه إلى أوروبا بالقطر المصري، ولقيه أحد فضلاء الصحفيين للمرة الثانية فسأله عن الأمر الذي أثر فيه أكثر من سواه في خلال إقامته في أوروبا، فأطرق الملك العربي العراقي لحظة وقال:١

لقد كان لما رأيته في البلاد السويسرية من دلائل المدنية الحقيقية أعظم وَقْعٍ في نفسي، فمدنية سويسرا لا تقتصر على المدن والمظاهر الخارجية كما هو الحال في سائر البلدان الأوروبية، بل إن كل قرية في سويسرا متمدينة وكل قروي في سويسرا متمدين. وكنت أتنزه مرة في ظهر قرية من القرى السويسرية فأبصرت براعية ترعى قطيعًا من الغنم وهي تدفع أمامها مركبة صغيرة نظيفة أَركبت فيها طفلها، فاغتبطت بمنظر هذه الراعية التي تسهر على عملها وعلى رفاهية طفلها في آن واحد، وقلت في نفسي: إذا كانت الراعية السويسرية قد بلغت هذا المبلغ من الرقي والمدنية، فلماذا أُعجب بما أراه في سائر طبقات الأمة السويسرية؟

إلى هنا انتهى الجزء السلبي من ملاحظة جلالة الملك العربي العراقي، ثم انتقل إلى الجزء الإيجابي أو التطبيقي فقال:

أجل لقد أثرت فيَّ مدنية سويسرا تأثيرًا شديدًا لا يمحى، وثبت لي أن المدنية الحقيقية لا تكون بالقصور الشامخة والبنايات الفخمة ولا بالمظاهر الخارجية الكاذبة والزينات السطحية الفارغة، ولا بكتابة المقالات وعقد الاجتماعات، ولا بالتغني بالحرية والاستقلال، ولا ببسط الأماني والآمال

إن الاستقلال الحقيقي لا يُشيَّد إلا على دعائم المدنية، والمدنية الحقيقية لا تقوم إلا على التعليم … إلخ.

فأتقدم إلى جلالة الملك العربي العراقي الهاشمي وارث عرش الرشيد والمأمون في أدب واحترام وألتمس من جلالته أن يعفو عن ملاحظتي هذه:

اعلم يا مولاي أنني فهمت قصدك من مدح المدنية والتعليم، ولكنني لم أفهم قصدكم من الحط من قيمة «كتابة المقالات وعقد الاجتماعات، وبسط الأماني والآمال، والتغني بالحرية والاستقلال.

قد تكون جلالتكم تشير بذلك إلى دولة شرقية لا نعرفها نحن، ولكننا في مصر — والآن على الأخص — لا وسيلة لنا إلا كتابة المقالات وعقد الاجتماعات وبسط الأماني والآمال، والتغني بالحرية والاستقلال.

فأنا الضعيف قد تألمت من هذا التلميح في هذا الظرف الدقيق، ومثل جلالتكم أدرى بما أقصد، ولم يكن يعدم وسيلة أخرى للتعبير عن آرائه فيما يتعلق بدولة شرقية أخرى غير مصر.

واعلم أيضًا يا مولاي وأنت من خيرة العالِمين أن سويسرا هذه في مقدمة الشعوب التي كافحت في سبيل استقلالها بكتابة المقالات وعقد الاجتماعات وبسط الأماني والآمال والتغني بالحرية والاستقلال، ولو أن جلالتكم تنزَّلتم واطَّلعتم على كتاب «تاريخ سويسرا» الذي يدرسه تلاميذ مدارسهم الابتدائية لرأيتم صفحات جهادهم المجيد منذ القرن الثالث عشر، فتاريخهم القديم والحديث حافل بأخبار الأبطال الأمجاد أمثال غليوم تيل وبونيفار والماجور دافل، وقد سُجنوا وقُيِّدوا بالحديد وقُتِل بعضهم في سبيل الاستقلال.

١  مجلة كل شيء الأسبوعية. والصحفي هو الأديب كريم ثابت أفندي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤